تقارير

صناعة الرأي العام والمسؤولية التبادلية

الرأي العام عملية مهمة تشغل مساحة كبيرة لدى المهتمين بالتأثير في المجتمعات المختلفة، لأن الرأي العام له تأثير كبير في حركة الجماهير قبولا أو رفضا للمواضيع نتاج تلك الآراء؛ وهذا له ما بعده من تحرك الجماهير أو تفاعلها أو رفضها بحسب تشكل الرأي العام لتلك القضية، وبذا تخشى الجهات المتنفذة من تحركات الجماهير التي تنطلق من الرأي العام لأنها غالبا تأتي بنتائج تخالف توقعاتها لاسيما تلك الدول المعتدية على غيرها أو المحتلة لها ؛ أو في الدول القمعية والدكتاتورية التي لا تعالج أمورها بشفافية وتهمل آراء مواطنيها أو تتخطاها لغيرها دون نقاش حقيقي أو تبادل لوجهات النظر. ولذا فالرأي العام قد يكون كامنا حين تخشى الجماهير من قمع الحكومات ولكنه يظل تحت الرماد حتى تحين الفرصة ليكون رأيا ظاهرا للعلن.
وبالطبع لهذا التشكل للرأي صورة عفوية تتمثل في : قضية أو حدث أو موقف أو موضوع مثير للانتباه يتبناه أو يتفاعل معه أو يتحمس له مجموعة من قادة الرأي لهم قبول عند الجماهير (ولذلك مقوماته من ثقافة الجماهير وتوافق القضية مع / أو ضد عاداتهم وقيمهم وظروفهم الحياتية والفكرية) ويتم تداوله مع الجماهير بصور مختلفة كالنقاش والمحاضرات والمقالات والبرامج والندوات والتحرك على الأرض وغيرها فيحدث توافق حول هذا الرأي ويتم تداوله بشكل يضم له مجموعة المؤثرين في هذا المجتمع ( محليا أو قطريا أو فئويا ) فيكون نتاج ذلك كله رأي له قبول عند عامتهم فيكون الرأي العام في هذه المسألة هو كذا.
ولذا تسعى القوى المؤثرة على الأرض أو التي تسعى للتأثير إلى تشكيل أو صناعة الرأي العام إما من أجل التوعية والتنبيه على أسس مهمة أو للتمهيد لأحداث مهمة في ذلك المجتمع وما كان من ذلك أو في المقابل من أجل رعاية الأنظمة والحيلولة دون رفض المجتمع لها.
إن التدخل في صياغة الرأي العام أو صناعة الرأي العام أو هندسة الجماهير مسألة لا يمكن إنكار وجودها لأنها أظهر من أن تخفى، فمن يجد واجبا عليه أن يوعي الجماهير فإنه يسعى لصناعة الرأي العام ليساهم في تنمية وعيهم وإدراكهم، وهذا تدخل بناء ولا يمثل إشكالا ولاسيما في المجتمعات التي تعاني من مشكلات فكرية أو مشكلات عامة، أو يخشى من تعرضها لأزمات أو مشكلات أو تزمع على القيام بتغييرات مهمة
كل تلك المبررات وأشباهها تعطي وجاهة لعملية التدخل، وهناك التدخل السلبي وصناعة رأي عام مضلل يعتمد على الإشاعات وعلى الخداع ويكون هذا غالبا للتورية على عوار الممارسة أو لرعاية مصالح جهات أو شخصيات أو جماعات أو حكومات متنفذة تأتي مصالحها بخلاف مصالح الجماهير.
لذا فهي تسعى دوما للمداراة على ممارساتها الحقيقية بإشغال الرأي العام بقضايا جانبية أو بتمرير معلومات خاطئة أو وردية بخلاف الحقيقة تؤدي لردود أفعال خاطئة أيضا أو بالتخويف من مشكلات أو أحداث ستمر بالمجتمع اعتمادا على الكذب والتشويه والتضليل لدول أو جهات أو أفراد (استخدام الاستمالات المختلفة في استمالة العواطف أو الخداع العقلي أو التخويف من نتائج ومستقبل)، ونلفت هنا إلى أن من أنواع الرأي العام بالنظر إلى جغرافية الانتشار أو مناطقيته، ما هو عالمي أو إقليمي أو محلي بخلاف الفئوي الذي يهم طائفة أو مهنة ما والمنتمين إليها، وفي هذا الصدد نلفت إلى أن الرأي العام العالمي بطبيعته يصعب أو يستحيل التحكم بصياغته من خلال مراكز صناعة الرأي العام. ذلك أن عملية التحكم تتطلب السيطرة على كثير من قادة الرأي وصناع الفكر في العالم وهو صعب؛ بالإضافة لتباين ثقافات الشعوب.
ومعلوم أن صناعة الرأي تتم بإدارة حوار مجتمعي وهو ما يصعب معه التدخل في تلك العملية لفرض رؤية في اتجاه واحد، لعدم السيطرة على عوامل صناعة الرأي العام بكافة أطرافها، إلا لو أنها بالفعل مستوعبة لدى تلك الأطراف.
وهو ما يعني بالتبعية أن قضايا الرأي العام العالمية غالبا تتم بمعزل عن التدخل الكلي في طرحها وصياغتها؛ وإن لم تفلت من محاولات تغيير مسارها أو حرفها لاتجاه معين وفقا لرؤية المتنفذين: مثل قضايا حقوق الإنسان وحقوق العمل والسعي للعدالة وحفظ البيئة وغيرها، فإنها من حيث العموم قضايا رأي عالمي مستقرة في ثقافات الشعوب المختلفة ؛ وما يمسها بسوء يلقى تفاعلا رافضا وما يؤيدها يلقى تأييدا عالميا؛ لكن تشويه الصور وتشويه بعض الشخصيات والأديان (كالإسلام وربطه بالإرهاب مثلا) وادعاء بعض الأحداث يجعل تفاعل الناس مع بعض التفاصيل متباينا، وبما يحقق رغبات المتنفذين من خلال التفاصيل المشوشة وبذا تصير القضية محل هذا التعرض قضية رأي عام إقليمية وفقا لمناطق النفوذ.
ولعل فكرة الحروب وما يسبقها من صناعة للرأي العام توضح الصورة أكثر؛ فإنه من الصعب إقناع عامة الناس عالميا بجدوى إقامة حرب ما وبشكل عام، لكن يمكن التشويش على مناطق معينة بادعاءات وتبريرات تخدع الجماهير في تلك المناطق، كما حدث في كل الحروب العالمية والقريبة في منطقتنا العربي والإسلامية، والتي تسبقها وتوازيها تبريرات وحملات على نطاق واسع وباستخدام نفوذ الدول في حجب أو إبراز ما يبررون به هذه الأفعال ويعضدون به القضية في مجتمعاتهم ومناطق سيطرتهم ؛ فتوحي بأن قيامها واجب لا بد منه حتى لو كذب الساسة على نواب الشعب وادعوا وجود مبررات منطقية وترجح وجوب قيام الحرب رعاية لمصالح أعلى بل وقياما بدور حضاري ومسؤولية أخلاقية.
وقد يأتي التشويش أيضا لدى الرأي العام المناطقي أو المحلي بسبب عدم انتباه المجتمع لحقيقة ما يحدث وأسبابه الحقيقية ؛ فينشغل ببعض الظواهر، عن أصول المشكلات ويتكون الرأي العام حول بعض معالم المشكلة دون سبر أغوارها، وذلك أيضا بسبب جنوح في تفكير المجتمع وعدم ترتيب الأولويات أو بمزيد من التضليل لدى الحكومات من باب أن الأمر مادام خرج للرأي العام فلنشوه النقل ونخلطه ولنزور الوقائع ولنجتهد في إخفاء معالم الحلول والاكتفاء ببعض المسكنات1 .
وهنا لا بد للرأي العام من سعيه للتنشئة على ترشيد الثقافة وتعميق الشفافية وصدق النصح ليرشد اختياره وينضبط في تصوراته

أمثلة لقضايا رأي عام شائعة

أمثلة قضايا رأي عام عالمية:

– جميع الحملات التي تؤدي في النهاية إلى تشكل رأي عام عالمي مع أو ضد بعض الممارسات أو الأحداث تصلح مثالا هنا
وتبدأ تلك الحملات بالتعريف وتمر عبر النقاش بلغات مختلفة وتصل إلى تشكل الرأي العام وانتشاره -كما هو الحال في قضايا الرأي العام ككل – مع اختلاف التناول والتداول باختلاف المناطق وأساليب تأثير قادة الرأي وتدخلات الأنظمة وتحكماتها في وصولها إلى الرأي العام أو العمل على حدها وكسر دائرة تشكل الرأي العام بالتجاهل والمنع والحجب والتشويه
وفي هذا الصدد هناك جهات مهتمة بصناعة رأي عام عالمي بطرحها للقضايا وتبنيها وإشاعتها مثل المنظمات الدولية والعالمية: الأمم المتحدة ووكالاتها التابعة – منظمة التعاون الإسلامي – جامعة الدول العربية – جمعيات ومؤسسات (علنية أو سرية) تأخذ صفة العالمية ولو حتى من خلال أنشطة تجارية كالشركات المتعددة الجنسية؛ وكل تلك المؤسسات تسعى بصورة أو أخرى لتأثير في الرأي العام العالمي
هناك رأي عام عالمي تشكل وفق مؤسسات وحملات من بعض تلك الجهات المذكورة كمثال مكافحة الأمراض الكبرى كالإيدز مثلا أو الوقوف ضد الحروب والتعصبات الإثنية والعرقية أو مكافحة الجريمة والمخدرات – التغييرات المناخية – حماية الأطفال والنساء من الممارسات المسيئة أو الاستغلالية – رعاية حقوق الإنسان – إنهاء الاستعمار – التغذية والصحة العامة – رعاية السلم والأمن العالمي – رعاية البيئة والماء –الالتزام بالقوانين الدولية والمواثيق العالمية.. الخ
كل هذه القضايا وغيرها تمثل قضايا رأي عام عالمي استقرت لدى الشعوب والجهات المحايدة وإن تم تفسيرها وفقا لتوجهات الحكومات والأنظمة؛ لكن هذا لا يخرجها عن كونها قضايا رأي عام عالمي تحققت فيها الشهرة والقبول والانتشار ويمكن التماهي معها محليا أو الاستفادة من استقرارها للانطلاق نحو قضايا مشابهة مناطقيا أو محليا
وقد تطرأ تغيرات عالمية كحروب عامة أو مشكلات بيئية طارئة يمكنها أن تضم إلى تلك القائمة وغيرها كثير

أمثلة قضايا رأي عام مناطقية:

كل الحروب التي خاضتها الدول سبقها تمهيد للرأي العام وإبراز مبررات لخوضها كما حدث تمهيدا لإسقاط نظام صدام من خلال ادعاء امتلاكه لأسلحة دمار شامل وهو ما استدعى التضليل من خلال رئيس وزراء إنجلترا وقتها ورئيس الولايات المتحدة (وتم لاحقا التغافل عن جرائمهما ضد هذا الشعب وضد مواطنيهم الذين قضوا في حرب طائشة رعناء)، ولذا فدولة مثل الولايات المتحدة في حروبها التي خاضتها في القرن العشرين للتحكم في الرأي العام في الولايات والمناطق المتاخمة للحرب ودول التحالف معها حرصت على التحكم الكبير في وسائل الإعلام الناقلة للحروب : في أفغانستان وفي العراق وفي سوريا على سبيل المثال. ففي تلك الأمثلة لم يسمح إلا لناقلين بعينهم لهم علاقات بالحكومة الأمريكية أو تفاهمات مثل شبكة (سي إن إن) أن تنقل ما يسمح لها بنقله بغية التأثير على الرأي العام وحجب وجهات النظر الأخرى من الخارج أو الداخل، وفي أثناء الحروب يتم حجب الخسائر أو تقليلها بالتحكم في الجهات التي تغطي الحرب وتنشر المعلومات وحجب بعضها.
كما حدث ذلك أيضا في حروب أمريكا التي خاضتها من أجل التوسعات في أمريكا الجنوبية واحتلال أجزاء من المكسيك (تكساس وكاليفورنيا ونيومكسيكو) أو الحروب ضد اورجواي وبنما وهندوراس أو الحروب عبر القارات كالحرب ضد اليابان (ونتائجها مثل هيروشيما ونجازاكي ) وفيتنام 1955 م التي راح ضحيتها 2 مليون وتشرد بسببها أكثر من 12 مليون كما أن حربها ضد العراق جاءت بنتائج مشابهة، فالتحكم في الرأي العام المناطقي يمثل ضرورة أساسية للساسة من أجل انهاء دورهم دون إزعاج، وأخيرا بعد الانتهاء أيضا من الحروب يتم تقليل الخسائر وحجب الأخطاء والتشويش على حقائق مثل عمليات التعذيب والقتل خارج القانون إلخ. 2 “.
وجريا على نفس العادة من التشويه وإشاعة الرأي العام المضلل المعتمد على الإشاعات والكذب حدث أثناء وبعد الثورات العربية وبعد الانقلاب عليها تشويه الرأي العام بادعاءات ونقولات ومعلومات مغلوطة وكذب متعمد، وفي هذا الصدد يقول الرئيس التونسي السابق المنصف المرزوقي إنه والرئيس المصري السابق محمد مرسي، يعدّان أكثر الرؤساء العرب الذين تعرّضوا لحملة تشويه متواصلة ومخطط لها، متحدثًا عن أنه “يضحك من قدرة الخبثاء على اختلاق الإشاعات بحقه، وقدرة الأغبياء على تصديقها ” .
وأعطى المزروقي أمثلة من الإشاعات التي لاحقته، ومنها عقد مؤتمر أصدقاء سوريا للتحريض على التقاتل وبعث آلاف الإرهابيين إلى سوريا، والعفو عن الإرهابيين، والعمالة لحركة النهضة ولدولة قطر، وصرف المليارات في أكل أفخر أنواع السمك، وامتلاك 36 مليون دولار في بنما، وامتلاكه لجنسية فرنسية .
ومن الإشاعات كذلك عمالة والده للاستعمار، وإدمانه على الخمر، وقبضه لـ50 ألف دولار شهريا من الجزيرة، وسرقة كتابه “المدخل للطب”، والزواج بالدكتورة سهام بادي للتمكن من الترشح لرئاسة الجمهورية، وتدخل السفير الفرنسي في إسرائيل لتحريره في سفينة غزة، واستعمال موارد الدولة في الانتخابات ) 3 .
ومما هو شائع أيضا في نفس السياق ما تم من تشويه وشيطنة كل معارض للأنظمة بعد الانقلاب على الثورات ومثال ذلك ادعاء تسلح الاعتصامات السلمية وادعاء ما يجري فيها من تعذيب للمخالفين والتخطيط للفوضى وهدم الدولة حتى بلغ الأمر بادعاء أن النساء فيها تمارس ما أطلق عليه جهاد النكاح
وعلى سبيل المثال في هذه النقطة اطلعت على تقرير لموقع يسمى ( النهار ) يدعي وجود هذا النكاح ويبني خيوطه جميعا على ادعاءات تفتقر إلى أن دليل وينسبها إلى شهود مجهولين أو متورطات مجهولات أيضا أو ينسبها لأشخاص يرمز إليهم بالكنى أو ببعض الحروف وهذا كله مما يضعف مادته ويكشف عن زيفها حين التدقيق 4
-مثال قديم على التحكم في قضايا تمس المنطقة: تحكم رئيس النظام المصري الأسبق جمال عبد اناصر في أجهزة الدولة وهو التحكم المميز بالقمع وبالصوت الواحد والرأي الواحد وهو ما عبر عنه قائد النظام الحالي بأن ” عبد الناصر كان محظوظا بإعلامه ” أي إعلام الرأي الواحد والتحكم فيه من قبل الحكومة والتي أفرزت شعبا متخوفا وتشككا تابعا مشوشا في الجملة
ولنضرب مثلا توضيحيا كيف كانت القضايا تدار للتحكم في أجهزة الدولة من خلال النظام وهذا في قضايا كثيرة تمت من قبل النظام بدأ من ادعاء “الثورة ” لحركة الجيش ووصف ” حركة الجيش المباركة ” بكونها ثورة والسعي لتصديرها لدول أخرى إجبارا وتسلطا
ومرورا بتبرير الممارسات المختلفة والمصادرات بل وحتى تنحية الشركاء من زملاء الثورة وانتهاء بتبرير أخطاء قاتلة للنظام بالداخل والخارج وتحالفاته المختلفة ومناوراته ومغامراته والحشد للتأييد لممارسات ضد طوائف من الشعب كالإخوان كنتيجة لموضوع حادثة المنشية ثم لدعم وجود عبد الناصر في الحكم بعد استقالته إثر هزيمة يونيو
ولكن دعنا نأخذ مثالا عن قرب وهو كيف تم تطويع مؤسسة عريقة كالأزهر وتغيير معالمها لصالح النظام الحاكم وهو بذلك أثر على المنطقة برمتها باعتبار عراقة تلك المؤسسة واتساع تأثيرها؛ حدثت تلك الحملة المضللة في أجواء الحشد الإعلامي المتحكم فيه لصالح النظام الحاكم..
يقول الكاتب الصحفي عبد المنعم منيب: وعبدالناصر وثورة يوليو كانا يهدفان لتأميم الدين لصالح نظام الحكم فكان لزاما القضاء على هذه المحاكم ( أي الشرعية ) التي كان يستحيل تأميمها لصالح النظام الحاكم؛ وكانت ثورة يوليو واعية بذلك منذ البداية إذ ألغيت هذه المحاكم بقانون رقم 462 لعام 1955م؛ وبذا بدأت هيمنة ثورة 23 يوليو على القوة الإسلامية الأكبر في مصر وفي العالم الإسلامي وهي الأزهر الشريف وعلماؤه؛ حيث شكل إلغاء المحاكم الشرعية تحديا لنظام الشريعة الإسلامية نفسه في دولة إسلامية يعلن دستورها أن دينها الرسمي هو الإسلام.
وبإلغاء المحاكم الشرعية وبالهيمنة على إدارة الأوقاف نجح الرئيس جمال عبد الناصر فيما فشل فيه الاحتلال الغربي من الهيمنة على أبرز مؤسسة لعلماء الإسلام في العالم كله. وقد شنت أجهزة إعلام الدولة- الثورة حملة إعلامية صاحبت ذلك كله؛ ووصفته بأنه ثورة جديدة تجري داخل الأزهر وتقودها الدولة من أجل التجديد والتقدم لخدمة الأزهر والإسلام؛ وبلغ الأمر أن هاجم د. محمد البهي في جلسات مجلس الشعب (1961م) ما وصفه بأنه جو العداوة والجمود الذي يسود الأزهر وقال: “إن الثورة أعطت الإصلاح للأزهر لأن الشيوخ لم يريدوه”؛ وكان محمد البهي أحد المواليين لعبد الناصر داخل الأزهر) 5 .
وهكذا فإن التدخل المباشر لأنظمة الحكم وأتباعهم يكون له أثره الأكبر في تشويه قضايا رأي عام مناطقية وتكوينها أو تبريرها لصالح ما يفرضونه، والواجب على قادة الرأي في كل هذا كشف الخداع والتضليل والبدء بحملات توعية صادقة تكشف تلك الزيوف وتبين الحقائق من قبل قادة رأي حقيقيين

أمثلة لقضايا رأي عام محلية:

تهتم الشعوب بقضايا خاصة بها مثل أحوال الطقس المحلي – أحوال الشهادات الدراسية الكبرى ونتائجها – حوادث عامة لها نتائجها على قطاع في المجتمع – حوادث فردية تكشف عن أمراض في المجتمع – دخول المدارس – وفاة شخصيات مؤثرة – الانتخابات العامة ونتائجها.. إلخ. وهي أيضا تتأثر بشيوع تلك القضايا من خلال قادة الرأي والمؤثرين في المجتمع وتداولها وأخذ الوقت المناسب لهذا التداول ورد الشبهات حول الموضوع، مع دخول متفاعلين مع هذه القضية من خلال هذا التداول وخاصة بعد شيوع مواقع التفاعل الاجتماعي.
وقد شغلت العديد من القضايا الشارع المصري، خلال 24 ساعة الماضية، واهتمت برامج “التوك شو” ومواقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك وتويتر” بهذه القضايا ومنها، مصرع حكمدار القاهرة، ونتيجة الثانوية العامة، والذكرى 64 لثورة 23 يوليو، والسيارات الفارهة الخاصة بالفنان محمد رمضان، وزواج القاصرات ( (6 فمما يميز القضايا المحلية إمكانية السيطرة عليها من خلال تدخلات الحكومة وإشاعة بعضها للتعمية على ممارساتها وقراراتها أو تمرير مشكلاتها بشغل الجماهير بغيرها.
وهذا رصد آخر لقضايا رأي عام شغلت المجتمع المصري إبان ثورة يناير ولأشهر عديدة ومن خلال تفاعل الجمهور مع مواقع التواصل الاجتماعي:
– “ثورة 25 يناير”: بدأت العديد من الأصوات المصرية وعلي رأسها صفحة “كلنا خالد سعيد” تنادي بضرورة إحداث ثورة حقيقية لتغيير الأوضاع المتردية في مصر، ليختار الفيسبوكيون يوم 25 يناير ليكون اليوم المنشود والذي تزامن أيضا مع عيد الشرطة.
– “لا للثورة.. نعم وفاء للريس”: وفي الاتجاه المعاكس ظهرت أيضا بعض الأصوات على الساحة، التي أخذت تطالب الجماهير بوقف أي ثورات وفاء للريس.
– “جمعة الغضب”: لتأتي الدعوات المتلاحقة بضرورة التظاهر في يوم 28 يناير، تحت مسمي جمعة الغضب للإعلان عن رفضهم لمقتل الثوار في يوم 25 يناير من قبل رجال الشرطة.
– “تأبين شهداء الثورة”: بعدما قرر أن يثور الشعب ولا يهدأ إلا بتنحي الرئيس وسقوط النظام، بدأت صفحات الفيس بوك تتحول للوح لتأبين الشهداء الذين سقطوا من يوم 25 إلى 28 يناير.
– ” انت عيل كنتاكي”، “عيل أجندة”، “انت عيل مسيل للدموع”: صفحات مضحكة بدأت في الانتشار على الفيسبوك بعدما أخذ الإعلام يقرر تلك العبارات على الجماهير بأن الثوار في التحرير يحصلون على وجبات كنتاكي ولديهم أجندة خارجية لهدم الدولة.
– “الراجل اللي ورا عمر سليمان”: من أكثر الصفحات التي حققت نسبة مشاركة على الفيسبوك بعد خطاب اللواء عمر سليمان الشهير للإعلان عن تنحي الرئيس.
– “تسريب وثائق أمن دولة”: شهد الفيسبوك حدث هو الاول من نوعه عندما تم الهجوم على مقرات أمن دولة، وبدأ المتظاهرين في الحصول على عدد من الوثائق السرية للجهاز لتكون صفحات الفيسبوك هي وسيلة النشر الأولي والأكثر فعالية للأوراق…) 7
وفي الختام نقول أن الشعوب الواعية يجب أن تتربى على ثقافة التمييز والتفكير الناقد الذي يجنبها التضليل والتشويش الذي تتعمده بعض الجهات كما أنها تتبنى قضايا رأي عام محلي أو مناطقي أو عالمي أو حتى فئوي ينطلق من منطلقات الحق والحقيقة ويعتمد على المعلومات الصحيحة ويراعي المصالح الحقيقية لا المتوهمة ولا المضللة ويستخدم وسائل التواصل مع الجماهير بعيدا عن سيطرة المتنفذين والحكومة 8 .


الهامش

,1 تقول الكاتبة والناشطة الأردنية تمارا خزوز: ينكب الناس بشغف على متابعة قضايا الفساد ورموزه عندما تظهر، بينما لا يلقون بالاً بعد ذلك لحيثيات القضايا وإجراءات المحاكمة وصدور أحكام بحق الفاسدين أو تبرئتهم أو حتى الإفراج عنهم بالعفو العام. كما لا يتابع قضايا شح المياه وتلوث البيئة والتهرب الضريبي وتخطيط المدن إلاّ الاختصاصيين، وحتى القضايا الكبرى التي أججت الشارع وشكلت رأياً عام مثل “تحرير أسعار المحروقات” مرت مرور الكرام، وكذلك القضايا المرتبطة بها كالموازنة العامة وتقارير البنك الدولي لا يتابعها إلا طلبة الدراسات العليا للاستعانة بها في رسائل الدكتوراه والماجستير. ويزداد الأمر تعقيداً في تعريف “الصالح العام”، فلم نعد نتفق على تعريف واحد للأخلاق حتى نقيس عليه، فمهرجانات هزيلة مثل مهرجانات “الألوان والبيرة والصيف والبندورة” تجاوزت الخطوط الحمراء الأخلاقية لمجتمعنا وأشعلت مواقع التواصل الاجتماعي، بينما لم تستفز أحد قضايا أخلاقية أخرى كالعنف الأسري، وقتل الأب لعائلته أو قتل الأبن لوالدته”. أنظر: تمارا خزوز، قضية رأي عام، موقع عمان نت، 22/8/2017، الرابط.

2 في سياق مشابه يذكر الباحث محمد الريان ما يلي :المؤسسات الإعلامية الأمريكية صعدت بعد هجمات 11 سبتمبر2001 وما تلاها من أحداث وحروب من حملاتها ضد الإسلام والعرب وأوغلت في تقديم صورة مشوهة ومصطنعة عنهم وجعلت من العادات والتقاليد العربية مدخلًا لازدراء العرب وتحقيرهم والاستخفاف بحضارتهم، وتجاهلت المساهمات العربية والإسلامية في شتى نواحي الحياة، وتعمدت تكوين تصور مفبرك عن تعاليم الدين الإسلامي ومنهاجه حتى باتت النظرة إلى العالم العربي والمجتمع الإسلامي في مخيلة المواطن الأمريكي مرتهنة بالإرهاب والعنف والتطرف، وأمست المنطقة العربية في تصوره الذهني مصدرًا للاضطرابات العالمية .
لم تكن الصور السلبية للعرب والمسلمين في الإعلام الأمريكي وليدة تدمير برجي التجارة العالمية، إنما هي قديمة بدأت في التفشي والانتشار كظاهرة إعلامية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة وبلغت ذروتها لدى الأمريكان بسقوط البرجين، وليس أدل على ذلك ما قاله المفكر إدوارد سعيد في كتابه “تغطية الإسلام: كيف تحدد وسائل الإعلام والخبراء الطريقة التي نرى فيها العالم قبل أكثر من ثلاثين عامًا”: “إن تغطية المسلمين والعرب ومناقشة أمورهم وفهمهم لا تخرج عن صورتي مُورِّدي نفط أو إرهابيين محتملين، ولم يصل سوى القليل جدًا من التفاصيل وكثافة البعد الإنساني وشغف الحياة العربية والإسلامية إلى وعي أولئك الأفراد الذين تقوم وظيفتهم على تغطية العالم الإسلامي)، نون بوست، الرابط

3 – الخبر بموقع سي إن إن العربية https://arabic.cnn.com/middleeast/2017/01/06/marzouki-mursi-rumours

4 موقع النهار

5رابط المقال

6 – تقرير عبير القاضي – موقع مصراوي

7 – جزء من تقرير جريدة الشعب المصرية، الرابط

8 – الآراء الواردة تعبر عن كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المعهد المصري للدراسات

د. ياسر عبد التواب

خبير إعلامي مصري، حصل على درجة الدكتوراه في الإعلام حول: “إعداد وتقديم البرامج الحوارية”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى