الشرق الأوسطتقارير

كيف تُفسِّر الجغرافيا الأسباب العميقة للثورات العربية؟

بعد مرور قُرابة التسع سنوات من حادثة البوعزيزي، لا تزال “منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا” تعيش غلياناً شعبياً متفاوتاً يخمد هنا ليشتعل هناك، إذ لم تنته إلى الآن آثار الشرارة التّي أطلقتها “الثورة التونسية” وعمّت كافة المنطقة، وبالرغم من الحجم الجغرافي الصغير لتونس وإمكانياتها البشرية والمادية المحدودة جدّاً مقارنةً بجيرانها، إلاّ أنّ ما حدث بها سنة 2011 تسبّب حقّاً فيما اصطلح على تسميته في الأدبيات السياسية والأكاديمية “بمفعول الفراشة” أو “مفعول كرة الثلج”، مُؤثّرةً على التفاعلات السوسيواقتصادية والاستراتيجية لمساحةٍ جغرافيةٍ واسعة النطاق من العالم، بل وامتدّ أثر “كرة الثلج هذه” ليُعيد تشكيل العلاقات –أو يُكرّسها- بين قوى دوليةٍ وإقليميةٍ فاعلةٍ على غرار ما صار بادياً للعيان في سوريا. وإذا كان هناك إجماعٌ بين الباحثين حول طبيعة الأثر الذّي أحدثته الثورة التونسية في هذا الصدد، فإنّ هناك اختلافات واسعة -تصل حدّ التضارب- بخصوص الأسباب المركزية أو لنقل الجذور العميقة التّي فجرّت هذه الثورة، ووقفت وراء انتشار آثارها في كافة المنطقة بطرقٍ متفاوتة.

تحاول هذه الورقة الاستعانة بما يُقدّمه عِلم الجيوبوليتيك من طروحاتٍ كانت غائبةً كثيراً عن التحليلات العربية المُقدّمة لهذا الحدث الكبير، والتّي اهتمّت غالباً بربط هذه “الثورات” بمجموعة من الأسباب السوسيواقتصادية المرتبطة بالحالة المتدهورة للمواطن التونسي والعربي عموماً أو بتلك العوامل السياسية المحضة المتعلّقة بانسداد آفاق الديمقراطية في المنطقة. أمّا هذه الورقة فتعتمد على الدور المحوري لعامل الجغرافيا كمتغيّر تفسيري مستقل في تحليل الجذور العميقة لهذه الثورات أو الانتفاضات الشعبية، متسائلةً عن سبب انطلاق هذه الثورات من تونس تحديداً، ثمّ لماذا أخذت الثورة منحى مسلّح عنيف في دولٍ كليبيا وسوريا بينما تجنّبت الانزلاق إلى الفوضى في دول أخرى على غرار تونس، مصر والجزائر؟ تُحاجج هذه الورقة بأنّ علم الجيوبولتيك قادرٌ على تقديم “إجاباتٍ جغرافيةً” عن ذلك، وسوف تحاول قبل ذلك تقديم مُلخّصٍ عام عن تطوّر هذا العلم وكيف ظلّت الجغرافيا عاملاً محورياً في تفسيراته المقدّمة بالرغم من كلّ التحوّلات التّي عرفتها الساحة العلمية والعملية منذ ظهوره إلى الآن.

1. تحدّي البقاء: ملخّص عام عن تطوّر علم الجيوبوليتيك:

سوف تبدو أيُّ محاولةٍ ترتكز على عامل الجغرافيا لتفسير حدثٍ راهنٍ محاولةً عقيمةً تتجاهل الخصائص الجديدة لهذا العصر، خاصّة تلك المتعلّقة بدور العولمة والتكنولوجيا في تقليص أو إنهاء فاعلية المكان/الجغرافيا أثناء التحليل، إلى الحدّ الذّي جادل فيه باحثون كثر منذ نهاية الحرب الباردة “بموت الجغرافيا وانتهاء عصر الجيوبولتيك”.

طبعاً، فإنّ نقاشاً جدلياً كهذا سوف يُفهم بشكلٍ أفضل إذا ما وُضع في سياقه النظري والإبيستيمولوجي الكبير، فالمحاججون باستمرار تأثير عامل الجغرافيا في السياسة الدولية منتمون في الغالب إلى المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية وإلى المنظور الوضعي الذّي تندرج ضمنه هذه المدرسة والمرتكز (في إحدى أعمدته) على أهمية العوامل المادية في التحليل كما يُعدُّ التاريخ في نظر هذه المدرسة مختَبراً أساسياً لتفسير معطيات الحاضر والتنبؤ بالمستقبل أيضاً، في حين ينتمي المجادلون بموت الجيوبولتيك وانتهاء أثر عامل الجغرافيا في العلاقات الدولية إلى المدرسة الليبرالية التّي تُولي أهميةً قصوى لأثر الارتباطات الاقتصادية والتكنولوجية التّي أنتجتها العولمة على العلاقات بين الأمم، في حين تنظر تيّاراتٌ نظريةٌ أخرى قادمةٌ من منظورٍ غير وضعي إلى المسألة بطريقةٍ أخرى، مراجعةً أسس هذا العلم أصلاً ودلالات مصطلحاته المركزية على غرار مصطلح الجغرافيا/ المكان نفسه، مُضيفةً أبعاداً لا ماديةً في تعاطيها مع الموضوع.

اعتُبرت الجيوبولتيك عند بداية ظهورها ذلك العلم الذّي: “يهتّم بالدولة باعتبارها كياناً جغرافياً وظاهرةً في حيّزٍ فضائيٍ ما”، على حدّ تعبير رودولف تشيلين. لقد نظرت الجيوبوليتيك دوماً إلى الإقليم الأرضي كونه محدّداً لتطوّر الدول، فهي العلم الذّي ربط بين الجغرافيا كمعطى مادي وبين الدولة ككيانٍ سياسيٍ عضوي، فقد نظر الجيوبولتيكون الأوائل إلى الدولة باعتبارها كائناً عضوياً متطوّراً، على غرار الإنسان الكائن الحيّ الذّي ينمو فتضيق عليه ملابسه فيضطر إلى توسعتها، كذلك الدولة فهي تحتاج في نظرهم إلى ضمّ أقاليمٍ إليها حتّى تنمو وتتطوّر.1 لقد ساد هذا الطرح في البداية بين الألمان منذ مطلع القرن التاسع عشر منشئاً بذلك أولى مدارس هذا الحقل، أي المدرسة الألمانية العضوية، التّي استلهمت هذا الطرح من الثورة التّي كان يقودها الألماني تشارلز داروين آنذاك في حقل البيولوجيا، فأدّى ذلك إلى ظهور البيوبوليتيك والجيوبولتيك. أهّم خاصيّة تميّزت بها المدرسة الألمانية في الجيوبولتيك أيضاً هي ارتكازها على مبدأ الحتمية الجغرافية، فالجغرافيا معطى مادي لا يُناقش أبداً بل يتّم التكيّف معه ومسايرته، فهي العامل الذّي يقف وراء طبيعة سلوكيات الدول وتوجّهاتها الخارجية، إنّه العامل الذّي يُحدّد طبائع ومصائر الشعوب والأمم أيضاً.

لقد كانت ظروف الحربين العالميتين الأولى والثانية مناسبةً جدّاً لينمو هذا العلم ويتطوّر، إذ برزت نظرياتٌ عديدةٌ بين الألمان خصوصاً فاشتهرت أسماءٌ على غرار فريديريك راتزل، كارل هاوسهوفر، كارل شميدت وغيرهم، كما أبدع العلماء في صياغة نظرياتٍ ومصطلحاتٍ عديدةٍ عزّزت من حضور هذا العلم وتأثيره على صنّاع القرار آنذاك على غرار نظريات قلب العالم، حافة الأرض، منطقة المصير، بؤرة التوتر، المجال الحيوي، المجال الكبير، القوة البرية، القوة البحرية، القوة الجوية، وغيرها.

بعد الحرب العالمية الثانية وانهزام النازية والفاشيات الأوروبية صارت كلمة جيوبوليتيك كلمةً منبوذةً، فلطالما ارتبطت بمفاهيم التوسّع والاحتلال حتّى أنّها أُلغيَت من جامعاتٍ كثيرة، وصار يُنظر إليها بمثابة “الطفل غير المرغوب به” للعلوم السياسية والجغرافيا، إذ ينتقد الجغرافيون الجيوبوليتيك لارتباطها الشديد بالسياسة، الحرب والتوسّع، في المقابل، يلوم الباحثون السياسيون الجيوبوليتيك لتركيزها أكثر من اللازم على الجغرافيا. لقد ألقى الجميع باللائمة على الجيوبوليتيك “لإطلاقها العنان للجحيم”، من خلال منحها العنف أُسساً إيديولوجية.2

وبالرغم من أنّ مرحلة الحرب الباردة قد عرفت تماهياً تاماً لقوانين الجيوبولتيك التقليدية على غرار تجسيدها المطلق لثنائية صراع قوى البر (الإتحاد السوفياتي) وقوى البحر (الغرب الأطلسي)، إلاّ أنّ ما حملته هذه المرحلة من تطوّرٍ هائلٍ في التكنولوجيا الحربية الإستراتيجية كظهور الصواريخ العابرة للقارات، الأقمار الصناعية المُستخدَمة لأغراضٍ عسكرية (حرب النجوم) قد تسبّب بالفعل في مراجعة الكثير من منطلقات هذا العلم وأهميّة عامل الجغرافيا المادي أثناء التحليل، فقد بدا بأنّ الطائرات النفاثة والصواريخ العابرة للقارات قيد ميّعت الأرض وأفقدت الجغرافيا أهميتها القديمة سواء في التحليل أو في تصميم الإستراتيجيات الكبرى والخطط التكتيكية للدول أثناء الصراعات والحروب. مع ذلك، فقد حاول هذا العلم (الجيوبولتيك والجيوستراتيجيا) التكيّف مع المعطيات الجديدة، وبرزت نظرياتٌ جديدةٌ تُولي أهميّةً للفضاء الخارجي ولقوى الجو على غرار نظرية منطقة المصير لألكسندر دي سفريسكي. لكن رغم ذلك بدا الأمر وكأنّه محاولةٌ من علماء الجيوبولتيك/الجيوستراتيجيا لإيقاف عجلة التطوّر الذّي عرفه العالم آنذاك.

شهدت فترة السبعينات من القرن العشرين وما بعدها ثورةً معرفيةً مع انتشار النظريات ما بعد البنيوية والبنائية، ومصطلحات التفكيك عند جاك ديريدا والأركيولوجيا المعرفية عند ميشال فوكو (الـ ما بعد وضعيين)، أبرزت هذه النظريات الجديدة دور العوامل اللامادية كاللغة والخطاب، الأفكار والتصوّرات في السياسة الخارجية، كما حاججت بأهميّة البنى التاريخية والاجتماعية في تحليل العلاقات الدولية بدلاً من الارتكاز على العوامل المادية في التحليل على غرار الجغرافيا أو النتائج الحتمية للطبيعة البشرية أو سمة الفوضى الدولية التّي روّج لها الوضعيون باعتبارها معطى حتمي. كما ظهر مصطلح المنظور مع توماس كون الذّي أحدث نقلةً نوعيةً في طبيعة النقاشات النظرية داخل حقل العلاقات الدولية عموماً آنذاك، وكلّها تحوّلاتٌ كان لها تأثيرٌ قويّ على حقل الجيوبولتيك الذّي صار يعرف بدوره مراجعةً لأُسسه الإبستيمية، حتّى سطع نجم الجيوبوليك النقدية أو جيوبوليتيك ما بعد الحداثة كما تُسمّى أيضاً باعتبارها البديل الأنسب للجيوبولتيك التقليدية التّي غدت مرتكزةً على أسسٍ هشّة غير قادرة على المحاججة في عصر التكنولوجيا والعولمة كما يدّعي هؤلاء.

لا ننس بأنّ تحوّلاتٍ معرفيةٍ كهذه كانت قد تزامنت مع المجهودات المعرفية التجديدية للمدرسة الفرنسية في الجيوبولتيك، فمنذ سبعينات القرن المنصرم بدأ الفرنسي إيف لاكوست (Yves Lacoste) في نشر مجلة “هيرودوت”، والتّي صار من خلالها المؤلّفون يكتبون عن الجيوبوليتيك بشكلٍ جديد، فقد تحدّت المدرسة الفرنسية منذ زمن فيدال دي لابلانش3 عدوانية الألمان وارتكازهم على مبدأ الحتمية الجغرافية في التحليل، بل وحاولت كسر هذه الحتمية من خلال تركيزها على الإنسان صانع القرار باعتباره الفاعل الأهم على المسرح الدولي القادر على تفعيل هذه الأرض أو تعطيل قدراتها عبر مبادراته السياسية.4

مع سقوط الإتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة بتلك الطريقة غير المتوقعة من طرف نظريات الباراديغم الوضعي المادي، تنامت أهميّة التيارات النظرية الجديدة المرتكزة على عوامل غير ماديةٍ من جهة، كما فرضت نتائج العولمة معطياتٍ مغايرةٍ من جهةٍ أخرى، هكذا وجدت الجيوبولتيك نفسها محاصرةً من جميع الجهات، ومُطَالبةً إمّا بالإخفاء (طروحات موت الجغرافيا) وإمّا بتجديد ذاتها (الجيوبولتيك النقدية) وفقاً للمعطيات الإبستيمية والإمبريقية الجديدة على حدٍّ سواء.

لكن، وبالرغم من كلّ هذه التحوّلات، إلاّ أنّ علماء الجيوبولتيك الجدد ظلّوا مُصرّين على المحاججة بأهميّة عامل الجغرافيا أثناء التعاطي مع التفاعلات العالمية الراهنة، بل وإنّ محاولاتٍ جدّيةٍ لأجل إحياء الجيوبولتيك التقليدية القديمة ظلّت تتعاقب منذ نهاية القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين، فقد عرفت الجيوبولتيك الكلاسيكية مرّةً أخرى انتعاشا مع ظهور نظرياتٍ جديدةٍ ذات صيتٍ وتأثيرٍ قويّ داخل الأروقة السياسية لدولٍ كبرى “كالماكيندرية الجديدة” مع الأمريكي زبنغنيو بريجانسكي في كتابه “رقعة الشطرنج الكبرى” أو “الأوراسية الجديدة” مع الروسي ألكسندر دوغين في كتابه “أسس الجيوبوتليك: مستقبل روسيا الجيوبوليتيكي” أو مُؤخرّاً مع الأمريكي روبرت كابلان في جلّ كتبه سيما كتابه الأشهر “إنتقام الجغرافيا”، بالاضافة إلى إسهاماتٍ عديدةٍ من منظرّين معاصرين محسوبين على تيّار الواقعية الكلاسيكية الجديدة على غرار جون ميرشايمر الذّي يحتل عامل الجغرافيا أهميّةً معتبرةً في كتاباته.

لقد حاجج هؤلاء جميعاً بأنّ الجغرافيا ظلّت مهمّةً، صحيحٌ فلربّما جعلت عوامل التكنولوجيا والاتصالات الجغرافيا أكثر خنقاً إلاّ أنّها لم تقتلها أو تُبطل مفعولها أبداً، بل تسبّبت في زيادة تأثير كلّ منطقةٍ على أخرى بشكلٍ غير مسبوق، لقد صارت كلّ المناطق في نظرهم الآن مهمّةً خلافاً للماضي، فكلّ بلدٍ يمكن أن يكون اليوم بلداً مركزياً ومؤثّراً: “لقد تعوّدنا في الماضي على القول بأنّ أفريقيا غير مهمّة، أمريكا اللاتينية غير مهمّة، لكن الآن كلّ الأقاليم مهمّة بغضّ النظر عن موقعها أو حجمها، ولأجل تحصيل مستوى فهمٍ عميقٍ لما يحدث في الأرض عموماً، أو في بلد ما على وجه التحديد فعلينا أن ندرس هذه الأرض بتفاصيلها، أن ندرس تاريخها المتأصّل أساساً في جغرافيتها”، على حدّ تعبير روبرت كابلان في إحدى محاضراته. باختصار، فقد ظلّت الجغرافيا بمثابة القانون الأكثر ثباتاً في التفسير والتأثير رغم كلّ التحوّلات التّي عرفها العلم والعالم.

2. الجذور العميقة للثورات العربية: تبصُّراتٌ من الجيوبولتيك الكلاسيكية:

كما ذكرنا سابقا، فإنّ هذه الورقة تريد المحاججة بالأهميّة المحورية لعامل الجغرافيا في تفسير جذور “ثورات الربيع العربي” والمنحى المتباين الذّي أخذته، مُجادلةٌ بأنّ الجيوبوليتيك الكلاسيكية قادرة على تقديم تبصّراتٍ جيّدةٍ في هذا الصدد.

أ. تونس ومصر، عقلية الدولة المتأصلّة:

لقد بدأ “الربيع العربي” من تونس في الأسابيع الأخيرة من سنة 2010، لم يكن من الصدفة بمكان أن ينطلق من تونس تحديداً لأسبابٍ عديدة، فتونس تُعتبر أكثر الدول العربية قرباً لأوروبا من الناحية الجغرافية، وقد كانت في معظم تاريخها مرتبطةً بعلاقةٍ متبادلةٍ بصقلية الإيطالية، صحيح أنّ المغرب الأقصى أكثر قرباً لإسبانيا من قرب تونس لإيطاليا، إلاّ أنّ إيطاليا كانت قلب أوروبا النابض منذ القدم، بهذا المعنى فإنّ تونس أقرب جغرافياً إلى قلب أوروبا من المغرب إليه، أي أكثر الدول العربية “أورَبةً” إن صحّ التعبير.

يُؤكّد الجيبوليتيكي الأمريكي روبرت كابلان أنّ الرغبة في تحصيل مستوى فهمٍ عميقٍ لما يحدث في أيّ بلدٍ أمرٌ مرتبطٌ بمدى قدرتنا على دراسةِ جغرافيا هذا البلد بتفاصيلها ودراسة تاريخها المتأصّل أساساً في جغرافيتها تلك. لقد أُسّست تونس كما هو معروفٌ من طرف القرطاجيين القدماء والرومان، فالمتجوّل بالقسم الشرقي الشمالي من تونس سوف يلحظ آثاراً لطرقٍ رومانيةٍ وبيزنطيةٍ قديمة، بمعنى آخر، فقد كانت تونس دولةً حقيقيةً، تكوّن لديها تاريخياً منطقُ وعقلية الدولة بمفهومها الحديث، لقد كانت تحوز مؤسّساتٍ حقيقيةٍ تُؤدّي وظائفها البيروقراطية والسياسية، أي كان لها خاصيةٌ حاسمةٌ من خصائص الحوكمة، على غرار المكاتب البيروقراطية، الخدمات الزراعية، المجاري المياه وما شابه، في وقتٍ لم تكن فيه كثير من دول العالم تحظى بذلك، وقد احتفظت بذلك في المراحل التاريخية اللاحقة ما بعد القرطاجيين، في مرحلة البيزنطيين، الوندال، العثمانيين، الحفصيين وغيرهم. في سنة 202 قبل الميلاد، دمرّ القائد الروماني سكيبيو أفريكانوس (Scipio Africanus) قرطاجة، وقام بترسيم خطٍّ (لما يُشبه الحدود السياسية للدولة) بين منطقة طبرقة شمال غرب تونس على المتوسط إلى الجنوب نحو منطقة قابس، ثمّ يعود الخطّ شرقاً ويتجّه شمالاً إلى المتوسط ثمّ يصل طبرقة من جديد. كانت هذه المنطقة منطقةً مركزيةً للتطوّر الذّي عرفته تونس عبر التاريخ إلى اليوم، كانت منطقة تطورٍ للإقتصاد والمؤسسات، المنطقة التّي ترتكز فيها كثافةٌ سكانيةٌ أعلى، أمّا المنطقة الواقعة خارج هذا الخطّ فهي أقل تطوّراً وفقراً (ولا تزال)، فالجنوب الشرقي والجنوب الغربي للبلاد لا يزال فقيراً وقريباً حقّا من أفريقيا الفقيرة لا من أوروبا كالشمال. لذلك، لم يكن الأمر صدفةً إذا علمنا أنّ محمد البوعزيزي (شرارة الربيع والثورة) كان يقطن في منطقةٍ تقع خارج خطّ منطقة التطوّر المركزية قليلاً المسمّاة بمنطقة سيدي بوزيد وسط تونس إلى الجنوب قليلاً، فهي منطقةٌ محرومةٌ، على القرب من منطقة التطوّر الحضاري التاريخي المتطلّع إلى أوروبا.5

قرب تونس الجغرافي من قلب أوروبا وارتباطها التاريخي بها جعلها عبر الزمن عُرضةً لرياح الحداثة والتنوير القادمة من هناك، لقد بدا ذلك واضحاً في حقبتها الحديثة منذ السنوات الأولى للاستقلال، فالرغم من النظرة السوداوية التّي يحملها كثيرٌ من التونسيين اليوم عن حقبة بورقيبة ثمّ بن علي باعتبارها حقبة الدكتاتورية، الظلم، والاضطهاد السياسي، فقد كان لها تأثيرٌ إيجابيٍ على البلد من جهةٍ أخرى في بلوغه المسار الذّي وجّه إلى الثورة ومنع البلاد من الانزلاق الى العنف المسلّح في آن، فرغم سلبيات هذه الحقبة إلاّ أنّها كانت الحقبة التّي حافظت فيها تونس نوعاً ما على نقاط التماس التاريخية الحضارية بين قرطاج القديمة-تونس وروما-أوروبا (بالأخصّ حقبة بورقيبة) أي الفترة التّي أحيَت فيها تونس من جديد عقلية الدولة كما كانت في القدم، لقد سمحت تلك الحقبة لأفكارٍ إيجابيةٍ كثيرةٍ بالتدفق والاستمرار في التدفق إلى الوعي الجمعي التونسي عبر التعليم والإعلام وما شابه من المؤسّسات على غرار الأفكار الداعية إلى الحريّة، الحقّ الإنساني، علمنة الدولة، التعدّدية السياسية، نبذ الطائفية، المجتمع المدني، الدولة المدنية، دولة المؤسسات وغيرها، رغم الجدل الذّي أحدثته في المجتمع بين المُثل التّي تعكسها هذه المبادئ وانتقائية تجسيدها على أرض الواقع من قِبل النظام السياسي أو بين رؤية كلٍّ من التيارات المحافظة والحداثية لها هناك، إنّها جميعاً أفكارٌ يُعاد اليوم إنتاجها بطريقةٍ أكثر مراعاةٍ ربّما لخصوصية المجتمع التونسي الحديث. باختصار، لقد كانت الثورة في تونس محاولةً للعودة إلى التاريخ المتأصّل في جغرافيتها وتحدّي هذا الواقع المزرى المزيّف والمخالف لمسار تاريخها الطبيعي، لقد دفعت الجغرافيا البلد دفعاً نحو مصيره الحتمي المتأصّل في تاريخه العريق.

يتشابه الوضع في تونس مع بلد آخر بالمنطقة وهو مصر التّي كانت ثاني بلدٍ ينتقل إليه “عدوى الثورة التونسية” ولم يكن ذلك أيضاً مصادفةً في نظر كابلان، فمصر عرفت بدورها حضارةً ضاربةً في عمق التاريخ، حضارة النيل، فتكوّن لديها على غرار تونس ذهنية الدولة ومنطق رجل الدولة أيضاً، صحيحٌ أنّ كلا البلدين يعرف مشكلاتٍ سياسية داخلية، فتونس تتأرجح بين حكومة ضعيفة وأخرى، في حين تقبع مصر تحت نظامٍ أوتوقراطي عسكري، رغم ذلك فإنّ هناك مؤسساتٌ قائمةٌ تمارس عملها في نهاية المطاف، المؤسسة العسكرية ذاتها هي مؤسّسةٌ تمارس مهمّة الحوكمة وتدير البلاد بشكلٍ مستقرٍ من الناحية الأمنية والسياسية على الأقل.6 هذه إحدى الأسباب التّي جعلت الثورة في تونس ثمّ في مصر لا تذهب الى العنف المسلح وتغرق في حروبٍ عسكريةٍ داخليةٍ كما حدث في ليبيا مثلاً.

ب. ليبيا، سوريا، اليمن والعراق، تشكيلاتٌ جغرافيةٌ مُصطنعة:

الوضعية التّي عرفتها تونس ومصر لا تتشابه مع تلك التّي عرفتها أو تعرفها دول على غرار ليبيا، سوريا، اليمن والعراق، فهذه المناطق لم تكن لمدةٍ طويلةٍ دولاً بل كانت تعبيراتٍ جغرافيةٍ مائعةٍ عن الدولة أو امتداداً طبيعياً لدولٍ أخرى حقيقية كما يُحاجج كابلان. مثلاً فإنّ طرابلس التّي تقع غرب ليبيا وتتمركز فيها حكومة الوفاق ما هي إلاّ امتدادٌ تاريخيٌ لقرطاجة القديمة، أمّا بنغازي شرق ليبيا التّي يهيمن عليها حفتر فما هي إلاّ امتدادٌ للإسكندرية وحضارة مصر القديمة. لم تكن هناك أبداً دولةٌ اسمها ليبيا إلاّ في العصر الحديث، لذلك، نرى بأنّ النقاش بين الليبيين يتعدّى اليوم مجرّد مسألة من يدير ليبيا إلى طرح أسئلةٍ مُقلقةٍ عن مدى استمرار وجود دولةٍ اسمها ليبيا من الأساس في المستقبل المنظور. يصف كابلان مناطق مثل سوريا، ليبيا، العراق بالمناطق الاصطناعية من الناحية الجغرافية، فأنظمة سياسية على غرار النظام في مصر وتونس قد تكون أنظمةً أوتوقراطيةً بالفعل لكنّها أقلّ بكثير عن النظم في ليبيا، سوريا أو العراق التّي تحكم دولاً من صنع الغرب وبريطانيا في الأساس.7

وإذا كان للجغرافيا دوراً فاعلاً في تفسير ما حدث في تونس ومصر باعتبارهما حضاراتٍ قديمة استمرت في الحفاظ على عقلية الدولة كما قلنا، فماذا عن دولٍ كاليمن أو العراق مثلاً والتّي عرفت بدورها حضاراتٍ ضاربةٍ في القدم؟ بخصوص اليمن، فقد كانت بالفعل حضارةً قديمةً أيضاً، لكنّها ظلّت مُقسّمةً جغرافياً بشكلٍ حادٍ إلى نصفين بسبب سلسلة الجبال الضخمة هناك، فلا الأتراك العثمانيون ولا البريطانيون استطاعوا حكمها من الداخل، واكتفوا بإدارتها من الساحل والأطراف لا من العمق، لذا لم يصل أثرهم الفكري، السياسي والإداري إلى عمق المجتمع وتفكيره. إنّ التكوين الطوبوغرافي الجغرافي لليمن المليء بالجبال يجعل كلّ سفحٍ ومنطقةٍ جبلية تحت حكم قبيلةٍ ما بدلاً من حكم الدولة المركزي، حتّى عبد الله صالح في أحسن أيّامه كان يدير على الأكثر 60% من بلاده فقط بسبب ذلك.8 بخصوص العراق فقد أبعدته جغرافيته الشرقية عن الأفكار الديمقراطية القادمة من أوروبا، كما هيمنت عليه منذ القدم عقلية الرجل الحاكم المخلّص فضلاً أن تشظيه المذهبي بسبب تموقعه الجغرافي الحرج قد جعل من إمكانية تشكّل عقلية الدولة والمؤسّسات به أمراً صعباً للغاية. مُحصّلة القول إنّ الجغرافيا كانت بمثابة العامل الأساسي المتحكّم في تشكّل عقلية الدولة ثمّ محاولة استرجاعها عبر الثورة في أماكن بعينها وأيضاً في إعاقة حدوث ذلك في أماكن أخرى بالتوازي.

ج. الجزائر، انتصار الحتمية الجغرافية:

استمرارا في المحاججة بالأهميّة القصوى لدور عامل الجغرافيا في تفسير أسباب حدوث “الثورة” أو إعاقتها، تُعتبر الجزائر مثالاً جيّداً لتأكيد ذلك. تشهد الجزائر اليوم وضعاً جديداً في تاريخها المعاصر، هذا البلد وبالرغم من التشابه القائم بينه وبين تونس فيما يخصّ قربه الجغرافي من أوروبا ومعرفته لحضارةٍ قديمةٍ كانت موازيةً لحضارة القرطاجيين والرومان أي حضارة النوميديين العريقة، إلاّ أنّه ظلّ بلداً محكوماً بالاستبداد وتخلّفت عنه موجات الديمقراطية كثيراً مقارنةً بجيرانه على الأقل، لعلّ الأسباب الكامنة وراء ذلك كثيرة لكنّ أهمّها في نظرنا هو عامل الجغرافيا دوماً، فالجزائر من حيث تركيبتها الجغرافية متكوّنةٌ من شمالٍ محدودِ المساحة كثيف السكان، وجنوبٍ ذي صحراءٍ شاسعةٍ جدّاً غير صالحةٍ للعيش الآن تُمثّل أكثر من 80% من المساحة الإجمالية للبلد وهي المصدر الرئيسي للدخل القومي هناك (97%) منذ الاستقلال لما تتميّز به من موارد باطنية ثريّة تكتنزها هذه الجغرافيا. إنّ التموضع الجغرافي المتميّز الذّي يحظى به شمال البلاد (ساحل بحري طويل، مناخ متوسطي منعش، غابات وجبال..) جعله عبر التاريخ محطّاً لأطماع الغزاة القادمين من أوروبا الذّين استوطنوا المنطقة، همشّوا واستعبدوا سكانها الأصليين الذّين ظلّوا منذ فجر التاريخ يخوضون حروب مقاومةٍ ضدّ كل الأجانب الذّين أرادوا حكم هذه الجغرافيا بالقوة منذ انتهاء عصر دولة النوميديين إلى أن أخرجوا آخر الغزاة الفرنسيين سنة 1962. لقد قضى الاستيطان الفرنسي -بالأخصّ- على عقلية الدولة والمؤسّسات في الوعي الجمعي لهذه الجغرافيا، نظراً لاعتباره الجزائر قطعةً فرنسيةً محضةً متوضعةً جنوب المتوسط، بل مُجرّد مصدر خامٍ للجند والحديد يُشحن لفرنسا وقت الحاجة. بعد الاستقلال رأى صنّاع القرار الجزائريون أنّ دولةً فتّيةً هدّمها الاستيطان الفرنسي تحتاج إلى حكم رجلٍ قويّ حتّى تنهض، فحُكمت الجزائر في مراحلها الأول بعقلية الرجل الواحد لا عقلية الدولة والمؤسّسات أي مرحلة الرئيس هواري بومدين، ثمّ دخلت بعد انتهاء مرحلته حقبة حكم الأولغارشية العسكرية التّي اعتمدت ديمقراطية الواجهة لتسيير البلاد سياسياً والأهم استغلت ثراء الجغرافيا الجزائرية لتعزّز حكمها بعد ذلك، لذا فقد كانت الموارد الطبيعية الثريّة التّي تميّز بها هذه الجغرافيا عاملاً معيقاً نحو انفتاح البلاد على الديمقراطية الحقيقية (نظرية لعنة الموارد لمايكل روس)، فسياسة “شراء السلم الاجتماعي” والتغطية على الكوارث التنموية للبلاد بريع النفط كانت بمثابة الأسلوب السائد لدى العسكر وواجهتهم السياسية لأجل إحكام السيطرة على البلاد وإفشال تطلّعات الشعب نحو التحرّر منذ تلك الفترة، لهذين السببين، أو ما نُسميّه بثنائية المستعمر والمستبد، نعتبر الجغرافيا في الحالة الجزائرية عاملاً تسبّب بطريقة ما في تأخّر موجة التغيير فيها على غرار ما حدث في تونس مثلاً سنة 2011. مع ذلك، فإنّ ما يحدث اليوم في الجزائر نراه محاولةً للتحرّر من الاستغلال السلبي للإنسان (المستعمر ثمّ المستبد) لعامل الجغرافيا على حساب تطلّعات الحرية وبناء الدولة، ليس من المرجّح أن تذهب هذه الدولة إلى التفكّك والحروب على غرار ما حدث في ليبيا أو سوريا وذلك بفضل عامل الجغرافيا أيضاً، فعلى هذه الجغرافيا بُنيت أكثر الحضارات قِدماً وأكثر الدول قوّة أي حضارة ودولة النوميديين الضاربة في عمق التاريخ والتّي كانت على تفاعل دائمٍ في التاريخ بدولة قرطاجة وروما، فعقلية الدولة سوف تبقى كامنة في العقل الجمعي لهذ الجغرافيا، كما ظلّت متواجدة في تونس القرطاجية أو مصر القديمة، لذا لابّد وأن يُقيم حراك الجزائر القائم جسراً حضارياً مع تاريخ هذه الجغرافيا العريق لأجل استرجاع الدولة المأمولة، فهذا الحراك لا نراه سوى استجابة لحتميات الجغرافيا وقدرها الحضاري ولو تسبّب الإنسان (المستعمر ثمّ المستبد) في تأخير هذا القدر إلى حين.

بديلاً عن الخاتمة:

قد يُوجّه إلى المُحاججة الواردة هنا “تُهمة الاختزالية” في الطرح نظراً لاعتبار الجغرافيا عاملاً مستقلاً أساسياً في التحليل بشكلٍ يجعل من العوامل الأخرى أقلّ مركزيةً وهامشية، كما قد “تُتهّم” بميلها إلى الطروحات المعرفية الغربية أو ما يُسمّى عادةً “بفخّ المركزية الأوروبية”، وذلك حينما جعلت من مسألة الاقتراب الجغرافي لقلب أوروبا النابض بالأفكار التحرّرية مسألةً مهمّة في اتجاه بعض الدول العربية إلى الثورة ومحافظتها على السلمية وعدم انجرارها للعنف المسلّح، فقد ساهم هذا القرب في تشكيل عقلية الدولة والمؤسّسات كما حاججت الورقة. بالنسبة للمسألة الأولى، فإنّ انطلاق أيّ باحثٍ في تحليله لمسألة ما من الاعتماد على عاملٍ مركزيٍ واحد يُعدّ في نظرنا أكثر الأساليب المُساهِمة في تطوير حقل العلم الذّي يبحث فيه، إنّ ذلك من شأنه أن يخلق ما يُشبه الفلسفات النسقية التقليدية التّي تتخّذ من متغيّرٍ واحدٍ محوراً يدور حوله الوجود والمعرفة والقيم، على غرار الفلسفة المادية الماركسية التّي تجعل من المادة عاملاً مستقلاً مُفسّراً لحركة التاريخ مثلاً، إنّ التركيز على عاملٍ واحدٍ في التحليل هو الطريقة التّي خُلقت بها النظريات وتطوّرت بها حقول المعرفة الإنسانية، أمّا حشد العوامل العديدة في تفسير ظاهرةٍ ما فلن يؤدّي في غالب الأحيان سوى إلى اجترار المعرفة أو في أحسن الأحوال إلى مجرّد تقديم صورةٍ شاملةٍ عن الموضوع المبحوث، لهذا السبب، كانت الجغرافيا هنا محوراً تدور حوله مهمّة التفسير.

أمّا بالنسبة للمسألة الثانية والمرتبطة “بفخّ الوقوع في المركزية المعرفية الأوروبية”، فهي تُهمةٌ متهافتة تقع بدورها في فخّ الذاتية والأحكام القيميَة المُعظِّمة للأنا المُتضخّم والمتنكّرة بالتالي لكلّ ما يصدر عن غيره، فالمعرفة في نظرنا قبل كلّ شيء معرفةٌ إنسانية يبنيها الإنسان بغضّ النظر عن جنسه أو لونه أو ديانته عبر التثاقف والتفاعل الحضاري عبر الأزمان في السلم والحرب، نُدرك حقيقةً أنّ كلّ معرفةٍ تُخفي خلفها سلطة كما يقول ميشال فوكو أو تُخفي وراءها مصلحةً ما كما يُحاجج يورغن هابرماس، إلاّ أنّ القراءة النقدية المنصفة لن تصل في النهاية إلاّ إلى الإقرار بدور الغرب في إنضاج الفلسفة السياسية الحديثة كما نتعاطاها اليوم وما أنتجته من نظرياتٍ ونماذجٍ معرفيةٍ في السياسة والدولة والحكم وعلى رأسها مسألة الدولة المدنية التّي يحكمها منطق المؤسّسات البيروقراطية لا منطق الأشخاص المخلّصين. فضلاً عن ذلك، فإنّ الاستعانة في هذه الورقة بالطرح الذّي يُقدّمه روبرت كابلان خصوصاً في بعض كتباته مسألةٌ خضعت لقراءةٍ نقدية منّا، فطرح كابلان يُظهر على سبيل المثال جهله أو إنكاره لوجود حضارةٍ عريقةٍ كانت موازيةً لحضارة القرطاجيين والرومان قديماً أي حضارة النوميديين شرق وغرب الجزائر (2500 سنة قبل الميلاد)، فهو يجعل من تونس والمغرب في خانة واحدةٍ لتلك الدول التّي عرفت على جغرافيتها حضارات قديمة كما كانت قريبة من أوروبا فتشكّل لها منطق الدولة، في حين نجده يعتبر الجزائر مُجرّد تشكيلٍ جغرافي مصطنعٍ ناتجٍ عن الاستعمار الفرنسي (الحديث في التاريخ)، رغم أنّ الجزائر تتشابه إلى حدٍّ كبير في تاريخها العريق مع تونس خصوصاً، فكلاهما أسّس حضارة عريقة وكلاهما خضع تقريباً لنفس الاستعمار الأجنبي مع تفاوتات بسيطة. بالإضافة إلى إبداء كابلان كثيراً من الأحكام القيمية في قراءته للمجتمعات العربية مع ميلٍ واضح للمصلحة الأمريكية في دعم المستبد إذا كانت الديمقراطية والثورة تجلب إلى الحكم قادةً لا تُحبّذهم الولايات المتحدة والغرب.

في النهاية سنبقى نُحاجج بكون الجغرافيا -كمعطى مادي- ستظلّ أكثر القوانين الإنسانية ثباتاً حينما نريد أن نفهم طبيعة شعبٍ أو سلوك دولةٍ أو علاقات أمم، بشكلٍ يُذّكرنا بمقولة روبرت غيلبين الشهيرة عن ثبات قوانين السياسية الدولية حينما قال: “لو كان ثيوسيدايدس اليوناني -الذّي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد- بيننا اليوم لما وجد صعوبة في فهم الطريقة التّي تسير بها السياسة الدولية في هذا العصر”9


الهامش

1– عبد القادر محمد فهمي، المدخل إلى دراسة الإستراتيجية، دار مجدلاوي، الطبعة الأولى 2006، عمان-الأردن، ص: 66.

2 – Agnieszka legucka, New Geopolitics – What is Actually “new” ? The Copernicus Journal of Political Studies, Issue 2 (4) 2013, Warsaw-Poland, P: 07. https://goo.gl/B3kajQ

3– مؤسّس المدرسة الفرنسية في الجيوبولتيك، 1845- 1918، تأثّر بنظرية راتزل الألماني وكان يبني عليه نظريته الجيوبولتيكية المشهورة “البوسيبيليزم” أي الإمكان.

4– ألكسندر دوغين، أسس الجيوبوليتيكا، مستقبل روسيا الجيوبوليتيكي، ترجمة عماد حاتم، دار الكتاب الجديدة المتحدة، الطبعة الأولى، 204، طرابلس، الجماهيرية العظمى، ص: 102-103.

5 – Robert Kaplan, One Small Révolution, The New York Time, 22 Jan 2011. link

6 – Ibid.

7 – Robert Kaplan, The Ruins of Empire in the Middle East, Foreign Policy, 25 May 2015. link

8 – Ibid.

9 الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.

الوسوم

جلال خشيب

باحث جزائري مُقيم بتركيا، تهتمُ أعماله بمجال الجيوبوليتيك، نظريات العلاقات الدولية، سياسات القوى الكبرى والإقليمية، من أبرز أعماله كتاب: “أثر التحوّلات الطارئة في بُنية النظام الدولي على التوجّهات الكبرى للسياسة الخارجية التركية”، سنة 2017.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى