تقديرات

عسكرة المياه كنمط للصراع في الشرق الأوسط

 

تمهيد:

إن إعادة التوازن ما بين الدواخل الإقليمية أصبحت الإشكالية الفاعلة بمنطقة الشرق الأوسط؛ فلم يعد ما يطبع عليه بتقليدية الصراع الداخلى بدول المنطقة الحيز المؤرق للكثير من السياسات الإقليمية والدولية. بل اشتمل الأمر كذلك على عدد من الفواعل العابرة لكيان الدولة لتدخل فى إطار نمط الصراع الحالى.

وإتساقا مع حداثة أجيال الأنماط الصراعية؛ فإن المنافسة الجيوسياسية الدولية المحتدمة على الموارد الطبيعية أضحت سبباً في تحويل بعض الموارد الاستراتيجية إلى محركات للصراع على السلطة. وفى مقدمتها الموارد المائية العابرة للحدود الوطنية حيث تُعد ورقة رابحة للمنافسة والصراع، نتج عن ذلك سباق محموم لبناء السدود مقابل تنامى الدعوات المطالبة بالاعتراف بالمياه باعتبارها مصلحة أمنية أساسية من جانب الأمم المتحدة.

إن المياه تختلف عن غيرها من الموارد الطبيعية. ففي كل الأحوال، دوما ما يكون هناك بدائل للعديد من الموارد، بما في ذلك النفط، ولكن لا توجد بدائل للمياه. فعلى نحو مماثل، تستطيع البلدان أن تستورد الوقود الأحفوري، والخامات المعدنية؛ ولكن يصعب استيراد المياه التي تُعد المورد الأهم في الأساس على نطاق واسع ولفترات طويلة ــ ناهيك عن كونها غير دائمة. وإن إفترضنا جدلاً عملية الإستيراد للمياة بتوظيف تقنية “تجارة المياة الإفتراضية”1، فليس الجميع على مستوى المعرفة.

أولاً: الندرة المائية كمحفز للصراع بالشرق الأوسط:

أصبح هناك تباين شديد ما بين أنماط الصراع والنظريات المفسرة له؛ وإختلفت المدارس ما بين القيم التقليدية وقيم الحداثة فى تفسير تلك الظاهرة والإتجاهات الحديثة لتناول منظومة الأمن الإقليمى والعالمى. فإلى جانب جملة الاستراتيجيات العسكرية الممنهجة بالآليات المائية، فمن المنتظر أن يفرض الاحتباس الحراري العالمي على إمدادات المياه ضغوطاً متزايدة. ومع ارتفاع مستوى سطح المحيطات واشتداد قوة وتواتر العواصف وزيادة أحداث الطقس المتطرفة الأخرى؛ فسوف تنعكس الآثار الناجمة عن التغيرات المناخية وما يصاحبها من موجات جفاف وندرة المياه، على الصراعات المسلحة في منطقة الشرق الأوسط، حيث تحاول أطراف الصراعات استغلال ما ينتج عن هذه الظروف المناخية من اضطرابات وعدم استقرار سياسي، لتوظيفه في نزاعها مع الأطراف الأخرى. إضافة إلى أن التوسع الاقتصادي والديموغرافي السريع تسبب بالفعل في تحويل القدرة على الوصول إلى مياه صالحة للإستخدام الحيوى إلى قضية كبرى عبر أقسام كبيرة من العالم.

 

ثانياً: التنظير التنظيمى للصراع البيئى إقليميا:

تتعدد النظريات التحليلية المفسرة للصراع التنظيمى بشكل عام؛ بينما تًندر الإتجاهات الحديثة فى تفسير المنحنيات البيئية كظواهر جديدة مُشكلة لدوائر الصراع إقليميا وعالميا. فالمدرسة البيئية والتى تندرج ضمن إطار العلاقات الدولية، تتحدث عن المحدد البيئى كفاعل رئيسى ومحرك للأحداث الدولية، وذلك وفقا للتوجه الحديث للعلاقات الدولية وتغير الأجندة الخاصة بالسياسات العليا High Politics، من القضايا التقليدية المعنية بالقوة العسكرية فى المقام الأولHard Power إلى القضايا المعنية بالقوة الناعمة Soft Power والتى تأتى فى مقدمتها القضايا البيئية بمختلف توجهاتها.

وتعدالنظرية البيئية من النظريات الحديثة نسبيا فى اقترابات العلاقات الدولية، خاصة أن أول الفرضيات بتلك النظرية أن “الأنظمة البيئية ليست مغلقة”؛ أى أنها لا تكفى نفسها بنفسها بصورة مطلقة؛ حيث إن كل نظام بيئى يتفاعل مع غيره من الأنظمة الأخرى، والعالم الطبيعى يتكون من شبكة من الأنظمة البيئية أكبرها المنظومة البيئية العالمية التى شاعت تسميتها بـ”المجال البيئى eco-sphere” أو المجال البيولوجى bio-sphere 2.

بالمقابل، هناك العديد من العقبات التى تواجه النظرية البيئية (فكراً وتطبيقاً وإنتشاراً) ولعل أهمها بالنظر لمنطقة الشرق الأوسط والدول النامية أن الرؤية البيئية صعبة التحقيق لو استقام الناس عليها؛ لأنها تتضمن تضحيات لا يريد الكثيرون تقديمها ويفضلون المصالح العاجلة، فالبيئية الحقيقية أكثر راديكالية من الاشتراكية والفاشية والحركة النسائية أو أى اعتقاد سياسى آخر، فهذا المذهب لا يقتصر على المطالبة بتحول النظام الاقتصادى أو إعادة تنظيم العلاقات بين السلطات داخل النظام السياسى فحسب، بل لا يرضى بأقل من إقامة نمط جديد للوجود، أى أسلوب مختلف فى تجربة الوجود وفهمه، والأكثر من ذلك أن نظرياته وقيمه تتعارض كلية مع تلك الخاصة بالمجتمعات التى يهيمن عليها التقدم الصناعى.

 

ثالثاً: نظرية الأمن البيئي كإطار تنظيمى لتوترات “إيكو- سياسية”:

التوجه التقليدى ارتكزت مفاهيمه الأمنية على التهديدات المباشرة للإدارة العسكرية؛ ولكنه تطور بعد ذلك ليشمل التهديد العسكرى والسياسى والاقتصادى والبيئى، ومفهوم “البيئة” كما عرّفه “فيدرات” هو: “الجوانب البيولوجية والفيزيائية والاقتصادية والثقافية وهى متداخلة كلها فى النسيج الإيكولوجى المتغير باستمرار”. ومن ثم يظهر لنا فى حقل العلاقات الدولية ما اصطلح الباحثون على تسميته “التدفق البيئى”3، والذى ينصرف إلى التهديدات الصادرة من خارج حدود الدولة، والتى تظهر من خلال تدفق مواد غير مرغوبة من دولة إلى أخرى، هذه المواد تُحدث تدهورا فى البيئة المادية للدولة، ويحدث ذلك التدهور فى أشكال متعددة مثل تلوث مياه الشرب أو التأثير على الإنتاج الزراعى أو إحداث اضطرابات سياسية تهدد أمن الدولة.

 

رابعاً: البيئة المنظومة الديناميكية للصراعات المستقبلية

إن التغيرات التى شهدتها الساحة الدولية؛ والطفرة التكنولوجية أدت إلى ظهور العديد من المشكلات البيئية مثل التغيرات المناخية، والدفء الحرارى والانبعاثات الغازية والتسريبات الإشعاعية، وما إلى ذلك من مظاهر التطور في النظام الدولى والإقليمى. وما نتج عن ذلك من تفاقم عكسى للمشكلات البيئية، تتزايد آثارها حدة فى ظل الانفجار السكانى الكبير الذى تشهده بلدان العالم النامى.

وتعتبر المشكلات البيئية جزءاً من منظومة الأمن القومى، وذلك فى إطار التعريف الحديث لمفهوم الأمن فالتهديد البيئى يمثل تهديداً للأمن القومى، والمشكلات البيئية، مع تزايد حدتها، قد تدفع تلك الدول للتصارع حول الموارد المحدودة وفقا لإفتراضات توماس هومر ديكسون؛ وهو ما يظهر جليا بالصراعات الحديثة بمنطقة الشرق الأوسط وأفريقيا.

شكل (1) نموذج هومر- ديكسون لتفسير العلاقة بين محدودية الموارد البيئية والصراع الدولى:

Thomas f. Homer – Dixon. “On The Threshold Environmental changes as causes of Acute Conflict”, International security، Vol. “16” 1999 – PP. 76: 116

 

خامساً: استراتيجيات العسكرة المائية:

وفقا للشواهد العامة والمُسجلة لحوادث عسكرة المياة سواء باستخدام الدولة القومية؛ أو الفواعل العابرة للقومية مثل حالة (داعش) فإن هناك استراتيجيات ممنهجة يسعى مستخدموها لتحقيق أغراض معينة سياسية كانت أو عسكرية جراء استخدام السلاح المائى بالمواجهة؛ ويمكن توضيح ذلك بالعناصر التالية4:

1ـ العسكرة الاستراتيجية: هناك نوعان من العسكرة الاستراتيجية، الأول: استخدام المياه للسيطرة على مناطق واسعة من الأراضي لتحقيق السيادة، والثاني: استخدامها كأصل لتمويل الأنشطة كشراء الأسلحة. وتشمل العسكرة الاستراتيجية أيضاً استهداف أو تدمير المراكز السكانية الكبيرة أو المنشآت الصناعية وغيرها من البنى التحتية، ويمثل تنظيم “داعش” أبرز الأمثلة في هذا الشأن.

2ـ العسكرة التكتيكية: استخدام المياه كسلاح في ساحة المعركة، لتوفير الدعم المباشر والفوري للعمليات العسكرية، أو استخدامه ضد أهداف ذات أهمية عسكرية كبيرة.

3ـ العسكرة السيكولوجية: بث الخوف في صفوف غير المحاربين من خلال حرمانهم من الوصول إلى إمدادات المياه أو تلويثها. ويلجأ الفاعلون إلى ما يُطلق عليه “الإرهاب المائي”، سواء على المستوى الاستراتيجي أو التكتيكي.

4ـ العسكرة التحفيزية: استخدام المياه كسلاح لضمان شرعية السلطة الحاكمة، أو كمكافأة على الدعم المقدم من المواطنين.

5ـ العسكرة غير المقصودة: عندما يسبب استخدام سلاح المياه أضراراً جانبية على المدنيين أو البيئة الأيكولوجية، يُسمى ذلك بالعسكرة غير المقصودة. ويعد نزوح السكان غير المتعمد شكلاً متكرراً لهذه الأضرار الجانبية.

 

سادساً: عسكرة الموارد المائية والتغير فى استراتيجيات الصراع بالشرق الأوسط:

إحدى الأدوات غير التقليدية والتى تستخدم للسيطرة وضمان الهيمنة من إحدى الفواعل التى تنتهج الإطار الصراعى كمحدد للبقاء فى التنافس؛ استخدام المياة كسلاح إستراتيجى لبسط النفوذ وتعزيز الأهداف السياسية والعسكرية؛ وذلك بالتلاعب في إمدادات المياه، لتحويلها لسلاح يُستخدم في صراع لا علاقة لها به، وهو ما يُعرف باسم “عسكرة المياه” weapon zing water

واستخدام المياه كسلاح ليس وسيلة مستحدثة؛ إذ إنه في عام 1914 في الحرب العالمية الأولى فتحت بلجيكا أقفال الأنهار على أعلى مستوى تجاه البحر لإغراق سهل “YSER” المتنازع عليه5، كما كانت أداة بشار الأسد في سوريا، وصدام حسين في العراق، اللذان استخدما امدادات المياه لممارسة الضغط على مناطق معينة وتعمد حرمانها منها؛ ففي عام 1990 قام صدام حسين بتجفيف المياه في جنوب البلاد كأداة لمعاقبة السكان المحليين لرفضهم نظام الحكم.

وتختلف السيطرة وفقا للنهج الفاعل والمسيطر بخريطة التنافس الإقليمى؛ وذلك بالنظر لنوع الفاعل إن كان رئيسيا متمثلا فى الدولة حكوما ذات سيادة كاملة وتلجأ بمقتضاها للعسكرة المائية وفقا لمرتكزاتها القانونية؛ أو فاعل آخر عابر للقومية سواء ذو نمط مسالم كحالة حزب الله أو ذو نمط عنيف وذلك مثل ما ظهر مؤخرا بخريطة الشرق الأوسط والمتمثل فى حالة ( تنظيم الدولة الإسلامية – داعش) ويختلف كلا النمطين باستراتيجيات العسكرة المائية.

 

سابعاً: استراتيجية الفاعل القومى ـ الدولة والعسكرة المائية:

الشواهد العامة على مدار العديد من العصور السياسية أن الحكومات على اختلاف دولها تستخدم سلاح المياه بدرجة أقل كثيراً من الفاعلين من غير الدول (الفواعل العابرة للقومية)، وربما يعزى ذلك إلى أن الدول تتقيد بالاتفاقيات الدولية التي تحظر استخدام البيئة كسلاح. بالمقابل؛ هناك أنماط تتمثل فى الإلتفاف حول تلك الإتفاقيات باصطناع المواجهه المائية؛ ولعل ذلك ما يظهر بحالة سد النهضة الإثيوبى والذى يشير إلى جملة من الأزمات متداخلة الأبعاد الهيدرولوكية الايكولوجية والسياسية والإقتصادية الأمنية وكذلك الإنسانية (شكل 2).

شكل (2) تهديدات سد النهضة لإقليم حوض نهر النيل

فالعسكرة المائية المتبعة من الجانب الإثيوبى تتمثل فى مزج ثلاثى بين الاستراتيجيات السيكولوجية والتحفيزية وغير المقصودة. تنطوى أبعاد التهديد المائى الإثيوبى على عدد من السيناريوهات المستقبلية لحالة الأمن المائى المصرى والتى تتداخل ليس فقط مع الفعل الإثيوبى ولكن كذلك مع التوترات الطبيعية المتمثلة فى التغيرات المناخية والتى تعكس تهديدات مختلفة لعناصر الأمن الشامل بداية من التهديد بإفشال جهود التنمية وزيادة الفقر، فضلا تفاقم انعدام الأمن المائي والغذائي وصولا لتنامي ظاهرة اللاجئين البيئيين والإخلال بالهيكلة الديموغرافية للإقليم؛ وذلك من خلال:

1ـ التهديدات على أمن السواحل: سوف تتأثر المناطق القريبة من السواحل سلبيا نتيجة التغيرات المناخية؛ خاصة وأن التقديرات تشير إلى ارتفاع متوازى لمستوى البحر يقدر بـ 50 سم بما ينعكس على غرق مساحات واسعة من الأراضى المنخفضة الصالحة للزراعة؛ ويزيد من معدلات “الهجرة البيئية” وفقا للعديد من تقديرات الأمم المتحدة.

2ـ التهديدات على أمن الصحة العامة: سوف يؤثر الإنحراف فى التغيرات المناخية على الصحة العامة، وإرتفاع حالات الوفيات الناجمة عن إرتفاع “درجات الحرارة / ضربات الشمس”. كما أن التطرف الحرارى سينجم عنه بعض التطورات الوراثية في بعض أنواع الفيروسات والبكتيريا، فتظهر طفرات جديدة تتمتع بصفات وراثية جديدة، كبقائها مدة أطول في الطبيعة، ومقاومتها للمضادات الميكروبية وزيادة عدوانيتها في أحداث المرض (مثل فيروس أنفلونزا الطيور، وطفيليات الملاريا؛ والبكتريا المسببة لإلتهاب الأغشية السحائية؛ وفيرس أيبولا؛ وزيكا).

3ـ التهديدات على الأمن الغذائى: هناك العديد من التهديدات التى تواجهها المنظومة الغذائية على كافة النواحى من إنتاجية زراعية وثروة حيوانية وسمكية من خلال:

(أ) نتيجة لسلسة من التطورات الناجمة عن حالة التغيرات المناخية فيما يتعلق بنقص المياة إضافة للتغير فى معدلات الآفات الزراعية بالزيادة. فمن المتوقع أن تتراجع إنتاجية القمح والذرة لدولة كمصر بنسبة مابين 15 لـ 19% بحلول عام 2050. كما ستتتراجع جودة وخصوبة الأراضى الزراعية بمناطق دلتا حوض النيل كإنعكاس سلبى على إرتفاع منسوب البحر وتسرب المياة المالحة.

(ب) الإجهاد الحرارى للثروة الحيوانية؛ إحدى أهم التهديدات الناجمة عن التغيرات المناخية والتى تنعكس سلبا على حجم الإنتاجية من اللحوم والألبان. خاصة مع تطور تهديدات الإجهاد الحرارى لأمراض جديدة فى الحيوانات مثل (مرض اللسان الأزرق؛ وحمى الوادى المتصدع).

(ج) تهديد التغيرات المناخية للثروة السمكية خاصة بالتأثير فى إرتفاع درجة حرارة المياة المالحة وما ينعكس على ذلك سلبا من هجرة الأسماك لناحية الشمال لتعيش في المياه العميقة الأكثر برودة. كما أن زيادة ملوحة المياه في البحيرات الساحلية سيقلل، على الأرجح، من كميات ونوعيات الأسماك التي تعيش في هذه المياه.

4ـ تهديد أمن الطاقة: سينعكس التطرف الحرارى والتغير المستمر فى درجات الحرارة سلبا على كفاءة المحطات التقليدية لتوليد الكهرباء وتراجع الخلايا الفوتوقولطية. كذلك الإنعكاس الحرارى على إرتفاع مستوى البحر سيهدد حتما محطات الكهرباء وشبكات النقل الكهربائى الموجودة بالقرب من مختلف السواحل.

5ـ تهديدات الأمن المائى: تُثبت كافة التقارير الدولية والوطنية تأثير التغيرات المناخية على إرتفاع معدلات الجفاف فى أجزاء مختلفة من العالم؛ وبصفة خاصة فى دلتا حوض نهر النيل. بما ينعكس سلبا على الموارد المائية لدول الحوض عامة والمصرية خاصة على إختلافها (إيرادات مياة النيل – الأمطار – المياة الجوفية) والتى تصنف بخط “الفقر المائى” وفقا لتقارير البنك الدولى.

ووفقا لتقاير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتغيرات المناخية IPCC ؛ فالتغيرات المناخية تؤثر فى تذبذب إيراد نهر النيل من المياه حيث يمكن أن يرتفع فجأة بنسبة تصل إلى 28% كما أنه يمكن أن يتناقص فجأة أيضا فى سنة أخرى بنسبة تصل إلى حوالى 76% وذلك بسبب اختلال توزيع أحزمة المطر، كمياً ومكانياً وخاصة فوق حوض نهر النيل. وهو ما يعرف بالتطرف الحرارى والذى يظهر تبعاتة الحالية بحوض نهر النيل؛ خاصة مع حدوث تبعات “النينو” والتى تصنف بكونها الأعنف وظهرت ملامحها بجفاف بشرق إثيوبيا – منطقة أوجادين – مقابل فيضانات ضخمة في كينيا في نفس الوقت التي تسببت بجفاف في شرق إثيوبيا؛ وهى تلك الورقة التى إستخدمتها إثيوبيا فى المفاوضات الدولية الأخيرة حول سد النهضة واللعب بأوراق مكاتب الخبراء الفنيين؛ على الرغم من تسجيل تدفقات مرتفعة لمياة النيل بأغسطس المنصرم 2016.

 

ثامناً: العسكرة السيكولوجية والسياسات التحفيزية الإثيوبية للأمن المائى المصرى:

ينتهج الجانب الإثيوبى إحدى استراتيجيات العسكرة المائية والمتمثلة فى الإرهاب التحفيزى بالإضافة إلى العسكرة غير المقصودة ويظهر ذلك فى عدد من النقاط والتى إتفق عليها أغلب خبراء المياة والسدود ويمكن إيجازها بالتالى6:

1ـ السدود الإثيوبية الأربعة المقترحة على النيل الأزرق (السد الأول كاردوبي بسعة تخزينية تصل لــ 40 مليار متر مكعب، السد الثاني مندايا بسعة تخزينية تصل لقرابة 50 مليار متر مكعب، السد الثالث بيكو أبو بسعة تخزينية تصل لقرابة 35 مليار متر مكعب، وسد النهضة بسعة تخزينية تصل لـ 74 مليار متر مكعب) تهدف الى التحكم الكامل فى مياه النيل الأزرق وهو الرافد الرئيسي لمياه النيل وبالتالي التحكم في حصة مصر المائية وإلغاء أو علي أقل تقدير تقزيم دور السد العالى فى تأمين مستقبل مصر المائى.

شكل (3) السدود الأربعة الإثيوبية (النهضة؛ كارادوبي؛ بيكو أبو؛ مندايا)

1ـ سد النهضة وحده بتصميمه الحالى بسعة 74 مليار متر مكعب سيكون له آثار سلبية عنيفة على حصة مصر المائية وعلى إنتاج الكهرباء من السد العالي وخزان أسوان وذلك أثناء فترات ملء الخزان، وكذلك أثناء تشغيله وتزداد حدة هذه الأثار السلبية خلال فترات الجفاف حيث تتعارض مصالح إمداد مصر والسودان بالمياه الكافية مع تعظيم إنتاج الطاقة من سد النهضة.

2ـ تقليل الحصة المائية المصرية سيؤدى إلى بوار مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية وتشريد ملايين الأسر وزيادة في تلوث المسطحات المائية ومشاكل فى امدادات مياه الشرب والصناعة ومشاكل فى النقل النهرى والسياحة النيلية ويشكل تهديدا للمزارع السمكية.

3ـ انهيار السد سيؤدى إلى نتائج كارثية على مصر والسودان، تشمل انهيار سدود وغرق العديد من المدن الكبرى والقرى وتعرض ملايين الأرواح الى مخاطر الموت والتشريد.

4ـ نجحت إثيوبيا فى وضع السد كحقيقة واقعة، وأصبح التفاوض حالياً لتقليل الضرر وليس لمنعه. بالإضافة للتأكيد على ضرورة تعهد إثيوبيا رسميا بمبدأ الإخطار المسبق وإجراءاته التنفيذية على ضوء ما جاء في الاتفاقية الإطارية للأمم المتحدة عام 1977 للأنهار المشتركة. وأن تتم المراجعة الدقيقة لكل تصميمات السد من قبل خبراء مصريين بعد الانتهاء من تعديلات أبعاده الفنية للتأكد من سلامته الانشائية.دون إغفال الثلاث سدود الإثيوبية الأخرى.

العسكرة المائية إيماءً للدولة القومية لا تنصرف فقط للدور الإثيوبى فى حوض النيل؛ ولكن القارة ككل تواجهه عسكرة بيئية وفى مقدمتها سلاح التغيرات المناخية وما ينطوى عليه من إرتفاع معدلات البخر والتذبذب بالنمذجة المناخية للإقليم المائى لحوض نهر النيل وما يترتب عليه من تذبذب بمعدلات الإستمطار الطبيعى وتغير فى البيئة الايكولوجية للإقليم. وهو ما يجب أن تتنبه لة دول الإقليم بالدراسات المسحية والبيئية والهيدرولوكية.دون إغفال ورقة الدبلوماسية المائية كإحدى الآليات الفاعلة فى مواجهه العسكرة المائية فى بيئة حوض نهر النيل.

 

تاسعاً: استراتيجية الفواعل العابرة للقومية ـ داعش والعسكرة المائية:

تفرض داعش سيطرتها على أجزاء من سوريا والعراق وسجلت بدورها حالات متكررة فيما يتعلق باستخدام المياه كسلاح، فمنذ يوليو 2015 تناقصت تدفقات المياه بنهري دجلة والفرات، بسبب الجفاف والتلاعب البيئي المتعمد من “داعش”، حيث سيطر التنظيم على الروافد العليا لنهر الفرات، مما مكَّنه من خفض تدفق المياه إلى منطقة الأهوار التي تعتبرها “داعش” منطقة معادية لها، حيث يقطنها أقلية شيعية.

الاستراتيجيات الداعشية في استخدام المياة كسلاح سياسى وعسكرى ظهرت تطبيقيا فى العديد من الشواهد، مثال ذلك ما قامت به في سبتمبر 2014، من تحويل مياه النهر من منطقة حوض شروين بمحافظة ديالى العراقية، وذلك لإعاقة تقدم قوات الأمن العراقية، وإغراقها لتسع قرى.

وفي إطار العسكرة السيكولوجية للمياه هدد “مجلس شورى مجاهدي وادي بردى” فى سوريا فى يوليو 2015 بقطع المياه عن عين فيجة، والتي تمد دمشق بماء الشرب. بينما لجأت داعش للسلاح التحفيزى عندما سيطرت على الموصل وتكريت فى يونيو 2014، حيث قام التنظيم بقطع المياه عن القرى المحيطة بها، وتم تعطيل تدفق المياه من محطة تنقية مياه الموصل إلى قرى الأقليات المسيحية في ضواحي الموصل، ما تسبب في إرغام السكان على شراء المياه بنحو 6.25 دولار لكل متر مكعب، وهذا ما لم يستطع معظم السكان تحمله.

وتسعى داعش لانتهاج استراتيجيات التوسع الأفقى والرأسى وذلك منذ عام 2014؛ وتعتمد على سلاح المياة باستراتيجياته المختلفة لتعزيز أهدافها العسكرية والسياسية، فسيطرت على الموارد المائية والسدود الهامة ذات الأهمية الاستراتيجية في سوريا والعراق. وضافرت جهودها للسيطرة على الجزء السوري الخاص بنهر الفرات. ومن أهم السدود الرئيسية التي نجحت في السيطرة عليها سد تشرين، وسد الفرات، وسد البعث، أما في العراق فمنذ عام 2014 بدأت داعش تفرض هيمنتها على الروافد العليا لنهري دجلة والفرات لأنها وجدت في ذلك منفذًا لها لتعظيم نفوذها، وإلحاق ضرر بمناطق أكبر دون الهجوم مباشرة بالاحتلال العسكري وفي غضون عام استطاعت احتلال أغلب السدود الاستراتيجية الهامة للعراق، وتوضح الخريطة التالية السدود التي تخضع لسيطرة داعش.

شكل (4) خريطة السدود التى سيطر عليها تنظيم داعش

Erin Cunningham, Islamic State jihadists are using water as a weapon in Iraq, The Washington post, October 7, 2014.

ومع سيطرة داعش على عدد من السدود وروافد الأنهار الاستراتيجية؛ اعتمدت على عدد من الآليات لضمان الإخضاع والسيطرة، منها:

1ـ قطع إمدادات المياه: فقد استندت داعش على استراتيجية “تدمير إمدادات المياه والكهرباء” وذلك عن طريق قطع الأنابيب والكابلات، أو من خلال تحويل مجرى السد، فمن لديه السيطرة على السد يمكنه أن يسبب الجفاف لمساحات شاسعة. فقد قامت داعش بقطع إمدادات المياه والكهرباء في سوريا والعراق عن عدة بلدات ومقاطعات مثل “قراقوش” وهي مدينة شمال العراق فرضت داعش عليها حظرًا تامًّا في يونيو 2014 لأن غالبية سكانها من المسيحيين، ثم استطاعت فرض سيطرتها على سد الرمادي في مايو 2015، وحولت مجرى المياه إلى بحيرة “الحبانية” فانخفضت المياه إلى أكثر من 50%؛ كما عمدت إلى التأثير على تدفق المياه لمحافظة الأنبار والمناطق الشيعية في الروافد الدنيا عن طريق بناء سدود وتحويل مجرى المياه.

2ـ إغراق المناطق: وفقا لمقولة (من يملك المنح يملك المنع)؛ فقد عمد تنظيم داعش؛ إضافة لاستراتيجية قطع إمدادات المياه؛ للتوجه نحو إغراق العديد من المناطق، من خلال تحويل المياه وإخراج كميات كبيره من المياه دفعة واحدة، ففى إبريل 2014 أغلق داعش سد الفلوجة، ثم فتحه لتغمر المياه المحتجزة مناطق واسعة وصلت إلى 100 كم ودمرت المرافق الحكومية العراقية، كما دمرت أكثر من 10 آلاف منزل، وما يقدر بحوالي 200 كم من الأراضي الزراعية الخصبة7. مما ترتب عليه إزالة كافة المحاصيل الزراعية بالكامل وقتل الماشية، وتشريد حوالي 60 ألفًا من السكان الذين فقدوا مصدر رزقهم نتيجة للفيضانات.

3ـ تسميم المياه: تستخدم المياه كسلاح من خلال تلويث وتسميم مصادر المياه مما يتسبب في إحداث أضرار بالغة، فقد شهد ديسمبر 2014 تلويث مياه الشرب بالنفط الخام ببلدة صلاح الدين في جنوب تكريت، وهناك عدة تقارير أثبتت وجود إمدادات مياه مسمومة في حلب والرقة وبغداد.

داعش والذى يمثل الجيل الثالث من اللا دولة الفاعلة (التنظيم العابر للقومية) تكمن خطورته فى إستنزافه القدرات المؤسسية لكلا من سوريا والعراق، بانهاكهما بالصراعات الداخلية، مما أتاح له الفرصة للسيطرة على القدرات المائية لكلا الدولتين واستخدام المياه كسلاح عسكرى لتحقيق سيطرة سياسية وأهداف توسعية.

 

خاتمة:

تزامناً مع الخطابات الدولية المحذرة من تفاقم الأزمة المائية، استنادا للبلاغات الوطنية المتعلقة بالتغيرات المناخية وما يترتب عليها مستقبلياً من تبعات أيكولوجية مختلفة؛ تبرز إشكالية عسكرة الموارد المائية في منطقة الشرق الأوسط. واستحداث استراتيجيات للتطويق والمحاصرة باستخدام الآلية المائية كسلاح عسكرى لتحقيق أجندات سياسية.

وتختلف طرق التناول العسكرى للمحدد المائى باختلاف الفاعل الرئيسى فى تشكيل دائرة الصراع محل الاهتمام، والذى آثرنا بيانه، ما بين فاعل قومى متمثل فى الدولة المحددة بقواعد قانونية ومُلزمة بالإتفاقيات والمعاهدات الدولية. وتعتمد على استراتيجيات التطويق والإلتفاف حول المضمون المائى للإقليم. كما في نموذج سد النهضة واستخدام الآلية السيكولوجية للعسكرة المائية والمتمثلة فى الإرهاب للأمن المائى المصرى.

بالمقابل؛ يظهر الفاعل العابر للقومية (اللا – دولة) كما في نموذج “تنظيم داعش” والذى منذ بداية تحركاته بالمنطقة وضح إعتماده على السلاح المائى فى الإخضاع وبسط السيطرة. الأمر الذي يفرض على المجتمع الدولى التوافق حول النهج الهيدرولوكى القائم إقليميا بتوحيد المفاهيم وبناء قواعد البيانات المتضمنة لجميع الاتفاقات القائمة والخلافات المتصلة بالمياه، وتجميع المعلومات المتاحة عن بيئة الأنهار والأرصاد الجوية في كل دولة تحسبا لتداعيات التغيرات البيئة وفى مقدمتها الإحتباس الحرارى.

كما يفرض على دول منطقة الشرق الأوسط، أن تضع فى مقدمة أجندتها لمواجهه عسكرة المياه؛ التضافر حول استراتيجية إقليمية للتخفيف من حدة عدم الإستقرار، والتعاون مع الأقطاب المؤثرة في هرم النظام الدولى. وذلك بالعمل من خلال ثلاث مسارات متوازية:

الأول: المسار الدفاعى: والهادف للتقليل أو منع الإضرار بإمدادات المياه والبنية التحتية لها.

الثاني: المسار التنموى: وذلك بالعمل على إعادة إعمار البنية التحتية للمياه التي دُمرت من جانب تنظيم داعش؛ بالإضافة لتفعيل الدبلوماسية المائية والتي لها دور مؤثر في التقليل مستقبلاً من عدم الاستقرار السياسي الذي تسببه ندرة المياه كما فى حالة ملف حوض النيل.

الثالث: المسار القانونى: وذلك من خلال التمسك بإنفاذ قواعد القانون الدولى والتي تحظر استخدام المياه كسلاح، وتفعيل الاتفاقيات الدولية التى تُصنف “عسكرة المياه” باعتبارها جريمة حرب(8.

—————————-

الهامش

(1) for more details: World Water Council, E-Conference Synthesis: Virtual Water Trade – Conscious Choices, March 2004

(2) For more details see: CF.: B. R. Allenby, T.J. Gilmartin, and R.F. Lehman II (eds). Environmental Threats and national security. Livermore, CA: Lawrence Livermore National Laboratory, 1998.

(3) Geoffrey D, Dableio and David D. Dabelko ” Environment security: Issues of concept and Redefinition”, Environment and security, vol. “1” No “1”، spring 1996, pp. 23 – 49.

(4) Marcus King, The Weaponization of Water in Syria and Iraq, The Washington Quarterly, Vol.38, No.4 (Washington: The Elliott School of International Affairs, Winter 2016) PP 153-169

(5) عسكرة الموارد: كيف استخدم “داعش” المياه كسلاح في سوريا العراق؟، مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية، 16 فبراير 2016.

(6) لمزيد من التفاصيل حول هيدرولوكية سد النهضة وتداعياتة على مصر، أنظر: بيان مجموعة حوض النيل، كلية الهندسة، جامعة القاهرة، القاهرة ، 10يونيو2013

(7) عسكرة الموارد: كيف استخدم “داعش” المياه كسلاح في سوريا العراق؟ ؛ مرجع سبق ذكرة

(8) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.

إيمان زهران

باحثة مصرية، تعد للحصول على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية، جامعة القاهرة، حاصلة على دبلوم تحليل السياسات العامة، جمهورية التشيك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى