غير مصنف

لماذا يختفي شعار رابعة؟

انتهت فعاليات الذكرى السادسة لمجزرة رابعة. والتي ضحى فيها آلاف المصريين بأرواحهم دفاعاً عن ثورتهم ومكتسباتها، ولحماية إرادة الشعب الحرة. سحقتهم آلة القتل العسكرية وحرَّقت جثثهم، في أبشع جرائم الإبادة الجماعية لمعتصمين سلميين في القرن الحادي والعشرين. فاستحق الحدث أن يكون رمزا للثورة المصرية وعنوان هويتها، بما يوجب الحفاظ على القيمة الاستراتيجية له.

وبعيدا عن جدالات التفاعل مع الذكرى السادسة، فقد لاحظت -ومنذ سنوات- خلل المعالجة الإعلامية بتغييب شعار رابعة عن تصميماتها ومنتجاتها. خاصة في حملة رابعة ستوري، حيث خلت جميعها من الشعار. وحملة أخرى رمزت للمجزرة برمز “الفيونكة”، والذي يستخدم للتعبير عن ضحايا الأمراض مثل الإيدز وغيرها. ومثل ذلك حملة حراك في الذكرى السادسة، باستثناءات محدودة.

لذا وجب النصح والتنبيه إلى خطر الانحراف. لعل النصيحة تصيب آذانا واعية. وكما النصح واجب ، فتصحيح الخلل أيضا واجب، خاصة في معالجة هذا الحدث العظيم.

نشأةٌ بين ميدانين:

شعار رابعة نشأ تدافعاً بين ميدانين، ميدان “التحرير في نسخته الانقلابية المضادة”، و”ميدان رابعة”، حيث اعتصم أنصار الرئيس المنتخب ديمقراطياً. وقد كان مصممو الشعار-حسب روايتهم- يترقبون بقلق مآل التجربة الديمقراطية الوليدة في مصر. فلاحظوا متظاهري التحرير يرفعون علامة النصر، فيرد عليهم معتصمون من “ميدان رابعة” بأربعة أصابع للتمييز. وبعد أن صدمتهم فاجعة المجزرة، قرروا رسم الأصابع الأربعة على خلفية صفراء.

وعقب المجزرة مباشرة انتشر الشعار في مصر، أعلاماً وملصقات في المظاهرات ضد الانقلاب العسكري. وبات معبراً عن الهوية الثورية، لمن يحملون رسالة الثورة من أجل احترام إرادة الشعب، ممثلة في الشرعية الدستورية للرئيس المنتخب محمد مرسي، وحق ناخبيه في إكمال مدته. وبات يرفعها كل من هجروا مصر قسراً، ومن ناصرهم.

انتشار وتفاعل:

يد وأربعة أصابع وخلفية صفراء، هي عناصر شارة رابعة. رمز بسيط في شكله، عميق في دلالاته. سهل الاستدعاء والأداء كشارات النصر والسلام والإعجاب. فيكفيك الإشارة بأربعة أصابع لتعبر عن الحرية والإنسانية والثورة. ولبساطة الشعار وعلو قيمته، ولعدالة وإنسانية قضيته، بدأ ينتشر عالمياً كشعار لنصرة قضايا وأحلام الشعوب في التحرر.

وإلى جانب استخدام شارة رابعة محلياً في تركيا (علم واحد، أمة واحدة، بلد واحد، حكومة واحدة)، استخدمها رئيس الوزراء التركي أردوغان يوم حصار مسجد الفتح برمسيس، رمزاً للتضامن مع المعتصمين فيه، ومع ضحايا الثورة في رابعة، وأمامه جمهور الأتراك يحملون أعلاما عليها شارة رابعة بخلفيتها الصفراء كالنسخة المصرية. وعززها أردوغان -رئيساً- في زيارته السودان، ثم في تونس “الثورة” حيث أشار بها من “قرطاج” قصر الحكم في لقاء الصحفيين والباجي السبسي في ديسمبر 2017م.

إضافة إلى التظاهرات التي انتشرت في أنحاء العالم وتفاعلت مع رابعة وحملت شعارها. ما جعل الشعار يتخذ موقعا مقلقاً لأعداء الحرية والإنسانية من حكام العرب وإعلامهم، فناله من التشوية والدعاية المضادة ما ناله. فوصفوه بالماسونية، ووصموه بالإرهاب، وجرموا واعتقلوا من يرفعه خاصة في مصر والسعودية، ووصل الأمر إلى حد حظره قانونياً من برلمان النمسا ديسمبر 2018 من تأثير حملات الكراهية.

جريمة مركبة وخوف مبرر:

شعار رابعة أصبح يمثل رمزاً لجريمة تاريخية كبرى، يريد أعداء الثورة طمسها ومحوها من ذاكرة التاريخ. بل جرائم مركبة ضد الإنسانية، فهي اعتداء على الحق في الحياة والتعبير بقتل المتظاهرين السلميين والقتل والتمييز ضد المرأة، وقتل الطفل والطبيب والمسعف والصحفي إلى جرائم التمييز والحض على الكراهية ضد فصيل أصيل من الشعب، وكذلك حرق دور العبادة والمصحف تمييزا على الدين والهوية تجرمه الأديان والقوانين الدولية والميثاق العالمي لحقوق الإنسان.

وهذا مبرر كاف لطمس الشعار والحرب عليه، وقد قام الانقلاب بتغيير اسم ميدان رابعة إلى ميدان هشام بركات، ووضع نصب تذكاري يرمز لمعنى الحماية الذي تتظاهر به قوى الانقلاب الباطشة. ضمن سعيها لطمس هوية الميدان الرمز، وتغييب ذكره. وقد سبق لهم تلويث ميدان التحرير وسمعته بأحداث البلطجة والتحرش الجنسي وسط تواطؤ الداخلية، بعد ثورة يناير البيضاء النقية.

القيمة الاستراتيجية للشعار :

إن تخليد صور الشهداء ليس كتثبيت الرمز. فالأول قيمته مظلومية حقوقية، والثاني قيمته طاقة ثورية وقادة، ذلك لأنه يُكسِبُ ارتقاء الشهداء المعنى الذي من أجله ضحوا، معنى التضحية من أجل الحرية. تلك القيمة الإنسانية التي تجمع الناس على اختلاف خلفياتهم السياسية ودينهم وعرقهم. فالرمز يصنع للتواصل لغة، ويمنح القضايا المحلية انتشاراً وامتدادا عالميا لنصرتها. ومن هنا تأتى القيمة الاستراتيجية للشعار في رؤية الثورة.

حيث يخلق حالة من التداعي للشعوب التي تتوق للحرية والانعتاق، ويمثل تحدياً متصاعداً لعموم أنصار الحرية ودعاة الإنسانية في العالم ضد مغتصبي السلطة. ما يجعل النيل من الرمز بالتجهيل والنسيان هدفاً لقوى الظلام، لإخماد حيويته، وتوجيهه إن سمحوا بوجوده للحفظ في ثلاجة التاريخ.

من هنا يتبين أن التخلي عن الشعار جريمة فى حق الثورة. وأن “متحفة” رابعة، أو تحويلها إلى مرثية أو حائط مبكى أمر لا يضر الأعداء، لأنه يكرس الهزيمة النفسية والرضا بالأمر الواقع. ولكن إبقاء الشعار حياً، معبراً عن استمرار الصمود ولو لموجة ثورية غير قريبة، أمر مطلوب. ليكون قوة إيجابية دافعة توحد الصف، وتحث على العطاء، والبقاء على العهد حيث قضى شهداء رابعة.

إن جريمة أمريكا في هيروشيما ونجازاكي ولدت لدى شعب اليابان طاقةً وتحدياً وحلماً التف حوله الشعب، ودفع اليابان دفعاً إلى مصاف الدول المتقدمة. هكذا الأزمات الكبيرة تفعل. فلنحافظ على “شعار رابعة” حياً في القلوب والعقول والأبصار، فلا يموت فينا التحدي وعندنا رابعة. ولا تسرق أحلامنا وعندنا رابعة. ورابعة ليست للتاريخ، ولكنها لبناء الحاضر والمستقبل.[1].

[1] الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى