تحليلات

فيروس كورنا وأحداث 11 سبتمبر: حدود التشابه

يبدو أن انتشار “فيروس” كورنا سيحترم إحدى السنن التي ترسخت في العلاقات الدولية على الأقل منذ بداية القرن العشرين وهي أن هذه العلاقات تشهد كل عشرين سنة تقريبا حدثا عالميا يترك أثرا استراتيجيا عاما في هذه العلاقات؛ فمن نهاية الحرب العالمية الأولى، إلى نهاية الحرب العالمية الثانية وبداية الحرب الباردة الى أزمة النفط في بداية السبعينات إلى تفكك الاتحاد السوفياتي إلى أحداث 11 سبتمبر إلى انتشار فيروس كورونا تستمر العلاقات الدولية في ذات النسق.

إن الخيط الناظم بين هذه الأحداث التاريخية ليس مضمون الحدث في حد ذاته ولكنه الأثر الاستراتيجي العام الذي يتركه في العلاقات الدولية، فعندما وقعت أحداث 11 سبتمبر طرح واحد من أكبر المتخصصين في الأمن الدولي، ” كريس سمبل”، اتجاها تحليليا مفاده أن هذا الحدث يشبه بداية الحرب الباردة أي أن تأثيراته وتداعياته ستستمر لعقود، وبقت هذه المقولة التحليلية صائبة على الأقل لعقدين من الزمن.

وأطرح هنا أن انتشار فيروس كورنا قد ينضم الى سلسلة الأحداث التاريخية التي أفرزت أثرا استراتيجيا عاما في العلاقات الدولية ليس فقط من خلال احترام النسق الزمني لتبلور هذه الأحداث في الواقع الدولي ولكن مما أعتقد أن هناك تشابهات كثيرة بين انتشار فيروس كورونا وبين أحداث 11 سبتمبر كحدثين دوليين على الأقل في أربع عناصر رئيسية:

أولاً: حجم البروباجندا العالمية:

إن الأداء الإعلامي في نظام دولي معولم لم يعد، مجرد عملية اتصالية ولكن أصبح يحمل أبعاد استراتيجية على غرار انتشار مفاهيم من مثل ” الجيوميديا ” والذي يعني إمكانية إحداث أثر جيوسياسي عن طريق تناول الأحداث والقضايا بطريقة تتلاءم مع هذا الهدف، بالإضافة الى ما سماه جون بودريار” بإعلام ما بعد الحداثة ” الذي ” يصنع الحدث ” ولا ينقله فقط، أي ذلك النوع من الممارسة الإعلامية التي تتعمد تهويل المعطيات الخاصة بحدث معين بالشكل الذي يعطي انطباع أن هذه المعطيات التي تم تهويلها هي المعطيات الحقيقية. 

 فبالرغم من انتشار التهديدات الوبائية على نطاق عالمي في وقت سابق شهدنا آخرها في انتشار أنفلونزا الخنازير ( تشير التقديرات الى وفاة ما يقدر ب 250 ألف شخص بسبب هذا الفيروس )، ومع ذلك لا تكاد تقارن البروباجندا العالمية لتناول انتشار فيروس كورنا إلا بما حدث بعد أحداث 11 سبتمبر، ويمكن التوقف عند تحليل مضمون هذه البروباجندا لا من الناحية الكمية ولا من الناحية الكيفية إذ لا تكاد تخلو وسائل الإعلام العالمية من ملاحقة أي إحصائيات جديدة حول تداعيات هذا المرض بشكل لحظي بالإضافة الى أن الموضوع الأكثر تداولا في وسائل الإعلام من الناحية الكمية هو التداعيات الجيوسياسية لهذا الحدث، في إطار نوع من التسويق المركز الذي يعطي انطباع واضح أن العالم ما قبل انتشار فيروس كورنا لن يكون هو العالم بعد انتشار هذا الفيروس.

ثانياً: الحدث والتهديدات الأمنية الجديدة:

فكلا الحدثين ارتبط بتبلور تهديدات أمنية جديدة والترويج لها في الواقع الدولي، فمثلما توجهت التحليلات بعد أحداث 11 سبتمبر الى طرح الإرهاب الدولي و”التهديدات اللاتماثلية” بصورة عامة كمهدد رئيسي للأمن الدولي، فان التحليلات المتداولة حاليا تشير الى أن ما تسمى “التهديدات غير العسكرية” ستكون هي المسيطرة على شكل التهديدات الأمنية بعد انتشار فيروس كورنا وان هذا الحدث من المفروض أن يحفز الدول ليس فقط للاستعداد على المستوى الصحي ولكن للاستعداد على المستوى الأمني أيضا للتعامل مع انتشار شكل جديد من التهديدات الأمنية ونقول انتشار وليس ظهور لان هذا النوع من التهديدات كان موجودا في السابق.

 ومن المهم في هذا السياق الانتباه الى ملاحظة عامة تجسدت في سياسات الدول لمواجهة فيروس كورنا فعلى مستوى الخطاب اجمع الخطاب الرسمي في مختلف الدول على أن انتشار فيروس كورنا هو قضية امن وطني وليس قضية صحية فقط، مع ضرورة التوقف عند ملاحظتين فرعيتين، أما الأولى فهي الاختلاف بين الدول في حدة الخطاب الأمني المتداول وخاصة ما يتعلق باستخدام مفهوم ” الحرب “، أو التبشير بحجم الإنسانية التي ستترتب على انتشار هذا الوباء، وهذا يعني أن اغلب دول العالم قد لجأت الى تفعيل منطق الأمننة في خطابها الرسمي اتجاه قضية انتشار فيروس كورنا.

 أما الملاحظة الثانية فهي مرتبطة بحدة الإجراءات المتبعة في إطار تطبيق منطق الأمننة إذ يمكن التفريق بين سياسات الدول التي طبقت “أمننة ناعمة ” من فرض حظر كل منافذ الدولة مع اللجوء الى إجراء اقل تشددا على المستوى الداخلي وان ارتبطت بتوظيف الجيوش، وبين الدول التي لجأت الى “أمننة صلبة” من خلال استخدام الجيوش لتطبيق إجراءات مشددة جدا، حيث توفرت الشروط المعروفة لعملية الأمننة والتي تتمثل في:

– وجود قضية (انتشار فيروس كورنا) والتي ترقى في تقدير مواقف سياسات الأمننة الى أن تكون “تهديداً أمنياً” وليس مجرد تحدي.

– المشروعية المجتمعية التي يتم من خلالها ضمان تقبل الرأي العام للإجراءات الاستثنائية المرتبطة بسياسات الأمننة.

– تصميم خطاب سلطوي مقنع يتلاءم مع سياسات الأمننة لتبرير اللجوء الى تطبيقها.

أقرأ أيضاً: رهانات التعاون الدولي في ظل أزمة كورونا

ثالثاً: الارتباط بمناقشة سلبيات العولمة:

إن النظام الدولي المعولم مثل ما يحدده بدقة كل من “بيتر تايلور” و”كولن فلنت” (بيتر تيلور. كولين فلنت الجغرافيا السياسية لعالمنا المعاصر. ص 19) هو ذلك النظام الذي يحمل ثمانية أبعاد: “العولمة المالية، وتصف السوق العالمية الآنية للنتاجات المالية المتعامل بها في المدن المالية عبر العالم؛ والعولمة التكنولوجية، وتصف المجموعة المترابطة من تكنولوجيات المعلومات والاتصالات وعمليات ربطها بالأقمار الصناعية والتي نجم عنها انضغاط الزمان والمكان والانتقال الفوري للمعلومات عبر العالم؛ والعولمة الاقتصادية، وتصف نظم الإنتاج المتكاملة الجديدة التي تمكن الشركات الكونية من استغلال المال والعمال عبر العالم على اتساعه؛ والعولمة الثقافية، وتشير إلى استهلاك النتاجات الكونية عبر العالم؛ والعولمة السياسية، والتي تمثل انتشار الأجندة الليبرالية الجديدة؛ والعولمة البيئية، وهي الخشية من أن تتجاوز الاتجاهات الاجتماعية الراهنة قدرة كوكب الأرض على البقاء؛ والعولمة الجغرافية، وتتعلق بإعادة تنظيم الحيز أو المساحة في الكوكب بإحلال الممارسات المتعدية للدولة القومية محل الممارسات الدولية في عالم تذوب فيه الفواصل الحدودية بصورة متزايدة؛ والعولمة السوسيولوجية، وهي ذلك الخيال الجديد الذي يشرف ظهور مجتمع عالمي واحد أو كل اجتماعي مترابط يتجاوز المجتمعات القومية.”

إن النظام الدولي المعولم بهذه الأبعاد يحمل إيجابياته وسلبياته ومن الممكن ملاحظة أن كلا الحدثين (11 سبتمبر، انتشار فيروس كورنا ) قد ارتباطا بمناقشة سلبيات العولمة فمثلما اتجهت تصورات تحليلية معينة الى الربط بين العولمة والإرهاب الدولي كما هي في إسهامات  كل من “جان بوديار “و”جاك دريدا” والتي تتلخص في أن الإرهاب هو” رد على النظام العالمي فهذا الأخير هو الذي ولّد الشروط الموضوعية لهذا الرد العنيف”، ونفس الأمر يطرح حاليا حول انتشار فيروس كورنا وعلاقته بالنظام الدولي “المعولم “، حتى وان انقسم ذلك بين وجهتي نظر ترى الأولى انتشار فيروس كورنا كحدث معولم يضاف الى سلسلة الإفرازات السلبية لظاهرة العولمة بينما ترى وجهة نظر أخرى أن الكيفية التي انتشر بها هذا الفيروس وتقوقع الدول في إطار مواجهته يطرح تحديات جدية على بنية النظام الدولي المعلوم وفي كلا الحالتين هناك ربط واضح بين انتشار فيروس كورنا كحدث عالمي وبين سلبيات نظام العولمة.

رابعاً: الارتباط بنظرية المؤامرة:

أثارت فكرة المؤامرة جدلا ولا تزال خاصة ما يتعلق بمدى اعتبارها نظرية علمية يمكن الاستناد إليها وحدد “فاروق عمر” ( فاروق عمر العمر، المؤامرات: حقائق أم نظريات ص 06- 10) بدقة هذا الجدل من حيث أن “الجدل حول نظرية المؤامرة يتعلق بإشكالية القيمة التحليلية لفكرة المؤامرة  فالمعارضون لنظرية المؤامرة يتهمون الفريق المؤيد لها  بأنهم لا يملكون أدلة قاطعة وبراهين واقعية لتفسير ظواهر معينة من حولهم ولذلك كان لجوئهم لتحليل ما لا يمكن تفسيره بأنه مؤامرة وهم يعانون من أعراض البارانويا وهي الشعور بالاختناق والمحاصرة والتوهم وتفسر الأمور السيئة على انه مؤامرة وما هذا التفسير إلا عبارة عن ردة فعل الضعفاء العاجزة عن ربط ما يدور حولهم ربطا منطقيا … أما المؤيدون لنظرية المؤامرة فيقولون بان المعارضون لها لم يقدموا تفسيرا علميا واحد لأحداث نعيشها وهل هي من قبيل الصدفة آم أن هناك مخططات مسبقة تم تنفيذها في الموعد المحدد لها وان المعارضين لنظرية المؤامرة لم يخرجوا عن التنظير الذي يصطدم مع الواقع الماثل أمامنا.”

 وفي سياق هذا الجدل يضاف الى التشابه بين الحدثين أن كلاهما ارتبط تفسيره بما تسمى نظرية المؤامرة، إذ شهدنا بعد أحداث 11 سبتمبر تبلور اتجاه تحليلي لا يزال مستمرا الى غاية ألان يتبنى وجهة نظر مفادها أن هذا الحدث ليس إلا صناعة أمريكية لتبرير إعادة التشكيل الاستراتيجي للعالم فيما بعد، وذات منطق المؤامرة يتداول حاليا على انتشار فيروس كورنا بين الذي يعتبره “صناعة مخبرية” أمريكية تدخل في إطار تطبيق جيل جديد من الحروب اتجاه خصومها الرئيسين، مع مراعاة التداعيات الجانبية التي يمكن أن تصيب الحلفاء، وبين الذي يعتبره “صناعة مخبرية” صينية تستهدف بها إحداث اثر معين في الاقتصاد الدولي.

ختاما

من الطبيعي ألا تستقر الآثار الاستراتيجية لهذا الحدث في غمرة سيطرة النوازع الإنسانية اتجاه الكوارث الصحية التي خلفها هذا المرض، لكن بدأت بالفعل مقولات تحليلية عديدة تروج لآثار استراتيجية عالمية متوقعة لهذا الحدث، وأن يكون انتشار فيروس كورنا هو بمثابة 11 سبتمبر ولكن وبائياً!

الوسوم

د. بلخيرات حوسين

باحث وأكاديمي جزائري، ماجستير العلاقات الدولية، تخصص الإستراتجية والمستقبليات، أستاذ محاضر في الدراسات الأمنية، جامعة الجلفة، الجزائر منذ عام 2010.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى