دراسات

قراءات فكرية: الدولة العلمانية المستحيلة

 

لم أجد أبلغ وصفا لإحساسي وأنا أقرأ كتاب وائل حلاق (الدولة المستحيلة) مما وصف به جون لوك إحساسه وهو يقرأ رسالة معاصره روبرت فيلمر (1589-1653) عن “السلطة الأبوية” The Patriarcha. يقول جون لوك: “لم أكن لأنظر إلى هذه المقالة [كتاب فيلمر]… لو لم تضطرني هيبة العنوان والرسالة، والصورة المثبتة في صدر كتاب السيد روبرت فيلمر (Filmer) والتصفيق الذي أعقب ظهورها… لذلك أخذتُ كتاب السيد روبرت فيلمر بكلتا يديَّ، وكلِّي شوقٌ للاطلاع على محتوياته، وقرأته بروح الاهتمام الذي يستحقه مؤلَّف أحدث تلك الجلبة عند ظهوره. ولا يسَعني إلا الإقرار أني دُهشت كل دهشة حين لم أجد في هذا الكتاب -الذي كان يرمي إلى تكبيل البشرية جمعاء بالسلاسل- سوى نسيج من خيوط العنكبوت قد قد يكون ذا غَناء لدى جماعة تعمل دائبة على إثارة سحابة من الغبار لكي تغشي على بصيرة الناس، فيتسنًّى لها إضلالهم، إلا أنه ليس يُغني في تقييد المبصرين الذين احتفظوا برويَّة كافية للتحقق من أن السلاسل لباس خشنٌ، مهما بالغ أصحابها في صقلها وطِلائها.” (جون لوك، في الحكم المدني، ص 5).

أولاً: بين “السلطة الأبوية” و”الدولة المستحيلة”:

إن أوجه الشبه بين كتاب “السلطة الأبوية” وكتاب “الدولة المستحيلة” كثيرة، منها: الانجذاب إلى قراءة الكتاب بسبب ما أثير حوله من صخب، وخيبة الظن فيه بعد قراءته بسبب هشاشة بنائه المنطقي، ووجود “جماعة” تسعى لتسويق الكتاب مدفوعة بدوافع سياسية، وتحيزات دينية وأيديولوجية. والفارق الوحيد هو نوع القيْد التي أراد فيلمر و”الجماعة” مِن ورائه تكبيل الناس به وهو سلطة المُلْك الجبري المدَّعي استمدادَ الحكم من الخالق لا من الخلق، وسلطة الأيديولوجيا العدَمية التي يريد وائل حلاق و”الجماعة” التي تسانده تكبيل المسلمين بها، ومنْعهم من استلهام قيَمهم الخاصة في معركة التحرير التي يخوضونها اليوم.

لقد حدد حلاق أطروحة كتابه الأساسية بأن “مفهوم الدولة الإسلامية مستحيل التحقق وينطوي على تناقض داخلي، وذلك بحسب أي تعريف سائد للدولة الحديثة.” (الدولة المستحيلة، ص 19). ثم رطَّب الأطروحة قليلا وزادها غموضا وتناقضا في هامش الصفحة (23) من الكتاب. وبغضِّ النظر عن دقة حلاق في تشخصيه لظاهرة الدولة الحديثة، فإن الأسوأ -في نظرنا- هو فهمه للدولة الإسلامية. فهو لا يُعرِّف الدولة الإسلامية بناء على أي رؤية معيارية تستمد مرجعيتها من الوحي الإسلامي أو حتى التنظير السياسي الإسلامي، بل يراها مجسدة في “الظواهر النظرية-الفلسفية، والاجتماعية، والأنثروبوليجية، والقانونية والسياسية، والاقتصادية، التي ظهرت في التاريخ الإسلامي.” (الدولة المستحيلة، 38.)

وكان من غرائب حلاق أن ينشغل بالشريعة بمعناها الأخلاقي والقانوني والاجتماعي، ويتجاهل تماما أمهات القيم السياسية والدستورية الإسلامية المنصوصة في القرآن والسنة، وهي أهم دلالة لمن يخوض في موضوع الدولة الإسلامية. بل ويتجاهل تراث المسلمين التنظيري في الفقه السياسي، الذي رجع رجوعا سطحيا لأربعة كتب منه فقط!! أما الفارق الجوهري بين قيم الإسلام السياسية وتاريخ المسلمين السياسي فهو أمر لم يهتم به حلاق، وكان ذلك بداية الانزلاق المنهجي في أطروحته.

لقد استأسر حلاق للصورة التاريخية في تصوره للدولة الإسلامية، في تلاقٍ غريب بين مفكر علماني مسيحي ونشطاء السلفية الجهادية في أسوأ مظاهرها بلاهةً وضيقَ أفق. فالدولة الإسلامية التي يدَّعي حلاق استحالتها لا تختلف عن الخلافة التاريخية الوهمية التي أعلن أبو بكر البغدادي ميلادها، ونصَّب نفسه خليفة على رأسها. وهي أبعد ما تكون عن الدولة الإسلامية التي تسعى القوى الإسلامية الديمقراطية اليوم إلى بنائها، وهذه القوى السياسية أهم وأبرز حضورا من الجماعات السلفية الفوضوية المستأسرة للصورة التاريخية.

الطريف أن حلاَّق -في عدَميته هذه- ينتقد الدولة الحديثة بنبرة المسلم السَّلفي الذي يجعل حكم الشعب نقيضاً لحكم الله، وينتقد الدولة الإسلامية بلغة المسيحي العلماني الذي لا يرى للدين وظيفة سياسية، ثم لا يدرك أنه وقع في تناقض صارخ! فقد جمع حلاق حصاد ما انتقد به الغربيون الغرب ولفَّق منه حكما عاما بفشل الحداثة الغربية، وهذا ظلم للتجربة الغربية لأنه محاكمة لها بهوامش على متنها لا مثلها تمثيلا حقيقيا، وهو يشبه محاكمة الدواء بآثاره الجانبية، لا بمفعوله الشافي. كما رسَم حلاق صورة للدولة الإسلامية مركَّبة من مسار التاريخ السياسي الإسلامي المنحرف عن قيم الوحي الإسلامي والتهويمات السلفية الهامشية في الثقافة الإسلامية اليوم، ثم حكم على تلك الصورة حكما عاما مفاده أن الدولة الإسلامية مستحيلة، وهذا ظلم للقيم السياسية الإسلامية، لأن المعبِّر عن دلالتها المعيارية هو نصوص الوحي، لا ذاكرة التاريخ.

ويكفي من استئسار حلاق للتاريخ تسليمه بثنائية “دار الإسلام” و”دار الحرب” الواردة في كتب الفقه (الدولة المستحيلة، 105)، واعتبارها مبدأ إسلاميا في العلاقات الدولية، وهي ثنائية لا وجود لها في نصوص الوحي الإسلامي، بل هي جزء من التاريخ الامبراطوري الإسلامي. كما أن ما ذهب إليه من تناقض الدولة الحديثة مع الدولة الإسلامية القديمة ينطبق على تناقض الدولة الحديثة مع الدول المسيحية والصينية والهندية القديمة. وقد كان حلاق في غنىً عن المجادلة السطحية بأن استعادة التاريخ الإسلامي -أو أي تاريخ آخر- مستحيل التحقق في الزمن الحاضر، فلا أحد ينكر هذا أصلاً. وهل نحن بحاجة لأكاديمي محترم يقنعنا أن التاريخ الامبراطوري -الإسلامي وغير الإسلامي- ليس قابلا للاستعادة اليوم؟!

وقد جادل حلاق -أيضا- بأن الطابع المحلي للدولة الحديثة يجعلها نقيضا لمفهوم الدولة الإسلامية -التي لا يراها إلا امبراطورية لا حدود لها على طريقة “تنظيم الدولة”- وأن ذلك يقضي بـ”استحالة نشوء دولة قومية على النظام الإسلامي للسيادة الإلهية.” (الدولة المستحيلة، 71). وكل من له إلمام بقيم الإسلام السياسية المنصوصة يدرك بيسر أنها تتسع للدولة الوطنية العقارية المعاصرة، كما اتسعت لعالم الامبراطوريات من قبل، بل هي أقرب في منطوقها النصي وفي نموذجها المدِيني النبوي إلى نظام الدول الوطنية العقارية، منها إلى الامبراطوريات العسكرية.

الحقيقة أن طرح وائل حلاق طرحٌ عدَمي، وظلمٌ للدولة الإسلامية وللدولة الحديثة كلتيْهما. فهو ينبني عن جملة مصادرات ومكابرات دون تدليل مقنع، إذ خلاصته أن الدولة الغربية المعاصرة فاشلة، وأن الدولة الإسلامية مستحيلة، وأن التاريخ لم يعرف دولا أصلا! إذ تصل به المكابرة العدمية حد القول: “لم توجد ثمة دولة إسلامية قط، فالدولة شيء حديث.” (الدولة المستحيلة، 105).

والسؤال الوارد هنا إذا كانت “الدولة شيء حديث” فهذا يعني أن تاريخ البشرية لم يعرف الدولة قط قبل الدولة الحديثة، وكفى بذلك مصادرة ومكابرة. وإذا كان ذلك ما تنتهي إليه نظرية حلاق العدمية، فما الفرق بين الدولة الإسلامية وغيرها من الدول في وجودها الماضي أو إمكانها المستقبلي؟ ولماذا تستحيل الدولة الإسلامية دون غيرها من أشكال الدول التي لم توجد قط في الماضي، حسب دعوى حلاق؟! وهكذا نجد أن الأمر في النهاية لا يعدو أن يكون موقفا متحيزا من قيم الإسلام السياسية، ومن الإسلام ذاته كدين، لكنه موقف يتستر وراء لغة ملتوية وتناقضات متهافتة.

إن هذا المنحى العدمي ليس حلاًّ، لا لمأزق الحضارة الإسلامية، ولا لمأزق الحداثة الغربية. وعلى عكس ما ذهب إليه حلاق من منزَع عدميٍّ وتنافرٍ أبديٍّ بين الإسلام والدولة الحديثة، فنحن نرى أن التلاقي بين الإسلام والحداثة السياسية ممكن جدا، بل هو حتمي، لكن بناء على قاعدة معيارية صلبة من القيم السياسية الإسلامية، لا تلفيقا ذوقيا وظرفيا، ولا تكراراً لتاريخ مضى وانقضى. كما نرى أن مصير الحضارة الإسلامية اليوم -وربما الحضارة الإنسانية كلها- مرهون بالتشبث بالقيم السياسية الإسلامية “المغدورة” -إذا صح لنا أن نستخدم عبارة تروتسكي في كتابه “الثورة المغدورة- لا بالتخلي عن تلك القيم أو تجاهلها. ووعي المسلمين بهذه الحقيقة يزداد يوما بعد يوم، ولا يستغرب ذلك من يدرك كثافة النص السياسي الإسلامي، وإلهام التجربة الإسلامية المبكِّرة خلال دولة النبوة والخلافة الراشدة.

يستطيع وائل حلاق و”الجماعة” المحتفون بكتابه أن يغرِّروا ببعض الشباب العربي وأنصاف المثقفين المسلمين الذين لا يملكون فكرة واضحة عن قيم الإسلام السياسية في صيغتها النصية المعيارية وفي مسارها التاريخي المتعرج، ولا يدركون أبعاد الصراع الحضاري على قلب الإسلام اليوم، فيقودونهم إلى المراهنة على وهمٍ جديد. ومع ذلك لن تنحل الأزمة السياسية المزمنة في المجتمعات الإسلامية بالقفز على القيم السياسية الإسلامية إلى نظام علماني مُنْبتٍّ من التربة الاجتماعية والثقافية في المجتمعات الإسلامية. فالدولة العلمانية مستحيلة التحقق في العالم الإسلامي إلا بالقهر والجبر، ولا مستقبل للقهر السياسي في عصر الثورات الشعبية والانتفاضات الجماهيرية.

الكتاب وصاحبه: السيرة والمسيرة

يبدولي أن أكثر من ناقشوا كتاب وائل حلاق “الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي” في العالم العربي ينقصهم الاطلاع على مسيرة المؤلف العلمية، وطريقته في الحِجاج. لذلك سنضع الكتاب والكاتب في سياقهما، قبل أن نخوض في بعض ما ورد في هذا الكتاب ذاته في حلقات قادمة. وأهم ما يسترعي الانتباه في خلفية حلاق أمران: أنه قليل البضاعة في التراث السياسي الإسلامي، وأنه صاحب طريقة ملتوية في الحِجاج، خصوصا حين يتحدث عن حاضر الإسلام ومستقبله.

فأما بضاعة وائل حلاق الزهيدة في معرفة النص السياسي الإسلامي والتراث السياسي الإسلامي فيدركه كل من تتبَّع مسيرة الرجل العلمية، واطَّلع على ما أنتجه من كتابات خلال عمره الأكاديمي المديد، وهو أمر -للأسف الشديد- لا يعرفه كثيرون من المحتفين بكتابه اليوم من الشباب العربي الساذج الذي لم يقرأ لحلاق إلا كتاب “الدولة المستحيلة” مصحوبا بالكثير من الصخب والدعاية “للبروفسور في جامعة (ماكجيل) الكندية العريقة.” أما من يستخدمون الكتاب أداة دعائية ضد منافسيهم السياسيين من القوى الإسلامية، أو سلاحا أديولوجيا ضد الإسلام كدين، فلا يهمهم أن يعرف الشباب العربي الكثير عن مؤلف الكتاب.

فرغم أعمال حلاق الواسعة في تاريخ الفقه وعلم الأصول، فإنه لم يكتب أي شيء يُذكر في الفقه السياسي الإسلامي، ولا تدل كتبه العديدة على أي اطلاع يُعتدُّ به على الفكر السياسي الإسلامي، ويؤهله للمغامرة بنظرية “الدولة المستحيلة.” والاستثناء الوحيد هو مقال نشره منذ أكثر من ثلاثة وثلاثين عاما بعنوان: “الخلفاء والفقهاء والسلاجقة في فكر الجويني السياسي” (العدد 74 من “مجلة العالم الإسلامي” الصادر عام 1984). وهو مقال لا يعدو أن يكون تلخيصا بسيطا لبعض آراء الجويني، مع توضيحات لسياق عصره، بالاعتماد على كتابات ثانوية مثل أعمال المستشرقين: روزنتال، ولامبتون، وهاملتون جيب.

وقد جاء كتاب “الدولة المستحيلة” مرآةً فاضحةً لبضاعة حلاق المزجاة وزاده الزهيد في الاطلاع على النص السياسي الإسلامي والتراث السياسي الإسلامي. فهذا الكتاب المحشو بالأحكام التعميمية عن الظاهرة السياسية في الإسلام وعن المستقبل السياسي للمجتمعات الإسلامية لم يرجع صاحبه للنص السياسي الإسلامي في صيغته المعيارية الملزمة عند المسلمين (القرآن والسنة)، ولا قدَّم أي استقراء للتاريخ السياسي الإسلامي المليء بالخبرة والعبرة، ولا رجع إلى أمهات التراث السياسي الإسلامي التي يصل عددها إلى المئات.

فلم يَرد من كتب التراث السياسي الإسلامي كتاب “الدولة المستحيلة” سوى أربعة كتب لابن الطقطقي والماوردي والطرطوسي والمقريزي. بينما امتلأت هوامش الكتاب بمراجع الفروع الفقهية التي لا شأن لها بالدولة والحكم. وهو أمر يكشف ضيق باع حلاق في التراث السياسي الإسلامي، ونظرته المحدودة بحدود فقه الفروع، وهي نظرة لا تُسعف في بناء تصور واضح عن المسألة السياسية في الإسلام، فضلا عن أن تمكِّن من المجازفات وإطلاق الأحكام التعميمية في هذا المضمار. وبعض نصوص “الدولة المستحيلة” مجرد إعادة صياغة لآراء حلاق في كتبه الفقهية، بعد أن نقلها من السياق القانوني إلى السياق السياسي.

وأعتقد أن حلاق قد أساء إلى نفسه وإلى تراثه العلمي وما راكمه من جهد نظري في تاريخ الفقه والأصول، حين قفز إلى الحديث فيما لا يحسن، سعياً إلى تسجيل نقاط أدييولوجية في صراع الأفكار الدائر في العالم عن الإسلام والسياسة، مع اندلاع ثورات الربيع العربي، واشتداد الاستقطاب الإسلامي العلماني في المجتمعات العربية.

فمهما يكن من تحفظات على كتابات حلاق الفقهية والأصولية، فإنها أفضل بكثير وأقوى تماسكا مما قدَّمه من الأفكار ذات صلة بالقيم السياسية والفكر السياسي التي عرضها في كتاب “الدولة المستحيلة.” فقد تناول حلاق قضية الدولة من منظور فقه الفروع، لا من منظور الفقه السياسي، وأدى به هذا إلى الوقوع في عُقد نظرية شتى لا يملك لهاحلاًّ، ودعاوى عريضة لايملك الأهلية للتدليل عليها.. ومن خاض فيما لا يُحسن أتى بالعجائب، كما يقال.

والأمر الثاني الذي يَحسُن بقارئ “الدولة المستحيلة” أن يدركه، ويتعاطى معه بفطنة وحكمة، هو طريقة وائل حلاق الملتوية في الحِجاج، خصوصا إذا تعلَّق الأمر بحاضر الإسلام ومستقبله. لقد كتب حلاق في نقده للمستشرقين: “من الشروط الأساسية للفاعلية الإقناعية لأي خطاب أن لا تكون مهدوفات [=دوافع] الخطاب واضحة لدى القارئ أو المستمع.” (حلاق، نشأة الفقه الإسلامي وتطوره، 13) ولا أعلم كاتبا طبَّق هذه الحيلة الذهنية غير النزيهة لإقناع قرائه المسلمين بفكرته عن الدولة الإسلامية والقانون الإسلامي أكثر مما فعل حلاق نفسه.

فالغايات السياسية والأديولوجية -وحتى الدينية- التي يهدف إليها حلاق تأتي دائما متسترة بلغة ملتوية، وبحِجاج يسير في دروب متعرجة مُعتمة. فهو يبالغ في الثناء على ماضي المسلمين تمهيداً لتيئيسهم من مستقبلهم! ويدغدغ عواطفهم بالحديث عن تفوُّق شريعتهم ودولتهم خلال اثنيْ عشر قرنا قبل العصور الحديثة تمهيدا للقول إنه لا أمل في بناء أي شيء من هذه الشريعة الإسلامية وهذه الدولة الإسلامية في الزمن الآتي!! وهو يردُّ على المستشرقين في دعواهم انتحال الأحديث النبوية الموجودة في مصادر السنة الصحيحة، ثم ينتهي بتبنيِّ موقفهم، والادِّعاء أنه لا يختلف عن موقف علماء المسلمين الذين يعتبرون أحاديث الآحاد ظنية!

ويكفي كتاب “الدولة المستحيلة” دليلا على هذه الطريقة الملتوية، فبدلا من أن يواجه صاحبه المسلمين برأيه الصريح في الإسلام كدين ذي طبيعة سياسية، فيقبل ذلك انسجاما مع اعتقاد غالبية المسلمين، أو يرفضه بصراحة كما يفعل العديد من العلمانيين، يلف ويدور في دروب متعرجة ليقول لهم إن الدولة الإسلامية مستحيلة، لا بسبب الإسلام كدين، ولا بسبب الدولة الإسلامية في ذاتها، بل بسبب “الحداثة”، رغم أن الشريعة تتفوق على كل حداثة، ولكن ذاك أمرٌ أصبح من الماضي، فلا تفكروا فيه في الحاضر أو المستقبل!! كما يلفُّ حلاق ويدور في سفْره الضخم عن “الشريعة: النظرية والتطبيق والتحولات” -وفي كتب أخرى- لينتهي إلى أن الشريعة لا يمكن تقنينها، ولا تصلح قانونا للدولة الحديثة، ويطعن في كل من سعى -أو يسعى- لذلك، بمن فيهم كبار المصلحين المسلمين في القرن العشرين، وذلك بعد أن يملأ الكتاب ثناءً عطِراً على الشريعة في القرون الخوالي.

فخلاصة كتاب “الدولة المستحيلة” ومِن قبْله كتاب “الشريعة: النظرية والتطبيق والتحولات” ثناءٌ مفتعل على الماضي الإسلامي، وتيئيس جازمٌ من المستقبل الإسلامي. وهو أمر يحقق وظيفتين:

أولاهما: تخدير القارئ المسلم بالحديث عن أمجاد الماضي، خصوصا إذا كان القارئ ضعيف الحصانة النفسية والفكرية، يطرب للرد على المستشرقين، ويسعى إلى “التغلب على مركَّب النقص بحقنة اعتزازٍ يعلِّل بها النفس” حسب تعبير مالك بن نبي (مالك بن نبي، إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي الحديث، 11).

والثانية: الاستعانة بذلك المخدِّر لإقناع القراء المسلمين باليأس من أي خروج من أزمتهم بأي طريقة تستلهم قيم الإسلام السياسية وتشريعاته.

وكان الفيلسوف التونسي أبو يعرب المرزوقي من أوائل من أدركوا مخاطر هذا المخدِّر في كتابات وائل حلاق، فأشار إلى أن حلاق “قد زَّين أطروحته بمغازلة الكبرياء الإسلامية، فمجَّد الماضي، وادَّعى أنه كان على أفضل حال، بل وقد أضاف إليه إبراز مزاياه الخلُقية التي يدَّعي أنها غائبة في العصر الحديث، بالقياس إلى ما يزعمه من مزايا كانت للإسلام، لكنها لم تعد مناسبة للعصر.” (المرزوقي: “هل صحيح ألا مستقبل لدولة الإسلام؟ هل هي مستحيلة فعلا؟”).

وقد لاحظ اثنان من أبرع نُقَّاد حلاق وأكبر الباحثين في التشريع الإسلامي -وهما الأستاذان بجامعة تورنتو الكندية: محمد فاضل وإيمون أنفر- نبرة التثبيط السائدة في كتابات حلاق عن الإسلام كلما لامس قضايا الحاضر والمستقبل. فهل تواترُ هذا التثبيط بطريقة ملتوية في كتابات حلاق عن حاضر الإسلام ومستقبله مجردُ صدفة، أم هو جزء من تلك “الشروط الأساسية للفاعلية الإقناعية” التي يتقنها حلاق جيداً، ويجهلها الشباب العرب الأغرار؟!

ثالثاً: بين العجز الغربي والعجز العربي

لا يزال العقل المسيحي -بشِقَّيه الغربي والعربي- عاجزاً عن استيعاب عِناق الديني والمدني في النص الإسلامي واندماجهما في التجربة التأسيسية الإسلامية. والعجَب ألا يزال مفكرون عرب في القرن الواحد والعشرين عاجزين عن إدراك طبيعة الإسلام المركَّبة من الديني والمدني، وقد أدرك ذلك مفكرون غربيون منذ القرن الثامن عشر والتاسع عشر، منهم جان جاك روسو، وغوستاف لوبون. فقد انتقد روسو ازدواجية الديني والمدني في التاريخ المسيحي، وبيَّن أن الإسلام تغلَّب على هذه المعضلة ذات الجذور المسيحية، فكتب: “تأتَّى من هذه السلطة المزدوجة تنازعُ الاختصاص الأبديِّ الذي جعل قيام أي سياسة صالحة أمراً محالاً في الدول المسيحية. وهكذا لم يخْلُص الناس قطُّ إلى معرفة مَن مِن الأمير أو الكاهن يجب عليهم أن يطيعوا… ذلك أن روح المسيحية قد جرفت كل شيء، [ف]ظلت الشعائر الدينية المقدسة على الدوام مستقلة عن صاحب السيادة، أو قلْ عادت مستقلة عنه كما كانت، لا تربطها بجسم الدولة رابطة عضوية. وأما محمد فكانت له تصورات قويمة جداًّ، فإنه شدَّ عُرى نسقه السياسي. وطالما أن شكل الحكم الذي أقامه قد استدام في عهد الخلفاء الراشدين، فإن هذا الحكم كان واحداً هو هو تماما، فكان لهذا السبب عينه حكما صالحا.” (روسو، في العقد الاجتماعي، 2411).

أما غوستاف لوبون فقد تساءل باستغراب: “كيف لا يبقى الإسلام دين الدولة في بلاد اتَّحد فيها الشرع المدني والشرع الديني وقام فيها المبدأ الوطني على الإيمان بالقرآن؟ يصعُب هدم ذلك.” (لوبون، روح الثورات، 422). وربما كان علي عزت بيغوفيتش من أبلغ من عبَّروا عن هذا التركيب الإسلامي البديع، وعن عجز العقل المسيحي عن استيعابه، إذ كتب يقول: “الإسلام نسخة من الإنسان. ففي الإسلام تماما ما في الإنسان: فيه تلك الومضة الإلهية، وفيه تعاليم عن الواقع والظلال. بالإسلام جوانبُ قد لا تروق للشعراء الرومانسيين، فالقرآن كتاب واقعي لا مكان فيه لأبطال الملاحم. والإسلام بدون إنسان يطبّقه يصعُب فهمُه، وقد لا يكون له وجود بالمعنى الصحيح.. لم تستطع المسيحية كذلك أن تتقبل فكرة أن يظل الإنسان الكامل إنسانا، ولكن محمدا ظلَّ إنسانا فقط.. لقد أعطى محمد صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى للإنسان والجندي في الوقت نفسه، أما عيسى عليه السلام فقد خلَّف انطباعا ملائكيا.” (بيغوفيتش، الإسلام بين الشرق والغرب، 280-2811).

ويبدو وائل حلاق في كتاب (الدولة المستحيلة) مستأسِراً -بشكل شعوري أو لاشعوري- لخلفيته المسيحية. وهذا ما جعله يستبطن جُملة من المسلَّمات الضمنية في العلاقة بين الدين والدولة لا تمتُّ إلى الإسلام نصاًّ وروحاً بأية صلة، وإنما هي انعكاس للمنظور المسيحي لعلاقة الدين بالدولة. وتكاد عبارة حلاق التي صدَّر بها كتابه: “مفهوم الدولة الإسلامية مستحيل التحقق وينطوي على تناقض داخلي،” (الدولة المستحيلة، ص 19) استنساخاً حرفياًّ لعبارة روسو: “أُخطئ بقولي: جمهورية مسيحية، فإن كلتا الكلمتين تنافي الواحدة منهما الأخرى.” (في العقد الاجتماعي، 2477).

أما في السياق العربي، فلم يكن حلاق مبتدعا، بل هو متَّبِع. فالجذور المسيحية للعلمانية العربية ليست بالأمر الجديد، بل هي أمر لاحظه أكثرُ من باحث منذ أمد بعيد. ومن هؤلاء الباحثين حسن حنفي الذي كتب: “قام العلمانيون في بلادنا منذ شبلي شميِّل، ويعقوب صروف، وفرح أنطون، ونقولا حداد، وسلامة موسى، وولي الدين يكن، ولويس عوض، وغيرهم.. يدْعون إلى العلمانية بهذا المعنى الغربي: فصْل الدين عن الدولة، والدين لله والوطن للجميع. والملاحَظ أنهم كلهم كانوا من النصارى، وغالبيتهم من نصارى الشام، الذين كان ولاؤهم الحضاري للغرب، ولا ينتسبون إلى الإسلام ديناً أو حضارة، وتربَّوا في المدارس الأجنبية وفي إرساليات التبشير. فكان الأسهل في دعوتهم الصادقة للتقدم والنهوض بالبلاد أخْذ النمط الغربي الذي عرفوه ودعوْا إليه، ورأوه ماثلاً في تقدم الغرب الفعلي.” (حنفي، “العلمانية والإسلام،” ضمن كتاب حنفي والجابري، حوار المشرق والمغرب، 35-366.)

ونحن نتفق مع حنفي في الجذر المسيحي للعلمانية العربية، وفي أن بعض كبار منظِّري العلمانية العربية في مطالع القرن العشرين كانوا مسيحيين شاميين، ولا يزال بعض أبرز منظريها في أيامنا مسيحيين شاميين. وقد فشل هؤلاء المثقفون المسيحيون عن إدراك أمر جوهري في الإسلام، وهو أن الإسلام منظومة دينية ومدنية في الوقت ذاته، ولا يصلح وصف النظام السياسي الإسلامي أو القانون الإسلامي بأنه ديني محض أو مدني محض. فهذه المصطلحات المسيحية الجذور لا تتَّسع لفهم الشريعة الإسلامية، بل تؤدي إلى قياسات كاريكاتورية، مثل حديث جورج طرابيشي عن “الإسلام المكي الروحي والإسلام المدني الزمني” (طرابيشي، هرطقات، 22) في حين أن الإسلام في مرحلتيْه المكية والمدنية كان مشحونا بالروحانيات وبالسياسة العملية في الوقت ذاته، ويكفي أن جذر القيم السياسية الإسلامية -وهو قيمة الشورى- وردت في سورة الشورى المكية أولا، ثم في سورة آل عمران المدنية بعد ذلك.

على أننا لا نتفق مع حسن حنفي في تعميمه، فالدعوة العلمانية العربية لم تكن ظاهرة مسيحية حصرا، بل كان من بين دعاة العلمانية دائما -حتى في أشدِّ تعبيراتها فجاجةً- عرب مسيحيون وعرب مسلمون. كما أننا لا نتفق مع حنفي في تجريد هؤلاء المثقفين المسيحيين العرب من الانتساب للحضارة الإسلامية. فبعض هؤلاء ينتسبون بالفعل للحضارة الإسلامية بمعناها الثقافي. ويكفي أن نعرف أن عدداً وافراً من شعراء نصارى الشام -وأوَّلهم شبلي شميِّل الذي صدَّر به حنفي قائمته- امتدحوا النبيَّ محمداً صلى الله عليه وسلم في أشعارهم، رغم أنهم ليسوا مسلمين. وقد حصرتْ الباحثة السورية غادة غزال هؤلاء الشعراء، وجمعتْ المدائح النبوية التي صاغوها شعراً في رسالة ماجستير بعنوان: (المدائح النبوية في شعر المسيحيين العرب المعاصرين) كنت تشرفتُ بالإشراف عليها في كلية الدراسات الإسلامية بجامعة حمَد بن خليفة في قطر.

لكن تبقى العلمانية فكرة مسيحية لا إسلامية، بغضّ النظر عن كون دعاتها مسيحيين أو مسلمين. وقد استبطن العلمانيون المسلمون في العالم العربي الذين يعادون رسالة الإسلام السياسية ووظيفته في الشأن العام وفي التشريع هذا المنظور المسيحي ضمن ما استبطنوه من ثقافة غربية. ونظرا للجِذر المسيحي للعلمانية العربية -سواء بشَّر بها مسيحيون أو نظَّر لها مسلمون يستبطنون منظورا مسيحيا- فإن مترجم كتاب “الدولة المستحيلة” الطيِّب القلب لم يكن بحاجة إلى القول: “قد يَدْهش القارئ حين يعلم الآن أن وائل بشارة حلاق وُلد في الناصرة مدينة المسيح في فلسطين المحتلة، عام 1955 لأسرة مسيحية.” (الدولة المستحيلة، ص 133).

فما الذي يُدهش في وجود مثقف مسيحي ينظِّر للعلمانية في العالم الإسلامي؟! إن الذي يُدهش حقا هو مستوى السذاجة الذي تلقَّى بها مثقفون مسلمون نظريات حلاَّق، حتى اعتبروه مُنقذاً للإسلام من الحداثة ومن طعنات المستشرقين، دون إدراكٍ لأبعاد الرسالة التي يسعى حلاق إلى تمريرها تحت غبار المعركة مع الاستشراق أو مع الحداثة، وهي رسالة تؤدي إلى فرض منظور مسيحي على الثقافة الإسلامية، يناقض جوهر الإسلام وروحه!

إن المثقف المسيحي -غربياًّ كان أو عربيا- حين يبشِّر بالعلمانية فهو يعود إلى أصله، ويعيش منسجما مع ضميره وروح دينه، لأن العلمانية منسجمة تماما مع روح الديانة المسيحية، و”ما تمَّ في العصر الحديث من الفصل بين السلطتين الروحية والزمنية هو عوْدٌ إلى روح المسيحية الأولى.” كما لاحظ حسن حنفي بحق (حوار المشرق والمغرب، ص 344). بينما المثقف المسلم حين ينظِّر للعلمانية فهو يعيش اغتراباً عن الذات، واستعلاءً على أمَّته وضميرها ودينها، ويقود مجتمعه إلى الاستبداد والانشطار والحروب الأهلية.

رابعاً: مقارنات الأديان و”تمسيح الإسلام”:

في إطار السعي إلى تحقيق ما دعاه أبو يعرب المرزقي “تمسيح الإسلام” -أي صبغه بالمنظور المسيحي- يميل العلمانيون العرب إلى تسويق جوانب الخمول والدروشة في تاريخ المسلمين وواقعهم. وقد كان الفيلسوف الشاعر محمد إقبال من أوائل المعاصرين الذين انتقدوا هذه الروح الكاسدة التي يراد إلصاقها بالإسلام، بعيدا عن منهاج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. فقد وصف أبو الحسن الندوي لقاءً ممتعا له مع إقبال فقال: “وتطرَّق الحديث إلى تواجد بعض المتصوفين وطرَبهم للسماع، فقال [إقبال]: إن الصحابة كان يتملَّكُهم الطرب والاهتزاز والأرْيَحية على صهوات الجياد في ساحة الجهاد.” (الندوي، روائع إقبال، 77).

وقبل إقبال بعدة قرون لاحظ الفقيه السياسي الغرناطي ابن الأزرق الفارقَ السياسي بين الملة الإسلامية وغيرها من الملل، حيث شؤون السلطة في الإسلام جزء من البناء التكويني ابتداء، بخلاف أديان أخرى كان اهتمامها بشؤون السياسة تطوُّرا لاحقا وعرَضيا في مسارها التاريخي، لا عنصرا بنائيا في تكوينها الأصلي، فالسياسة أمر جوهري من صميم ملة الإسلام “ولا كذلك غيرُها من الملل… ووجودُه فيها إنما هو بالعرَض.” (ابن الأزرق، بدائع السلك في طبائع الملك، 977.)

وما ذكره ابن الأزرق يَصْدق على البوذية والمسيحية أساساً، وإلا فإن الإسلام لم يكن أول ديانة توحيدية ذات بعد سياسي، بل وجُد من أنبياء بني إسرائيل قبل الإسلام من كانت رسالتهم متضمنة بُعداً سياسيا وعسكريا صُراحا. وقد اتفق على ذلك القرآن الكريم والعهد القديم. ومن هؤلاء الأنبياء موسى وداود وسليمان ويوسف عليهم السلام. فالإسلام هو وارث تاريخ عريق من المزج بين النبوَّة والسياسة لدى الشعوب السامية، فهو ليس بِدْعاً في ذلك، أما المسيحية فيمكن اعتبارها بدعة في هذا الباب، واستثناءً في تراث النبوَّات السامية، وليست القاعدة فيه.

وقد أحسن ابن تيمية إذ بيَّن -في مقارناته للإسلام مع الديانتين اليهودية والمسيحية- طبيعة الشمول واستيعاب جميع جوانب الحياة التي اتسم بها الإسلام، فقال: “موسى جاء [في شريعته] بالعدل، وعيسى جاء بتكميلها بالفضل، وهو صلى الله عليه وسلم قد جمع في شريعته بين العدل والفضل.” (ابن تيمية، الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، 2/23). ولعل ابن تيمية هنا يستلهم الآية القرآنية: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}(سورة النحل، الآية 90)

وقد ترتب على هذا الجمع بين العدل والإحسان في الإسلام ضرورة الجمع بين الحق والقوة، بين الدين والدولة. فالدولة ضرورة لنقل أحكام الإسلام العملية -ذات الصلة بحقوق الناس- من دائرة الالتزام الأخلاقي إلى دائرة الإلزام القانوني، والدين ضرورة للدولة لتغذيتها بالشرعية السياسية التي تجعل طاعة الناس لسلطتهم نابعة من اقتناع لا من إكراه.

لكن الساعين إلى “تمسيح الإسلام” -من أمثال وائل حلاق- حريصون على تسويق نوع من الإسلام المنزوع الدسم، الذي لا ينصر مظلوما ولا يردع ظالما، ولا يعبِّر عن أصالة الرسالة الإسلامية ووظيفتها التحريرية، بل هو مجرد تلفيق من مواريث الورع البدعي والزهد الزائف الذي تسرَّب إلى الثقافة الإسلامية من الرهبانية المسيحية والبوذية. فقد تطوَّع وائل حلاق بتنصيب نفسه منظِّراً لمستقبل الإسلام وإسهامته في مصائر البشرية.

لكن الروح المسيحية والاصطلاح المسيحي خذلاه في نهاية المطاف. فهو حين يقول مثلا: “كل الأشياء في العالم تاريخية، بما في ذلك الله نفسه، بمعنى من المعاني” (الدولة المستحيلة، 63) أو يقول: “في هذه المعادلة الفقراءُ جزءٌ أصيل من الله، وهو جزء أصيل منهم” (الدولة المستحيلة، 2844)، فهو إنما يستبطن المنظور المسيحي في بعديْه اللاهوتي (التجسُّد) والاجتماعي (الرهبانية)، في الوقت الذي يراه فيه المغفَّلون من المسلمين رافعا لراية الإسلام، ومنافحا عنه.

وقد أقرَّ وائل حلاق بأن التجربة العلمانية في العالم الإسلامي كانت تجربة بائسة. فكتب “إن مشروع العلمنة هذا جُرِّب، وجرى تبنِّيه في الأرباع الثلاثة الأولى من القرن العشرين. لكن ثمة أدلة طاغية على فشل هذا المشروع بدرجة كبيرة. كما يشهد بذلك -علاوة على ظواهر أخرى- إخفاق الناصرية والاشتراكية، والصعود اللاحق للإسلام السياسي، بعد ستينيات القرن العشرين. ” (الدولة المستحيلة، 47).

ومع ذلك يصر ُّحلاق على تسويق العلمانية بنكهة مسيحية، وبطريقة ملتوية اعتادها في حديثه عن كل ما يتعلق بحاضر الإسلام ومستقبله. فهو يختزل رسالة الإسلام ودوره في مستقبل البشرية، في دروشة أبي حامد الغزالي من الأقدمين، وطه عبد الرحمن من المعاصرين، (عن الغزالي انظر “الدولة المستحيلة”، ص 235- 248، أما طه عبد الرحمن فلم يتوقف عنده حلاق، إلا أنه أشاد بأربعة من أعماله في هامش الصفحة 295).

والغريب أن أبا حامد الغزالي وطه عبد الرحمن عاشا في لحظتين متشابهتين، اتسمتا بالتشظيِّ الداخلي والاختراق الخارجي لقلب الإسلام، من طرف مجتمعات معادية ذات خلفية مسيحية (الفرنجة في عصر أبي حامد الغزالي، والأوربيون والأميركيون والروس في عصر طه عبد الرحمن)، وأن كلا منهما انسحب من التدافع الذي يوجبه القرآن، ويقتضيه الواجب الأخلاقي، واستغرق في عالمه الذهني وتجريداته الروحية، وكأن الأمة التي يذبحها عدوُّها من الوريد إلى الوريد لا تعنيه في شيء.

فقد اقتحم الصليبيون القدس فأبادوا سكانها، سوى بقية باقية لجأ بعضها إلى دمشق، وأبو حامد الغزالي منعزل، غارق في تأملاته، في زاوية الجامع الأموي بدمشق. وثارت ثائرة المسلمين في بلاد الشام والعراق وغيرها، وألف العالم الدمشقي علي بن طاهر السلمي كتابا في فضائل الجهاد لاستنهاض الهمم، وقدم رؤية عسكرية وسياسية للنهوض، وسرى الألم في جسد العالم الإسلامي بكل أرجاء الأرض.. كل ذلك والغزالي منعزل في الجامع الأموي، وكأن الدنيا بخير! وحين خرج الغزالي من عزلته وعاد إلى بلدته في قلب بلاد فارس، لم يرفع رأسا بكل ما حدث، ولا تحدَّث عن الحروب الصليبية ولا عن الجهاد حتى توفي.

فإلى ابن طاهر والهروي وغيرهما من ذوي الضمائر الحاملة لهمِّ الأمة يجب إرجاع الفضل في “ظهور جيل صلاح الدين”، لا إلى الغزالي ومن كان على شاكلته من المنعزلين. ولعل العلامة الأزهري المعاصر محمد يوسف موسى لم يجانب الصواب حين وصف في كتابه (فلسفة الأخلاق في الإسلام) رؤية الغزالي الأخلاقية، فقال: “إن الغزالي لم يكن -وهو يكتب في مذهبه الأخلاقي- يعنيه الصالح العام.. وإن مذهبه ليس مذهبا يقوم عليه الاجتماع، وتسعد به الأمة.. وإن أسعد أيام أمم الغرب التي تتقاتل في سبيل استعمار أمم الشرق، وخصوم الإسلام وأعدائه الذين يتربصون به الدوائر، لهو اليوم الذي يرون فيه المسلمين آخذين -لا قدر الله تعالى- بمذهب الغزالي، فيجعلون الغاية التي عيَّن غايتَهم، والمنهجَ الذي رسم منهاجهم، فيصيرون عدما أو كالعدم، في هذه الحياة التي لا ترحم الضعيف، والتي تذكِّرنا بقول الشاعر:

تعدو الذئاب على من لا كلاب له وتتَّقي صولة المستأسد العادي”

وما قاله محمد يوسف موسى عن الغزالي يصلح قوله عن طه عبد الرحمن اليوم. فهو غارق في التنظير لمذهب معاصر في التصوف السياسي، يهرب من الواقع بدل مواجهته، ويتجاهل الطبيعة التدافعية للسياسة، مع إغراب في الاصطلاح، وترف نظري، ينتهي بتسويغ الأمر الواقع في نهاية المطاف. ونقطة الضعف الأساسية في نظرية طه عبد الرحمن السياسية هي أنه يتجاهل مبدأ المدافعة الذي هو العاصم من الفساد بنص القرآن الكريم: {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض} (سورة البقرة، الآية 251).

ويصوغ -عِوَضاً عنه- مبدأً غريبا سماه “الإزعاج الروحي”! وهو إزعاج يحلم صاحبه أن يغير الواقع السياسي بعيدا عن التدافع العسكري الذي يدعوه “العمل الاضطرابي”، وبعيدا عن التدافع المدني الذي يدعوه “العمل الانتخابي” (روح الدين، 309)، ويسلك مسلك التوسل الذي ينتهي تسولاً في نهاية المطاف، فـ”الإزعاج توسُّل بالوجدان” (طه عبد الرحمن، روح الدين، 289).

ويقف طه على الحياد في المعركة الدائرة بين الحكام المتحكمين في رقاب الشعوب ومعارضيهم من الساعين لتحريرها، ويعتبر الطرفين ساعييْن إلى “التسيُّد” والحكم بالقهر، في سلبية أخلاقية كاملة، لكن باسم الأخلاق! وكأنه لا يدرك أن غاية الثورات هي تحرير الناس لا حكمهم، وهذا هو الفرق الجوهري بين الثورة والانقلاب. والقرآن والتاريخ يشهدان أن السياسة مواقفُ ومدافعةٌ لظلم الظالم، لا مواعظُ ومراهنةٌ على يقظة ضمير الحاكم. وليس من ريب أن الشعوب أدركت هذا بطبيعتها الإنسانية وفطرتها الإسلامية، ولذلك خرجت تصدح: “الشعب يريد”! دون توسُّل ولا تسوُّل.

وللإنصاف فإن أبا حامد الغزالي وطه عبد الرحمن لا ينقصهما الذكاء والفطنة، فهما من ألمع علماء الإسلام ومفكريه ذهنا، وكلاهما رجلٌ يحب الله ورسوله. إنما تكمن مشكلتهما في الاندراج ضمن ثقافة دينية مغشوشة، منبتَّة عن النبع القرآني والمنهاج النبوي، وهي ثقافة الدروشة والخمول الموروثة من الرهبنة المسيحية والبوذية. فهل كان صدفة أن اختار وائل حلاق من الأقدمين أبا حامد الغزالي، ومن المعاصرين طه عبد الرحمن، ليسوِّقهما مثالاً لرؤية الإسلام الأخلاقية التي ينبغي أن تسود؟ أم أن الأمر لا يعدو أن يكون جزءا من (الصراع الفكري في البلاد المستعمرة) إذا استعملنا عنوان كتاب مالك بن نبي؟!

يستطيع حلاق ومُريدوه، ومريدو مُريديه، اتهام منتقديهم بالطائفية والتعصب، فقد اتهم حلاق الأستاذ البحاثة المصري الأميركي محمد فاضل -أستاذ التشريع الإسلامي بجامعة تورنتو- بأنه صاحب “نظرة متعصبة وضيقة وقصيرة الأمد” (الدولة المستحيلة، 233) لمجرد أن الأستاذ فاضل أوضح ببراعة العالِم المتكِّمن جوانب الخلل المنهجي والأخطاء العلمية في كتاب حلاق عن (الشريعة: النظرية والتطبيق والتحولات)، مع التزام بالأدب الجمِّ والثناء الجميل المُجامل لحلاق. لكن سلاح الاتهام لن يغيِّر من واقع الأمر شيئا، وهو أن وائل حلاق جزءٌ من السعي الدائب لترويض الإسلام، وتحويله دينا منزوع الدسم، يحمل منظورا مسيحيا أو بوذيا، لا ينصر مظلوما، ولا يردع ظالما.

ومهما يكن من أمر، فسيظل الضمير المسلم يرى حقيقة الإسلام غضَّةً نابضةً في القرآن الكريم، وفي حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين “كان يتملَّكُهم الطرب على صهوات الجياد في ساحة الجهاد”، لا في حياة درويشٍ غارقٍ في عالم الصمت والتأمل والأحلام، أو في مواقف جبان يتستر وراء التفلسف وطول اللسان.

خامساً: الدولة المستحيلة بين نقد الغرب ودعاية العرب

صاحبتْ ترجمةَ كتاب (الدولة المستحيلة) لوائل حلاق إلى اللغة العربية دعايةٌ كثيفةٌ. وقد أتيح لي الاطلاع على عشرات المراجعات للكتاب بالعربية والإنكليزية، فوجدتُ العديد من المراجعات بالإنكليزية ناقدة للكتاب، كاشفة لضعف بنائه التوثيقي والمنطقي، بينما وجدتُ الغالب على مراجعات الكتاب بالعربية هو الدعاية الفجَّة للكتاب والكاتب. وكان من أسباب ذلك أن جلَّ كاتبيها لم يطَّلعوا على مجمل إنتاج وائل حلاق الفقهي والفكري، بما يُسعفهم في وضع كتاب (الدولة المستحيلة) في سياقه، وانشغل بعض الشباب عن رهَق الاطلاع بالحِجاج واللَّجاج.

وبفضل هذه الدعاية الكثيفة -المدفوعة بدوافع الصراع الفكري مع القوى السياسية الإسلامية بعيداً عن الاعتبارات المعرفية- حصل وائل حلاق على ما لم يحصل عليه باحث غير مسلم في تاريخ الفقه الإسلامي من قبلُ: فهو -كما يشهد مُجمل إنتاجه العلمي- مستشرقٌ يتبنى تحيزات المستشرقين الدينية والتاريخية، وهو – في رأي عدد من شباب المسلمين الأغرار- منافحٌ عن الإسلام ضد حجج الاستشراق، بل ومنظِّرٌ للأخلاق الإسلامية!

ويحرص حلاق على تقديم نفسه للجمهور العربي بالصفة الثانية لا الأولى، أي باعتباره منافحا عن الإسلام ضد الاستشراق لا باعتباره مستشرقا. ففي مقدمة خاصة بالترجمة العربية لكتابه (نشأة الفقه الإسلامي وتطوره) يعظ حلاق المسلمين بأنهم ليسوا بحاجة إلى “الاقتيات على مخلَّفات الآخرين” (ص 15). كما يدَّعي أن غاية الكتاب هي “زعزعة الخطاب الاستشراقي” (ص 10) و”محاولة لتقويم هذا الخطاب الاستشراقي وسلطته الخطابية العالمية.” (ص 15). وقد لفت نظري أمران على قدر من الطرافة، يدل أولهما على نجاح حلاق في تسويق نفسه، والثاني على ما يشتمل عليه ذلك التسويق الذاتي من مفارقة غريبة.

أما الأمر الأول فهو أن محرِّري الكتاب السنوي عن (أهم خمسمائة شخصية إسلامية مؤثرة في العالم) -الصادر بالإنكليزية عن كل من (مركز الوليد بن طلال للتفاهم الإسلامي المسيحي) في واشنطن و(المركز الملكي للبحوث والدراسات الإسلامية) في الأردن- أدرجوا وائل حلاق ضمن هذه الخمسمائة شخصية إسلامية للعام 2009، إلى جانب عدد من قادة الدول المسلمة وعلماء الإسلام ودعاته ووُعاته! ولم يُرهق محرِّرو التقرير أنفسهم في التساؤل عن الدين الذي يَدين به حلاق قبل إدراجه في كتاب خاص بشخصياتٍ “يرجع تأثيرها إلى تطبيقها للإسلام أو إلى كونها مُسلمة” كما تقول مقدمة الكتاب.

والثاني أن حلاَّقاً يردُّ على إميل تيان (1901-1977) ويصفه بأنه “المستشرق اللبناني المشهور” (انظر: الدولة المستحيلة، 126) في الوقت الذي لا يعتبر نفسه مستشرقا! والمفارقة هنا هي: ما الذي يجعل لبنانيا مسيحيا متخصصا في الشريعة مستشرقا، ويُعفي مسيحيا فلسطينيا متخصصا في الشريعة من هذه الصفة، رغم أن كلا الرجلين وُلد ونشأ في بلاد الشام، ودرَس فيها دراسته الجامعية الأولى، ثم انتقل إلى الغرب لإكمال دراسته والاندراج في الحياة الأكاديمية الغربية؟! الحقيقة أن وائل حلاَّق مستشرق في الصميم، ليس فقط باعتباره أكاديميا غير مسلم تخصص في الإسلام -فلا ضير في ذلك- بل لأنه يتبنىَّ المسلَّمات الاستشراقية الصريحة والضمنية التي تطعن في أصالة الرسالة الإسلامية وفي أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم، رغم كل صراعاته

مع المستشرقين على احتلال الصدارة في مجال الدراسات الإسلامية في الغرب.

إن أهم مسلَّمة استشراقية يتبناها المستشرقون حول أصالة الرسالة الإسلامية هي ادعاؤهم أن الإسلام مجرد استعارة زائفة من اليهودية والمسيحية تحكَّمت فيها ردود الأفعال والسعيُ الدائب إلى إثبات الذات تجاه هاتين الديانتين. وقد تبنَّى حلاق هذا المنظور الاستشراقي ذي الخلفية اليهودية-المسيحية تبنِّيا كاملا، كما نجد في قوله مثلا: “لم يكن محمد صلى الله عليه وسلم قبل وصوله إلى المدينة يفكِّر في تكوين أمة جديدة، ولا في تدشين شريعة، أو نظام تشريعي جديد… لكنَّ حقيقةً جديدة فرضتْ نفسها عليه عندما وجد نفسه في المدينة وجها لوجه مع اليهود… وعندما خاب أمل النبي فيهم بدأ ينأى بنفسه بعيدا عن تلك الشعائر التي كان الدين الجديد يشترك فيها مع اليهودية” (وائل حلاق، نشأة الفقه الإسلامي وتطوره، 46).

وقد تردد هذا الطعن في أصالة الرسالة الإسلامية في عدد من كتب حلاق، ومن ذلك قوله أيضا: “ومن القرآن نعلم أنه في فترة معينة بعد وصوله إلى المدينة فكَّر محمدٌ صلى الله عليه وسلم في رسالته على أنها رسالة تحمل معها شريعة الله، تماما شأنها شأن التوراة والكتاب المقدس.” (حلاق، تاريخ النظريات الفقهية في الإسلام، 21). وكذلك زعمه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعْد هجرته إلى المدينة “بات يفكر في دينه كدينٍ عليه تزويد الأمة الإسلامية بمجموعِ شرائعَ منفصلةٍ عن شرائع الأديان الأخرى.” (حلاق، تاريخ النظريات الفقهية في الإسلام، 233).

أما تبنِّي وائل حلاق لمطاعن المستشرقين في شمائل النبي صلى الله عليه وسلم ونزاهته الأخلاقية فنكتفي منه بمثال واحد طالما تردَّد على ألسنة المستشرقين، وهو اتهام النبي صلى الله عليه وسلم بأنه “استغلَّ” خلافات بسيطة مع يهود المدينة، واتَّخذها ذريعة لتشريدهم أو تقتيلهم، وما أقبحها من تهمة تلك التي تتضمن رمْيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغدر ونقض العهود، وهو أوفى الناس بالعهود، وأشدهم أداءً للأمانات. يقول حلاق ماضغاً ترَّهات المستشرقين في هذا المضمار: “والأهم من ذلك أن اليهود مثَّلوا بالنسبة لمحمد تهديداً معرفيا، لأن شكوكهم في رسالته يُعضِّدها أنهم كانوا يُعتبَرون الأوصياء والمفسرين للتوحيد وللنصوص التوحيدية المقدسة. وقد توفَّر حلُّ جزئي لهذا التهديد في وقت مبكر، حين استَغلَّ محمد صراعا نشب بين قبيلة بني قينقاع اليهودية وبعض أعراب المدينة، وتحرك ضد بني قينقاع، فحاصر القبيلة، وأرغمهم على مغادرة البلدة مع اصطحاب أموالهم معهم. وبذلك قلَّص الخطر، وقوَّى مركزه في المدينة.” (حلاق، نشأة الفقه الإسلامي وتطوره، ص 200 من الأصل الإنكليزي).

وقد آثرتُ نقل هذا النص مباشرة من الأصل الإنكليزي، لأن مترجم الكتاب رياض الميلادي نقل الفقرة نقلا غير أمين إلى العربية، (انظر الصفحة 46 من الترجمة العربية). فقد تصرف المترجم في مواضع ثلاثة من الفقرة:

1. جملة: “اليهود مثَّلوا بالنسبة لمحمد تهديدا معرفيا” عكس المترجم معناها تماما، فجعلها: “اليهود قد وجدوا في الرسول تهديدا معرفيا لهم”!!

2. تجنب المترجم لفظ “استغلَّ” exploiting الذي استخدمه حلاق في النص الإنكليزي الأصلي، فترجمه بكلمة ألطف وهي: “أفاد”!!

3. أضاف المترجم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إلى الفقرة، وهذا شائع في ترجمات كتب وائل الحلاق إلى العربية.

وإذا أمكن أن نعتبر إضافة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مراعاة مستحبة لحساسية القارئ المسلم، فإن التصرف الأول والثاني في الفقرة تضليل متعمَّد من المترجم للقراء المسلمين، وتحريف لعبارة حلاق الأصلية التي يدرك المترجم أنها ستصدم الاعتقاد الإسلامي. وقد يكون حلاق نفسه متورطا في هذا التضليل، إذا كانت الترجمة تمت تحت إشرافه وبرعاية منه، أو كان راجعها قبل نشرها من أجل كتابة مقدمة خاصة للطبعة العربية. وفي كل الأحوال فإن تصرف المترجم هنا يدل على حاجة القارئ المسلم على قراءة ما كتبه حلاق في أصله الإنكليزي، وعدم الاعتماد على مترجمين يهمهم تسويق وائل حلاق أكثر مما تهمهم الأمانة العلمية.

ورغم تبنِّي حلاَّق مسلَّمات المستشرقين اليهود والمسيحيين الدينية والتاريخية التي تطعن في أصالة الرسالة الإسلامية، وفي نزاهة النبي صلى الله عليه وسلم الأخلاقية، فهو يردد الثناء على تاريخ المسلمين الفقهي والسياسي، في دغدغة للعواطف التراثية، وشحذٍ للاعتزاز الفولكلوري بالماضي، الذي حذَّر منه أدوارد سعيد بذهنه الوقاد ونزاهته العقلية. فيُثني حلاق -مثلا- على نماذج “الحكم السلالي الإسلامي” ويقول: “تمتلك السلطة التشريعية في الديمقراطية الليبرالية الحديثة سلطات أقلَّ بالمقارنة معها”!! (الدولة المستحيلة، 133). ولا يمكن تفسير هذا القول إلا بأنه سذاجة من حلاق بحسن نية، أو تخدير منه للمسلمين بسوء نية. ونحن نحسن الظن بحلاق، فنفترض فيه سوء النية هنا، حتى لا ننسبه إلى السذاجة، لأنه بعيد منها وعنها!

ورداًّ على مقولة “الاستبداد الشرقي” الاستشراقية، كتب حلاق: “في ضوء طبيعة التنظيم الدستوري الإسلامي، يكرِّم التصور الإسلامي المجتمع، باعتباره مهدَ الحياة ومحلَّ العيش ذي المغزى، ويعتبر الاستبداد ومصدره السياسي السلطاني أقل إيذاءً بكثير، مقارنة بنظيره الأوروبي.” (الدولة المستحيلة، 1355). وهذا الرد على تهمة الاستبداد الشرقي أقرب إلى التأكيد لها مع نسبتها للتصور الإسلامي! بينما ينسبها كثير من الغربيين إلى التراث الصيني والهندي والفارسي. وهذا النوع من الردود التي تشبه تأكيد التهمة شائع في كتابات حلاق ذات المنطق الملتوي في كل ما يتعلق بالإسلام والسياسة. فالغالب أن حلاَّقاً يستعمل كل خصلة جميلة في تاريخ الشريعة فيحوِّلها سلاحا ضد بناء أي دولة معاصرة على أساس من الشريعة!

ومن المدائح غير النزيهة قول حلاق عن التاريخ السياسي الإسلامي: “ظل الحاكم كبقية رعايا الشريعة العاديين عُرضة لأي دعوى مدنية.. وبالمثل كان يمكن عقابه على أي انتهاك لقانون العقوبات الشرعي والحدود القرآنية.” (الدولة المستحيلة، 140). وهذه صورة زاهية خيالية بعيدة عن الواقع التاريخي، وإلا فكم حاكما في تاريخ المسلمين جُلد في شرب الخمر -مثلا- وهو أكثر انتهاكات الحدود شيوعا في قصور الأمراء قديما؟ وكم حاكما قُتل قصاصا لقتْله أحد رعاياه ظلماً، وما أكثر من فعل ذلك من الأمراء في تاريخ المسلمين؟! وكأن حلاق -وهو يتحدث عن مساواة الحاكم والمحكوم أمام القانون في التاريخ الإسلامي- لم يسمع بـسلطة “الغرض والشهوة” التي شرَّحها ابن خلدون في مقدمته! وليس هذا هو الدليل الوحيد على جهل وائل حلاق بالتراث السياسي الإسلامي.

ليس مما يخدم مستقبل المسلمين أن يشيدوه على رؤية خيالية للماضي، والتمدح بما لم يكن. وربما تكون لعبة التمدح بالماضي لقتل المستقبل جزء من ستراتيجية حلاق في “الفاعلية الإقناعية”. وقد أوردنا في الحلقة (14) من هذه السلسلة قوله: “من الشروط الأساسية للفاعلية الإقناعية لأيِّ خطاب ألا تكون مهدوفات [=دوافع] الخطاب واضحة لدى القارئ أو المستمع.” (حلاق، نشأة الفقه الإسلامي وتطوره، 13).

قبل صدور كتاب (الدولة المستحيلة) بنصف قرن تقريبا، قدَّم فيلسوف الحضارة الإسلامية مالك بن نبي محاضرة بعنوان: (إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي الحديث) نُشرت فيما بعدُ في شكل رسالة بالعنوان ذاته. وفي هذه الرسالة نجد خواطر عميقة ربما تُعين على فهم ظاهرة وائل حلاق ضمن تاريخ الاستشراق وسياقه. يميز مالك بن نبي في رسالته بين صنفين من المستشرقين: صنف المتحاملين على التاريخ الإسلامي بكل أنواع الذم والتنقيص، وصنف المادحين لماضي الإسلام مع “إحاطة مستقبله بالريبة والابهام” (إنتاج المستشرقين، 24).

واللافت للنظر أن مالكاً وجد -بنظرته الثاقبة- أن الصنف الثاني قد لا يقل خطرا على الضمير المسلم من الصنف الأول، بل قد يكون أخطر في بعض الظروف. فالمستشرقون المتحاملون على التراث الإسلامي لم يتركوا أثرا يُذكر في الثقافة الإسلامية المعاصرة، لأن الدفاعات اليقِظة للضمير المسلم سرعان ما دفعت أقوالهم بعيدا، وبيَّنت عَوارها وتحيُّزَها الذي غالبا ما يكون سافرا على أية حال. فهؤلاء المتحاملون “إنتاجهم -على فرض أنه مسَّ ثقافتنا إلى حدٍّ ما- إلا أنه لم يحرك ولم يوجه بصورة شاملة مجموعة أفكارنا، لما كان في نفوسنا من استعدادٍ لمواجهة أثره تلقائيا، مواجهة تدخلت فيها عوامل الدفاع الفطرية عن الكيان الثقافي.” (إنتاج المستشرقين، 66).

أما المستشرقون المادحون للتراث الإسلامي، فمن السهل عليهم جداًّ أن يمرِّروا -في خضمِّ مدائحهم- كل تحيزاتهم الاعتقادية ضد الإسلام، دون أن يجدوا من العقل المسلم دفاعا، لأنه اليوم عقل مأزوم، يعاني من مركَّب النقص، و”يبحث عن حقنة اعتزاز للتغلب على المهانة التي أصابته من الثقافة الغربية المنتصرة، كما يبحث المدمن عن حقنة المخدِّر التي يستطيع بها مؤقتاً إشباع حاجته المرَضية” (إنتاج المستشرقين، 11-12). وقد وفَّر المستشرقون المادحون لتاريخ المسلمين وحضارتهم ذلك المخدِّر في شكل إطراء يعلِّل به العقل المسلم المأزوم ذاته المتضعضعة الفاقدة للثقة في ذاتها، وينسى السعي في أمر الحاضر والمستقبل. وفي ذلك يقول بن نبي: “نجد للمستشرقين المادحين الأثر الملموس الذي يمكننا تصوره، بقدر ما ندرك أنه لم يجد في نفوسنا أيَّ استعداد لرد الفعل، حيث لم يكن هناك في بادىء الأمر مبرر للدفاع الذي فقَد جدواه، وكأنما أصبح جهازه معطَّلاً لهذا السبب في نفوسنا.” (إنتاج المستشرقين، 7).

ويشبِّه مالك بن نبي إطراء بعض المستشرقين لتراث المسلمين -وهم يطعنون في أصالة الرسالة الإسلامية، ويسعون إلى هدم مستقبل الإسلام، وتجريد المسلم المعاصر من العزة الإيمانية- بمن يعلل فقيرا جائعا بأحاديث سمر عن ثروة أجداده، فيملأ نفسه العليلة زهواً، وهو يبيت على الطوى ويَظلُّه، قاعداً راضياً بالدُّون: “إننا عندما نتحدث إلى فقير -لا يجد ما يسدُّ به الرمق اليوم- عن الثروة الطائلة التي كانت لآبائه وأجداده إنما نأتيه بنصيب من التسلية عن متاعبه بوسيلةِ مخدِّر ٍ، يعزل فكره مؤقتاً وضميره عن الشعور بها. إننا قطعاً لا نشفيها. فكذلك لا نشفي أمراض مجتمع بذكر أمجاد ماضيه.” (إنتاج المستشرقين، 13).

ولم يفت مالكا التنبيه على وعي المستشرقين بعُقدة الاعتزاز بالماضي في ثقافة المسلمين اليوم، واحتماء بعضهم بذاكرة الماضي الغابر من مواجهة الحاضر الماثل والمستقبل الآتي. فقد أشار مالك إلى “حساسية الجماهير المسلمة لأمجاد ماضيها” ونبَّه -بعين البصير- إلى “إمكان استغلال هذه الحساسية لإلفات تلك الجماهير عن حاضرها. وهذا الجانب هو الذي يهمنا، لأنه يلتقي في الزمن مع أوْج الموجة العارمة التي تكتسح اليوم العالم من أمواج الصراع الفكري.” (إنتاج المستشرقين، 177).

وينتهي مالك بن نبي في خواطره الثمينة إلى أن “الانتاج الاستشراقي، بكلا نوعيه، كان شراً على المجتمع الاسلامي… سواء في صورة المديح والاطراء التي حولت تأملاتِنا عن واقعنا في الحاضر، وأغْمستْنا في النعيم الوهمي الذي نجده في ماضينا، أو في صورة التفنيد والإقلال من شأننا بحيث صيَّرتْنا حماةَ الضيم عن مجتمع منهار… بينما كان من واجبنا أن نقف منه عن بصيرة طبعاً ولكن دون هوادة، لا نراعي في كل ذلك سوى مراعاة الحقيقة الاسلامية غير المستسلمة لأي ظرف في التاريخ، دون أن نسلِّم لغيرنا حق الإصداع بها والدفاع عنها لحاجة في نفس يعقوب.” (إنتاج المستشرقين، 255).

فعمل المستشرقين في كلا وجهيه المادح والقادح هو وسيلة من “وسائل افتضاض الضمائر والعقول” (إنتاج المستشرقين، 24)، وملء الفراغ في ثقافةٍ فقدت المباردة التاريخية، ورضيتْ بأن تُحشر في الزاوية: و”كل فراغ أيديولوجي لا تشغله أفكارنا، ينتظر أفكاراً منافية، معادية لنا. فهذه هي القاعدة العامة، والمتخصصون في الصراع الفكري يعرفونها كما يعرفون أبناءهم.” (إنتاج المستشرقين، 45).

وقد يأتي ملء الفراغ تارة في شكل هجوم سافر يستنزف العقل المسلم في الدفاع، وأخرى في شكل إطراء مخدِّر للعقل المسلم يغرقه في عالم الماضي الزاهي عن الواقع المرير والمستقبل المعتم. وهذا الشكل الأخير هو الأخطر، لما فيه من التواء: “فالصراع الفكري يجري فيه منطقُه الخاص، تبعاً لخطٍّ ملتوٍ على العموم، بحيث يقتضي الانتقال من مرحلة معيَّنة إلى أخرى، إلى مراحل وسيطة تفرض منعرجات ومنعطفات الطريق.” (45-46).

ينتمي وائل حلاق إلى صنف المستشرقين المادحين لتاريخ الإسلام، مع “إحاطة مستقبله بالريبة والابهام” حسب تعبير مالك بن نبي، ومع الطعن في أصالة الرسالة الإسلامية ذاتها. فهل يفهم ذلك الأغرارُ من شباب الإسلام، أم يستسلمون للكسل العقلي والتعلق بالأوهام؟!

سادساً: العلمانية القهرية وتآكل قيود التبعية

وُلدت الدولة العلمانية في الغرب ظاهرة طوعية، متزامنة مع ميلاد الديمقراطية والحرية السياسية، وفي مجتمعات منسلخة من دينها، بينما ولدت الأديولوجيا العلمانية في العالم الإسلامي ظاهرة قهرية، على أسنَّة رماح الدولة الاستعمارية، ثم ربيبتها الدولة الاستبدادية. فكانت أداةً لسلخ مجتمعات متدينة من دينها قسراً. وقد لاحظ الباحث التركي أحمد كورو من خلال مقارنته بين العلمانيتين الفرنسية والتركية -وكلاهما علمانية خشِنة- الفارقَ بين المسار التاريخي في كل من جمهورية تركيا الكمالية والجمهورية الفرنسية الثالثة التي امتد عمرها سبعة عقود (1870 -1940).

ففي فرنسا تحالف الكاثوليك الفرنسيون المتديِّنون مع النظام القديم والثورة المضادة، وسعوا إلى استخدام أدوات القهر -بما فيها الجيش- للإبقاء على النظام الاستبدادي المهترئ، وحاربوا القوى الثورية الفرنسية المدعومة شعبيا، بينما كانت القوى السياسية المتديِّنة في تركيا هي وقود المعركة من أجل تحقيق الديمقراطية خلال العقود الماضية، واعتمد العلمانيون الأتراك على وسائل القهر -خصوصا الجيش- للتحكم في رقاب الشعب، ومنْع التغيير والإصلاح الديقمراطي.

يقول أحمد كورو: “في الأيام الأولى للجمهورية الفرنسية الثالثة خطَّط الكاثوليك لاحتواء النفوذ الجمهوري في البرلمان من خلال سيطرة الملكيين على الرئاسة والجيش… وعلى العكس من ذلك، ففي الحالة التركية حاول أتباع العلمانية الحازمة الحدَّ من صلاحيات البرلمان المنتخَب، من خلال الهيمنة الكمالية على الرئاسة والجيش والقضاء.” (أحمد كورو، العلمانية وسياسات الدولة تجاه الدين: الولايات المتحدة، فرنسا، تركيا، 369-370.)

وقد أنتج هذا الاختلاف في الماضي اختلافاً في الحاضر، نظراً للفارق بين المجتمعين الفرنسي المسيحي والتركي المسلم في الخلفية الدينية والثقافية، حيث حافظت العلمانية الفرنسية على طابعها الديمقراطي الحرّ وتقبَّتلها غالبية المجتمع الفرنسي عن طيب خاطر، فساعدت على وحدة المجتمع والتحامه، بينما نحت العلمانية التركية منحىً استبداديا قسريا بسبب مقاومة المجتمع لها، فكانت نتيجتُها انشطاراً في الذات الاجتماعية التركية.

وقد لاحظ الباحث التركي ذلك، فكتب: “في الزمن الحاضر يتناسب التدين المتدني للمجتمع الفرنسي مع الأديولوجيا العلمانية الحازمة للدولة. ومن الممكن أن كليهما مرتاحين (كذا) لغياب الدين من المجال العام. تعاني تركيا من التناقض، من حيث إن مجتمعاتها من أكثر المجتمعات تديُّنا، وسياساتها من أكثر سياسات الدولة العلمانية الحازمة تطرفا.” (أحمد كورو، العلمانية، 3733).

فالصراع الذي تعيشه تركيا اليوم يشبه -إلى حد بعيد- الصراع في أحشاء فرنسا خلال الجمهورية الثالثة، حيث تتصارع قوى الاستبداد والتخلف مع قوى الحرية والتجديد. والفارق الأساسي هو أنه في الحالة الفرنسية وقف الكاثوليك الفرنسيون المتدينون في صف قوى الاستبداد والتخلف، ووقف العلمانيون الفرنسيون مع الحرية والتقدم. أما في تركيا الجمهورية المعاصرة فيقف العلمانيون الأتراك في صف الاستبداد والتخلف، وتقف القوى الإسلامية في صدارة الدفاع عن الحرية والتجديد والازدهار واستقلال القرار.

وما انتهجه العلمانيون الأتراك من اللجوء إلى القهر والقسر هو ما يكرره العلمانيون العرب الذين وقف أكثرهم مع الاستبداد، وتحالفوا مع الجيوش لوأد الثورات، بل وساندوا الانقلابات العسكرية الفجَّة على السلطات الإسلامية المنتخَبة، كما رأينا في الجزائر منذ عقدين، وفي مصر منذ عامين. وكاد العلمانيون التونسيون يغتالون ثورة الشعب التونسي سعيا إلى إخراج حركة النهضة من الحكم الذي حصلت عليه في انتخابات حرة نزيهة. وكان من المفارقات أن نسمع قُبيْل انقلاب السيسي عام 2013 بعض المنظرين العرب الذين لا يفتأون يقدمون أنفسهم للجمهور العربي على أنهم “مثقفون ديمقراطيون” وهم ينظِّرون لضرورة تحكّم الجيش المصري في العملية السياسية!!

ولم تؤد العلمانية القهرية في العالم العربي والإسلامي إلى انشطار الذات الثقافية فحسب، لكنها كانت أيضا البوابة الواسعة التي دخلت منها التبعية السياسية والاستراتيجية. وقد لاحظ صمويل هنتنغتون ارتباط العلمانية والتبعية في الحالة التركية. وأوضح أن أهم حاجز بين تركيا والتحول إلى “دولة المركز” التي تقود العالم الإسلامي هو الشطط الأديولوجي العلماني الذي فُرض على شعبها، وما ترتب عليه من التبعية للغرب، بينما تدعوها مكانتها وتاريخها وثقافتها إلى أن تكون رأسا في العالم الإسلامي، لا ذنَباً في الغرب.

ولاحظ صمويل هنتيغتون أن قيود العلمانية والتبعية المفروضة على تركيا بدأت تتآكل، ويرجع الفضل في ذلك إلى الصحوة الإسلامية في تركيا، وتصاعد حضور الإسلام في الشأن العام التركي في العقود الأخيرة، لأن الديمقراطية في تركيا أدت إلى “الرجوع إلى الأصول وإلى الدين” كما أدرك هنتيغتون بدقة (هنتيغتون، صدام الحضارات، 241)، ولذلك فإن “الانبعاث الإسلامي غيَّر شخصية السياسة التركية” (صدام الحضارات، 2411).

وتنبأ هنتينغتون في كتابه هذا المنشور منذ ثمانية عشر عاما أن تركيا ستتحرر من قيود العلمانية والتبعية المفتعلة المفروضة عليها نهائيا، حين تستكمل اكتشاف ذاتها، وتعيد تعريف نفسها، فكتب: “ماذا لو أعادت لو أعادت تركيا تعريف نفسها؟ عند نقطة ما يمكن أن تكون تركيا مستعدة للتخلي عن دورها المُحبِط والمُهين كمتسوِّل يستجدي عضوية نادي الغرب، واستئناف دورها التاريخي الأكثر تأثيرا ورُقياًّ كمُحاور رئيسي باسم الإسلام وخصم للغرب.” (صدام الحضارات، 2911). وهذا ما بدأ بالضبط على مدى الخمسة عشر عاما المنصرمة، التي حكمت فيها القوى السياسية الإسلامية تركيا. صحيح أن المسار لا يزال في بداياته، لكنه يعبر عن وجهة تاريخية واضحة، تستعيد فيها تركيا أصالتها الإسلامية، وثقتها في ذاتها، ومكانتها العالمية.

وكلما تحررت تركيا من القهر الداخلي الذي كانت تمارسه الدولة العميقة، والتبعية التي كانت مفروضة عليها من الغرب، ستسير في هذا الاتجاه بوتيرة أسرع وأكثر ثباتا. وما حديث رئيس البرلمان التركي منذ شهور عن إمكان حذف العلمانية من الدستور التركي مستقبلا، وتفسير أردوغان للعلمانية الواردة في الدستور التركي تفسيرا إسلاميا في مقابلته الأخيرة مع قناة “الجزيرة”، سوى إشارات إلى الوجهة التركية في الزمن الآتي. لقد انهزمت العلمانية التركية على يد الديمقراطية، لأن الشعب في تركيا هو وليُّ الأمر، والحاكم يسمع له ويطيع. أما في الدول العربية فالحاكم خارجٌ على الأمة، وهو يتهمها أنها شرذمة من الخوارج! وقد كان الاستبداد والعلمانية -ولا يزالان- حليفان في العالم العربي.

ليس العرب بحاجة إلى السير في المسارات المتعرجة التي سلكتها تركيا، والآلام التي عانت منها قبل أن تستأنف العودة إلى ذاتها، واستعادة هويتها الإسلامية. فالشعوب العربية لم تنهزم في معركة الهوية قط، ولم تتخلَّ عن هويتها الإسلامية أصلا، رغم كل المصائب التي عانت منها على أيدي حكامها المستبدين، خصوصا المأدلجين منهم من القوميين الاشتراكيين الذين لجأو إلى الهندسة الاجتماعية القهرية لسلخ المجتمعات العربية من عقيدتها الإسلامية. فما يحتاجه العرب اليوم هو تفعيل قيم الإسلام السياسية التي لا تزال -وستظل- راسخة في ثقافتهم.

وحينما بدأ الربيع العربي، كان الإسلاميون أعظم رافعة للثورات العربية ضد الاستبداد، وكان العلمانيون أعظم رافعة للثورات المضادة. ولم تستهدف الثورة المضادة وظهيرُها الدولي القوى الإسلامية الديمقراطية عبثاً، بل فعلا ذلك وهما يدركان أن هذه القوى الإسلامية هي العمود الفقري والحاضنة الأخلاقية والاجتماعية للثورات على الظلم والاستبداد. وكان من المفارقات أن نرى علمانيين عربا في الأعوام الأخيرة يدعون إلى إقامة دول “مدنية” ديمقراطية، وهم يدعمون دولا “عسكرية” فاشية، مثل دولتيْ السيسي والأسد! وهذا ما قادنا إلى المشهد الدرامي الذي نعيشه اليوم، حيث يفقد الإسلاميون كل يوم مزيداً من دماء شهدائهم، ويفقد العلمانيون كل يوم مزيدا من ماء وجوههم.

إن القوى السياسية الراشدة تركز على حكم القانون أكثر مما تركز على مصدر القانون، ويهمها “كيف” يُحكم البلد، أكثر مما يهمها “من” يحكم البلد. ومعيار ديمقراطية أية قوة سياسية هو قبولها بالخسارة في الانتخاب، وقد سقط العلمانيون العرب في هذا الامتحان سقوطا مُريعا. فأسوأ تناقض منطقي وأخلاقي وقع فيه العلمانيون العرب هو الدعوة إلى الديمقراطية ورفض نتائجها. والسبب هو أنهم لا يزالون يعتبرون الإسلاميين مواطنين من الدرجة الثانية، ويرون الشعوبَ أطفالا محجورا عليهم. وأكثر العلمانيين العرب ديمقراطية هو الذي يقبل بوجود الإسلاميين في الفضاء العام محكومين لا حكاما. أما الأقل ديمقراطية فيريد استئصالهم بالقوة.

وهكذا دفعت الأنانية السياسية العلمانيين العرب إلى الإصرار على حرمان الإسلاميين من الحكم، ولو بحرمان الشعب كله من الحرية! فهم يكرهون الإسلاميين أكثر مما يحبون الحرية، ويدافعون عن حقوق الأقليات مع هدر حقوق الأكثريات، ويتنكَّرون لقيم الإسلام الإلهية، دون أن يتبنَّوا قيم الغرب الإنسانية، فهم “لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.” وهذه المفارقات في مواقف العلمانيين العرب وثقافتهم السياسية سبب أساسي من أسباب تعثر الربيع العربي.

إن السياسة جزءٌ أصيل من منظومة الإسلام الاعتقادية والأخلاقية والقانونية، والقيم السياسية الإسلامية ثرية وقادرة على تزويد المسلمين -بل وكافة البشر- بالإلهام الكافي لبناء أعدل الأنظمة السياسة وأنبلها. كما أن شؤون السياسة والحكم -مهما تضمنته من غايات المصالح الدنيوية الظرفية- لها في الإسلام معنىً تعبُّدي لا يتحقق إلا في ظل التزام الدولة بمرجعية الوحي. فقضية “الرد إلى الله والرسول” -بمعناها المرجعي- هي أهم فارق بين النظام الإسلامي والنظام العلماني اليوم، وهي مربط الفرس في الصراع اليوم بين القوى السياسية الإسلامية الساعية إلى ربط الفضاء العام بمرجعية الإسلام، والقوى السياسية العلمانية الداعية إلى اعتماد مرجعية بشرية مُنبتَّة عن هدْي السماء. وأقصد بالعلمانيين هنا تلك الأقلية منهم المؤمنة بالكرامة الإنسانية والعدالة السياسية. أما غالبية العلمانيين العرب الداعمين للاستبداد فليس لديهم مرجعية أخلاقية أصلاً، لا إسلامية ولا إنسانية.

تبدو لي مشكلة العلمانيين العرب في أنهم لم يفهموا ما أدركه العبقري ابن خلدون من أن المفتاح السياسي للشخصية العربية هو الدين، فكتب:”العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة.” (مقدمة ابن خلدون، 1899). فالعلمانيون لا يرون سبيلا لبناء أمجاد للعرب إلا بهدم الإسلام في قلوبهم، لكأنها نسوا أننا قوم أعزنا الله بالإسلام. وهم لا يجدون خيارا للمسلمين اليوم إلا في تغيير ثقافي وقيمي يسلخهم من ذواتهم، أو البقاء في حمأة التخلف والقهر السياسي. وهذا هو مقتضى رؤية وائل حلاق العدمية ودولته المستحيلة التي ألزم المسلمين فيها “أن يختاروا بين حداثة بلا أخلاق أو أخلاق بلا حداثة” حسب الخلاصة المعبرة التي أوجز فيها أبو يعرب المرزوقي نظرية حلاق.

ولعل ثلاثية ابن خلدون عن المُلْك الطبيعي والمُلْك السياسي والخلافة تعين على توضيح مكانة العلمانيين العرب الداعمين للاستبداد في سلَّم القيم السياسية. لقد ميَّز ابن خلدون بين ثلاثة أنماط من النظم السياسية، وهي: المُلْك الطبيعي، والمُلْك السياسي، والخلافة. فتوصل إلى أن “الملْك الطبيعي هو حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة. و[الملْك] السياسي هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار. والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة.” (ابن خلدون، المقدمة، 2399.)

ويؤيد استقراء القيم السياسية من النص الإسلامي ما ذهب إليه ابن خلدون من تقسيم ثلاثي. فأعلى أنماط الحكم السياسي في الإسلام مَرْتبة هو دولة الشرع والعدالة الإلهية، وهي تتأسس على التعاقد والتراضي في بنائها، وتلتزم بالمرجعية الأخلاقية والتشريعية الإسلامية، فهي تجمع بين الشورية والمرجعية الإسلامية. وهذه هي الدولة الإسلامية المعيارية، المنسجمة مع القيم السياسية الإسلامية، لأنها ملتزمة بـ”مقتضى النظر الشرعي” وجامعة بين “المصالح الأخروية والدنيوية” حسب تعبير ابن خلدون.

وأوسط الأنظمة السياسية مَرْتبة من منظور إسلامي، هي دولة العقل والعدالة البشرية التي لا تهتدي بهداية سماوية، لكنها تَجْهد في تحقيق العدل والصالح العام طبقا لمقتضيات العقل والتجربة والإنصاف الإنساني. وينطبق هذا التعريف -في السياق المعاصر- على كل الدول الديمقراطية التي تتأسس على التراضي والتعاقد، لكنها لا تلتزم بالمرجعية الإسلامية، وهذا النمط من الدول منسجم مع قيم الإسلام السياسية في بنائه لا في مرجعيته.

وأدنى الأنظمة السياسية مَرْتبة من المنظور الإسلامي هو مرتبة دولة الهوى، أو “الغرض والشهوة” بلغة ابن خلدون. فهي دولة تتأسس على القهر والجبْر في بنائها، ولا تلتزم بمرجعية قانونية، لا إسلامية ولا غير إسلامية. ويدخل تحت هذا الصنف كل دول الطغيان والاستبداد. ودولة الهوى تناقض قيم الإسلامية السياسية -بناء وأداء- في كل شيء، حتى وإن كانت غالبية سكانها مسلمين.

يبدو لي أن أمام العلمانيين العرب اليوم ثلاثة خيارات: إما أن يُفيقوا من غفَلاتهم ويفهموا أن الدين الإسلامي هو مفتاح الشخصية العربية، وأن الدولة العلمانية القائمة على التراضي والاختيار مستحيلة في المجتمعات العربية، فينسلخوا من الأديولوجيا العلمانية ويقبلوا “دولة الشرع”، أي الدولة الديمقراطية ذات المرجعية الأخلاقية والتشريعية الإسلامية. وإما أن يتَّسموا بشيء من الروح الإنسانية وإنصاف الخصوم فيقبلوا “دولة العقل” الديمقراطية التي تسَع الإسلامي والعلماني، وليست لها مرجعية إسلامية أو علمانية محددة سلفاً إلا ما يقرره شعبها. وإما أن يستمروا في غيِّهم خدماً وحشماً في ركاب الاستبداد و”دولة الهوى” الجائرة نكاية في خصومهم السياسيين من الإسلاميين.. حتى تجرفهم رياح التغيير العاتية.

لقد آن الأوان للإنسان العربي أن يتحرر من “حداثة” القشور التي تتبناها نخب علمانية منبتَّة من عمقها الاجتماعي. فقد كشفت حادثة (البوعزيزي) التي أشعلت الربيع العربي عن هشاشة تلك الحداثة الزائفة وما تشتمل عليه من مفارقات. فالعلمانية الحداثية الزائفة في تونس التي تفتخر بأنها ساوت بين المرأة والرجل، وفتحت أمام المرأة المساواة في الشغل -بما في ذلك العمل في سلك الشرطة- لم تحقق الحد الأدنى من الحداثة السياسية الحقة، وهو إلزام الشرطة بالعمل ضمن القانون، وتقييد يدها الباطشة، ومنعها من امتهان كرامة الإنسان التونسي. فكانت صفعة من شرطية أنثى على وجه البوعزيزي – أبلغ تعبير عن تلك المفارقة، وكان إحراق البوعزيزي نفسَه تحت ضغط الكرامة الجريحة هو الشرارة المضيئة التي فضحت تلك العلمانية القهرية الزائفة، السائدة في العالم العربي.

خلاصة

وفي ختام هذه الأوراق عن “الدولة العلمانية المستحيلة” -التي نأمل أن يتيسر تعميقها في عمل موسَّع مستقبلا- يبدو لي أن الفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري كان أحسن الكتَّاب العرب بصيرة في هذا المضمار إذ كتب يقول: “مسألة العلمانية في العالم العربي مسألة مزيَّفة… وفي رأيي أنه يجب استبعاد شعار العلمانية من قاموس الفكر العربي، وتعويضه بشعاريْ الديمقراطية والعقلانية.” (الجابري، “الإسلام ليس كنيسة،” ضمن كتاب: “حوار المشرق والمغرب”، 399). وما أعظمها من نصيحة! فلو أخذت بها النخب السياسية في البلدان العربية لوفَّرت على ذاتها الكثير من الصراعات واستنزاف الذات، ولسهَّلت على نفسها بناء الإجماع الأخلاقي الضروري لأي حكم سياسي عادل، بعيداً عن الحراب والاستقطاب (1).

—————————-

الهامش

(1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”، والدراسة عبارة عن سلسلة مقالات، تم نشرها عبر موقع “مدونات الجزيرة”، ونعيد نشرها بالاتفاق مع الكاتب، مع حفظ جميع الحقوق الفكرية للموقع والكاتب.

الوسوم

د. محمد بن المختار الشنقيطي

باحث ومفكر موريتاني، مهتم بالفقه السياسي، والتاريخ السياسي، والعلاقات بين العالم الإسلامي والغرب، يعمل الآن أستاذاً للأخلاق السياسية، مركز التشريع الإسلامي والأخلاق، قطر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى