دراسات

قراءات نظرية: أنماط التحول الديمقراطي جزء 4

تمهيد

يقصد بأنماط التحول الأشكال التي تتخذها عملية التحول من نظام سلطوي إلى نظام ديمقراطي، بمعنى الإجراءات التي يتم اتباعها للإطاحة بنظام غير ديمقراطي للوصول إلى نظام ديمقراطي. ويمكن تحديد أربعة مسارات نظرية للتحول من النظام السلطوي إلى النظام الديمقراطي، مع ملاحظة أن حالة واحدة قد تتضمن مزيجاً من أكثر من مسار للتحول على المستوى التطبيقي. وهذه المسارات هي كالتالي:

أولاً: التحول من أعلى:

وذلك عندما تقوم النخبة الحاكمة بإدخال عدد من الإصلاحات والتعديلات الديمقراطية في النظام لشعورها بتزايد عدم الرضا والسخط الشعبي، وتناقص قوة النظام مقارنة بقوة المعارضة، لذا يأخذ النظام المبادرة بالتحول ويدخل أو يعد بإدخال إصلاحات، سواء لرغبة النظام في القيام بالتحول الديمقراطي أو لامتصاص الأزمة من خلال ميكانيزمات لمد سيطرته وسيادته السياسية1.

ففي هذا النمط قد لا يكون الدافع إلى الإصلاح هو الإيمان بالمبادئ الديمقراطية، ولكن قد تكون هناك تحديات داخلية أو خارجية تحتم على القيادة السياسية الاتجاه في هذا الطريق. وبهذا الخصوص يذكر هنتنجتون أن الاعتبارات الأمنية والأسباب المحلية هي التي تقود إلى التحول الديمقراطي، حيث يجد الحاكم نفسه عرضة للخطر من الداخل أكثر من الخارج، فيقوم بعملية التحول خوفاً من أن يقوم بذلك شخص آخر2.

وفي الغالب فإن النظم العسكرية هي أكثر النظم استعداداً لعملية التحول من أعلى، وذلك لأنها عندما تقوم بانقلاب عسكري فإنما تهدف إلى تصحيح بعض الأخطاء في النظام السابق، وبعد تصحيح هذه المساوئ والأخطاء يقود العسكريون عملية التحول أو الإصلاح الديمقراطي ولكنهم في الوقت نفسه يحتفظون ببعض الأوراق التي تضمن لهم الفاعلية والتأثير في النظام الجديد3.

وإلى جانب أن تلك المبادرة قد تأتي من جانب قيادة عسكرية فإنها أيضاً قد تأتي من جانب قيادة مدنية، وسواء أتت من جانب قيادة عسكرية أو مدنية فإن هذه القيادة عادة ما تحتفظ لنفسها بالحق في التنافس على السلطة وعدم تهديد مصالحها وامتيازاتها، ولذلك فإن التحول من أعلى غالباً ما ينتج عنه ما يسمى “الديمقراطية المقيدة”4، فكثيراً ما يشرع النظام في هذه الحالة إلى اتخاذ بعض الخطوات التحررية مع إفساح قدر من الحريات السياسية كحرية التعبير وتخفيف القيود على الصحف مع الاحتفاظ بحق جماعة النخبة السلطوية في الدخول في العملية السياسية وعدم تهديد مصالحها، هذه الديمقراطية المقيدة يراها البعض عائقاً أمام وضع إصلاحات سياسية تهدد مصالح النخبة السلطوية5.

ولذلك فإن هذا النمط قد يتسم بنوع من الخدعة السياسية، بمعنى أنه ليس دائما ما تكون عملية التحول الديمقراطي عملية حقيقية، وذلك عن طريق الأخذ ببعض سمات الليبرالية نتيجة ضغوط داخلية أو خارجية حتى يمكن للنظام الاستمرار أو تجاوز أزمة ما. وعلى الجانب الآخر فإنه وإن نجحت عملية التحول في هذا النمط فإنه يمكن حدوث انتكاسة تعصف بالإنجازات الديمقراطية التي تم تحقيقها إذا كانت تلك الإنجازات أو التحولات تمثل ضرراً بمصالح تلك القيادات أو النخب الإصلاحية وسارت في عكس ما هو مخطط له6.

وهناك دول عديدة عرفت تحولاً ديمقراطياً من أعلى كأسبانيا التي تعتبر أوضح مثال عليها، وكزامبيا التي بادرت القيادة فيها إلى التخلي عن نظام الحزب الواحد والأخذ بالتعددية الحزبية، حيث مرت بعملية تحول ناجحة عام 1991 من نظام الحزب الواحد الذي كان يقوده “كينيث كاوندا” إلى نظام سياسي متعدد الأحزاب تحت قيادة الزعيم المنتخب فريدريك شيلوبا الذي تولى سدة الحكم استجابة لمتطلبات في المجتمع، والبرازيل التي يؤرخ لبدايات تحولها نحو الديمقراطية في عام 1973، وتم تعزيز التحول نحو الديمقراطية في عام 1985 بانتخاب رئيس مدني للبلاد، واليونان والبرتغال حيث جاءت المبادرة فيهما لإنهاء النظام السلطوي من القيادة العسكرية في عام 1973 في اليونان، و1974 في البرتغال7.

ثانياً: التحول عن طريق التفاوض (الإحلال التحولي):

في هذا النمط تأتي المبادرة مشتركة من قبل قيادة النظام والقوى الاجتماعية المختلفة فيه بهدف التوصل إلى أسس مشتركة للتخلي عن النظام غير الديمقراطي وإقامة نظام ديمقراطي بديل، وذلك من خلال انخراط النظام الحاكم في حوار مثمر مع القوى السياسية المختلفة، وذلك رغبة في الوصول إلى ميثاق يحافظ على مصالح كل القوى السياسية الفاعلة ومن ثم الوصول إلى نظام ديمقراطي.

وقد تحدث “صموئيل هنتنجتون” عن الأسباب الرئيسية للتحول الديمقراطي من خلال هذا النمط وحصرها في الآتي: فقدان النظام القائم للشرعية التي كان يتمتع بها، وانهيار الأيديولوجية التي يقوم عليها النظام، وتردي الأوضاع الاقتصادية مما يؤدي إلى إخفاق النظام في تلبية الحد الأدنى من المطالب والاحتياجات للشعب، وضغوط خارجية على النظام سواء كانت معونات عسكرية أو مساعدات اقتصادية تربط بين الإصلاح السياسي وهذه المعونات، وعجز القوى السياسية على الإطاحة بالنظام القائم واستبداله بنظام آخر8.

فهذه الأسباب – أحدها أو جميعها- قد تدفع النظام نحو القبول بالدخول في مفاوضات مع القوى الاجتماعية المعارضة والمطالبة بإجراء إصلاحات سياسية واقتصادية وما يستتبع ذلك من زيادة هامش الحريات، ومن ناحية أخرى قد تندفع تلك القوى نحو هذا المسار وقبول المفاوضات نظراً لعدم قدرتها على الإطاحة بالنظام القائم وإحلاله، وهو ما يطلق عليه هنتنجتون الإحلال التحولي Transformation Replacement، وقد يكون هذا ناتج إما عن ضعف في التنظيم أو محدودية الإمكانيات المتاحة أو أن قدرة النظام القائم لا تزال تملك القدر الكافي من القوة التي تمكنه من البقاء والاستمرار9.

ودائماً ما يشهد هذا النمط في حال نجاحه اتفاقاً يضمن تحقيق مصالح أطراف العملية التفاوضية، بمعنى أن يتخلى النظام عن قدر من القيود التي يفرضها على الحريات وحقوق الأفراد، كالقيود التي دائماً ما تُفرض على حرية التعبير عن الرأي والصحافة والإعلام، وتأسيس أحزاب سياسية وحرية العقيدة والقيادة. ومن الضروري في هذا النمط ألا تتعارض مواقع النخب المهيمنة في النظام التسلطي -مثل: كبار الضباط، والقوات المسلحة، وكبار ملاك الأراضي- للخطر في النظام الجديد، كذلك من المهم أيضاً لضمان الاستقرار السياسي بعد المرحلة الانتقالية دمج النخب ضمن إطار مستقر من المؤسسات الديمقراطية الفعّالة التي لا تهدد مصالح هذه النخب، لأنه إذا لم تشعر هذه النخب بأن النظام الجديد يحمي مصالحها فإنها لن تقبل شرعيته وسوف تبذل ما في وسعها لتقويضه10.

ومن أهم الحالات التي أخذت بهذا النمط التفاوضي حالة أورجواي في عام 1984، وكولومبيا وفنزويلا في عام 198511، كذلك حالة جنوب افريقيا في عام 1989- 1990 من خلال المفاوضات التي دارت بين “دي كليرك” و”نيلسون مانديلا” الذي كان يتزعم “المؤتمر الوطني الإفريقي” آنذاك، وأورجواي في أمريكا اللاتينية والنيبال في آسيا12.

ثالثاً: التحول من أسفل (التحول الإحلالي):

يعد هذا النمط أكثرهم اتساماً بالعنف، فيأتي التحول الديمقراطي في أعقاب صراعات ومظاهرات شعبية عنيفة ومطالبات من قِبَل الشعب بإنجاز الإصلاحات المنشودة، كما أنه يتسم بضعف القيادات القائمة على النظام في مواجهة القوى المعارضة بالقدر الذي يسمح للقوى المعارضة بالإطاحة بالنظام القائم على نحو ما جاء في حالات كل من ألمانيا الشرقية والأرجنتين ورومانيا، حيث بدأت قوى النظام في فقد قوتها ومصداقيتها وشعبيتها على المستوى الاجتماعي في ظل تنظيم معارضة استمد قوته من ضعف النظام ومن خلال التأييد الشعبي الذي ضاق بنظامه وإخفاقه في تحقيق الحد الأدنى من احتياجاته ومطالبه مما أفضى إلى إحلال قوى المعارضة محل النظام القائم، وهو ما يطلق عليه هنتنجتون نمط “التحول الإحلالي” Replacement13.

وعادة ما يكون الحافز الرئيسي لهذا النمط من عملية التحول الديمقراطي بروز دلائل على تدهور سلطة النظام التسلطي وتحرك قوى المعارضة لاستغلال هذا التدهور، حيث إن النخب المعارضة لا تتمتع بالقوة الكافية التي تمكنها من فرض التغييرات التي ترغب فيها، وأن سلطة وقوة النظام التسلطي قد تدهورت بالدرجة التي لا تمكنه من قمع المعارضة بصورة حاسمة.

من جهة أخرى يمكن أن تدور الأسباب المؤدية إلى هذا النمط حول وفاة الديكتاتور الحاكم والذي يعتبر القوة الرئيسية في النظام، حيث تؤدي وفاته إلى ضعف النظام القائم، ومن ثم ظهور الصراعات وأعمال الشغب والاضطرابات.

لكن من غير المحتمل أن يؤدي هذا النمط من الانتقال إلى عملية ديمقراطية مستقرة، ومرد ذلك أن عدم وجود اتفاقات ومواثيق خلال مرحلة الانتقال يمثل عقبة كبيرة أمام بروز أجواء الاعتدال والتصالح الضرورية لعملية ترسيخ الديمقراطية والمميزة لها، فنادراً ما يؤدي تغيير النظم التسلطية عن طريق التعبئة الجماهيرية والضغوط الشعبية إلى قيام نظم ديمقراطية ليبرالية مستقرة، بل يبقى هناك احتمال لأن تنتكس النظم الجديدة وتحل محلها أشكال جديدة من النظم التسلطية. ولن يحدث أي تقدم تجاه ترسيخ العملية الديمقراطية -وفقاً لنمط التحول الإحلالي- إلاّ إذا تضمنت المرحلة الانتقالية مفاوضات واتفاقات بين نخب النظام التسلطي ونخب المعارضة، بيد أن هناك احتمالاً قوياً أن يؤثر ذلك سلباً على الديمقراطية، فمرد ذلك أن الاستقرار المستقبلي مؤسس على منح ضمانات للنخب الحاكمة القديمة لحماية امتيازاتها ولمنع أية مساءلة عن أية جرائم خلال الحكم التسلطي، وبالتالي فإن الاتفاقات والمواثيق بين النخب الحاكمة والنخب المعارضة قد تقود إلى ديمقراطيات محدودة14.

ومن أمثلة هذا النمط في عملية التحول الديمقراطي نجاح الحركات الاجتماعية الغاضبة في الفلبين في إجبار الرئيس “جوزيف استرادا” على التنازل عن منصبه تحت وطأة التظاهرات الشعبية العارمة التي طالبت بملاحقته قضائياً على مخالفات مالية وانتهاكات لحقوق الإنسان ارتكبها أو شارك مع قياداته في ارتكابها15.

 

رابعاً: نمط التدخل الأجنبي:

ويحدث هذا النمط عندما يكون التحول الديمقراطي نتيجة لتدخلات وضغوطات أطراف أجنبية. ومن أمثلة هذا النمط التدخل الأمريكي في هاييتي وبنما والصومال خلال تسعينيات القرن العشرين، والتدخل الأمريكي مؤخرًا في العراق.

وإضافة إلى التدخل العسكري المباشر فقد كان نفوذ الدول والمؤسسات الدولية المانحة للإعانات الاقتصادية قوياً ومؤثراً في قرارات التحول الديمقراطي في بعض النظم التسلطية الفقيرة. فخلال ثمانينيات وتسعينيات القرن المنصرم تقلصت قدرات هذه الدول الفقيرة على تبني برامج وسياسات محفزة للتنمية الاقتصادية، وأصبح الكثير منها يعتمد بصورة متزايدة على إعانات وقروض الدول الغربية والمؤسسات الدولية المانحة التي طالبتها بالشروع في عملية الديمقراطية كجزء من برنامج متكامل للحكم الصالح الرشيد، وربطت استمرارية الإعانات الخارجية بموافقة النظم التسلطية على البدء في عمليات الديمقراطية والإصلاح السياسي.

ويلاحظ أن العوامل الخارجية كانت مؤثرة خصوصاً بعد الهزيمة في حرب، وقد حدث ذلك في العديد من الدول الأوروبية بعد عام 1918 وفي اليابان بعد عام 1945؛ حيث فرضت الولايات المتحدة الأمريكية نمط الديمقراطية الليبرالية، وكذلك في حالة التدخل العسكري الأمريكي الأخير في العراق في عام 200316.

بيد أن الفاعلين الخارجيين، مهما كانت درجة قوتهم الاقتصادية والسياسية والعسكرية، لا يستطيعون فرض خياراتهم السياسية، ولمدة طويلة، على دول لا ترغب في ذلك؛ فقد يؤدي التدخل الأجنبي إلى تغيير التوازن لصالح عملية الديمقراطية، غير أن الديمقراطية لن تترسخ وتزدهر إلا عندما تتوفر اشتراطات وعوامل داخلية محددة. ويمكن التدليل على ذلك من تجارب بعض الدول كالبرتغال وأسبانيا واليونان التي تحولت إلى نظم ديمقراطية راسخة بصورة سريعة خلال سبعينيات القرن العشرين، ففي الوقت الذي كان الدعم والتشجيع الخارجيين، خاصة من الجماعة الأوروبية، مهماً ومؤثراً، فإن ترسيخ الديمقراطية اعتمد أساساً على الاتفاق العام والإجماع الداخلي على تفضيل الديمقراطية على أية ترتيبات سياسية أخرى وعلى غياب أية انقسامات إثنية أو دينية أو طبقية. ويوحي عدم توفر هذه الاشتراطات والعوامل في معظم دول أمريكا الللاتينية وآسيا وأفريقيا بأن ترسيخ الديمقراطية سوف يكون أمراً صعباً وشاقاً17.

وهكذا تتعدد أنماط التحول الديمقراطي، مع ملاحظة أن سائر عمليات التحول مع تميزها بالتعقد وتعدد المراحل فإنها قد تشهد واقعياً تداخل بين أكثر من مسار من المسارات السابقة في إحداث عملية التحول الديمقراطي أو البدء فيها.

———————————

الهامش

(1)هالة جمال ثابت، مرجع سابق، ص ص 43- 44

(2)علي سعيد صميخ المري، مرجع سابق، ص ص 53- 54

(3)هالة جمال ثابت، مرجع سابق، ص 45

(4)د. صفي الدين خربوش، مرجع سابق، ص

(5)بلقيس أحمد منصور أبو اصبع، مرجع سابق، ص ص 40- 41

(6)أحمد جمال عبد العظيم، مرجع سابق، ص 31

(7)بلقيس أحمد منصور أبو اصبع، مرجع سابق، ص 38

(8)Samuel P.Huntington, op.cit, p P 165- 167

(9)أحمد جمال عبد العظيم، مرجع سابق، ص ص 31- 32

(10)مبارك مبارك أحمد عبد الله، مرجع سابق، ص 31

(11)علي سعيد صميخ المري، مرجع سابق، ص 55

(12)أحمد جمال عبد العظيم، مرجع سابق، ص 32

(13)Samuel P.Huntington, op.cit, p 192

(14)مبارك مبارك أحمد عبد الله، مرجع سابق، ص ص 32- 33

(15)بلقيس أحمد منصور أبو اصبع، مرجع سابق، ص ص40-41

(16)Fareed Zakaria, op. cit

(17)مبارك مبارك أحمد عبد الله، مرجع سابق، ص ص33- 35

Steven A. Cook, “The Right Way to Promote Arab Reform”, Foreign Affairs, March/April 2005 link

إيمان أحمد

باحثة مصرية، دكتوراه الفلسفة في العلوم السياسية، 2016، ماجستير العلوم السياسية 2008 جامعة القاهرة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى