دراسات

عاصفة متجمّعة: تحولات بنيوية ونهاية الجغرافيا العربية

نحو تفكيرٍ جغرافيٍ محض قائمٍ على الكُتل الإقليمية

مقدّمة:

مع التحوّلات العالمية الراهنة، سيكون “العالم العربي” مُقبلاً على سلسلةٍ من الفوضى الشديدة التّي ستُرافقه طيلة العقد الراهن، لاسيما خلال السنوات الخمس القادمة منه، كونه الحلقة الجغرافية المُعطلّة-الأضعف والمُتمَوقعة بين قوى إقليميةٍ متوسّطةٍ طموحةٍ، وأخرى دوليةٍ صاعدةٍ تنتهزُ أزمةَ فراغِ القوّة التّي يمرّ به النظام الدولي في الوقت الراهن لتخلق لنفسها مجالاتِ نفوذٍ جديدةٍ أو تسترجعَ ما استقر في مُخيّلاتها الجيوبوليتيكية بأنّها مجالاتُ نفوذٍ تاريخيةٍ مُستحقّة.

وإذا كانت دولٌ ذات اقتصادياتٍ أقوى، وتماسكٍ داخليٍ أمتن، ونظمٍ سياسيةٍ أكثرَ شرعيةً ذاتِ قياداتٍ أكثرَ حسماً مقارنةً مع دول العالم العربي لم تتمكّن من تجنّب الآثار السلبية الناجمة عن الاضطراب الحاصل بسبب أزمة فراغ القوة الانتقالية هذه وما رافقها من اضطرابات كجائحة كوفيد-19، فإنّ هذا الأمر يجعلنا نتساءل في هذه الدراسة أساساً عن الكيفية التّي تُمكّن العالم العربي من تجاوز الآثار السلبية لهذه المرحلة الانتقالية التّي يَمرُّ بها العالم كونه كما قلنا الحلقة الجيوبوليتيكية المعطلّة والأضعف؟

تفترض هذه الدراسة بأنّ الهشاشة المُرَكّبة لدول المنطقة العربية، أزمة القيادة التّي تعيشها نُظمها السياسية واستمرار غياب أيّ مشروعٍ سياديٍ جامعٍ (بسبب مشكلة القيادة أساسا) تضطلع به إحدى دولها المفتاحية في محيطها الإقليمي، سوف يزيد من وتيرة الاضطرابات التّي تشهدها هذه الجغرافيا أصلاً ويجعل منها طيلةَ عقدٍ كاملٍ ساحةً لتنافساتٍ جيوبوليتيكية حادّة بين الطامحين الإقليميين والدوليين الكبار، الأهمّ، أنّ هذه المنطقة ستكون بصدد فقدان ما تبقى لها من تماسكٍ جغرافيٍ قائمٍ على أساس عامليْ الإيديولوجيا والهوية العربية.

كما تُناقش الدراسة –بشكلٍ فرعي- جملةً من التساؤلات الراهنة المتعلّقة بطبيعة التحوّلات الدولية التّي يمرّ بها عالم اليوم؟ وهل بإمكان النظام الدولي الليبرالي الذّي رعته وقادته الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ثمّ عزّزته بعد الحرب الباردة أن يصمد في مواجهة الأزمات التّي تعتريه والتحدّيات التّي تواجهه، فيتمكّن بالتالي من إصلاح نفسه أم أنّنا نشهد حالياً نهايةً فعليةً لهذا النظام؟ ما البديل الذّي سيُقبل عليه العالم في المستقبل المنظور؟ وهل بإمكان قوى صاعدة كالصين وروسيا أن تحّل محلّ الولايات المتحدة وأن تبني وتقود نظاماً بديلاً للنظام الحالي المتأزّم؟ أم أنّها قوى مستفيدة من النظام الليبرالي القائم وبالتالي ستسعى لتكييفه وفقاً لرؤاها وتطلّعاتها الجيوبوليتيكية الخاصّة؟

الإطار النظري والمنهجي للدراسة:

في تحليلها للآثار الناجمة عن التحوّلات الدولية الراهنة على الجغرافيا العربية، تستخدم الدراسة الصورة الثالثة للتحليل -حسب اصطلاح كنيث والتز- أيْ النظام الدولي كمستوى للتحليل بهدف تفسير/فهم السياق الذّي يجعل الورقة تُحاجج هنا بالفوضى القادمة التّي تتوقّع اشتدادها على العالم العربي خلال العقد الحالي، فتُحاول أن تُشخّص طبيعة توزيع القوة بين الفواعل الأساسية للنظام الدولي في الوقت الراهن (أيْ بين القوى الكبرى الأساسية) وكيف سيتسبّب الانتقال الحاصل في القوة بين هذه الفواعل (انتقال القوة من الغرب نحو الشرق) في تزايد حدّة الاضطراب الحاصل في الجغرافيا العربية خلال العقد الحالي، لاسيما السنوات الخمس الأولى منه. وبتركيز هذه الدراسة في محورها الأخير على مسألة القيادة، فهي تستعين بالصورة الأولى للتحليل –حسب كنيث والتز دوما- أيْ الفرد صانع القرار، نظراً لمُحاججتها بكونه الفاعل الأساسي الذّي سيُمكّن العالم العربي من تجاوز الآثار السلبية “للعاصفة المُتَجمِّعة”· التّي تقترب منه.

تستند الدراسة في إطارها النظري للطروحات التّي يتبنّاها دُعاة الواقعية الكلاسيكية الجديدة (Neoclassical Realism)، فهي تنطلق من الافتراض القائل بالفوضى الدولية في تحليل السياسة الدولية وتفسير سلوكيات الدول مثلما سنتبيّن ذلك في المحورين الأول والثاني، كما لا تُهمل الدور المهمّ الذّي تلعبه المُدركات العقلية والسمات النفسية لصنّاع القرار كما سيتضّح ذلك من المحور الأخير حينما تركّز الدراسة على مسألة القيادة. علاوة على ذلك، فالدراسة تتقاسم مع الواقعيين الجدد رؤيتهم الخاصّة عن طبيعة التحولات الدولية الراهنة ومستقبل النظام الدولي الليبرالي، إذ يزخر المحورين الأول والثاني منها بآراءٍ داعمةٍ لكثيرٍ من هؤلاء على غرار جون ميرشايمر، ستيفن والت، غراهم أليسون، ريتشارد هاس، ألكسندر كولي، دانيال نيكسون وغيرهم.

إضافةً إلى ذلك، تتقاطع إحدى الطروحات الأساسية للدراسة (مسألة الهيمنة الإقليمية الحميدة) مع نظرية روبرت غيلبين الشهيرة عن “الاستقرار بالهيمنة” Hegemonic Stability Theory))، إلاّ أنّها تقوم هنا بالنزول بالفكرة الجوهرية لهذه النظرية من مستواها الدولي إلى مستواها الإقليمي وإسقاطها على الوضع الجيوبوليتيكي المُتصوّر -في نظرنا- للكُتل الإقليمية الثلاث صاحبة القوى المهيمنة الثلاث كما تقترح الدراسة.

أمّا فيما يتعلّق بالمقترح النظري الذّي تُقدّمه الدراسة هنا، فهو يتقاطع مع الطرح النظري للجيوبوليتيكي الفرنسي فيدال دي لابلانش (Vidal de La Blanche) عمّا يُسمّيه بنظرية “البوسيبيليزم”، من كلمة Possible)) وتعني المُمكن. وعلى ضوء التحدّيات التّي تُواجه الجغرافيا العربية كما هو مُشار إليها سابقاً، تقترح هذه الدراسة بديلاً نظرياً جيوبوليتيكياً قائماً على ما نُسمّيه بالتفكير الجغرافي المحض المُتجاوز للإيديولوجيا والهوية· والقائم على الكُتل الإقليمية، حيث ترتكز كلّ كتلةٍ جغرافيةٍ على دولةٍ واحدةٍ تكون مركزاً قائداً وجاذباً لما حولها من دولٍ عبر ما نُسميّه هنا بالهيمنة الإقليمية الحميدة. تستلهم الدراسة هذا الطرح من نظريةٍ جيوبوليتيكية كلاسيكيةٍ للجنيرال النمساوي يورديس فون لوهاوزين عمّا يُسميّه “بالتفكير عبر القارّات”.

لذلك، تُرشّحُ الورقة على مستوى “الجغرافيا العربية” كلاًّ من الجزائر (بكتلة المغرب الكبير)، مصر (بكتلة المشرق العربي، إضافةً إلى السودان) والسعودية (بالكتلة الخليجية، بما فيها العراق شمالاً والقرن الإفريقي جنوبا) للاضطلاع بهذا الدور لأسبابٍ جغرافيةٍ محضةٍ مرتبطة بالتموضع المكاني المُمتاز، فضلاً عن كونها الدول المحورية التّي لا تزال قائمةً مُتماسكةً في هذه الجغرافيا الواسعة وتحظى بخصائص القيادة الإقليمية الجذّابة. أمّا إذا لم تتجّه القيادات الحاكمة في هذه الدول إلى تفعيل القُدرات الكامنة لهذه الدول وتوجيهها نحو قيادةِ مشاريعٍ سياديةٍ إقليميةٍ جامعةٍ، فسوف يُسجّل العقد القادم –كما تُحاجج هذه الدراسة- نهايةً للجغرافيا العربية التّي لن يختلف الوضع فيها مستقبلاً عمّا كان عليه أثناء فترة الاستعمار التقليدي.

تقسيمات الدراسة:

لأجل المُحاججة بما نذهب إليه هنا، ينقسم البحث إلى ثلاثة محاور أساسية، سوف يُعالج المحور الأول منه الإشكالية المُثارة في الوقت الراهن على نحوٍ واسعٍ بين الباحثين بخصوص الأزمة التّي يمرّ بها النظام الدولي الليبرالي الذّي قادته الولايات المتحدة وحلفائها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وكرّست معالمه ومؤسّساته بعد نهاية الحرب الباردة. أمّا المحور الثاني فسيستقصي أبرز الآثار الناجمة عن هذه الأزمة، مُركّزاً بالضبط على الدور المتنامي الذّي تلعبه قوى دولية صاعدة وأخرى إقليمية طموحة في هذه المرحلة الانتقالية الحرجة والتّي تنتهز فيها فرصة الفراغ الطارئ لتُموضع نفسها على نحوٍ مُناسبٍ في التشكيل الجيوبوليتيكي المُقبل الذّي سيعرفه العالم. سينتقل البحث بسلاسة من المستوى الدولي في التحليل إلى المستوى الإقليمي، هكذا سيتوسّع المحور الثالث والأخير في شرح الآثار الناجمة عن مثل هذه التحوّلات على “الجغرافيا العربية” التّي يصفها “بالركود والتعطيل” كونها الحلقة الأضعف في خِضّم هذه التحوّلات الكبرى، كما يقترح هذا المحور تصوّراً جيوبوليتيكياً بديلاً من شأنه أن يُنقذ هذه “الجغرافيا المُعطّلة” ويجعل منها “جغرافيا فاعلة” ومؤثّرة على اللوحة الجيوبوليتيكية العالمية المُتشكّلة في الأفق.

1انزياحاتٌ تكتونية: تفكّكُ النظام الدولي الليبرالي وأزمة خُلو العرش:

يكاد يُجمع أبرز علماء العلاقات الدولية المعاصرين في الولايات المتحدة باختلاف تيّاراتهم النظرية بأنّ النظام الدولي الليبرالي الذّي بنته واشنطن وقادته رفقة حلفائها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ثمّ عزّزت مؤسّساته وترتيباته بعد الحرب الباردة يعيش أزمةً غير مسبوقةً، بدأت ملامحها في البروز منذ نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تجلّت للعيان منذ وصول دونالد ترامب للبيت الأبيض وتبنّيه لسياساتٍ متضاربةٍ مع مبادئ وأسس هذا النظام، ثمّ تسارعت وتيرة هذه الأزمة بسبب جائحة كورونا مُعلنةً نهاية هذا النظام.

لقد بدأ الحديث عن هذا التآكل تقريباً منذ أحداث 11/9، ثمّ شاع الحديث بين المحلّلين عن انتهاء النظام الدولي منذ ضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم (2014)، وقدّ عَزّزَ هذا الاتجاه أحداثٌ متتاليةٌ على غرار انتشار الدول الفاشلة، أزمة اللاجئين في الشرق الأوسط، البريكسيت، وكذا انتخاب ترامب كرئيسٍ للولايات المتحدة والذّي عكس انتخابه أزمةَ تآكلٍ للقيم الليبرالية تعيشها الديمقراطيات الليبرالية وعلى رأسها الولايات المتحدة ذاتها، مركزُ هذا النظام الدولي الليبرالي. لقد تبنّى ترامب سياساتٍ مُعاديةٍ لكافّة مظاهر العولمة الليبرالية، عكست اتجاها انعزاليا جديداً في سياسة البلد الخارجية يدفع باتجاه سحب واشنطن من القيادة العالمية.1

وُصفت سياسة ترامب بكونها سياسة “اللا إستراتيجية”، على حدّ تعبير ستيفن والت، سياسةٌ قائمةٌ على الإكراه بالقوة القسرية المُفرغة من الأهداف الواضحة يتّم تنفيذها من طرف رئيسٍ جاهل، له قدرةٌ ضعيفةٌ على ضبط النفس، لاسيما مع إغراء القوة العسكرية الهائلة التّي تمتلكها البلاد، فعلى كلّ الجبهات تسبّب ترامب في كوارثٍ على مستوى السياسة الخارجية، انتهت إلى تقويض المكانة العالمية للولايات المتحدة وإنهاء النظام الدولي الذّي قادته. 2 كلّها كانت ملامح سوداوية عن “الغابة التّي تنمو من جديد” على حدّ تعبير روبرت كاغان،3 في إشارةٍ منه إلى خطورة الاضطراب الدولي الذّي نُقبل عليه. لم تتوّقف ملامحُ هذا الاضطراب عند هذا الحدّ، فقد ضربت أزمة جائحة كوفيد-19 العالم مُتسبّبةً بدورها في تسريع وتيرة هذا التفكّك في النظام الدولي الليبرالي مثلما يُحاجج ريتشارد هاس، فالعالم الذّي سيعقب الجائحة ليس من المرجّح أن يكون مختلفاً عن سابقه كما يقول، لأنّ كوفيد-19 لن يغيّر كثيراً المنحى الرئيسي الذّي يتجّه صوبه تاريخ العالم بقدر ما سيُسرّع من وتيرته.

لذا، لا تُمثّل هذه الأزمة -في نظره- نقطة تحوّلٍ بقدر ما هي مجرّدُ محطّةٍ في طريقٍ طويلٍ كان العالم يسير عليه خلال العقود القليلة الماضية، وكانت أبرز ملامحه تراجعُ القيادة العالمية الأمريكية، تعثّر التعاون العالمي، والخلاف القائم بين القوى الكبرى، أمّا الجائحة فقد جعلت سِمات هذا العالم أكثر بروزاً للعيان وحسب،4 الأمر الذّي جعل كلاّ من كورت كامبال وروش دوتي  يُجادلان بأنّ هذا الحدث سيصير مَعلَماً نُؤرّخ به لتراجع الريادة الأمريكية العالمية مثلما كانت أزمة السويس سنة 1956 مَعلَماً لانتهاء حقبة القوة البريطانية العالمية في السابق، هذا إذا لم تضطلع الولايات المتحدة بدورها المطلوب عالميا.5 من جهتهما، يؤّكد كلٌّ من روبرت بلاكوين وتوماس رايت في دراسةٍ حديثةٍ لهما وجهة النظر هذه، حينما يُحاججان بأنّ جائحة كوفيد-19 تُعتبر ثاني اختبار عظيمٍ للنظام الدولي بقيادة الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية (بعد اختبار المُنافسة مع الاتحاد السوفياتي)، فلم يكن لأيِّ حدثٍ آخر نفس التأثيرات السلبية المُجتمعية، السياسية والاقتصادية الواسعة على السكان عبر العالم كما كان لهذا الفيروس القاتل منذ 1945، فقد تسبّبت الجائحة، على سبيل المثال، في انخفاض النمو العالمي بنسبة 3% وهي النسبة الأشّد ركوداً منذ الكساد الكبير (1929)، كما بلغت خسائره المتراكمة سنة 2020-2021 ما مقداره 9 تريليون دولار، أيْ أكبر من حجم الاقتصاديْن الألماني والياباني مجتمعيْن، كما يُقدّمان أرقاماً أخرى صادمةً تعكس الآثار المُدمّرة للجائحة عبر العالم، والتّي من المتوّقع استمرارها فترةً أطول.6

على الرغم من اتجاه كثيرٍ من الدراسات إلى الإقرار بوجود أزمةٍ عميقةٍ يمرّ بها النظام الدولي الليبرالي حاليا، تجدر الإشارة إلى أنّ هناك اختلافا قائماً بين الباحثين يكمن في تقدير مدى قُدرة هذا النظام على إصلاح ذاته والاستمرار من جديد، وهو الطرح الذّي يُدافع عنه دعاة النزعة الأممية الليبرالية (Liberal Internationalism) على غرار جون آيكينبري،7 (دعاة الهيمنة الليبرالية كما يُسميهم خصومهم Liberal Hegemony). في مقابل ذلك يرى آخرون استحالة قدرة النظام على الاضطلاع بذلك، ذلك أنّه نظامٌ بات محكوماً عليه بالفشل والانهيار كونه وُلد مَعِيباً بالأساس، مثلما يُجادل جون ميرشايمر وغيره من الواقعيون الكلاسيكيون الجدد (Neoclassical Realism) 8، إلاّ أنّ كلا الطرحان يتّفقان بأنّ الفترة الحالية تُمثّل فترة فراغٍ في القوة يعرفها هذا النظام أو “أزمة خلوّ العرش” ((The Interregnum كما يُسمّيها ميلان بابيتش، أي تلك الفترة التّي تتوسّط الموت البطيء للنظام القائم والصعود الذّي يلوح في الأفق للنظام القادم، والتّي يعتبرها بابيتش فترةً حاسمةً من الصعب جدّاً التنبؤ بالمدّة التّي ستستغرقها التفاعلات العالمية حتّى يُولد نظامٌ آخر بديل أو يتمكّن النظام الذّي قادته الولايات المتحدة من إصلاح نفسه من جديد كما يجادل الليبراليون الجدد.9

فرصُ الفراغ: رُعاةٌ جددٌ وعودةُ الصراعِ من أجل مجالات النفوذ:

يعرف حقل العلاقات الدولية في الآونة الأخيرة غزارةً في الدراسات التّي تحاول قراءة الآثار الناجمة عن التحوّل العميق الذّي يعرفه النظام الدولي على المرحلة القادمة، رصد الظواهر المُرافقة لهذا التحوّل وآثارها أو التنبؤ بالشكل الذّي سيعرفه العالم في المستقبل المنظور. تماشياً مع ذلك، سيكون للعالم العربي، كما أحاجج في هذه الورقة، نصيب الأسد من هذه الآثار وما رافقها من ظواهر وبشدّة خلال العقد الحالي، لاسيما السنوات الخمس القادمة منه.

لعلّ أبرز آثار هذا التحوّل البنيوي في النظام الدولي يتمثّل -كما ذكرنا- في أزمة خلّو العرش في حدّ ذاتها، إذ أتاح انسحاب الولايات المتحدة من المؤسّسات العالمية التّي ارتكزت عليها الهندسة الليبرالية للنظام الدولي منذ 1945 فرصةً سانحةً لقوى صاعدة بدأت تفرض نفسها شيئاً فشيئاً منذ مطلع القرن الحادي والعشرين على رأسها كلّ من الصين وروسيا، فكلا القوتين تسعيان الآن إلى خلق مجالات نفوذٍ جديدة لها عبر العالم The New Spheres of Influence))  بعد إحكام السيطرة على مجالات نفوذها التقليدية في جوارها الإقليمي بعدما ظلّت الولايات المتحدّة -ولا تزال نسبيا- مزاحمةً لها فيها، مثلما يُحاجج غراهم أليسون في دراسة حديثة له  نُشرت بعدد أبريل الماضي بمجلة الشؤون الخارجية، حيث يردّ فيه بطريقةٍ ضمنيةٍ على كلّ الباحثين والمسؤولين الأمريكيين الذّين لا يزالون يعيشون وهم الهيمنة الليبرالية واللحظة الأحادية الأمريكية منذ نهاية الحرب الباردة، فشخصيات على غرار كوندوليزا رايس، هيلاري كلينتون وجون كيري كانت (ولا تزال) تروّج لفكرة انتهاء العالم الذّي يعرف مجالات نفوذٍ كبرى، بمعنى أنّ العالم صار كلّه اليوم مجالاً واحداً للنفوذ خاضعاً للهيمنة الأمريكية، حسب هؤلاء، وبأنّ بقيّة الدول صارت مضطرةً بحكم الواقع أن تلعب وفقاً للقواعد التّي تُحدّدها واشنطن وإلاّ عرّضت نفسها لعقوباتٍ تصل حدّ تغيير أنظمتها من الداخل. كلُّ ذلك يُعدُّ في نظر أليسون مجرّد وهمٍ وجب التحرّر منه، فالولايات المتحدة تعرف في نظره تراجعاً نسبياً في قوتّها، في وقتٍ يعرف العالم فيه “تحوّلات تكتونية” مع صعود قوى عظمى أخرى على غرار الصين وروسيا، إنّها حقبةٌ جديدةٌ من التنافس بين القوى العظمى ينقسم فيها العالم إلى مجالاتِ نفوذٍ متعدّدة. لذلك، يحثّ أليسون وزراء الخارجية الأمريكيين على الاعتراف بهذا الوضع العالمي الجديد والاستجابة له بحكمة كما فعل نظراؤهم قُبيْل انتهاء الحرب العالمية الثانية، أي التعلّم من دروس التاريخ، فحينما حذّر جورج كينان سنة 1945 من ضرورة إدراك الولايات المتحدة أنّها بصدد دخول مرحلةٍ جديدةٍ من التنافس على مجالات نفوذٍ واسعةٍ ضدّ الاتحاد السوفياتي وقدّم لها تصوّراً لكيفية التعامل مع هذا الوضع الجديد، رفض بعض المسؤولين هذه الحقيقة آنذاك وتمسكّوا بتصورّهم “لعالم ذي مجالِ نفوذٍ واحد” خاضع للولايات المتحدة، واستغرق الوضع خمسة سنواتٍ كاملةٍ حتّى يعترفوا بذلك وتضع واشنطن إستراتيجيةً شاملةً كانت مجالات النفوذ إحدى أبرز مرتكزاتها، مكنّتها لاحقاً من الانتصار في هذا التنافس. يُقدّم أليسون مجموعةً من الأرقام والأمثلة ليثبت الحقيقة الجيوبوليتيكية الجديدة لعالم اليوم، على سبيل المثال، كانت حصّة الولايات المتحدة من الناتج الإجمالي العالمي سنة 1950 تُمثّل نصف هذا الناتج، صارت تمثّل واحد من أربعة سنة 1991، ثمّ واحد من سبعة اليوم، وقد سبّب هذا التراجع تِبعاً لذلك تقلّصاً في الخيارات الخارجية لصنّاع القرار الأمريكيين. على الطرف الآخر، تُخصّص الصين الصاعدة لمبادرة الحزام والطريق 3 تريليون دولار، وهي تستثمر الآن 1,3 تريليون دولار في البنية التحتية للدول التّي يمرّ عبرها الطريق رابطةً إيّاها بالمركز الصيني، في حين أعلن بومبيو مؤخّراً أنّ واشنطن ستستثمر في منطقة الهندو-باسفيك (ردّا على مشاريع الصين) 113 مليون دولار فقط. يرتفع الناتج الإجمالي المحلّي للصين من 20% عن مستوى الولايات المتحدة سنة 1991 إلى 120% اليوم، كما صارت الشركات التكنولوجية الصينية منافساً قويّاً لنظيرتها الأمريكية، إذ يوجد اليوم تسع شركات صينية من أصل عشرين أكبر شركة تكنولوجيات عالمية، الأمر الذّي يجعل مجالات النفوذ تمتّد إلى ما وراء الجغرافيا المادّية، إلى العالم السيبراني أيضا. أمّا على مستوى القوة التقليدية الصلبة، فقد كانت ميزانية الدفاع الصينية تمثّل قبل ربع قرن 1 من 25 جزءً من نظيرتها الأمريكية، وهي الآن تمثّل واحداً من ثلاثة فقط. لقد صار ميزان القوة الآسيوي في صالح الصين الآن، فبينما تتوزّع الالتزامات العسكرية الأمريكية عبر العالم، فإنّ الصين تركّز التزاماتها العسكرية في بحر الصين الجنوبي، الأمر الذّي يمنحها الأفضلية والريادة هناك ويضمن تفوّقها على الولايات المتحدة إذا ما دخلا الاثنان في صدامٍ بخصوص تايوان أو قضايا بحر الصين الجنوبي حسبما أثبتت كلّ سيناريوهات ألعاب الحرب الأمريكية المُجراة. أمّا روسيا، فتفرض منطقها في جوارها الغربي وتخلق مجالات نفوذٍ خاصّةٍ بها هناك في البلطيق، أوكرانيا، القرم، جورجيا وسوريا بفضل ترسانتها العسكرية الحديثة، في حين لا تمتلك الولايات المتحدة خياراتٍ كثيرةٍ لكبحها هناك. بناءً على ذلك، يرى أليسون بأنّ على الولايات المتحدة التخلّي عن تطلّعات الهيمنة غير القابلة للتحقيق، وقبول حقيقة بقاء مجالات النفوذ باعتبارها السِمّة الأساسية للجيوبوليتيك العالم الراهن.10 في ذات الصدد، تُقدِّم بعض هذه القوى الصاعدة، لاسيما الصين وروسيا تحديداً، نفسها كرعاةٍ جدد (New External Patrons) تعرض خدماتٍ بديلةٍ عن تلك التّي ظلّت الولايات المتحدة (والغرب) تحتكرها لنفسها عقوداً طويلةً من الزمن في مقابل التزام الدول المُحتاجة إلى مثل هذه الخدمات بمعايير وشروط معيّنة تُعزّز أساساً من مبادئ النظام الدولي الليبرالي والمصالح الأمريكية كالالتزام ببنود اتفاقيات حقوق الإنسان، دَمَقرَطة الحياة السياسية، ليبرالية السوق وغيرها. أمّا الأمر المختلف بالنسبة للرعاة الجدد فهو عدم اهتمامهم بفرض شروطٍ كهذه على الدول الراغبة في الاستفادة من خدماتها، الأمر الذّي من شأنه أن يربط هذه الدول بإستراتيجيات الرعاة الجدد ويُبعدها شيئاً فشيئاً عن الفلك الغربي والأمريكي، هذا ما يجادل به كلّ من ألكسندر كولي ودانيال نيكسون في كتابهما الجديد “الخروج من الهيمنة: تفكّك النظام العالمي الأمريكي”. تختصر الصورتين المرفقتين هنا هذا التحوّل في نظام الرعاية، من الاحتكار الأمريكي للرعاية (The US Monopoly Patronage) إلى الرعاة البُدلاء الجدد (New Alternative Patrons) الذّين تمكنّوا من خلق مؤسّساتٍ إقليميةٍ ودوليةٍ تابعة لهم وحشد الأصدقاء والحلفاء حولها بعيداً عن المؤسّسات التّي بنتها الولايات المتحدة وحلفائها منذ سنة 1945. 11

النظام الدولي بين التحوّلاتٌ البنيوية ونهاية الجغرافيا العربية-1 النظام الدولي بين التحوّلاتٌ البنيوية ونهاية الجغرافيا العربية-2

تُظهر الصورتان كيف صارت كلٌّ من الصين وروسيا تُقدّمان اليوم تصوّراتٍ متنافسةٍ للنظام العالمي عبر مشاريع اقتصاديةٍ وإستراتيجيةٍ تجذب إليها العديد من قادة الدول، ليَكسِرا بذلك الاحتكار الغربي للزعامة والرعاية العالميين. علاوةً على ذلك، تعمل كلٌّ من بيجين وموسكو على التحدّي المشترك للولايات المتحدة في المؤسّسات الدولية التّي أنشأها الغرب، على سبيل المثال صوّت كلاهما في الجمعية العامة للأمم المتحدة بالطريقة نفسها بما نسبته 86% ما بين 2006-2018، وغالباً ما كان هذا التنسيق ضدّ إرادة الهيمنة الأمريكية. في الوقت نفسه يعمل كلاهما على بناء نظامٍ بديلٍ من خلال إنشاء مؤسّساتٍ ومنتدياتٍ إقليميةٍ ودوليةٍ جديدةٍ يتمتّعان فيها بنفوذٍ أكبر، يستثنيان فيها الدول الغربية ولا يُلزمان فيها الدول المنخرطة بشروطٍ تتعلّق بحقوق الإنسان والحريات الليبرالية كما يفعل الغرب، الأمر الذّي مكنّهما من كسب أتباعٍ وحلفاءٍ كثر، على سبيل المثال ترعى الصين إنشاء البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية (AIIB)، بينما ترعى روسيا إنشاء الاتحاد الاقتصادي الأوراسي (EAEU)، وكلاهما يقودان مُنظّمة شنغهاي للتعاون (SCO) منذ 2001 التّي تزدهر عاماً بعد عام. النتيجة، هي ظهورُ هياكلٍ موازيةٍ للحَوْكَمة العالمية الليبرالية، تُهيمن عليها “دولٌ استبدادية”. حتّى وإن افتقرت هذه المؤسّسات إلى الفاعلية اللازمة أو القدرة على حلّ المشكلات الجماعية لأعضائها، فهي تُوّلد علاقاتٍ دبلوماسيةٍ أكثر كثافة، تُعزّز الثقّة والقيم المشتركة بين أعضائها وتُسهّل عليهم بناء تحالفاتٍ عسكريةٍ وسياسية. الأكثر من ذلك، شرعت كلٌّ من الصين وروسيا اللعب في مناطق النفوذ التقليدية للولايات المتحدة والغرب، إذ تُوَثِّق الصين مثلاً علاقاتِ تعاونٍ مع دول وسط وشرق أوروبا عبر مجموعة 17+1، بل إنّها تخترق اليوم الحديقة الخلفية للولايات المتحدة ذاتها عبر منتدى مجتمع دول أمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي (ChinaCELAC) مختبرةً بذلك تماسك الكتلة التقليدية الغربية، من دون أن ننسى مشروع القرن الصيني المعروف بمبادرة الحزام والطريق والذّي تُبدي روسيا تعاوناً معه رغم اختراقه لحديقتها الخلفية (آسيا الوسطى) بل وتعمل على استيعابه ضمن مبادرة “أوراسيا الكبرى” وتجعله متوافقاً مع استثماراتها هناك، ليقود كلاهما جهوداً ستُسفر في النهاية عن غلق المنطقة برمّتها أمام النفوذ الغربي. 12 

لقد مكّن هذا الصعود القويّ للصين وروسيا من تقديم نفسيْهما كرعاةٍ جدد وبدائل متاحةٍ أمام دول العالم لتعزيز التعاون الاقتصادي والتنموي وكذا الإستراتيجي من دون فرض “شروطٍ مُزعجةٍ” للخصوصيات المحليّة لهذه الدول، كما يفعل الغرب، على سبيل المثال، قدّمت الصين أكثر من 75 مليار دولار في شكل قروضٍ لمجموعةٍ من دول أمريكا اللاتينية وآسيا الوسطى عقب الأزمة المالية لسنة 2008، وقد بلغ إجمالي حجم المساعدات الصينية الخارجية ما بين 2000 و2014 ما قيمته 354 مليار دولار (في مقابل 395 مليار دولار قدّمتها الولايات المتحدة) وهي اليوم تتجاوز الولايات المتحدة بكثيرٍ في هذه المسألة. يُشير كولي ونيكسون إلى تزامن نهاية الاحتكار الغربي للرعاية العالمية مع صعود الحركات الشعبوية غير الليبرالية والقادة القوميين حتّى في البلدان التّي كانت راسخةً بقوة في الفلك الغربي (المجر-أوربان، تركيا-إردوغان، الفلبين-دوتيرتي) الذّين جعلوا أنفسهم حماةً للسيادة المحلّية ضدّ التخريب الليبرالي، واتجهوا بذلك لتأكيد الأهميّة المتزايدة لعلاقاتهم الاقتصادية والأمنية مع الصين وروسيا، كما صارت لهذه الدول -إلى جانب الصين وروسيا- مهارةٌ عاليةٌ في استخدام حركاتِ ومنظماتِ المجتمع المدني المحليّة والعابرة للحدود في تقويض وطرد نفوذ نظيرتها الليبرالية التّي يعرف نشاطها وتأثيرها تراجعاً غير مسبوقٍ في الدول والمجتمعات الليبرالية وغير الليبرالية على حدٍّ سواء، حيث يُقدّم الباحثان في كتابها المُشار إليه أمثلة عديدةً في هذا الصدد. بناءً على كلّ ما سبق، فقد صارت “خيارات الخروج” عن الهيمنة، الرعاية والمؤسّسات الأمريكية والغربية خيارات أكثر توسّعاً بالنسبة للدول، كما صار للحكومات قدرةٌ أكبر على المناورة واللجوء إلى نماذج سياسيةٍ بديلة.13

الفوضى القادمة: الجغرافيا العربية المُعطّلَة والهندسة الإقليمية الجديدة:

بناءً على هذا التحليل المُنطلق أساساً من الصورة الثالثة حسب اصطلاح كنيث والتز، أيْ النظام الدولي كمستوى للتحليل، نُحاجج هنا بأنّ “الجغرافيا العربية” ستعرف وضعاً من الفوضى العميقة خلال العقد الحالي، بمعنى أنّها ستظلّ ساحةً مفتوحةً للتنافس بين القوى الكبرى والمتوسطة الصاعدة وطرفاً مُستقبلاً لآثار هذه التحوّلات، لا فاعلاً أساسياً في تشكيلها نظراً لما تُعانيه هذه الجغرافيا من تعطيل وركودٍ بسبب الهشاشة المُرَكّبة لدول المنطقة العربية، أزمة القيادة التّي تعيشها نُظمها السياسية واستمرار غياب أيّ مشروعٍ سياديٍ جامعٍ تضطلع به إحدى دولها المفتاحية في محيطها الإقليمي، ونُرشّحُ هنا كلاًّ من الجزائر، مصر والسعودية على وجه التحديد للاضطلاع بهذا الدور، نظراً لأسبابٍ جغرافيةٍ محضةٍ مرتبطةٍ بالتموضع الجيوبوليتيكي المُمتاز لهذه الدول. ستتسبّب هذه التحوّلات المرفوقة بهذا “التعطيل الجغرافي” في إنهاء سردية “الأمّة العربية” أو “العالم العربي” التّي بلغت ذروتها الإيديولوجية والعملية سنوات الستينيات من القرن المنصرم واستمرت آثارها في الوعي الجمعي لهذه الجغرافيا –متراجعةً- على نحوٍ متفاوتٍ بين أقطارها إلى غاية العقد الثاني من القرن الحالي. في مقابل ذلك، فإنّ الفرصة ستكون متاحةً كما ذكرنا أمام دولٍ بعينها في هذه الجغرافيا لإرساء سرديةٍ بديلةٍ قائمةٍ على التفكير الجغرافي المحض، المُتجاوز للإيديولوجيا والهويّة والقائم بدوره على منظور الكتل الإقليمية المُتمايزة، لكنّها كتلٌ تجد مساحاتٍ قَيْميةً، ثقافيةً روحيةً مشتركةً أساسها قيم الدّين الإسلامي، كونه دين الأغلبية الساحقة لشعوب هذه الجغرافيا، وعاملاً سيبقى مؤثّراً ومُوّجهاً لشعوبها ونُخبها في المستقبل المنظور.

نستلهم طرح التفكير الجغرافي المحض القائم على الكتل الإقليمية من نظريةٍ جيوبوليتيكية كلاسيكيةٍ قدّمها الجنرال النمساوي يورديس فون لوهاوزين (Jordis Von Lohausen) عمّا يُسميّه “بالتفكير عبر القارّات” والتّي جاءت في كتابه: “رجولة امتلاك السلطة: التفكير عبر القارّات”، إذ يرى فيه بأنّ السلطة السياسية لن تمتلك فرصةَ الاستمرار والثبات لفترةٍ طويلةٍ إلاّ عندما يبدأ رجالها بالتفكير لا من خلال المقولات الآنية والمحليّة بل من خلال التفكير “عبر آلاف السنين وعبر القارّات”. يرى لوهاوزين أيضاً بأنّ العمليات الاجتماعية، الثقافية والحضارية التّي تدور على مساحات عالمية، لا تغدو مفهومةً إلاّ إذا جرت رؤيتها من أفقٍ “بعيد النظرة”.. فالسلطة في المجتمع الإنساني والتّي يرتبط بها اختيار الطريق التاريخي والقرارات الأهمّ يجب أن تُسيَّر من طرف مُخطّطاتٍ عامّةٍ جدّاً تسمح بإيجاد مكانٍ لهذه الدولة أو تلك، أو لهذا الشعب أو ذاك، في السياق التاريخي الهائل الأبعاد. يرى لوهاوزين أيضاً بأنّ الإيديولوجيات الجديدة والتحوّلات التكنولوجية والحضارية تُبدِّل من دون شكٍّ سطح العالم، لكنّها عاجزةٌ عن تغيير عددٍ من القوانين الأساسية للجيوبوليتيك والمرتبطة أساساً بالمدى المكاني، لذا فهو يُسقط المسائل الإيديولوجية من طرحه هذا ويُولي في المُقابل أهميّةً قصوى لما يُسمّيه بالتموضع المكاني في معادلة العظمة، فالعظمة عنده تعني القوة مضروبة في مكان التموضع، أيّ أنّ التموضع الجغرافي المناسب يُمكِّن من التطوير الكامل للقوى الداخلية، لذلك، فإنّ السلطة السياسية العقلية وما إلى ذلك ترتبط ارتباطا مباشراً بالمدى المكاني.14

غير أنّ المشكلة بالنسبة “للجغرافيا العربية” ترتبط أساساً بأزمة القيادة، أي رجالات السلطة والتفكير التّي عطلّت –كما نُحاجج هنا- القدرات الكامنة لهذه الجغرافيا الرحبة والتموضع المكاني الممتاز لها وتسبّبت في معضلة الهشاشة التّي تُعانيها دولها، لذلك جاء تركيزنا في هذه الورقة على دور القيادة السياسية -كما سنرى بعد قليل- وهذا بدوره يتقاطع مع نظرية لوهاوزين الذّي يُعلي من شأن رجال السلطة كما يتضّح ذلك من عنوان كتابه سابق الذكر “رجولة امتلاك السلطة” وبُعد النظر الجغرافي الذّي يتصّفُ به هؤلاء القادة بعيداً عن الاعتبارات الإيديولوجية العَرَضِية. لم يكن لوهاوزين الجيوبوليتيكي الوحيد الذّي نوّه إلى أهميّة دور القيادة في تفعيل الجغرافيا المعطلّة كما نُسميّها، فقد طرح قبله الجيوبوليتيكي الفرنسي فيدال دي لابلانش (Vidal de La Blanche) نظريةً كاملةً تجعل من الإنسان (صاحب السلطة والتفكير) بمثابة الممثّل الأهمّ على خشبة المسرح، لا مجرّد ديكورٍ فوقها، فالإنسان يُعدّ بدوره عاملاً جغرافياً مهمّاً يتميّز بالمبادرة. يُسمّي دي لابلانش نظريته هذه “بالبوسيبيليزم من كلمة Possible)) وتعني المُمكن”، وقد جاءت في سياق محاولته كسر الحتمية الجغرافية التّي اتسمت بها المدرسة الألمانية، إذ يرى بأنّ للتاريخ السياسي أفقيْن، مكاني “جغرافي” وزماني “تاريخي”، ينعكس العامل الجغرافي في الوسط المحيط، أمّا التاريخي فينعكس في الإنسان نفسه “صاحب المبادرة”، فالألمان –في رأيه- أخطأوا في اعتبار السطح الأرضي عاملاً حاسماً في سلوك الدولة -أو مكانتها وحجم تأثيرها-، أمّا هو فيقترح النظر إلى الوضع المكاني الجغرافي على أنّه “احتمال” أو “إمكانية” يُمكن أن يُفعّل ليصير عاملاً سياسياً حقيقياً، ويمكن أن لا يُفعّل –فيبقى مجرّد جغرافيا مُعطلّة كما نُسميّها هنا- وهذا ما يرتبط إلى حدٍّ بعيد بالعامل الذاتي، بالإنسان، ساكن ذلك المكان15 وبالأخصّ صاحب السلطة والتفكير والقرار فيه، أي القيادة السياسية كما نُسميّها اليوم.

على هذه الدول المفتاحية الثلاث (الجزائر، مصر والسعودية) أن تضطلع بدورها الإقليمي السيادي القائد والقائم على التفكير الجغرافي المحض -كما ذكرنا- عبر كتلها الإقليمية المعنية الثلاث (كتلة المغرب الكبير، كتلة المشرق العربي والكتلة الخليجية على التوالي)، عبر آليات الهيمنة الإقليمية الحميدة (Benign Regional Hegemony) ومصادر القوة الناعمة الكامنة لديها (Inherent Sources of Soft Power) التّي تبقى لحدّ الآن مُعطلّةً إلى حدٍّ كبير، وقد فَصّلنا في دراسةٍ سابقةٍ في هذه النقطة بتقديم الجزائر كمثال عن ذلك.16 سيكون للثقل الذّي تُلقيه هذه الدول في كتلها الإقليمية أثرٌ إيجابيٌ في صون الأمن، تحقيق الاستقرار، تقليص حدّة الشكّ واللايقين الذّي يعتري العلاقات البينية بين دول كلّ كتلة إقليمية ويتسبّب بدوره في معضلاتٍ أمنيةٍ (Security Dilemma) لا مخرج منها، كما ستؤدّي القيادة السياسية الرشيدة القائمة على التفكير الجغرافي المحض إلى توحيد المدركات الأمنية لهذه الدول على نحوٍ تدريجيٍ وحشدها نحو مشاريعٍ إستراتيجية تنمويةٍ مشتركةٍ تعود بالازدهار الاقتصادي والرفاه الاجتماعي لشعوب هذه الكتل، وسيمنح ذلك فرصة تفعيل المؤسّسات التعاونية الإقليمية الذّي ظلّت مجرّد هياكل شكلية من دون وظائف على غرار منظمة اتحاد المغرب العربي.

تتقاطع فكرة الهيمنة الإقليمية الحميدة المُقترحة هنا مع نظرية روبرت غيلبين الشهيرة عن “الاستقرار بالهيمنة” Hegemonic Stability Theory))، التّي تتحدّث عن سُبل تحقيق الاستقرار على المستوى الدولي وتقليص حدّة الفوضى التّي تعتريه، فهي تنطلق من فرضيةٍ مفادها بأنّ النظام أحادي القطبية الذّي تقوده قوةٌ واحدةٌ ومهيمنةٌ هو النظام الأكثر حفاظاً على الأمن والاستقرار على المسرح الدولي، مستنداً بدوره على طرح تشارلز كيندلبارغر الذّي يرى بأنّ: “الهيكلان المتعدّد الأقطاب والثنائي القطب يحتويان على عناصر عدم الاستقرار، ويمكن أن تُطلق مساعي دولةٍ أو أكثر إلى تحسين مواقفها النسبية سلسلةً من الأحداث التّي لا يمكن السيطرة عليها وتؤدّي إلى صراعٍ دولي وإلى الحرب.”17 إذن فالاستقرار يتحقّق في النظام الدولي عبر الهيمنة كما يُنظّر لها غيلبين، عبر وجود طرفٍ سياسيٍ واقتصاديٍ مهيمن قادرٍ على تحمّل الأعباء. ما نقوم به هنا هو النزول بالفكرة الجوهرية لهذه النظرية من مستواها الدولي إلى مستواها الإقليمي وإسقاطها على الوضع الجيوبوليتيكي المُتصوّر في نظرنا للكتل الإقليمية الثلاث صاحبة القوى المهيمنة الثلاث التّي يجب أن تعمل قيادتها على بسط الهيمنة في صيغةٍ حميدةٍ عبر تفعيل آليات القوة الناعمة الجاذبة لدول هذه الكتل نحوها، وإلقاء ثقلها وتفعيل الإمكانيات الكامنة والهائلة لجغرافياتها المحضة المتموضعة على نحوٍ ممتاز باتجاه تحقيق هذا الغرض المنشود.

بالعودة إلى الآثار الناجمة عن التحوّلات البنيوية -المُشار إليها في العنصرين السابقين- فسينجم عنها خلال العقد القادم -كما نُحاجج- فكٌّ تدريجيٌ للارتباط القائم بين كثيرٍ من دول الجغرافيا العربية والولايات المتحدة، في مقابل تعزيز علاقاتها الدولية بكلّ من روسيا والصين أو علاقاتها الإقليمية بكلٍّ من تركيا، إيران، فرنسا و”إسرائيل” على وجه التحديد، هذا ما سيتسّبب بدوره في تزايد الاضطرابات الداخلية على مستوى الاقتصاد والعقائد العسكرية والمُدركات الأمنية لنخب هذه الدول العربية. علاوةً على ذلك، فلن تكون الولايات المتحدة قادرةً على استرجاع هذه الدول إلى فلكها مُجدّداً في القريب العاجل حتّى وإن فاز جون بايدن في الانتخابات القادمة وعاد معه كما هو محتملٌ جدّاً دعاة الهيمنة الليبرالية (Liberal Hegemony) إلى واجهة السياسة الخارجية الأمريكية من جديد (أيْ مُهندسو النظام الدولي الليبرالي)، ذلك أنّ السنوات الخمس الأولى له على الأقل ستكون مُوجّهةً لإصلاح الأعطاب الداخلية التّي تُعانيها الولايات المتحدة قبل أن تُوّجه الولايات المتحدة جهودها لإصلاح أعطاب النظام الدولي الليبرالي من جديد. هذا ما يُقرّه بايدن نفسه في مقال سابق له بمجلة الشؤون الخارجية بعدد مارس/أبريل الماضي تضمّن خطوطاً عريضةً لبرنامجه الانتخابي·، إذ يؤكّد فيه بأنّ أيّ سياسةٍ خارجيةٍ ناجحةٍ يجب أن تنطلق من الديار، أيْ من إصلاح الأزمات الداخلية التّي تعرفها الديمقراطية الأمريكية المُتآكلة والمجتمع والاقتصاد الأمريكيين أيضا.18 ذَهبَ فرنسيس فوكوياما إلى تأييد ذات الطرح أيضاً حينما كتب مؤخّراً يتأسّف بشدّة أن تحظى الولايات المتحدة بقائدٍ غير كفئٍ مثيرٍ للانقسام (أي ترامب) في هذه المرحلة الحاسمة من التحوّلات الدولية، مُتوقّعاً أن تكون حقبة ما بعد كوفيد-19 حقبةً صعبةً جدّاً على الولايات المتحدة: “فحتّى وإن فاز بايدن والديمقراطيون بالانتخابات الرئاسية القادمة فإنّهم سيَرثون دولةً جاثيةً على ركبتيْها تحتاج سنواتٍ عديدةٍ لإعادة بنائها”، كما يقول.19 لذلك، نرى بأنّ الفرصة ستكون متاحةً على نحوٍ أكبر أمام الرعاة الجدد لملئ فراغ القوة الذّي خلّفته سياسات ترامب في المنطقة العربية ومناطق أخرى من العالم، كما سيبقى أمامها تبعاً لذلك هامشُ الحركة والتأثير مُتاحاً، لاسيما خلال السنوات الخمس القادمة. أمّا إذا فاز ترامب، فستستمر هذه القوى الصاعدة على ذات الوتيرة من دون مواجهةٍ لعوائقٍ كابحةٍ لطموحاتها وتحرّكاتها من طرف الولايات المتحدة مثلما تفعل تماماً منذ وصول ترامب إلى البيت الأبيض.

بناءً على ذلك، لن تكون الجغرافيا العربية الهشّة والمُعطلّة عرضةً لمنافسة القوى العظمى وحسب، بل سيكون للقوى الإقليمية المتوسّطة والطموحة حظّاً وفيراً من هذا التنافس أيضا، وربّما على نحو أكثر تصادماً، ونعني هنا أساساً كلّ من تركيا، إيران، “إسرائيل” وفرنسا في الشام والخليج، وفرنسا وتركيا في شمال إفريقيا ومنطقة الساحل-جنوب الصحراء الكبرى، كما ستعرف المنطقتين الأخيرتين ملامحاً أوليّةً لدورٍ محدودٍ تسعى إلى تعزيزه كلٌّ من ألمانيا و”إسرائيل” خلال السنوات القادمة. هناك قواسمٌ مشتركةٌ تجمع بين هذه القوى المتوسّطة الطموحة، فهي تحظى أولاًّ بقياداتٍ حاسمةٍ صاحبة مشاريعٍ جيوبوليتيكية مُغلّفَة بخطابٍ حضاري، كما يُحرّكها مخيالٌ جيوبوليتيكي ضارب في التاريخ يجعلها ترى في هذه الفترة فرصةً سانحةً لاستعادة مجالات نفوذٍ تاريخيةٍ مستحقّة، أو ما يُسمّيه أميتاف أتشاريا “بالدول الحضارية”  (Civilization States)20، وكلّ هذه القوى تجد في “فترة خلوّ العرش” فرصةً سانحةً للتموضع الجيّد وترسيخ الأقدام في التشكيل الجيوبوليتيكي القادم.

سوف نشهد خلال هذا العقد تنافساً شديداً بين فرنسا وتركيا خصوصاً في شمال إفريقيا ومنطقة الساحل-جنوب الصحراء، كما سيرجع حوض المتوسّط إلى حالة الغليان التّي كان عليه نهاية القرن الثامن عشر، كما سيتعقّد الوضع في منطقة الشام بعودة فرنسا مجدّداً عبر بوابّة لبنان، باعتبارها نقطة الارتكاز الفرنكوفونية التقليدية لها في المنطقة، لاسيما بعد واقعة الانفجار الكارثي الذّي شهدته بيروت مؤخراً، إذ كان الرئيس ماكرون أولّ رئيس يزور لبنان ويعمل على حشد مناصرين له هناك، منهم من بدأ يدافع عن عودة الانتداب الفرنسي على لبنان، الأمر الذّي سيعقّد الوضع في الشام عموماً ويجعل قوى متوسّطة طموحة كفرنسا، إيران وتركيا في حالة مواجهة متجدّدة هناك. أمّا “إسرائيل” فتستمر في تحقيق نجاحاتٍ متتالية في تقليص عدد أعداء الطوق حولها ورفع عدد الأصدقاء الذّين يَقبلون بوجودها “كدولةٍ طبيعيةٍ” بينهم، بل وكشريكٍ وراعيٍ اقتصاديٍ لمشاريعٍ تنمويةٍ في دول المنطقة، لم تكن السودان إلاّ بداية ناجحةً لمشروعِ توسعتِ النفوذ الذّي بدأ مع تأسّس هذه “الدولة”، وسيجد هذا المشروع بيئته الأنسب خلال العقد الحالي، أمّا ما يهمّنا هنا فهو الآثار التّي ستتبع هذا التمدّد، فمن المرجّح أن يصطدم هذا التمدّد بطموحاتِ قوى متوسّطة وصاعدة أخرى، كما سيحدث بين “إسرائيل” وتركيا وفرنسا والصين وروسيا في شمال إفريقيا أو جنوب الصحراء الكبرى، أو بين تركيا، إيران، فرنسا وروسيا في منطقة الشام، ومن الصعب جدّاً التنبؤ بطبيعة التحالفات التّي قد تتشكّل بين هذه القوى في مناطقٍ أو التصادمات التّي قد يُولّدها تضارب المصالح بينها في مناطق أخرى.

تأتي هذه التحوّلات كما أشرنا سابقاً على ضوء وضعٍ صعبٍ لم تتمكّن الجغرافيا العربية من الخروج منه منذ عقودٍ طويلة، فهشاشة دول هذه المنطقة، أزمة القيادة التّي تعيشها نُظمها السياسية واستمرار غياب أيّ مشروعٍ سياديٍ جامعٍ تضطلعُ به إحدى دولها المفتاحية (بسبب أزمة القيادة أساسا) يجعل هذه المنطقة عرضةً لفوضى شديدةٍ وساحةً لحروبٍ ومنافساتٍ إقليميةٍ ودوليةٍ لا غير.

النظام الدولي بين التحوّلاتٌ البنيوية ونهاية الجغرافيا العربية-3

خريطة تُوضّح مدى هشاشة الدول وفقاً لمؤّشر الدول الهشّة لسنة 2020 ·

عن معضلة الهشاشة، تُوضّح هذه الخريطة كيف تتأرجح دول الجغرافيا العربية بين مستويات الدولة الهشّة (Fragile State) والدولة السائرة في طريقة الهشاشة، وللهشاشة جملةٌ من المؤشّرات المُركّبة ما بين مؤشّراتٍ أمنية، اقتصادية، سياسية واجتماعية يُمكن الرجوع إليها بالتفصيل عبر متابعة الإحصائيات الغزيرة التّي يُوفّرها هذا المؤشّر عن حالة كلّ دولة في كلّ عام.21

أمّا بالنسبة لأزمة القيادة، فتُعدُّ في نظرنا سبباً جوهرياً ومنتجاً لمعضلة الهشاشة المُركبّة، كما أنّ اجتماعها مع الأخيرة يجعل من الدول المعنية دولاً راكدةً أو جغرافيا مُعطلّة كما نُسميّها، لا مشروع لها في جوارها الإقليمي، ولا هدف لها سوى توفير الحدّ الأدنى من متطلّبات البقاء وعدم التحوّل إلى دولٍ فاشلة منهارة (Failed State). من المفارقة، أنّه وفي الوقت الذّي يعرف فيه العالم عموماً تنامياً لدور القيادة والزعامات الفردية على حساب المؤسّسات البيروقراطية التقليدية في الدول، أو ما سميّناه في دراسةٍ سابقةٍ بصعود دولة الرُجُولِيَة (The Manhood State) 22، تشهد الجغرافيا العربية أزمةً قيادةٍ حقيقية، لاسيما الدول المفتاحية منها التّي يُميّزها ضعف السمات الشخصية والنفسية لقياداتها وعدم قدرة هذه القيادات على حسم المشكلات الداخلية والخارجية الأساسية التّي تواجهها هذه الدول نظراً لعدم قدرتها على صياغة رؤيةٍ تنمويةٍ واضحةِ المعالم فضلاً عن التشوّش والتشوّه الحاصلين في مدركاتها الأمنية الجيوبوليتكية تجاه بيئتها الخارجية.

فمع بداية عقد 2020، وصل السيد عبد المجيد تبون إلى رأس السلطة في الجزائر بعد انتخابات مريضةٍ منقوصةِ الشرعية وبفضل دعم قائد أركان الجيش له الفريق أحمد قايد صالح، الذّي تُوفّي بمجرّد حصول الجزائر على رئيسٍ بعد أزمة فراغٍ دستوريٍ وحراك جماهيري دام قُرابة العام، ليجد الرئيس تبّون نفسه على رأس السلطة من دون دعم الرجل العسكري الأقوى آنذاك، محاطاً بشخصياتٍ نافذةٍ من كلّ جانب لا تزال تتصارع السلطة، والأكثر من ذلك أنّه ورث بلداً مُثقّلاً بالأزمات الاجتماعية والاقتصادية الداخلية المتراكمة منذ أكثر من عشرين سنةَ من حكم الرئيس السابق (إضافةٍ لعقدٍ أسبقَ من الإرهاب المُدمّر) فضلاً عن بيئةٍ خارجيةٍ مُحاطةٍ بسياجٍ من الأزمات من كلّ جانب، أبعدت الجزائر عن ممارسة دورها الإقليمي الرائد الذّي كانت عليه، الأمر الذّي خلّف فراغاً إقليمياً في القوة بالكتلة المغاربية حاولت دولٌ جارة (المغرب كمنافس تقليدي للجزائر في المنطقة) أو دولٌ خارجية أخرى ملئه (كتركيا، قطر، السعودية والإمارات). لذلك، سيكون الرئيس تبّون مشغولاً بإصلاح ما أمكن إصلاحه داخلياً من أزماتٍ خلال السنوات الخمس القادمة والعمل على بناء شرعيةٍ سياسيةٍ، والأهمّ المحافظة على تماسك النظام وبقاء الدولة بسبب صراعِ العُصب السلطوية المستمر إلى الآن، ولن يكون من السهل على الجزائر العودة إقليمياً كما تُحاول الآن في ليبيا ومالي خصوصاً من دون تجاوزها لمعضلاتها الاقتصادية الداخلية خصوصا.

أمّا وضعُ القيادة في مصر (ثاني بلدٍ مفتاحي حسب هذه الورقة) فقريبٌ إلى حدٍّ ما من وضع الجزائر، إذ تعيش مصر على مستوى القيادة أسوء سنواتها على الإطلاق منذ التأسيس، فالرئيس عبد الفتّاح السيسي الذّي وصل عبر انقلاب عسكريٍ على الدكتور محمد مرسي، أولّ رئيسٍ مصريٍ منتخبٍ بنزاهة سنة 2013، لم يتمكّن إلى الآن من ملئ فراغ الشرعية الناتج عن الانقلاب (من خلال بناء شرعيةٍ بديلةٍ عبر تحقيق إنجازاتٍ اقتصاديةٍ مثلاً يَشعر بها المواطن المصري في حياته اليومية على الأقل) ولا ملئ الفراغ السياسي القيادي الذّي خلّفه غياب قادةٍ أقوياءٍ على رأس السلطة بمصر مثلما كانت دوماً في عقودٍ سابقةٍ منذ الرئيس جمال عبد الناصر، أين كان للقيادة السياسية دوراً حاسماً في مواصلة مصر لعب دورٍ إقليميٍ مُؤثّر رغم ما كانت تعانيه من أزماتٍ اقتصاديةٍ واجتماعيةٍ داخلية. يكفي هنا الإشارة إلى طبيعة الأزمات الجيوبوليتيكية التّي تعيشها مصر بجوارها الإقليمي في عهد السيسي بسبب قيادته الضعيفة للبلاد، فكلّها أزماتٌ تُهدّد بقاء الدولة في حدّ ذاتها، فضلاً من أنّ تُمكّنها من لعب دورٍ إقليميٍ مؤثّرٍ ما في كتلتها الإقليمية، حيث يُحيط بمصر الآن “حزامٌ من الأزمات الوجودية”، أزمة المياه مع إثيوبيا في الجنوب، أزمة الغاز في المتوسط بالشمال (وكلاهما عصبيْ الحياة بالنسبة لمصر)، أزمة الأمن الحدودي بسيناء في الشرق وأزمة فشل الدولة الليبية في الغرب، أمّا إذا أضفنا النفوذ السياسي الإقليمي الذّي تُمارسه كلٌّ من “إسرائيل”، الإمارات والسعودية على القرارات السيادية للسياسية الخارجية المصرية فلن يبق لمصر أيّ دورٍ سياديٍ قياديٍ جامعٍ قد تضطلع به في كتلتها الإقليمية خلال العشر سنوات المقبلة، الأمر الذّي يُبقي مصر في وضعٍ تسعى فيه للمحافظة على البقاء كدولةٍ قائمةٍ وسط هذه الفوضى وحسب.

للمملكة السعودية وضعٌ مغايرٌ من الناحية الجيوبوليتيكية مقارنةً بكلٍّ من الجزائر ومصر، إلاّ أنّها تتشارك معهما أزمة القيادة السياسية خصوصاً، إذ لا تزال القيادة السياسية بالسعودية غيرَ قادرةٍ على التفكير خارج نطاق الدولة الوظيفية التّي تضطلع بخدماتٍ إقليميةٍ لدولٍ أقوى مُقابل مساعدة هذه الدول للأُسرة الملكية الحاكمة في المحافظة على استقرار العرش الملكي. بمعنى أنّ القيادة السعودية غير قادرةٍ إلى الآن على رؤية كتلتها الإقليمية باعتبارها مركزاً قيادياً سيادياً لها من دون مساعدةٍ جوهريةٍ أمريكية أو حتّى “إسرائيلية”، في وقتٍ يتراجع فيه الارتباط الجيوبوليتيكي والجيواقتصادي الأمريكي بالمنطقة (الارتباط بالنفط السعودي) وتتزايد فيه إسرائيل قدرةً على تأمين نفسها بعيداً عن المساعدة الأمريكية (السبب الثاني الأهمّ الذّي يُبقي الولايات المتحدة حريصة على التواجد هناك) عبر جهودها المتواصلة في تحويل دول الطوق الخصوم إلى دولٍ صديقة، خاصّةً وأنّها قطعت شوطاً كبيراً في تحقيق مستوى عالي من التطوّر الأمني والتكنولوجي والاقتصادي الذّي سيُساعدها حتماً على إنجاح جهود التطبيع مع هذا الجوار. من نافلة القول الإشارة هنا إلى الأزمة السياسية التّي يعيشها بن سلمان في حدّ ذاته، باعتباره الرجل الأقوى في المملكة الآن، فبعد قضية خاشقجي المتوّرط فيها وكذا حربه الفاشلة في اليمن لصدّ النفوذ الإيراني، يُواجه محمد بن سلمان اليوم فضائحاً أخرى قد تُبعده عن المشهد تماماً مع انفجار قضية سعد الجبري الملتجأ بكندا أو العُلبة السوداء للنظام السعودي كما يُسمّى. أزمة القيادة التّي تعيشها المملكة السعودية ستُحدث تراجعاً كبيراً في دور الرياض خلال السنوات الخمس القادمة، كما أنّها فتحت أصلاً فرصاً سانحةً لدول الجوار الطموحة لملئ الفراغ السعودي في الإقليم، كالإمارات العربية المتحدة، قطر، فضلاً عن إيران و”إسرائيل” أو دول من خارج الإقليم كتركيا وفرنسا وكلّها قوى متنافسة تستفيد من أزمة النظام الدولي الليبرالي وتراجع القيادة الأمريكية للعالم كما أوضحنا سابقا.

بناءً على ما سبق، لن تتمكّن الجغرافيا العربية من إنقاذ نفسها وسط هذه الفوضى القادمة ما لم تَحدُث تحوّلاتٌ داخليةٌ تُوصل لهرم السلطة -في هذه الدول المفتاحية الثلاث- رجالاً أقوياء ذوي تفكيرٍ جغرافيٍ محض عابرٍ للإقليم، متجاوزٍ للإيديولوجيا ومشكلات الهويّة التّي استنزفت الطاقات الكامنة لهذه الجغرافيا الرحبة منذ زمنٍ طويل، وما لم تتجّه هذه القيادات إلى تفعيل آليات الهيمنة الإقليمية الحميدة لدولها وقوتّها الناعمة الكامنة الجاذبة لما حولها من دول في كُتلها الإقليمية المَعنية، مُتقاسمةً حدود مجالات النفوذ بينها حسب الفصل الإقليمي لهذه الكتل على نحوٍ عقلاني يكفل لها تركيز الجهود وتحمل الأعباء على نحوٍ مسؤول ضمن كلّ كتلة إقليمية من دون محاولة التعدّي على مجالات بعضها البعض، سيُتيح ذلك –إن تحقّق- مُستقبلاً لدول العالم العربي أن تتعاون وتُنسّق باعتبارها كتلاً إقليميةً متماسكة متقاربة الرؤى والمدركات لا مجرّد دولٍ (ودويْلات) مُشتّتة تعمّها الفوضى في خضّم هذه العاصفة المُتجمِّعة في الأُفق.

خاتمة:

مُحصّلةُ هذا المشهد تقودنا لترجيح سيناريو من “الفوضى الهوبزية” الذّي ستعرفه الجغرافيا العربية خلال السنوات العشر القادمة، لاسيما الخمس الأولى منها، من شأنه أن يُنهي “سردية العالم العربي” التّي ظلّت سائدةً منذ أربعينيات القرن الماضي، ولن تعرف هذه الجغرافيا في نظرنا تعافياً نسبياً قريباً ما لم تسترجع هذه الدول المفتاحية الثلاث (الجزائر، مصر والسعودية) دورها السيادي الرائد في كتلها الإقليمية المعنية عبر تجاوز أزمة القيادة السياسية فيها أساساً، وإذا نجحت في ذلك فسيكون التفكير الجغرافي القائم على الكتل الإقليمية هو البديل الأنسب أمام هذه القيادات حتّى تحافظ على التماسك الجغرافي للمنطقة وتقلّص من حدّة الفوضى التّي تعتريها، الناجمة عن فترات الانتقال العالمي للقوة (التّي قد تطول) وتضمن بالتالي لنفسها مكانةً كفاعلٍ مؤثّر في المشهد العالمي الجديد، بدلاً من البقاء كمجرّد ساحةٍ خصبةٍ للتنافس بين الطامحين الكبار.

  • نقتبسُ هنا هذه العبارة الأدبية التشبيهية “العاصفة المُتجِمّعة” من إحدى دراسات جون ميرشايمر السابقة التّي عبّر بها عن التحدّيات المُقبلة التّي ستعرفها الولايات المتحدة نتيجة للتحدّي الصيني لريادتها العالمية. أنظر:

John J. Mearsheimer, The Gathering Storm: China’s Challenge to US Power in Asia, The Chinese Journal of International Politics, Volume 3, Issue 4, Winter 2010, Pages 381–396

  • إذا كان هناك رابطٌ جامعٌ بين هذه الكتل أو بين مكوّناتها فسيكون رابط الدّين الإسلامي وما ينبثق عنه من قيمٍ جامعة، كونه دين الأغلبية الساحقة من شعوب الكتل الإقليمية الممتدّة من أندونيسيا شرقا إلى موريتانيا غربا.

الهامش

1 – Robert D. Blackwill and Thomas Wright, The End of World Order and American Foreign Policy, The Council on Foreign Relations (CFR), May, 2020, U.S. link

2 – Stephen Walt, Why Is the United States So Bad at Foreign Policy? Foreign Policy, January 13, 2020, U.S. link

3 – Robert D. Blackwill and Thomas Wright, Op. Cit.

4– Richard Haass, The Pandemic Will Accelerate History Rather Than Reshape It: Not Every Crisis Is a Turning Point, Foreign Affairs, April 7, 2020, U.S. link

5 – Kurt M. Campbell and Rush Doshi, The Coronavirus Could Reshape Global Order: China Is Maneuvering for International Leadership as the United States Falters, Foreign Affairs, March 18, 2020, US. link

6 – Robert D. Blackwill and Thomas Wright, Op. Cit.

7 – See: John Ikenberry, The End of Liberal International Order?, International Affairs, January 01, 2018, The UK. link

8 – See: John J. Mearsheimer, Bound To Fail: The Rise, and Fall of the Liberal International Order, International Security, Spring 2019, U.S. link

9 – Milan Babic, Let’s talk about the interregnum: Gramsci and the crisis of the liberal world order, International Affairs, May 01, 2020, UK. link

10 – See: Graham Allison, The New Spheres of Influence: Sharing the Globe With Other Great Powers, Foreign Affairs, March/April 2020, US. link

11 – Alexander Cooley and Daniel H. Nexon, Exit from Hegemony: The Unraveling of The American Global Power, Oxford University Press, The US, PP: 110-136.

12 – Alexander Cooley and Daniel H. Nexon, How Hegemony End: The Unraveling of American Power, Foreign Affairs, July/August, 2020, U.S. link

13 – Alexander Cooley and Daniel H. Nexon, How Hegemony End: The Unraveling of American Power, Op Cit.

14– ألكسندر دوغين، أسس الجيوبولتيكيا: مستقبل روسيا الجيوبوليتكي، ترجمة عماد حاتم (طرابلس: دار الكتاب الجديد المتحدّة، الطبعة الأولى 2014)، ص: 184-185.

15 – المرجع السابق، ص: 102-103.

16 – جلال خشيب، القوة الناعمة الغائبة في السياسة الخارجية الجزائرية: كيف تصل الجزائر إلى مصادر قوتّها الكامنة: نحو هيمنة إقليمية حميدة (قيد النشر).

أو أنظر: جلال خشيب: قوتّنا الناعمة الكامنة، ما الذّي يُقدّمه الحراك لمستقبل القوة الجزائرية؟ محاضرة بجامعة إسطنبول صباح الدين زعيم من تنظيم منتدى الجالية الجزائرية بتركيا، 6 يوليو 2019، إسطنبول-تركيا. الرابط

17 – روبرت غيلبين، الحرب والتغيير في السياسة العالمية، ترجمة عمر سعيد الأيوبي (بيروت: دار الكتاب العربي، 2009)، ص: 121-122.

  • يرى بايدن بأنّ إدارة ترامب تسبّبت في إضعاف مصداقية ونفوذ الولايات المتحدة عبر العالم، والأخطر من ذلك هو ابتعاد ترامب عن القيم الديمقراطية التّي تمنح القوة لأمريكا وتجعل شعبها موحّدا. ومع التحدّيات الجديدة التّي يعيشها العالم على غرار تحدّي المناخ، صعود الشعبويات والنزعة القومية، تنامي الهجرة وانتشار الأمراض الفتّاكة، فضلاً عن صعود الاستبداد والأنظمة غير الليبرالية عبر العالم، تراجعت ثقة شعوب العالم في الديمقراطية وتنامى هوس الخوف من الآخر، وكلّها كانت عوامل في خدمة ترامب وأمثاله من الديماغوجيين في سعيتهم لتحقيق مصالحهم السياسية والشخصية الضيقة. لذا، فعلى الرئيس القادم أن يسترجع سُمعة الولايات المتحدة، مصدقتيها وثقة العالم في قيادتها وأن يحشد الحلفاء لمواجهة هذه التحديات الجديدة فورا. يؤكّد بايدن بأنّه لو فاز بمنصب الرئاسة فسيُباشر ما يُسميه “بضرورة تجديد الديمقراطية داخل الديار”، فعلى الولايات المتحدة في نظره أن تُصلح وتُنشِّط ديمقراطيتها وتقوّي ائتلاف الديمقراطيات عبر العالم وأن تُظهر استعدادها لقيادة العالم مرّة أخرى “لا عبر مِثال قوتّها وحسب بل عبر قوّة المثال الذّي تضربه أيضا”. يتحدّث بايدن أيضاً عن تركيز الاهتمام على الأمن الاقتصادي للولايات المتحدة باعتباره مرادفاً للأمن القومي مُركّزاً على الطبقة الوسطى في المجتمع، إذ يرى بأنّ “سياستنا التجارية” تبدأ داخل الديار أولاً “من خلال تعزيز أعظم رصيدٍ لنا أي طبقتنا الوسطى”، والتأكّد من أنّ كلّ شخص يمكنه المشاركة في نجاح البلد وهذا ما يتطلّب استثمارات ضخمة في البنية التحتية والتعليم. أمّا على مستوى السياسة الخارجية فيرى بأنّ إدارة ترامب جعلت الولايات المتحدة تتنازل عن دورها القيادي العالمي الذّي باشرته منذ سبعين سنة، وإذا واصلت تنازلها عن هذه المسؤولية فسيحدث أحد الأمرين، “إمّا أن يحلّ طرفٌ آخر مكان الولايات المتحدة بطريقة لن تعزّز المصالح والقيم الأمريكية، أو لن يفعلها أحد وستعّم الفوضى حينها، وكلتا الحالتين لا تُعدّان أمراً جيّداً لأمريكا”. يعترف بايدن بأنّ الولايات المتحدة ارتكبت في الماضي أخطاءً كثيرةً، كان أهمّها اعتمادها على قوة جيشها بدلاً من الاعتماد على مجموعة كاملة من نقاط القوة لديها، فضلاً عن إهمالها للدور الفعّال للدبلوماسية. ومن الأمور التّي يرى ضرورة مباشرتها هي إنهاء الحروب إلى الأبد وإعادة الأغلبية العظمى من القوات الأمريكية إلى الديار والاكتفاء باستخدام بضع مئات من القوات الخاصّة والأصول الاستخباراتية لدعم الحلفاء المحلّيين ضدّ الأعداء المشتركين، كما يرى بضرورة إنهاء الدعم الأمريكي لحرب السعودية في اليمن والالتزام الصارم بأمن إسرائيل. من القضايا المؤكّدة طبعاً هي استعادة ثقة حلفاء أمريكا التقليديين وتعزيز العمل المشترك ضدّ التحدّيات التّي تفرضها القوى غير الليبرالية لروسيا-بوتين والصين وغيرهما من “الدكتاتوريات الصاعدة” وذلك عبر توسيع شبكة الأصدقاء الديمقراطيين في أمريكا اللاتينية، إفريقيا وشرق آسيا.

For more info see: Joseph R. Biden, Jr., Why America Must Lead Again? Rescuing U.S. Foreign Policy After Trump,  Foreign Affairs, March/April 2020, US. link

18 – Joseph R. Biden, Jr., Why America Must Lead Again? Rescuing U.S. Foreign Policy After Trump,  Foreign Affairs, March/April 2020, US. link

19 – Francis Fukuyama, The Pandemic and Political Order: It Takes a State, Foreign Affairs, July/August, 2020, U.S. link

20 – Amitav Acharya,  The Myth of the “Civilization State”: Rising Powers and the Cultural Challenge to World Order, Ethics & International Affairs, July 8, 2020, U.S. link

  • Fragile States Index, Powered by the fund for peace, Mapbox 2020. link

21 – Fragile States Index, Powered by the fund for peace, Indicators. link

22 – جلال خشيب، أوهام العولمة وعودة جيوبوليتيكا العالم القديم، المعهد المصري للدراسات، 22 نوفمبر 2019، إسطنبول-تركيا، ص: 18-19-20-21. الرابط

الوسوم

جلال خشيب

باحث جزائري مُقيم بتركيا، تهتمُ أعماله بمجال الجيوبوليتيك، نظريات العلاقات الدولية، سياسات القوى الكبرى والإقليمية، من أبرز أعماله كتاب: “أثر التحوّلات الطارئة في بُنية النظام الدولي على التوجّهات الكبرى للسياسة الخارجية التركية”، سنة 2017.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى