بحوثدراسات

كيف تصنع رمزاً باسم يوسف نموذجاً

 

مقدمة:

ينسب مصطلح “صناعة الثقافة” إلى كل من “تيودور أدورنو” و”ماكس هوركهايمر” وهما من رواد الجيل الأول من مدرسة فرانكفورت التي انشغلت بوضع الإنسان في المجتمع الرأسمالي الحديث. ويرمز المصطلح إلى التحولات التي شهدتها الثقافة في المجتمعات الحديثة، والتي أصبحت لا تمثل إلا مصالح تجارية ورأسمالية تخدم المنظومة السائدة وتهدف إلى صناعة الربح ليس إلا، وبالتالي صارت الثقافة (بما فيها وسائل الإعلام الجماهيرية) جزءا من عملية القمع الشمولية في المجتمع الرأسمالي الحديث.

أما عن عملية الإنتاج نفسها، فيشبهها “هوركهايمر وأدورنو” في كتابهما “جدل التنوير” بخط إنتاج مصانع السيارات، حيث يتم العمل على آلاف السيارات في وقت واحد بنظام التجميع، وأصبح المخرج السينمائي على سبيل المثال ليس فنانا منفردا بل بمنزلة المدير الذي يهتم بتنسيق جميع مهام العمل.

وقد ارتبطت مقولة “أدورنو وهوركهايمر” برؤيتهما لدور الفن الجاد، والذي ارتبط بدوره بمجمل رؤية مدرسة فرانكفورت ونقدها الجذري للوضع القائم، ولأشكال الهيمنة التي عرفتها المجتمعات الغربية المعاصرة. فالفن في نظرهم هو البعد الوحيد الذي يمكن من خلاله تجاوز السيطرة التي تهدده من كل جانب، فهو أداة تحرر وانعتاق.

يقول “هوركهايمر” في مقالة الفن والثقافة الجماهيرية، إن الفن الأصيل هو “فن قاوم الجراحة التجميلية التي تجريها المنظومة الاقتصادية السائدة التي تصب البشر جميعا في نموذج واحد”. وشرعية الفن الأصيل إنما تكمن في قدرته على الاحتفاظ بقدر من الاستقلال عن الوضع القائم، فهو -بخلاف الثقافة الجماهيرية التي تعبر عن عالم الرأسمالية المسلع-ينطوي على عنصر مقاومة متأصلة فيه. ويمثل تحديا للوضع القائم.

أما أدورنو فرأى في كتاب النظرية الجمالية أن الاحتجاج أو شكل المعارضة الآخر ضد النظام الحالي للعالم الحديث يتجسد في الأعمال الفنية المستقلة، أي التي ينتجها أدباء وفنانون لهم رؤية فردية، بحيث يحل هذا الفن محل الطبقات العاملة باعتباره وسيلة معارضة ضد المجتمع. ولا يقوم هذا الفن بوظيفته التحررية إلا إذا استطاع تجاوز ما هو قائم وتمكن من تحقيق استقلاله الذاتي عن طريق رفض إدماجه بالواقع القائم أو اختزاله إلى انعكاس للواقع.

لكن الفن الجاد تعرض –وفقا لهوركهايمر وأدورنو-إلى خلل تمثل في احتلال القيم التجارية المادية مكان القيم الفنية الجمالية ضمن سياق النظام الرأسمالي الاحتكاري الذي حول كل شيء إلى سلع وبضائع تخضع لمنطق السوق. وحتى الفن أصبح بدوره سلعة تخضع لذلك المنطق. وأصبح من بين الوسائل التي يتم توظيفها للتحكم في الفن وإدماجه في الوضع القائم وتوجيهه لخدمة الأيدولوجيا السائدة هو النشر الجماهيري للأعمال الفنية والأدبية والموسيقية وتحويلها إلى سلع تباع وتشترى في الأسواق بشكل مبتذل، وأصبح يغلب عليها الطابع التجاري والنفعي الذي يبعد الفن عن وظيفته الحقيقية.

كما انتقد أدورنو وهوركهايمر إخضاع الفن للمؤسسات الاقتصادية والسياسية والثقافية وتوظيفه أيدولوجيا للحفاظ على الوضع القائم وإعادة إنتاجه بكيفية تحقق استمرارية هذا الوضع الذي يكرس السيطرة. وتصبح الثقافة منتجا استهلاكيا يعيد إنتاج الواقع من دون مساءلته أو الدفع باتّجاه تغييره.

وقد تعرضت مقولة صناعة الثقافة إلى الانتقاد من الباحثين والمفكرين، وركزت بعض هذه الانتقادات على أن العصر الحالي به إمكانيات واحتمالات كثيرة لبروز أشخاص يقومون بإنتاج ثقافي باستخدام طرق وأدوات ومعدات رخيصة الثمن، بالإضافة إلى بروز مؤسسات صغيرة تهدف إلى توفير التسلية لمجموعات محددة بأذواق غريبة وبعيدة عن تيار الثقافة الجماهيرية. خاصة بعد ظهور شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، حيث أصبح الخروج على المنظومة السائدة وتحديها ممكنا باستخدام التكنولوجيا لأغراض خاصة. وبالفعل رأينا نماذج لأشخاص برزوا عبر تقديم أعمال فردية، مثل الذين يقومون بتصوير مقاطع فيديو ونشرها عبر مواقع التواصل الاجتماعي للحديث عن الأوضاع السائدة بصورة ناقدة أو ساخرة.

لكن في هذا البحث سنرى كيف أن ظاهرة المذيع المصري “باسم يوسف” تحولت من تحدي للوضع القائم من خارج المنظومة الإعلامية والثقافية السائدة إلى التماهي الكامل مع المنظومة والاندماج معها، وكيف استطاعت المنظومة الثقافية التابعة للنظام الذي يحكم مصر أن تستغل هذه الظاهرة لتحقيق أهدافها ثم تخلصت منه في النهاية.

يتابع هذا البحث ظاهرة باسم يوسف، منذ ظهوره في مقاطع فيديو على موقع “يوتيوب” عام 2011 وحتى الانتهاء من تقديم برنامجه على قناة “إم بي سي مصر” عام 2014، وعلاقته بالمنظومة الإعلامية السائدة، التي كان ناقدا لها في البداية قبل أن يصبح جزءا منها.

 

أولاً: منظومة الإعلام المصري:

يمكن القول إن وسائل الإعلام المصرية هي جزء من المنظومة الثقافية السائدة في مصر منذ عشرات السنوات، فقد كانت دائما موالية لنظام الحكم المسيطر سياسيا وأيدولوجيا، مهما كانت توجهات هذا النظام، فقد كان الإعلام يتماهى دائما مع أي نظام جديد ويقوم بخدمته ونشر أفكاره داخل المجتمع وإقناع الجماهير بها.

وقد استطاع نظام حسني مبارك السيطرة على الإعلام بشكل كبير، حتى مع ظهور وسائل الإعلام الخاصة في السنوات الأخيرة من حكمه، فقد كانت مملوكة لرجال أعمال مرتبطين بشكل أو آخر بالنظام أو مستفيدين منه ومن فساده. وبالتالي لم يكن غريبا أن ينحاز الإعلام الخاص أيضا لنظام مبارك أثناء الثورة، فقنوات مثل “الحياة” و”دريم” و”المحور” وبالطبع “الفراعين” اتخذت خطابا رافضا للثورة ومنحازا إلى مبارك. ما عدا قناة “ON TV” التي حاولت تقديم تغطيات متوازنة تراعي مطالب المتظاهرين وفي نفس الوقت لا تغضب النظام بالشكل الذي يدفعه إلى إغلاقها.

رغم فقدان وسائل الإعلام تلك المصداقية عقب الثورة مباشرة، إلا أن المنظومة الإعلامية التابعة لعهد مبارك حاولت العودة مرة أخرى، فوجدنا قنوات فضائية جديدة، وهي: التحرير-CBC- صدى البلد- العاصمة- النهار- LTC- القاهرة والناس، وهي لا تختلف في نمط ملكيتها عن القنوات القديمة.

قامت وسائل الإعلام تلك بعملية احتواء لبعض الشخصيات المحسوبة على الثورة عن طريق التعاقد معها لتقديم برامج على شاشاتها، فتعاقدت قناة CBC مع الشاعر “عبد الرحمن يوسف” الملقب ب”شاعر الثورة” والشيخ “مظهر شاهين” الذي كان يلقب ب”خطيب الثورة”. وتعاقدت قناة “التحرير” مع الناشطة السياسية “نوارة نجم” والصحفي “إبراهيم عيسى” الذي كان يعتبر معارضا لمبارك.

كانت ملكية قناة التحرير في ذلك الوقت تعود إلى عدد من المحسوبين على ثورة يناير، قبل أن يتم بيعها إلى رجل الأعمال “سليمان عامر” المتهم بالاستيلاء على أراض للدولة تقدر بمليارات الجنيهات، بينما تعود قناة CBC إلى رجل الأعمال “محمد الأمين” الذي تربطه علاقة قوية برموز نظام مبارك. وجمع في قناته مجموعة كبيرة من الإعلاميين المعروفين بمساندة مبارك والهجوم على الثورة، مثل خيري رمضان ومجدي الجلاد وعماد الدين أديب ولميس الحديدي.

ثانيا: باسم يوسف ومراحل الخضوع

مر “باسم يوسف” خلال عملية تصنيعه، بثلاثة مراحل أساسية: الأولى على موقع يوتيوب، والثانية بدأ فيها الخضوع للمنظومة السائدة، عندما انضم لقناة “ON TV”، انتقل فيها من تقديم البرنامج من غرفة شقته إلى ستوديو، والثالثة عند انتقاله لقناة “CBC” ثم قناة “MBC مصر” التي مثلت نقلة أخرى من الاستوديو إلى “المسرح” ولكل مرحلة مواصفاتها التي تميزها عن الأخرى.

 

المرحلة الأولي: مرحلة “الغرفة”

ظهر باسم يوسف للمرة الأولى عبر موقع “يوتيوب” في الثامن من مارس عام 2011، في حلقة ساخرة بثها على قناته الشخصية على الموقع، تناول فيها محاولات نظام مبارك إخلاء ميدان التحرير من المتظاهرين. وكانت تلك الحلقة تسخر من مجموعة من الشخصيات المرتبطة بنظام مبارك، أغلبهم من الإعلاميين.

كانت الأجواء التي ظهر فيها باسم تتمثل في نجاح المتظاهرين في خلع حسني مبارك، بعد ثورة شعبية دعا إليها مجموعات من الشباب على مواقع التواصل الاجتماعي، واستطاعوا عبرها التغلب على الإعلام التقليدي التابع لنظام مبارك بنوعيه: الحكومي والخاص.

وكان الخطاب السائد وقتها هو التمجيد من قوة الإعلام الجديد وقدرته على إحداث التغيير السياسي والاجتماعي والتغلب على المنظومة السائدة، بالإضافة إلى أن جزءا كبيرا من الإعلام التقليدي كان قد فقد الكثير من مصداقيته أثناء المظاهرات بعد اكتشاف المصريين للأكاذيب التي كان يبثها وينشرها لمحاولة القضاء على الثورة، من اتهام الثوار بالخيانة والعمالة والحديث عن المؤامرات الأجنبية. وهو ما شكل دفعة قوية لبرنامج باسم الجديد في الانتشار واكتساب جماهيرية كبيرة وسط شرائح اجتماعية عديدة.

بعد هذا النجاح بدأ باسم يظهر في قنوات تلفزيونية في الإعلام التقليدي كضيف في المرة الأولى ليتحدث عن برنامجه الجديد وكيف يقوم بإنتاجه. وكان الاعتماد في تلك الفترة على الجهود الذاتية لباسم ومجموعة من أصدقاءه المتطوعين، فكان باسم يكتب ويقدم الحلقة، ويقوم شخصان أو ثلاثة بالتصوير والإخراج والمونتاج، بينما كان التصوير يتم في غرفة صغيرة داخل شقته الخاصة. وكانت العملية الإنتاجية برمتها لا تكلف مبالغ كبيرة، ورغم ذلك كانت الحلقات تحقق نجاحا كبيرا. وفي أبريل عام 2011 ظهر باسم للمرة الأولى في التلفزيون في حلقة تلفزيونية على قناة “دريم” الفضائية، مع المذيعة “منى الشاذلي” ليتحدث عن برنامجه.1

في هذا اللقاء لم تكن المذيعة تعرف شيئا عن موقع يوتيوب، لدرجة أن باسم اضطر إلى التدخل ليوضح لها اسم الموقع الذي لم تعرف المذيعة كيف تنطقه. كان باسم كأنه قادم من عالم آخر، وهكذا كان فعلاً، ورغم أن باسم سخر من الإعلاميين الذين ساندوا مبارك وقت الثورة، إلا أنه تجاهل حقيقة أن المذيعة التي تجري معه اللقاء كانت قد بكت بعد خطاب مبارك الذي ألقاه في الأول من فبراير 2011، وتعهد فيه بعدم الترشح لفترة رئاسية جديدة، وأكدت أثناء بكائها أن مبارك “حافظ على مصر” ودعت المتظاهرين إلى العودة إلى بيوتهم وترك مبارك يكمل مدته الرئاسية. وكأن باسم في هذا اللقاء قد قدَّم التنازل الأول عن مبادئه ثمنا للظهور على شاشة التلفزيون، متجاهلا حقيقة أخرى وهو أن الإعلام المصري لم يتغير.

في هذا اللقاء تحدث باسم عن الخطوط العريضة لمشروعه، وهو تقديم سخرية بدون “إسفاف” وعدم تخوين أو سب أحد، وفضح تناقضات منظومة الإعلام. كما سخر من الشائعات التي روج لها إعلام مبارك ضد المتظاهرين، خاصة شائعة توزيع وجبات “كنتاكي” في ميدان التحرير. كما نصح أنصار مبارك بمشاهدة قناة الجزيرة وبي بي سي وأي قنوات أخرى غير مصرية ليعرفوا “الحقيقة”.

كان هدف باسم منذ البداية هو وصديقه “طارق القزاز” تقديم محتوى مخصص للإنترنت فقط. وقاما بإنشاء شركة لهذا الغرض، لكن سرعان ما تخلى الاثنان عن حلمهما عندما وجدا فرصة لعرض البرنامج على قناة فضائية، وبالفعل تعاقد باسم مع قناة “ON TV” بدءا من أغسطس 2011.

 

المرحلة الثانية: مرحلة الاستوديو:

سبق أن نوهنا إلى أن قناة “ON TV” كانت الوحيدة ضمن الإعلام التلفزيوني الخاص التي قدمت خطابا متوازنا إلى حد ما عن الثورة، وبالتالي لم يكن غريبا أن ينضم إليها باسم قادما من عالم اليوتيوب، ليستحوذ على جمهور أكبر.

توافقت حلقات البرنامج في ذلك الوقت مع أجواء التوافق والتشجيع على الحوار التي ميزت مرحلة ما بعد مبارك، ولذلك ظهر العديد من الشخصيات التي تنتمي للتيارات الإسلامية ضيوفا على البرنامج، كما قام باسم نفسه بالظهور في قنوات فضائية دينية، مثل قناة “الحافظ”. وأنتج باسم حلقات تدافع عن الثورة، وتهاجم من يعتبرها مؤامرة، وفي نفس الوقت كان حريصاً على الوقوف على مسافة واحدة من جميع التيارات، وقام باستضافة أعضاء جميع التيارات، الإسلامية والقومية والليبرالية واليسارية.

إلا أن تحولات باسم بدأت منذ ذلك الوقت، فقد تحول برنامجه إلى “صناعة” يشارك فيها عشرات الأشخاص الآخرين، وبدلا من إنتاج حلقة بدون موعد محدد بناء على تطور الأحداث، أصبح من الضروري تصوير حلقة كل أسبوع، حتى لو لم تكن هناك أحداث للتعليق عليها، تماشياً مع جدول البث للقناة. وهو ما كان يؤدي في بعض الأحيان إلى حلقات دون المستوى.

وتحول برنامج باسم إلى نوع من الفن الجماهيري، فقد كانت شبكة الإنترنت محدودة في النهاية ولا تستطيع الوصول إلى شرائح عديدة من الشعب المصري الذي يعيش أكثر من نصفه تحت خط الفقر، وبالتالي ضمن باسم لنفسه “الانتشار” لكنه فقد ميزته الأساسية، وهو فرادة ما يقدمه والطريقة الجديدة التي ظهر من خلالها.

 

المرحلة الثالثة: مرحلة “المسرح”:

انتقل باسم إلى قناة “CBC” ليقدم البرنامج في شكل جديد، يعتمد على تواجد الجمهور في مسرح كبير، ونمط إنتاج أضخم من سابقه. حيث تحول البرنامج من نمط الإنتاج الكبير إلى نمط ” الإنتاج الضخم”، وأصبحت الحلقة الواحدة يشارك بها العشرات من الموظفين والعمال، وصل عددهم إلى 200 شخص، من باحثين وكتاب سيناريو ومنتجين ومصورين وغيرهم، لكل منهم وظيفة محددة، وانحسر دور باسم ليقتصر على التقديم.

منذ بدايته أعلن باسم أنه يتخذ من المذيع الأمريكي “جون ستيوارت” قدوة له، وظهر واضحا في الشكل الجديد للبرنامج أن باسم طمح إلى “استنساخ” برنامج جون ستيوارت بشكل شبه كامل، بما فيها شكل المسرح والديكورات، وبدا وكأنه نسخة محلية من برنامج “The Daily Show” مثلما قامت قنوات عربية باستنساخ برامج أخرى مثل برنامج “من سيربح المليون” و”The Voice” وغيرها من البرامج، وهو وجه آخر من أوجه صناعة الثقافة يدخل في إطار “الإمبريالية الثقافية”. وبذلك دخل باسم مرحلة أخرى من التحول.

منذ الحلقة الأولى على قناة “CBC” واجهت البرنامج أول أزمة تتعلق بمحتواه، لكنها لم تكن من النظام الحاكم آنذاك، وإنما من أحد زملاء باسم في القناة الجديدة.

ففي هذه الحلقة سخر باسم من المذيع “عماد أديب” الذي غضب من تلك السخرية وتوعد بمقاضاة باسم أمام المحاكم. كما احتجبت المذيعة “لميس الحديدي” عن الظهور في برنامجها بسبب سخرية باسم منها أيضا.

في الحلقة التالية حاول باسم أن يرد على أديب بالاستمرار في السخرية منه، لكن القناة رفضت عرض الحلقة ليتم إذاعتها على قناة البرنامج على موقع يوتيوب فقط. كان هذا المنع الأول الذي يتعرض له باسم من المنظومة الرأسمالية المتحكمة بالإعلام وبسبب موضوع لا علاقة له بالسياسة، ورغم ذلك استمر باسم في تقديم برنامجه دون أن ينتبه إلى أن ذلك كان علامة فارقة تدل على أنه تم استيعابه بشكل كامل داخل تلك المنظومة وأنه استسلم لها إيثارا للسلامة. وكشفت صحيفة “المصري اليوم” أن الحلقة الأولى التي سخر فيها من مذيعي القناة كانت قد تعرضت هي الأخرى لعمليات مونتاج لتخفيف تلك الانتقادات حتى لا تثير الحلقة غضب هؤلاء المذيعين كثيرا. أي أن الأمر في النهاية متفق عليه بين باسم ومالك المحطة في إطار خطة مرسومة مسبقا لإثارة جدل مصطنع يتم تحت إشراف القناة نفسها وبتشجيع منها وبالقدر الذي تسمح به.

في الحلقة الأولى سخر باسم أيضا من مذيعين آخرين في القناة، مثل “خيري رمضان” و”مجدي الجلاد” بالإضافة إلى مالك القناة نفسه، رجل الأعمال “محمد الأمين” وهي طريقة يتبعها باسم دائما في أي قناة يعمل بها، فسبق أن انتقد رجل الأعمال نجيب ساويرس مالك قناة “ON TV” في الحلقة الأولى له هناك، كما قام بنفس الفعل بعد ذلك وسخر من مدير محطة “MBC مصر” في أول حلقة له هناك، وذلك لإثبات مصداقيته واستقلاليته وعدم خضوعه للمواءمات، لكنه لا يتحدث عنهم بعد ذلك بحرف واحد في أي حلقة من حلقات البرنامج، حتى لو قام مالك المحطة بفعل أو قال تصريحا يستدعي التعليق، وإذا سأله أحد لماذا لا يقوم بانتقاد مالك المحطة، يحيله باسم إلى الحلقة الأولى من البرنامج وكأن ذلك كافيا لعدم الحديث عنهم مرة أخرى. وكانت المفارقة أن باسم اقتصر على السخرية من مدير محطة إم بي سي مصر وليس من مالك القناة نفسه (رجل الأعمال السعودي وليد الإبراهيم).

في قناة CBC أيضا صارح باسم جمهوره بأن القناة “فلول” أي تنتمي إلى نظام مبارك، لكنه صرح بذلك الاعتراف بطريقة ساخرة وكأنه بذلك يتغلب على حقيقة أنه بالفعل قام بعملية “تطبيع” كاملة مع نظام مبارك الإعلامي والسياسي والاقتصادي، ممثلا في القناة ومذيعيها ومالكها وسياستها التحريرية.

فالإعلامية لميس الحديدي حضرت إحدى حلقات برنامجه ورحب بها باسم بشدة، وقام بعمل حوار معها بعد اختياره ضمن قائمة الشخصيات الأكثر تأثيرا حسب مجلة “تايم” الأمريكية.2 ليتم بعدها تكريمه من القناة بحفل كبير دعيت إليه شخصيات كثيرة تنتمي إلى نظام مبارك دون أن يجد باسم في نفسه القدرة أو الرغبة على إعلان رأيه فيهم مثلما كان يفعل قبل ذلك على اليوتيوب.

كان لافتا أيضا في هذه الحلقة أن باسم لم يعرض مواقف المذيعين التي هاجموا فيها الثورة، باستثناء لقطة واحدة للمذيع عماد أديب يمدح فيها حسني مبارك. أما عدا ذلك فقد اقتصرت سخرية باسم على أشياء وجوانب أخرى لا علاقة لها بمواقف هؤلاء المذيعين من الثورة. وفي نهاية الحلقة بدا باسم وكأنه يقوم بمصالحة المذيعين “زملاءه الجدد” بوصلة دعائية فجة لبرامج القناة وكأن شيئا لم يكن.

حقق البرنامج في هذه الفترة نجاحا غير مسبوق، سواء من ناحية التأثير السياسي أو الأرباح المالية للقناة، حيث وصل عدد الدقائق الإعلانية أثناء عرض الحلقة إلى 25 دقيقة، يعرض فيها نحو 50 إعلانا، أي ما يقارب 55 % من مدة الحلقة. ووصل سعر دقيقة الإعلان الواحدة على “البرنامج” إلى 60 ألف جنيه.3

 

مؤشرات “تدجين” باسم يوسف

سيكون مفيدا في ذلك الجزء تحليل بعض مضامين حلقات البرنامج للتدليل على مدى التغير الذي أصاب ظاهرة باسم و”التدجين” الذي تعرض له، أبرز تلك التغييرات هو ظهور وانتشار الشتائم والتلميحات الجنسية بقوة في حلقات البرنامج، وهي أشياء لم تكن موجودة على الإطلاق في حلقات اليوتيوب أو “أون تي في”، لدرجة ابتكار شخصية وهمية تسمى “جماهير” تمثل الشعب المصري وتتحدث بتلميحات جنسية عن علاقة الجماهير بالحكام.

ساهم وجود الجماهير داخل المسرح في صنع حالة من “الإيحاء بالضحك”، فالجمهور يكون سعيدا بأنه أخيرا سيتمكن من حضور تصوير حلقة من البرنامج الأكثر شهرة وتأثيرا في مصر على الهواء مباشرة، وبالتالي استقر في ذهنه بشكل غير واعي أنه لابد أن يضحك لأن البرنامج ساخر بالضرورة، حتى لو كان مستوى الحلقة سخيف ولا يبعث على الضحك.

هذه الحالة من الضحك امتدت إلى مشاهدي البرنامج عبر التلفزيون، فقد أدى ظهور الشتائم على لسان باسم يوسف إلى قيام القناة بوضع علامة سوداء على فمه وكتم صوته بصافرة أثناء تلفظه بتلك الشتائم عند إذاعة الحلقات على شاشة التلفزيون، ومع ذلك كان المشاهدون في البيوت أو على المقاهي يضحكون على تلك الشتائم، رغم أنهم لم يعرفوا بالضبط ماذا قال المذيع، لكن صوت الجمهور الذي يضحك يدفعهم إلى الضحك أو يرغمهم عليه، مفترضين أنه قال شيئا يدفع إلى الضحك بالضرورة. وربما كان بعضهم يحسد جمهور المسرح على تمكنهم من سماع تلك الشتائم.

وقع باسم في تلك الفترة في فخ الدعاية السياسية ضد نظام مرسي، فأثناء العام الأول من حكم الدكتور مرسي، نشر الإعلام المصري المعارض شائعات عن قيام د. مرسي ببيع أجزاء من البلاد إلى دول أجنبية، كان منها بيع قناة السويس ومنطقة “ماسبيرو” والآثار المصرية لدولة قطر، وحلايب وشلاتين للسودان، وسيناء لإقامة دولة فلسطينية. وهي شائعات استسلم لها “باسم يوسف” وقام بعمل أوبريت غنائي بعنوان “قطري حبيبي”.

ويمكن القول إن حلقات باسم يوسف قد تبدو من الناحية الظاهرية “معارضة” للوضع الذي كان قائما، كونها كانت تقدم خطابا مضادا لمرسي وجماعة الإخوان الذي كانوا يحكمون البلاد، لكنها في الحقيقة كانت تدفع دفعا إلى عودة النظام القديم مرة أخرى، والذي كان مازال يسيطر على كافة جوانب الحياة في مصر، ولم تستطع الثورة إجباره على التخلي عن أيا من مواقعه.

توقف البرنامج في نهاية يونيو 2013، وعاد في أكتوبر 2013 بعد الانقلاب العسكري في الثالث من يوليو من نفس العام، وقد حاول باسم يوسف أن يكرر ما فعله مع مرسي بعد عزل الأخير، لكن بسقف منخفض كثيرا عما كان يفعله قبل ذلك، فاكتفى بالسخرية من حملة التمجيد المبالغ فيها للسيسي (وليس من السيسي نفسه) وانتقاد بعض الإعلاميين المقربين منه، ومع ذلك لم يسلم من حملة هجوم كاسحة تعرض لها بعد الحلقة الأولى بعد عودته.4

وحاصر العشرات من مؤيدي السيسي المسرح الذي يقدم فيه البرنامج وهاجموه بشدة. أما عن الإعلاميين الآخرين فقد وجهوا له رسالة صريحة تفيد بأن دوره قد انتهى بعزل مرسي، وأن الوقت الآن ليس مناسبًا للسخرية مما يحدث في البلاد أو انتقاد أي من المسئولين في الدولة. كما لم يخل الحديث في البرامج التلفزيونية عن اتهام باسم بأنه “عميل أمريكي” وخائن.

وسرعان ما تخلت قناة CBC عن مذيعها المفضل، إذ أصدرت بيانا أكدت فيه رفضها لبعض محتويات الحلقة الأولى “حرصا منها على عدم استخدام ألفاظ أو إيحاءات تستهزئ بمشاعر الشعب ورموز الدولة المصرية” أي أن القناة تحججت بالألفاظ والإيحاءات الجنسية في البرنامج رغم أنها كانت موجودة قبل ذلك بكثرة في عهد مرسي. ولم يكن الأمر يحتاج إلى كثير من المعلومات لمعرفة السبب الحقيقي للاعتراض على البرنامج، وهو محاولة تكرار نفس ما كان يقوم به البرنامج في عهد مرسي مع السيسي.

استمر باسم في سياسته في الحلقة الثانية ساخرا من بيان القناة نفسه، لكن الأخيرة لم تسمح بإذاعة الحلقة، وأعلنت أنها أوقفت البرنامج، وأصدرت بيانا قبل موعد إذاعة الحلقة من البرنامج بدقائق، قرأه المذيع خيري رمضان، قالت فيه إنها لفتت انتباه “باسم” والشركة منتجة البرنامج إلى ردود الأفعال الغاضبة حول الحلقة الأولى، لكنهم “أصروا على مخالفة سياستها”. ليتم تسريب الحلقة على موقع يوتيوب، لكن دون أن تعرض على القناة الرسمية للبرنامج. وتنتهي العلاقة بين باسم والقناة بفسخ التعاقد.

ورغم أن منع عرض البرنامج لم يكن بالتأكيد قرار القناة وحدها، وإنما بتوجيه من النظام السياسي الذي حكم البلاد بعد الانقلاب، إلا أن الشركة المنتجة للبرنامج حاولت التقرب من ذلك النظام بالقول إن قرار القناة بوقف البرنامج قد تسبب في عكس “صورة سلبية للغاية للعالم عن مناخ الديمقراطية وحرية التعبير عن الرأي في مصر بعد ثورة الثلاثين من يونيو” على حد قول بيان الشركة الذي أعلنت فيه فسخ التعاقد مع القناة.

 

ثالثا: نهاية التصنيع

كانت المرحلة الأخيرة لباسم على قناة “MBC مصر”. حيث بدأ في تقديم الحلقة الأولى في فبراير عام 2014، مقتصرا على السخرية من الصحفيين والإعلاميين الذين ينافقون السيسي.5 بالإضافة إلى السخرية من الجهاز الذي أعلن الجيش المصري عن التوصل إليه وزعم أنه يعالج مرض الإيدز وفيروس “سي” دون المساس بالسيسي أو أي من قيادات الجيش أو رموز الحكم في ذلك الوقت.

المفارقة أن تلك الحلقة أذيعت بعد أيام قليلة من مقتل أكثر من 60 متظاهرا أثناء الذكرى الثالثة لثورة 25 يناير، لكن باسم لم يهتم بذلك أو يشير إليه، لأن معظم القتلى كانوا من الإخوان، بينما فعل العكس تمامًا بعد مقتل العشرات في مدينة بورسعيد في يناير 2013 أثناء عهد مرسي، ففي ذلك الوقت أعلن باسم وفريقه أن الحلقة سيتم تسجيلها بدون جمهور حرصا على سلامتهم، كما ظهر بصورة متجهمة تناسب ذلك الحدث.

استمر باسم في برنامجه لمدة 4 أشهر، قدم خلالها 11 حلقة، وكان من المقرر أن يحصل على إجازة ويعود بعد 30 يونيو 2014، لكن تم الإعلان بشكل مفاجئ عن وقف البرنامج نهائيا بداية يونيو. بعد أن كان مقررا أن يتم تصوير حلقة تتحدث يشكل مباشر لأول مرة عن السيسي وتسخر من غياب برنامج انتخابي له، لكن الحلقة مُنعت حتى قبل التصوير، ولذلك قرر “المسئولون” وفقا لباسم وقف البرنامج، دون تحديد هوية هؤلاء المسئولين بالضبط. ومع ذلك قال باسم في وقت آخر إن فريق البرنامج فضل التوقف على أن يقوم بتقليل سقفه حتى يستمر.

وجاء الإعلان عن وقف البرنامج ليثبت أن النظام الذي جاء بعد مرسي لا يسمح بأي انتقاد حتى لو كان موجها ضد المنظومة الإعلامية التي تخدمه، لأن النظام يعتبرها جزءا من منظومة الهيمنة المتكاملة التي قام ببنائها ولن يسمح بالمساس بها.

وقال باسم صراحة في تصريحات تلفزيونية إنه أوقف البرنامج ببساطة لأن النظام الحالي “نجح في إسكاته” وأن مرسي لو كان قد نجح في إخافته مثلما فعل النظام الحالي لكان قد أوقف البرنامج أيضا. هذا التصريح يمثل رسالة شديدة السلبية مفادها أن أي نظام حاكم لا بد أن يستخدم لغة القوة والتهديد لمنع أي برنامج من انتقاده، وأن باسم في النهاية سيخضع لأي ضغوط إذا مورست عليه بالشكل “الصحيح”. وأن خطأ مرسي الوحيد أنه لم يبذل جهدا كافيا لمنعه.

نفى باسم في حوار مع وكالة الأناضول للأنباء أن يكون قد تم استخدامه كأداة للإطاحة بمرسي ثم الاستغناء عنه بعد ذلك6، لكن هذا النفي لا يعدو كونه وسيلة من وسائل الإنكار، فالحقيقة أن باسم حتى وإن كان قد استمر لمدة عام بعد الإطاحة بمرسي، إلا أنه لم يتناول عبد الفتاح السيسي خلال هذا العام بأي نقد، وعندما بدأ يُخطط لذلك تم وقف البرنامج فورا. وهو ما يدل على أن البرنامج كان يتحرك طوال الوقت ضمن مساحة مسموح بها مؤقتا وسيتم غلقها بعد ذلك.

هذا الاستخدام عبر عنه رسام الكاريكاتير “أشرف حمدي” الذي أبدى حزنه مما سماه “شعوره بأنه قد تم استخدامه من وسائل الإعلام في عهد مرسي” للهجوم على الأخير، حيث كان يتم استضافته في كافة الفضائيات لعرض أعماله المعارضة لمرسي، لكن بعد عزله لم تعد أي وسيلة إعلامية ترغب في استضافته.7

 

رابعا: من الثورة إلى السياسة إلى “التناقض”

في حوار له على قناة “إم بي سي مصر” أكد باسم يوسف أنه “إعلامي ساخر” وأنه لم يدع من قبل أنه سياسي أو مناضل أو ثوري. والحقيقة أن باسم يوسف غرق في السياسة منذ أن تخلى عن حياده تجاه التيارات السياسية وخطابه الذي كان يحاول فيه تجميع الفرقاء السياسيين، وهي التي ميزت برنامجه على “يوتيوب” وبدرجة أقل في قناة “أون تي في”. لكن منذ مرحلة “سي بي سي” كان من الواضح أن باسم اتخذ موقفاً سياسيًا معارضاً بشدة لنظام مرسي، حتى لو كان ذلك من خلال التحالف مع “الفلول” والعمل من خلال قنواتهم، وكان باسم يحرص في نهاية كل فقرة من فقرات برنامجه على إلقاء ما يشبه الخطاب السياسي الصريح الذي يجمل فيه موقفه من الأحداث السياسية.

هذه الخطبة السياسية التي اشتهر بها باسم في نهاية كل فقرة من فقرات برنامجه تشبه إلى حد كبير ما يقوم به باقي المذيعين في الإعلام المصري، فالمذيع تحول إلى صاحب رأي ويظهر متحدثاً عن آرائه وتوجهاته طوال الحلقة، وقد يمتد الحديث بأحدهم أمام الكاميرا لعدة ساعات دون وجود أي ضيف بجواره، وكأن البرنامج تحول إلى منبر للمذيع فقط. وهي ظاهرة لا علاقة لها بالمهنية الإعلامية، وبدا أن باسم تأثر بها في برنامجه ووجدها فرصة سانحة لتمرير ما يريد من رسائل أو مضاعفة تأثير الفقرة.

لم يُفَّوِت باسم كلمة أو خطاب أو تصريح لمرسي إلا وتناوله بالهجوم والنقد والسخرية، وهاجم الدستور الذي تم الاستفتاء عليه أواخر 2012 ودعا إلى رفضه، كما قام بتوقيع استمارة حملة “تمرد” المطالبة بعزل مرسي في برنامجه أمام الجماهير. وبعد مقتل العشرات أمام نادي الحرس الجمهوري في 5 يوليو 2013، أي بعد عزل مرسي بثلاثة أسابيع، شارك باسم يوسف في هاشتاج بعنوان “ليس انقلابا not a coup” وقال في تغريدة باللغة الإنجليزية، إن قيادات جماعة الإخوان يرسلون شبابهم ليموتوا أمام مقرات الجيش للتضحية بهم أمام العالم، وأن الدم الذي يراق في هذه الحالة هدفه الدعاية.

حتى مقالاته في صحيفة الشروق كان موضوعها الأساسي هو السياسة بالدرجة الأولى، مُكرراً مضامين برنامجه السياسي بطريقة أكثر مباشرة. لكنها حملت قدرا كبيرا من السطحية، لدرجة أن باسم تورط في اقتباس مقال ونشره منسوبا إليه، وهو ما أثار ضجة أجبرته على تقديم اعتذار.

وفي الحلقة الأولى بعد عودته في أكتوبر 2013، تضمنت الحلقة أوبريت غنائي بعنوان “بعد الثورة جالنا رئيس” تحمل إشادة لما قام به السيسي من التنكيل بالإخوان ومؤيديهم، وتحميل الإخوان المسئولية عما حدث لأنهم كانوا البادئين. وسخر الأوبريت أيضا من القبض على مرشد جماعة الإخوان ونائبه، بالإضافة إلى الداعية “صفوت حجازي” الذي ركزت عليه الأغنية بسبب محاولته تغيير ملامح وجهه أثناء محاولته الهروب.

ورغم إشادته في ذلك الأوبريت بما قام به عبد الفتاح السيسي من انقلاب وتنكيل بالإخوان وأنصارهم، إلا أن باسم نفسه عاد بعد ذلك عاد وهاجم ما قام به السيسي في محاضرة ألقاها في سيدني عاصمة ولاية نيو ساوث ويلز الأسترالية، حيث سخر من إلقاء السيسي لبيان الانقلاب على مرسي قائلا “في منطقتي الأمر لا يحتاج إلا إلى زوج من الدبابات وبيان إعلامي لتصبح رئيسًا مدى الحياة”. لكن العجيب أن باسم كان قد أشاد بهذا البيان نفسه في الأوبريت الغنائي الذي قدمه في برنامجه. (والسيسي طلع بيان.. قرر يفشخ الإخوان) (والسيسي لعبها صح.. والإخوان ابتدوا بالدح).8

تناقض آخر وقع فيه باسم، عندما قال إنه ليس من الشهامة الهجوم على الرئيس المخلوع حسني مبارك وأولاده، مؤكدا أنه لم يهاجم الإخوان بعد أن تركوا السلطة، رغم أن نفس الأوبريت الغنائي سخر من الإخوان ومرسي وهاجمهم فيها بقسوة واصفا مرسي ب”الغبي” و”الكذاب”.

والنتيجة أن باسم غرق في التناقضات وقول الشيء وعكسه وفعل أشياء ثم إنكارها بعد ذلك، وهي سمات تنطبق على السياسيين رغم محاولته التملص من تبعات ذلك. كما أن هذه التناقضات جعلته لا يختلف كثيرا عن الإعلاميين الآخرين الذين كان يسخر من تناقضاتهم كما قال في بداية مشواره الإعلامي.

 

خلاصة

بعد توقف البرنامج انتشرت عدة شائعات على مدى فترات زمنية متفاوتة تؤكد أن باسم سيعود إلى إنتاج وإذاعة البرنامج على موقع يوتيوب، لكن باسم حسم الأمر قائلا إن هذا الأمر غير ممكن، لعدم قدرته على تحمل تكلفة الإنتاج الباهظة. لكن باسم هنا كان يتحدث عن الشكل الأخير للبرنامج المعتمد على الإنتاج الضخم والمسرح الكبير والجمهور الواسع. لكن كان بإمكانه أن يعود إلى شقته لتصوير الحلقات ورفعها على يوتيوب، أي العودة إلى الشكل الأول للبرنامج.

وقد رد باسم على هذه المطالبات بالقول إن العودة من “برنامج بجمهور ومسرح” إلى يوتيوب هو “خطوة للوراء”،9 معتبرا أن إيقاف البرنامج هو “صرخة أعلى من أي شيء يمكنني تقديمه على يوتيوب أو أي وسيلة أخرى”.

لقد كان هذا الخيار موجودا دائما أمام باسم، لكنه لم يقم بتنفيذه. لقد أصبح باسم نجما لدرجة أنه لم يستطع العودة مرة أخرى إلى المربع الأول واستكمال برنامجه من المكان الذي انطلق منه: اليوتيوب. وهكذا حققت المنظومة أهدافها في استغلال باسم ثم تركته عند أول خلاف وهي مطمئنة إلى أنه لن يعود مرة أخرى، وإذا عاد سيكون في شكل بعيد عن السياسة أو بأي شكل يؤثر في المشهد العام أو يهدف إلى تغييره.

أما من جانبه، فإن باسم يدرك الفارق جيدا بين إذاعة برنامج على يوتيوب، لن يحصل في أحسن الأحوال إلا على قدر ضئيل من الأموال لا تقارن بإذاعة البرنامج على قناة تلفزيونية. فالربح أصبح هو المتحكم الأول في العملية برمتها. وباسم لا يستطيع التنازل عن الأرباح التي كان يحققها.

وقد أكد باسم أيضا أنه لن يُنفذ البرنامج خارج مصر حتى لا يتعرض للأقاويل، أي اتهامه بالخيانة، وهو تصرف ينم عن استسلام للحرب النفسية التي يشنها عليه الإعلاميون التابعون للنظام وأنصاره الذين يشككون في ولاء كل من يعارض النظام أو يعمل من الخارج.

وفي المؤتمر الصحفي الذي عقده باسم يوسف للإعلان عن وقف برنامجه، قال إن هذا الإيقاف ليس رسالة خوف إلى الشباب. لكن الحقيقة أنها رسالة مفادها أن الفرد لا قيمة له وأنه لن يستطيع تحقيق شيئا بمفرده، وأن المنظومة لابد أن تمنع الفرد من تحقيق ما يريد مهما كانت شهرته وتأثيره وحتى “جماهيريته” التي اتضح أنها لم تنفعه بشيء عندما حان وقت الجد.

تقبل باسم إذن توقيف برنامجه في هدوء لا يناسب الصخب والضجيج الذي مارسه في عهد مرسي عندما تم استدعاءه للتحقيق في مكتب النائب العام، وترك باسم مصر ليعيش في الولايات المتحدة، ولم يستطع العودة مرة أخرى حتى الآن، رغم وفاة والده أثناء تواجده بالخارج، ويؤكد في كل مرة أن عودته غير ممكنة نظرا للظروف والأجواء التي تمر بها مصر، وينتقد من يطالبه بالعودة متحدثا عن انتهاكات حقوق الإنسان في مصر والتي يتعرض لها الكثيرون.

قام باسم في النهاية بما كان يعتبره عيبا وسببا للسخرية من صفوت حجازي. فالداعية الذي تنكر ليحاول الهروب كان ينطلق من نفس المبدأ الذي رآه باسم كافيا لترك البلاد، والفارق أن الأول كان يريد الهرب عن طريق البر، والثاني خرج من المطار عبر الجو.

حتى عندما أراد باسم توصيل رسائل إلى النظام وإلى جمهوره، لم يجد منفذا سوى قناة “إم بي سي مصر” التي تنتمي إلى نفس المنظومة ليقوم بعمل حوار معها، ليتم حذف الكثير من إجاباته التي قد تثير غضب النظام عليه، ليفشل حتى في توصيل صوته بما كان يريد أن يقول. ويكتفي بمهاجمة النظام عبر حساباته وصفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي، أو حلقات معدودة يظهر فيها ضيفا في فضائيات غير مصرية.

وهكذا نجد أن باسم كان في بدايته يُمثل تحدياً للوضع القائم، ومثالاً يتعارض مع إسهامات “أدورنو” في حديثه عن “صناعة الثقافة”، لكنه انقلب في النهاية ليصبح “مثالاً حياً” يؤكدها ويثبت صحتها (10).

—————————-

الهامش

(1) “باسم يوسف مع منى الشاذلي على العاشرة مساء كاملة”، دريم، 4 أبريل 2011.

(2) “باسم يوسف على قائمة أكثر 100 شخصية مؤثرة لمجلة “تايم” الأمريكية”، الوطن، 18 أبريل/ نيسان 2013.

(3) “مدير قناة “cbc”: سعر دقيقة الاعلان على “البرنامج” قد تصل إلى 60 الف جنيه”، البورصة، 17 فبراير/ شباط 2013.

(4) “تامر أمين يهاجم باسم يوسف بعد حلقته الأولى”، روتانا مصرية، 27 أكتوبر/ تشرين الأول 2013.

(5) “رويترز: باسم يوسف يعود على «mbc مصر» لينتقد الإعلام وجمهور السيسي في البرنامج”، بوابة الشروق، 8 فبراير/ شباط 2014.

(6) “باسم يوسف: لم استخدم كأداة للإطاحة بحكم مرسي”، الجزيرة مباشر، 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 2015.

(7) “رسام كارتون: في عهد السيسي .. دوري انتهى مثل باسم يوسف”، المصريون، 9 أغسطس/ آب 2015.

(8) مثل شعبي مصري استخدمه باسم يوسف في الأغنية لتحميل الإخوان المسئولية عما حدث في فض ميدان رابعة العدوية في 14 أغطس/ آب 2013.

(9) “الإعلامي المصري الساخر باسم يوسف: لست نادما على انتقاد محمد مرسي”، أرابيان بيزنس، 23 فبراير/ شباط 2015.

(10) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.

أسامة الرشيدي

باحث وإعلامي مصري، بكالوريوس إعلام، جامعة القاهرة، 2010، منتج تخطيط، شبكة الجزيرة الإعلامية، قطر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى