قراءة في الرؤية الأمريكية للحرب الروسية الأوكرانية
تتصاعد الحرب الدائرة في أوكرانيا والتي تٌظهر بشكل لافت مدي التقدم الروسي، تحديداً في المناطق المحاذية لروسيا، على الرغم من الأثمان التي تدفعها الأخيرة، وهي طبيعة الحرب وطبيعة فصولها، حيث ترى موقفاً غربياً غير قادر على التدخل المباشر، نتيجة لتحديات كثيرة تفرضها طبيعة الأزمة في شرق أوروبا، على الرغم من المساعدات العسكرية والإغاثية التي قدمتها بعض دول أوروبا، والتي صرحت كل من فرنسا وألمانيا تحديداً بقوة أنها تدعم أوكرانيا بصواريخ فتاكة، بالإضافة للمشاركة في العقوبات التي فرضها الغرب، على الرغم من التأكيد على استمرار تدفق الغاز الروسي إليها.
وفي المقابل: فإن الإدارة الأمريكية التي حركت وحفزت هذه الأزمة، وفق الشكل الذي يساهم في بناء سردية جديدة في طبيعة التوجهات مع روسيا والصين وكذلك في القلب الأوربي لا سيما شرق القارة، والتي اخترعت من خلالها أن بوتين يسعي لروسيا أكبر، وأنه ممكن أن يتحرك في دول البلطيق في المستقبل، ) إستونيا، ولاتفيا، وليتوانيا) التي تعتبر دول في حلف الناتو.
في قمة لحلف الناتو عام 2008م في بوخارست عاصمة رومانيا،[1] عملت الولايات المتحدة على استراتيجية توسيع الحلف لاسيما في جورجيا وأكرانيا والتي ادعت فيه، أنه يهدف إلي خنق الرؤية الروسية في التوسع في شرق أوروبا واستعادة مكانة الاتحاد السوفييتي، وفي سياق آخر أعلنت أن الهدف منه هو تحقيق الازدهار وتنمية اقتصاديات أوروبا والعالم، إلا أن روسيا وضعت خط في الرمال وبدأت تبدى مخاوفها الكبيرة، الأمر الذي كان مثابة إعطاء الضوء الأخضر لروسيا للتقدم نحو كييف في مقابل رفض ألمانيا القاطع لذلك في وقتها ومازال الموقف الألماني بهذا الشكل، على إثر المخاوف التي ستنعكس على الدول الأوربية لا سيما في استيراد الغاز من روسيا، وخلق حالة من اللااستقرار في القلب الأوروبي.
وفي ظل المخاوف الروسية حيال الإجراءات الأمريكية، وعقب القرار الروسي بالدخول في أوكرانيا، فإن موقف الولايات المتحدة يظهر حتى الآن أنها لن تتدخل في هذه الحرب، ويمكن استنباط رؤيتها بعدة اعتبارات أهمها:
1ـ تعتقد الإدارة الأمريكية أن الروس غير قادرين أو لا يمكنهم تحمل تبعات الاحتلال الكامل لأوكرانيا، وهذا بدوره سيحد من المخاوف الأمريكية، على اعتبار أن لها أهدافاً أخرى تحد من مخاوف هذا الإجراء الروسي، والذي يستنزف الأخيرة هناك.
2ـ تحاول أمريكا الضغط على روسيا واحتوائها بطرق مختلفة، حيث تعتقد الإدارة الأمريكية أن طبيعة الاقتصاد الروسي لا يمكنه الصمود كثيراً أمام العقوبات الغربية عليه، وترى أن الدخول الروسي لأوكرانيا سيخلق حالة توازن جديدة وفقاً لمعطيات الحرب الباردة (تحديداً في الملف الاقتصادي)، تجعل الروسي الذي لا يمكنه تحمل أعباء الحرب كاملة واصطدامه بعقبة العقوبات إلي احتمالية تقليص أهدافه من هذه الحرب، تحديداً السيطرة على نصف أوكرانيا على اعتبار أنه الهدف شبه المعلن في الرغبة الروسية أيضاً من هذه الحرب.
3ـ في ظل أن أمريكا ترى في الصين هي التهديد الحقيقي لها على المدي الاستراتيجي، وإذا تحدثنا هنا عن الاقتصاد الصيني، فإنك تقف أمام اقتصاد متنوع وذا قدرة عالية على التشكل في ظل التحديات، ووصوله لكل الأسواق بكل الأسعار، ناهيك عن القوة البشرية الهائلة التي بلغ تعدادها نحو مليار وأربعمائة مليون نسمة، غير الكتلة الجغرافية المنفتحة على العالم، وهذا يزيد من مخاوف الولايات المتحدة فتصبح غير قادرة على مواجهة الصين، ناهيك عن تقاربها مع روسيا وتعويض العجز المشترك بين البلدين.
وهذا يتطلب جهد كبير وكفاءة عالية في التعامل الأمريكي، في ظل عدم قدرتها على التدخل المباشر في الأزمات، مع هذا التحدي من منظور مختلف، تحاول فيه أمريكا الضغط على دول الاتحاد الأوروبي لا سيما ألمانيا التي تستورد 40% من الغاز المسال من روسيا، الأمر الذي سيزيد من ضوابط العلاقات الألمانية معها.
4ـ علاوة على ذلك، يقول الخبير الاقتصادي فيكتور لاشون: إن مزيداً من تدهور العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة والتلويح بالبحث عن بدائل للغاز الروسي لن يلغي حقيقة اعتماد أوروبا موضوعيا على إمدادات النفط والغاز من روسيا، وبالتالي، لن يكون بمقدورها، ليس فقط التخلي عن روسيا كمصدر للطاقة، بل حتى المشاركة بفرض عقوبات جدية على موسكو.[2]
وفي هذه النقطة تحديداً: فإن الرؤية الأمريكية تكمن في السيطرة على النصيب الأكبر من صادرات الطاقة في العالم، فتحاول أن لا ينازعها أحد في هذا الأمر وبالتالي، فإنها تعمل مع ألمانيا باتجاهين الأول: استراتيجية الضغط بهدف استيراد الغاز منها، والذي تزيد تكلفته على ألمانيا ما نسبته 25% عن الغاز الروسي، وغير ذلك جودة المنتج الأمريكي بالإضافة إلي الظروف الغير مهيأة لاستقبال الغاز الأمريكي، وخصوصا من الخصم الجيوسياسي الأكبر بالنسبة لها. والأمر الثاني: الحد من مخاوف استقلال ألمانيا عن أوروبا، مما يزيد من مخاوف انهيار العقد الأوروبي كأول محطة اهتمام أمريكي لها، وارتهانها للتحديات الروسية في الابتزاز الاقتصادي.
ولذلك فإن مسرح العمليات المعقد الذي تحاول فيه الإدارة الأمريكية أن تعمل على حالة من التوازن لاستنهاض القارة الأوروبية تجاه الخطر الروسي وجعلها تتحرك بشكل أكبر، في ظل التحديات التي تواجهها، فهي بذلك تسخن مناطق هامة تحد من الطموح الروسي أو تسخن المناطق التي تريد الصين أن تحقق فيها تنمية استراتيجية، مما يزيد العقبات على طريق الحرير، وهي أيضاً توازن في مواجهة التقارب الروسي والصيني من جهة أخري، لزيادة المخاطر على هذه العلاقات.
خلاصة:
إن الولايات المتحدة الأمريكية وعلى الرغم من أنها تسير بخطوات شائكة في تعاطيها مع الملفات الدولية، حيث أن إدارة بايدن تدرك جيداً عدم قدرتها على التأثير المباشر بالتدخل في ساحات مختلفة من العالم، فهذا يجعلها تتحرك وفقاً لسياسة تحريك الأزمات مع الصين من جهة (خنق طريق الحرير_ تطويق المنظمات التي تشترك فيها الصين لا سيما منظمة شنغهاي_ اشعال الجوار الروسي لا سيما الطرق تمر بها خطة الحزام والطريق) وتفجير الأزمات تحت بند التأثير دون دفع النفقات على الحروب، والتي تساهم في الحد من المخاطر الناجمة عن التحالف الروسي الصيني والتوسع لنفوذهما في العالم.
وعليه: ربما نشهد سلوكاً أمريكي في المرحلة المقبلة بفتح مساحات تنافس بين الصين وروسيا في آسيا بعد فحص وقراءة أمريكا لنتائج الحرب في أوكرانيا، وهي المساحة التي يمكن أن تكون متغيراً مهماً يختلف عن مشهد الحرب الباردة بالنسبة لروسيا في تحقيق البدائل الاقتصادية وتجاوز أزمة العقوبات، تبقى هذه المساحة الساخنة الأكثر تعقيداً في مسرح العمليات الأمريكي التي يمكنها التأثير عليها بشكل مباشر.
[1] Dw: موقع الكتروني- “توسيع الناتو شرقاً قد يؤدي إلى تدهور مأساوي لعلاقات موسكو مع الغرب” 1 أبريل/2008) شوهد بتاريخ 4مارس/2022)
[2] لبنان: موقع الكتروني بحال توقفت إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا… كيف ستتوزع الخسائر؟ (18-2-2022)، شوهد بتاريخ: (3-3-2022)
t-bottom-tags”>أمريكا روسيا أوكرانيا الحرب الروسية الأوكرانية