قلم وميدان

ليبيا بين تحولات الداخل وصراعات الخارج

تعيش ليبيا هذه الأيام على وقع تطورات متسارعة وغير مسبوقة منذ ثورة فبراير 2011، التي أطاحت بنظام “الجماهيرية” الذي أقامه العقيد القذافي في أواخر الستينيات من القرن العشرين، فالتطور الأخطر هو على مستوى جبهة الصراع العسكري حيث أقدمت القوات الموالية للواء المتقاعد خليفة حفتر – المدعوم بقوى اقليمية ودولية معادية لثورات الشعوب العربية – على استهداف منشآت حساسة في العاصمة طرابلس منها مبنى البرلمان رمز ممثلي الشعب اضافة لمستشفيات ومراكز مدنية مختلفة، ويضع هذا التطور مسؤولية كبرى على عاتق حكومة الوفاق المعترف بها دوليا من جهة حماية العاصمة وصد هجمات قوات حفتر أولا، ويمثل مقياساً لمدى قدرة أجهزة الدولة على محاسبة المعتدين وتقديمهم للعدالة في الداخل وتحريك قضايا دولية تخص الجرائم الفظيعة التي تحصد أرواح المدنيين وتدمر البنية التحتية للعاصمة وتعمق المشاكل الاجتماعية للشعب الذي مازال ينتظر حصاد ثورة شعبية قامت من أجل الكرامة والعدالة وحقوق الناس.

أما التطور اللافت الثاني فهو استقبال اللواء المتقاعد خليفة حفتر على أعلى المستويات في كل من الامارات ومصر وأخيرا في فرنسا حيث استقبله رئيسها ببروتوكول عال في تحد واضح للدولة الليبية ومنظومة الأمم المتحدة ككل. فحفتر تتابعه حكومة بلاده بتهم خطيرة منها جرائم الحرب وجرائم ضد الانسانية وتضع أنصاره على قوائم الإنتربول وكانت فرنسا نفسها أعلنت بأنها مع الشرعية الدولية واستقبلت رئيس حكومة الوفاق منذ أيام قليلة فقط- ولكن بالمقابل تؤكد التقارير المنشورة تورط فرنسا ومخابراتها في النزاع بشكل كبير رغم القرار الأممي بحظر تزويد ليبيا بالسلاح والعتاد العسكري.

ومن جهة أخرى تُبذل هذه الأيام جهود كبيرة لوقف الاقتتال وإنهاء العمليات العسكرية على طرابلس نظرا لتداعيات الاقتتال الخطيرة على الشعب الليبي وعلى الأمن والاستقرار في المنطقة. ويطالب العديد من الفاعلين سواء على المستوى الوطني أو الاقليمي أو الدولي بفسح المجال للحوار لاستئناف المسار السياسي بين مختلف الأطراف الليبية برعاية الأمم المتحدة بما يحقن دماء الليبيين ويحفظ وحدة ليبيا واستقرارها ويوقف نزيف نهب ثرواتها ويقضي على كتائب المرتزقة فيها.

ولعل التطور الأبرز هو الوعي المتزايد لدى الفاعلين الليبيين بأن بلادهم أصبحت ساحة مستباحة لإرادات وصراعات دولية الخاسر الأكبر فيها هو الشعب الليبي، وتأتي مبادرة العديد من زعماء القبائل، معظمهم من المناطق التي تسيطر عليها كتائب اللواء المتقاعد حفتر، لتؤكد حرص الليبيين على ايجاد حل يبعد بلادهم عن الصراعات الدولية ويعيد الاستقرار الذي تحتاجه كل الأطراف وأولها أوروبا من أجل السيطرة على الهجرة غير النظامية وكذلك الجهات الراغبة في الاستثمار في هذا البلد الغني،

وأما على المستوى العسكري فان اعلان حكومة طرابلس حصولها على معدات عسكرية – قالت تقارير اعلامية بأنها من تركيا – وتمكنها من انجاز عمليات أدت لقتل واستسلام المئات من القوات المهاجمة للعاصمة والكشف عن هروب مرتزقة ومخبرين أجانب ألقت القوات التونسية القبض عليهم ليؤكد سقوط رهانات الحسم الميداني والعسكري بناء على توازن القوى – الضعف بين فرقاء الصراع في الداخل والخارج.

ويربط بعض المحللين بين الهجوم على طرابلس وما يجري في الجزائر والسودان ورغبة الجهات الداعمة لحفتر في حسم سريع يقطع الطريق أمام الموجة الجديدة من ثورات شعوب المنطقة التواقة للعدالة والمطالبة بالحرية والكرامة للجميع وارجاع الجيش ليقوم بدوره الطبيعي في حماية البلدان بعيدا عن إدارة الشأن السياسي. كما ربط الكثيرون بين الموقف الفرنسي الملتبس وبين خسارتها للعديد من مواقعها التقليدية خاصة في افريقيا مع تمدد قوى جديدة كالصين وتركيا وماليزيا وجاءت الخلافات العلنية بين فرنسا وايطاليا حول الهجرة والملف الليبي وكيفية ادارة ثروات شعوب المنطقة لتزيد من الضغوط على أطراف الصراع الليبي من أجل ايجاد حل سياسي مقبول لديهم يقيهم خيار الحرب بالوكالة بين القوى الإقليمية والدولية ستخلف مزيدا من الدمار العمراني والسكاني.

فالدول التي تؤمن بضرورة عودة الاستبداد باعتباره الحل الوحيد لمواجهة حالة عدم الاستقرار ومن أجل دعم المسار المصري والحفاظ على مصالحها وقطع الطريق أمام تطلعات شعوب المنطقة وحصار التجربة التونسية والتصدي للنفوذ الجزائري، فاتها بأن أشياء كثيرة قد تغيرت وأن الكثيرين لن يسمحوا بسقوط طرابلس أو تقسيم ليبيا.

فتركيا ستعمل على حماية مصالحها الكبيرة في ليبيا واستثماراتها التي تضاعفت في افريقيا لتصل الى 20 مليار دولار وقد فتحت ما يزيد عن 30 سفارة جديدة في افريقيا خلال سبع سنوات كما تسير الخطوط الجوية التركية رحلات منتظمة إلى 53 وجهة في 35 بلدا إفريقيا. ويعتقد الأتراك أنهم أحق -بحكم التاريخ والجغرافيا والعلاقات الدينية والثقافية- بإقامة علاقات أمتن مع أفريقيا،

ولن تسمح أنقرة بسقوط بلد كبير بيد جهات تخدم أجندة معادية لها وتتهمها أنقرة بدعم محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا كما أنها ساحة لتبين فيها التفوق التركي. وبإمكان القوة العسكرية التركية خلق التوازن العسكري ولعل تفعيل اتفاقية الدفاع المشترك بين ليبيا وتركيا ودخولها حيز التنفيذ، سيجبر الجهات الداعمة لحفتر اعادة حساباتها. وكان الرئيس “أردوغان” قد ندد بالعدوان الذي تشنه قوات اللواء الليبي، خليفة حفتر على العاصمة “طرابلس”، واصفا ما يحدث هناك بأنه “مؤامرة” تحاك ضد الشعب الليبي ” ومتوعدا “بأن بلاده ستقف ضدها وستمنعها بكل قوة” ومذكرا في اتصاله برئيس الحكومة الليبي فايز السراج بأنه لا وجود لحل عسكري في ليبيا وأن المسار السياسي هو المسار الوحيد لبناء الدولة المدنية” وأن “أنقرة ستسخّر كل الإمكانيات لدعم الحكومة الشرعية (الوفاق)، وأنها ستقف بكل حزم إلى جانب الليبيين لمنع المؤامرة وصد العدوان ضد طرابلس” بحسب وكالة الانباء التركية.

أما قطر التي راهنت من البداية على خيار ثورات الشعوب فإنها لن تقبل بأن تسيطر الأطراف التي تحاصرها منذ سنتين والمتورطة في محاولات لقلب نظام الحكم في الدوحة على طرابلس وأن تتمدد في المنطقة.

ولن تسمح ايطاليا لفرنسا بالسيطرة على مستعمرتها السابقة. واعتبرت روما “أن مخرجات مؤتمر باريس ليست سوى محاولة فرنسية للالتفاف على دور إيطاليا في ليبيا” وحصلت روما على دعم من الممثلة العليا للسياسة الأوروبية الخارجية فيديركا موغريني التي حضرت باسم الاتحاد في مؤتمر باليرمو، بالإضافة إلى إعلان المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل دعمها المبادرات الإيطالية أكثر من الفرنسية بشأن ليبيا. وأصبح الصراع بين روما وباريس علنيا وعنيفا بين مسؤولي البلدين وكشف مدى تناقض المصالح بينهما في الساحة الليبية وهو ما دفع المفوضية الأوروبية إلى دعوة كل من فرنسا وإيطاليا إلى تجنب التصعيد الكلامي بينهما وتوخي الحوار والتعاون بدل التعليقات وتبادل التهم.

وترغب ألمانيا ودول أوروبية أخرى في الاستقرار وضبط الحدود ووقف تدفق المهاجرين اليها مع الحرص على تواصل ضخ النفط الليبي – المعروف بجودته العالية – للأسواق الغربية

ومن جهة أخرى، نقلت صحف بريطانية أواخر السنة الماضية عن مصادر حكومية بأن “الاستخبارات البريطانية أبلغت رئيسة الوزراء تيريزا ماي بأن بوتين يريد تحويل ليبيا إلى سوريا جديدة واستخدام قواته هناك للتأثير على الغرب وأن العشرات من ضباط وكالة الاستخبارات العسكرية الروسية وعناصر من القوات الخاصة التابعة للجيش الروسي موجودون بالفعل في شرق ليبيا ويقومون بمهام تدريب ومراقبة، بالإضافة إلى وجود قاعدتين عسكريتين روسيتين تعملان في مدينتي بنغازي وطبرق تحت غطاء شركة روسية عسكرية خاصة لها مقرات في ليبيا. واعتبرت روسيا التقارير البريطانية حملة تستهدف الوجود الروسي والقوات المسلحة الروسية في ليبيا.

أما الصين التي تفوق استثماراتها في إفريقيا 400 مليار دولار، فليس من مصلحتها تواصل القتال في هذا البلد الكبير وهي تنظر إلى الملف الليبي كملف اقتصادي وترغب في حماية مصالحها وضمان حصتها في العقود والصفقات ولن تسمح للبلدان التي لديها أزمات اقتصادية بالاستحواذ على الثروات النفطية الليبية، وتشترك الصين مع الولايات المتحدة الأمريكية في النظر إلى كيفية التعاطي مع الثروات الليبية ومن يستحوذ عليها.

ولن تنسى الجزائر بأن حفتر كان قد هددها مرارا بشن هجمات عليها ولن تسمح له ولقواته بالسيطرة على طرابلس القريبة منها وكانت الجزائر دائما رافضة للتدخل الأجنبي في ليبيا من أجل أمن وسلامة بلدان المنطقة ككل.

وتؤيد جميع الحقائق على الارض والمؤشرات ما يطالب به العقلاء من الليبيين وهو تبني الخيار السياسي واحترام خيار الشعب الليبي وما على الأطراف الدولية الا مساعدة اللبيين وتوفير الأرضية لإجراء حوارات تحت اشراف أممي تؤدي إلى قيام حكومة موحدة تدير شؤون الناس اليومية وتحافظ على الأمن والسلم وتؤسس لعملية البناء من خلال الرجوع إلى الشعب صاحب القرار النهائي في أي مسار يطرحه الساسة[1]


[1] الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.

الوسوم

د. أنور الغربي

كاتب ومفكر تونسي مقيم في جينيف مستشار أول سابق لدى رئيس الجمهورية، كان مكلفاً بالعلاقات الخارجية والمنظمات الدولية، وحاليا هو الأمين عام لمجلس جينيف للعلاقات الدولية والتنمية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى