السياسات العامةمجتمع

ما بعد كورونا: إصلاح النظام الصحي المصري

عرّفت منظمة الصحة العالمية النظام الصحي بأنه مجموع المنظمات والمؤسسات والموارد الرامية أساساً إلى تحسين الصحة، ويحتاج ذلك النظام إلى موظفين وأموال ومعلومات وإمدادات ووسائل نقل واتصال وتوجيهات واتجاهات عامة ولابد لذلك النظام من توفير خدمات تلبّي الاحتياجات القائمة بأسعار منصفة والسعي في الوقت ذاته إلى معاملة الناس على نحو لائق، والنظام الصحي الجيد هو ذلك الذي يسهم في تحسين حياة الناس بشكل ملموس يوماً بعد يوم.

وتقع المسؤولية الأولى فيما يخص الأداء الإجمالي للنظام الصحي الوطني على عاتق الحكومة، كما أكدت المنظمة أن تعزيز النُظم الصحية وجعلها أكثر إنصافاً يعد من الاستراتيجيات الأساسية لمكافحة الفقر وتعزيز التنمية [1].

أما مفهوم الصحة العامةPublic Health ، فيُعرفه مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها الأمريكي” CDC” بأنه العلم الذي يهتم بتحسين ووقاية صحة الأفراد والمجتمعات بشكل عام من خلال تعزيز أنماط الحياة الصحية” promoting healthy lifestyles “، كذلك البحث في مجال الوقاية من الأمراض المعدية، والاكتشاف المبكر للأمراض.

وتعمل الصحة العامة أيضا على الحد من الفوارق الصحية، وتعزيز المساواة والجودة في الرعاية الصحية للجميع، ويعد الفرق الجوهري بين مفهوم الصحة العامة والتعامل السريري من قبل الأطباء والتمريض، هو أن الأطباء يتعاملون مع حالة مرضية وقعت بالفعل ويقدمون لها التدخل الطبي فقط، أما الصحة العامة فهي تهتم بكل الجوانب الصحية والبيئية والمجتمعية التي أدت لحدوث المرض، وتبحث في كيفية تلافي حدوث تلك المشكلات مستقبلا من خلال تعزيز مفاهيم ثقافية ووقائية مرتبطة بنمط الحياة الصحي[2] .

أولا: تحديد المشكلة وجمع الأدلة

يعاني النظام الصحي المصري من مشاكل متعددة، وذلك نظرا لعدم اهتمام النظام السياسي بالمكون الصحي وعدم وضعه على أجندة أولوياته، وتغليب نظرية الإنفاق على المؤسسات الأمنية والعسكرية على الإنفاق على المؤسسات الخدمية وعلى رأسها الصحة والتعليم، وهو ما أدى إلى تردي الخدمات الصحية وتراجع الإنفاق الصحي بشكل كبير خلال العقود الأربع السابقة، وتتمثل أهم نقاط ضعف النظام الصحي المصري في:

1ـ الإنفاق ومصادر التمويل

من حيث فلسفة التمويل الخاصة بالنظام الصحي المصري يمكن تصنيفه على أساس أنه (نموذج الدفع من الجيب THE OUT-OF-POCKET MODEL)، وهذا النموذج هو الأكثر انتشارا على مستوى العالم فهناك تقريبا 40 دولة فقط متقدمة استطاعت أن تندمج في النظم الثلاث السابقة، أما باقي دول العالم والتي لا تقل عن 160 دولة والتي تعاني من مشاكل تنموية كثيرة مرتبطة بالفقر والبطالة وانخفاض مستوى التعليم فكلها تتبع هذا النموذج والقائم على قاعدة أساسية وهي أن الأغنياء يحصلون على رعاية صحية والفقراء يمرضون أو يموتون[3].

وقد أشار وزير الصحة السابق عادل عدوي في عام 2014 عند مناقشة استراتيجية تطوير السياسات الصحية المعروفة باسم الورقة البيضاء، والتي ناقشها المجلس الأعلى للصحة إلى أن انخفاض الإنفاق الحكومي على الصحة على مدار سنوات عديدة أدى إلى تكبُّد المواطنين حوالي 72% من إجمالي الإنفاق الصحي من مواردهم الخاصة، وظهر ذلك جلياً في زيادة الاعتماد على القطاع الخاص في تقديم الخدمات الصحية[4].

ويرجع السبب في تدني الإنفاق الحكومي إلى عدة أسباب متمثلة في ارتفاع أسعار الدواء وارتفاع تكلفة العلاج بالمستشفيات الخاصة وارتفاع أسعار الكشف بالعيادات الخاصة، كما أن الخدمات التي تقدمها الدولة محدودة، وخدمات الهيئة العامة للتأمين الصحي لا تقدم الخدمة الصحية سوى لـ 8% فقط من المواطنين بالرغم من أنها تغطي أكثر من 60% من المواطنين[5] .

وقد تسبب تراجع دور الدولة في الإنفاق على القطاع الصحي وتعظيم دور المستشفيات الخاصة في حدوث أزمة كبيرة بعد تفشي وباء كورونا في مصر، وذلك لأن وزارة الصحة لم تستطع أن تُخضع تلك المستشفيات لتسعيرة ثابتة للمواطنين الذين يرغبون في العلاج من فيروس كورونا بتلك المستشفيات، كما هددت تلك المستشفيات وزارة الصحة بأنها ستتوقف عن تقديم الخدمة في حال سعي الوزارة لفرض تسعيرة جبرية على أداء الخدمة الطبية لمرضى كورونا بتلك المستشفيات.

2ـ الموارد البشرية

تعاني منظومة العمل الصحي في مصر من نقص حاد في أعداد الأطباء خصوصا في تخصصات الأوعية الدموية والتخدير وأطباء الطوارئ والحمّيات، ووفق دراسة أعدها المجلس الأعلى للمستشفيات الجامعية والمكتب الفني لوزارة الصحة تحت عنوان: “احتياجات سوق العمل من المهن الطبية خلال السنوات الخمس القادمة بدءا من 2020″، تبين أن عدد الأطباء البشريين المسجلين والحاصلين على ترخيص مزاولة المهنة، باستثناء أصحاب المعاش، يبلغ 212 ألف و835 طبيباً، يعمل منهم حالياً في جميع قطاعات الصحة 82 ألف طبيب فقط، بنسبة 38% من عدد الأطباء المسجلين والحاصلين على ترخيص مزاولة المهنة، وهم إما يعملون في المستشفيات التابعة لوزارة الصحة أو المستشفيات الجامعية الحكومية أو القطاع الخاص.

بالمقارنة بين عدد الأطباء العاملين حالياً في قطاعات الصحة وعدد المسجلين أو الحاصلين على ترخيص مزاولة المهنة من نقابة الأطباء، نكتشف أن 62% منهم يعملون خارج مصر، وهم إما استقالوا من العمل الحكومي أو حصلوا على إجازات بدون راتب قبل سفرهم، بحسب الدراسة، وتستنتج الدراسة أن مصر لديها طبيب لكل 1162 مواطناً، بينما المعدل العالمي طبقاً لمنظمة الصحة العالمية هو طبيب لكل 434 مواطنً[6] .

أما بالنسبة للتمريض؛ فوفقا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء الذي نشر في 2017، فقد بلغ إجمــالي عـدد أعضاء هيئة التمريض القائمين بالعمل فعـلاً بالقطاع الحكومي 187,090 ممرضة عام 2016 [7]، فيما أكدت نشرة الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء الصادرة في نوفمبر 2019 أن إجمالي عدد الممرضات بالمستشفيات الحكومية يعادل ممرضة لكل 688 مواطنا، وهو ما يعني أن نسبة التمريض تمثل 1.45 ممرض لكل 1000 مواطن كما أكد تقرير البنك الدولي[8] .

3ـ إشكاليات البنية التحتية للمؤسسات الصحية الحكومية في مصر:

(أ) إشكالية التنوع:

هناك شبكة كبيرة من المستشفيات الحكومية في مصر لكل منها لوائحها الخاصة وميزانيتها وأحيانا نوعية المترددين عليها، كذلك اختلاف في لوائح تحديد مقابل لخدمة، حتى أن هناك بعض المستشفيات مثل مستشفيات أمانة المراكز الطبية المتخصصة تتعامل بلوائح مشابهة للوائح المستشفيات الخاصة.

وبالتالي فإن المنظومة الصحية الرسمية في مصر لا تقتصر على مستشفيات وزارة الصحة فقط، بل هناك المستشفيات الجامعية ومستشفيات القوات المسلحة ومستشفيات الصحة، وداخل مستشفيات وزارة الصحة هناك المستشفيات العامة والمركزي التابعة لمديريات الشئون الصحية ومستشفيات التأمين الصحي التابعة للهيئة العامة للتأمين الصحي ومستشفيات أمانة المراكز الطبية المتخصصة، ومستشفيات هيئة المستشفيات والمعاهد التعليمية، ومستشفيات أمانة الصحة النفسية.

(ب) إشكالية ضعف منظومة التأمين الصحي:

يعالج العسكريون داخل مستشفيات القوات المسلحة، أما القضاة والمؤسسات المالية مثل الضرائب ووزارة المالية وشركات الكهرباء والبترول والمصرية للاتصالات وغيرها يتعاقدون مع شركات تأمين خاصة توفر لهم منظومة تأمين صحي بالمستشفيات الخاصة، فيما يعالج الموظفون بالمؤسسات الخدمية من خلال مستشفيات الهيئة العامة للتأمين الصحي وهي مستشفيات ضعيفة في تقديم الخدمة الطبية وإمكاناتها محدودة، فيما يعالج باقي الشعب من خلال منظومة العلاج على نفقة الدولة بمستشفيات وزارة الصحة والمستشفيات الجامعية.

(ج) إشكالية تمدد القطاع الخاص

يسيطر القطاع الخاص في مصر على أكثر من 70% من عوائد الاستثمار في القطاع الصحي في مصر، وذلك لفقدان ثقة المواطن في جودة الخدمات التي تقدمها المستشفيات الحكومية، وبالرجوع إلى خريطة المستشفيات العاملة في القطاع الصحي المصري والبالغ عددها 1848 مستشفى في مصر خلال عام 2018، استحوذت المستشفيات الخاصة على 1157 مستشفى، بنسبة 62.6%، في حين مثلت مستشفيات القطاع الحكومي 37.4%، ضمت كلٍ من المستشفيات العامة والمركزية والتابعة لجهات حكومية، بإجمالي 691 مستشفى [9].

(د) إشكالية تهالك بنية المستشفيات الحكومية

أكد هشام عطا رئيس قطاع الطب العلاجي السابق بوزارة الصحة والسكان أن سوء الخدمة الطبية المقدمة إلى المواطنين في المستشفيات يرجع إلى تهالك البنية التحتية لأكثر من 30% من هذه المستشفيات[10]، كما تعاني مستشفيات وزارة الصحة من أزمات متكررة وأحيانا غلق كلي أو جزئي بسبب عقود الصيانة، وهناك بعض المستشفيات يتم إغلاقها لمدة عشر سنوات تحت بند الإحلال والتجديد أو إعادة البناء من جديد، حيث رصد تقرير للبوابة نيوز في أبريل 2017 أن هناك 186 مستشفى عام ومركزي ووحدة صحية متوقفة بسبب أعمال الصيانة أو إعادة البناء، وكشفت منى مينا أمين عام نقابة الأطباء أن عام 2016 شهد إغلاق 450 وحدة صحية في محافظات مصر[11] .

(هـ) إشكالية نقص غرف العناية المركزة

تعاني مصر من نقص حاد في أسرّة العناية المركزة، ووفق أحدث تصريح لشريف وديع، مستشار وزير الصحة للرعاية والطوارئ أن مصر بها 5600 سرير عناية مركزة بمختلف المستشفيات الحكومية الجامعية والتابعة لوزارة الصحة والجيش والشرطة[12]، فيما أكد حسين خيري نقيب أطباء مصر أن المستشفيات تعيش أزمة حقيقية بسبب ندرة أسرة الرعاية المركزة والحضانات، وهو ما أثّر على آلاف المرضى وذويهم، وعلى الأطباء أيضا الذين يلجؤون في كثير من الأحيان إلى تأجيل إجراء بعض العمليات، وطالب نقيب الأطباء عبد الفتاح السيسي بتبني مبادرة لسد عجز غرف العناية المركزة والحضانات[13] .

أما فيما يخص أجهزة التنفس الصناعي فوفقا للمتحدث الرسمي باسم مجلس الوزراء، نادر سعد، أن وزار الصحة لديها 4,000 جهاز تنفس صناعي فقط[14]، فيما أكدت هالة زايد وزيرة الصحة أن نسبة إشغال أجهزة التنفس الصناعي بالقاهرة بلغت97% في شهر يونيو، قبل أن تعاود النسبة للهبوط في يوليو بعد تراجع أعداد الإصابة[15] .

4ـ المكون الوقائي

يعتبر المكون الوقائي من أهم نقاط الضعف في النظام الصحي المصري، وذلك لعدة أسباب أهمها تركيز القائمين على صنع السياسات الصحية في مصر على المكون العلاجي على اعتبار أنه المكون الملموس الذي يحصل من خلاله المسؤول على تقييم بأنه قام بإنشاء مستشفيات أو تطوير أقسام، أما المكون الوقائي فهو مكون غير ملموس ويحتاج الإنفاق عليه إلى ثقافة ووعي مجتمعي مغاير، فربما يخشى بعض المسؤولين الاتهام بإهدار المال العام في حال توسيع الإنفاق على القطاع الوقائي.

وقد ناقشنا في دراسة سابقة بعنوان” هل مصر مرشحة لأن تصبح بؤرة لتوطن فيروس كورونا؟ أوجه الضعف في المكون الوقائي بالنظام الصحي المصري، والتي تمثلت في توطن فيروس سي بالدولة المصرية حتى أصبحت مصر الأعلى من حيث الإصابة بالفيروس على مستوى العالم، كذلك توطن أنفلونزا الطيور والخنازير بمصر، كما تعاني مصر أيضا من تراجع مؤشرات مكافحة العدوى بالمستشفيات وهو ما أدى لإصابة العديد من الأطباء وأعضاء هيئة التمريض بفيروس سي والفشل الكلوي، كما تعاني مصر من خلل بنيوي فيما يخص الاهتمام بمستشفيات الحميات، وهو ما نتج عنه إغلاق 70 مستشفى حميات بقرار من وزير الصحة السابق حاتم الجبلي، كذلك تهالك البنية التحتية لمستشفيات الحميات المتبقية وعلى رأسها حميات العباسية وحميات إمبابة، وهو ما ترتب عليه فشل مستشفيات الحميات في مصر في أن تكون مستشفيات مخصصة لعزل مصابي كورونا[16] .

ثانيا: تحديد الأطراف المعنية

نظرا لاتساع مفهوم الصحة العامة باعتباره أسلوبا لحياة صحية، فهناك اتساع في حجم الجهات المعنية سواء كانت جهات حكومية أو جهات مجتمعية أو حتى جهات دينية، وفيما يلي أهم الجهات المعنية بتحسين الصحة العامة للمجتمع:

  • وزارة الصحة بوصفها الجهة التنفيذية المكلفة دستوريا بالحفاظ على حياة المواطن المصري، والمكلفة بضمان توفير حقه في العلاج والحصول على الدواء والخدمات الصحية الأخرى مثل التطعيمات والإجراءات الوقائية، وخدمات تنظيم الأسرة، والدعم النفسي.
  • هيئة الدواء المصرية بوصفها الجهة المنوطة بالحفاظ على جودة وفاعلية الدواء، كما أنها الجهة الخاصة بتسجيل الدواء بالسوق المصري، ووضع السياسات العامة التي تضمن إتاحة المنتجات الدوائية بشكل عادل بين المواطنين.
  • هيئة سلامة الغذاء وهي مسؤولة عن وضع القواعد الملزمة التي تضمن سلامة الغذاء، كما تخضع جميع المنشآت الغذائية العامة والخاصة لرقابة الهيئة، ومن اختصاصاتها أيضا التثقيف والاتصال بالمسؤولين والمستهلكين ومتداولي الأغذية والمنتجين بهدف ضمان جودة وسلامة الغذاء بما يحافظ على الصحة العامة.
  • وزارة البيئة وهي الجهة المختصة بخفض معدلات التلوث الحالية للحفاظ على الصحة العامة والارتقاء بنوعية الحياة، كذلك دعم أنظمة الإدارة البيئية المتكاملة لتوفير بيئة صحية للمواطنين[17] .
  • البرلمان بوصفه الجهة التشريعية والمنوطة بصياغة القوانين والتشريعات التي تساهم في تفعيل دور الجهات التنفيذية وتحديد الاختصاصات وتنظيم العلاقات المتداخلة بما يضمن كفاءة وفاعلية وتطوير الأداء، وبما يحقق التوازن والرقابة الفعالة والمحاسبة، ويضمن أمن وسلامة صحة المواطن.
  • وزارة التربية والتعليم والتي يعول على قيامها بعملية التنشئة الصحية السليمة، والارتقاء بوعي الطلاب بما يجعلهم يهتمون بالنظافة والطرق الوقاية والأكل الصحي، وتوعيتهم بمخاطر الفيروسات، وأهمية الرياضة والبناء السليم للجسم.
  • مراكز الدراسات البحثية والتي أصبح عليها دور كبير بعد أزمة كورونا التي شملت تداعياتها كافة مناحي الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ومن ثم فإن مراكز الدراسات عليها الاهتمام باقتصاديات الصحة ودراسة النظم الصحية المختلفة، والسياسات العامة المرتبطة بالقطاع الصحي.

يود الباحث الإشارة إلى أن مجال الصحة العامة أكثر اتساعا وشمولا ويشمل العديد من الجهات الحكومية والمدنية، وهو يأتي ضمن سلسلة إجراءات كثيرة متعلقة بجودة التعليم ومحاربة الفقر ومكافحة الأمية، وبناء نظام وسياسات صحية قوية ووجود برنامج شامل للتأمين الصحي الشامل ودعم المنظومة الوقائية وتوفير الدواء وسلامة الغذاء.

ثالثا: البدائل المتاحة

الأول: البديل الذي تطرحه الحكومة: قدمت الدولة البديل الذي أشرنا إليه في الملخص التنفيذي والقائم على تأسيس نظام صحي ينبني على مفهوم التغطية الصحية الشاملة لجميع المواطنين من خلال وجود موارد للتمويل دائمة، وهذا النظام هو ما يتبناه النظام المصري حاليا من خلال تجربة التأمين الصحي الشامل في بورسعيد.

الثاني: النظام القائم على مفهوم الصحة العامة: وهو نظام أكثر شمولا واتساعا، ويهتم بمكونات أخرى غير علاجية مرتبطة بالجانب الوقائي والثقافة الصحية والعوامل البيئية والمجتمعية والتغذية السليمة والاهتمام بالمناعة وتعزيز ثقافة التباعد الاجتماعي والاحترازات الوقائية، واستحداث نظما للإنذار المبكر في حال حدوث أوبئة أو اندلاع فيروسي في منطقة محددة.

وللمفاضلة بين النموذجين، قمنا بتصميم الجدول التالي الذي يلخص إيجابيات وسلبيات كلا المقاربتين.

جدول (1) مقارنة بين إيجابيات وسلبيات مقاربات الإصلاح الصحي:

التأمين الصحي الشامل

نظام الصحة العامة

الإيجابيات

1- التغطية الشاملة لجميع المواطنين، وهي من أهم المزايا التي توفر لأي مجتمع القدرة على مواجهة الكوارث والأزمات الصحية

2- القضاء على قوائم الانتظار التي تعاني منها مصر نتيجة لغياب التغطية التأمينية

3- تطوير البنية التحتية والأجهزة الطبية الخاصة بالمستشفيات الحكومية وتوفير المستلزمات الطبية والأدوية بشكل مناسب

4- الارتقاء بالخدمات الطبية التي تقدمها الدولة بشكل عام

1- الاهتمام بالمكون الوقائي جنبا إلى جنب مع المكون العلاجي

2- إتاحة فرصا كبيرة أمام مؤسسات الدولة والمجتمع المدني للعمل ضمن منظومة الصحة العامة نظرا لاتساع وشمولية المفهوم

3- الارتقاء بجميع مكونات المجتمع نظرا للعمل في خط متواز يضمن مواجهة مشكلات مجتمعية مرتبطة بالصحة العامة مثل الفقر والجهل والتلوث وعادات الغذاء السيئة

4- رفع الوعي المجتمعي بما يضمن القدرة على مواجهة الأزمات والكوارث والأوبئة بأقل خسائر

5- اتساع المفهوم الخاص بتعريف الصحة من كونها مجرد غياب الألم والعجز، إلى آفاق جديدة وفق تعريف منظمة الصحة العالمية بأنها حالة من الرفاهية الجسدية والعقلية والاجتماعية وعاطفية والروحية[18]

6- الاهتمام بتقوية الجهاز المناعي منذ الطفولة

المعوقات

1- مدة التنفيذ طويلة تمتد لمدة 15 عاما

2- هناك تعثر في تطبيق المرحلة الأولى فبالرغم من أن التطبيق الفعلي للمشروع كان مقررا له منتصف ام 2018 إلا أنه بدأ في منتصف 2019، ولم يتم التطبيق في باقي محافظات المرحلة الأولى، وكان من المنتظر أن يتم التطبيق في محافظتي الأقصر وشمال سيناء في الأول من مارس 2020 وهو ما لم يحدث بسبب أزمة كورونا.

3- لا يهتم بالجوانب الوقائية ولم يتم ضم مستشفيات الحميات إلي المشروع.

4- هناك عدم وضوح في الرؤية بالنسبة لوحدات الرعاية الأساسية، فجزء منها سيتبع المنظومة الجديدة باعتبارها حجر الزاوية في تنفيذ المشروع وتعتمد على طبيب الأسرة، والجزء الآخر سيتبع وزارة الصحة لتقديم الخدمات الوقائية، وبالتالي سيحدث إشكالية كبيرة بين العاملين في نفس المكان نظرا لأن كل منهم يتبع لوائح مالية مختلفة.

5- غير قادر على التعامل مع الأوبئة ذات النطاق الواسع مثل كورونا لأنه قائم على الشق العلاجي فقط

6- لم يضم المستشفيات الجامعية والتي تبلغ أكثر من 110 مستشفى، في حين فتح المجال أمام المستشفيات الخاصة لإدارة المشروع.

1- تحتاج مجتمعا على قدر عال من الثقافة والوعي، التعليم

2- يتطلب تحقيقها وقتا طويلا قد يطل إلى 20 عاما

3- ضعف المكون التنسيقي بين أجهزة الدولة في مصر، وتطبيق ذلك النظام يتطلب تنسيقا بين جهات متعددة

4- تتطلب تكلفة مالية مرتفعا، تتحملها الدولة بشكل كبير ولا تستطيع تحميلها للمواطن مثلما فعلت في مشروع التأمين الصحي الشامل

الحلول المقترحة للتغلب على المعوقات

1- إدراج خدمات القطاع لوقائي داخل المنظومة الجديدة

2- ضم مستشفيات الحميات والصدر إلى التأمين الصحي الشامل

3- ضم المستشفيات الجامعية لمشروع التأمين الجديد

4- استحداث نظاما للإنذار المبكر للكشف عن الأمراض المعدية

1- تنمية الوعي ونشر الثقافة بأهمية الصحة وتأثيرها على كافة مناحي الحياة

2- تدريس مادة عن الصحة العامة بالمدارس والجامعات

3- تحمل الدولة والمجتمع لفكرة الإنفاق الكبير على مشروعات ليست ملموسة على أرض الواقع لكن مردودها كبير مثل مشروع التعليم والتثقيف الصحي

المصدر: عمل الباحث

رابعا: معايير المفاضلة بين السياسات المقترحة

1- معيار تعزيز الصحة Health promotion

يعتبر معيار تعزيز الصحة من المعايير المهمة التي وضعتها منظمة الصحة العالمية والتي عرفته بأنه تمكين الناس من زيادة السيطرة على صحتهم من خلال مجموعة من التدخلات الاجتماعية والبيئية المصممة لإفادة وحماية صحة الأفراد، والارتقاء بجودة الحياة من خلال معالجة، ومنع الأسباب الجذرية لاعتلال الصحة، وليس التركيز فقط على العلاج والشفاء[19]، ويعتمد معيار تحسين الصحة على السياسات الصحية التي تتبع الحكم الرشيد، محو الأمية الصحية، بالضافة إلى وجود مدنا صحية قائمة على التخطيط الحضري الصحي والتدابير الوقائية ومرافق الرعاية الصحية الأولية.

2- معيار الوقاية من العدوى ومكافحتها IPC””

توفر إمكانات وإجراءات الوقاية من العدوى ومكافحتها ” Infection prevention and control” ,والتي تعد حسب تعريف منظمة الصحة العالمية, النهج العلمي المصمم لمنع الضرر الناجم عن العدوى للمرضى والعاملين الصحيين، وتعد أيضا من أهم معايير الحفاظ سلامة المرضى، وترتبط بجودة الخدمات والتغطية الصحية الشاملة لأنها ذات صلة بالعاملين الصحيين والمرضى في آن واحد[20].

3- معيار عدالة وشمول تغطية الخدمات الصحية

يعد معيار العدالة في الحصول على الخدمات الصحية والدوائية من المعايير التي برزت بقوة في ظل أزمة فيروس كورونا، وأيضا معيار شمول التغطية الصحية للجميع، ومن وجهة نظر الباحث أن بزوغ تلك المعايير سيلقي بعبء أكبر على الحكومات من أجل صياغة سياسات خاصة باقتصاديات الصحة قائمة على العدالة والشمول المجتمعي، وليست قائمة على الأرباح والاستثمارات الخاصة.

خامسا: المفاضلة بين الخيارات المتاحة

في إطار ما سبق، يرى الباحث أن المقاربة الثانية وهي “تبني مفهوم الصحة العامة” هي الخيار الأفضل لإصلاح النظام الصحي المصري.، وذلك لعدة أسباب وهي:

  • أثبتت أزمة كورونا عدم قدرة النظم الصحية التقليدية على المواجهة، وضعف قدرتها على التحكم في الفيروسات، وأن الاهتمام بالمكون العلاجي فقط لم يفلح، حتى في الدول التي تمتلك نظما صحية متطورة، على التصدي للظاهرة والتحكم فيها.
  • بناء نظام صحي جديد يجب أن يكون مرنا وقادرا على التعامل مع التحورات غير المتوقعة، والمفاجئة التي قد تحدث وباء عالميا، وهو ما يدعم بناء نظام يعتمد أساسا على المكون المناعي والمكون الوقائي جنبا إلى جنب مع المكون العلاجي.
  • يتيح مفهوم الصحة العامة التثقيف المجتمعي، والتواصل ومحو الأمية الصحية، وهو ما يساهم في توفير التوزيع العادل للخدمات العلاجية والدوائية والوقائية.
  • يتعامل النظام الصحي القائم على مفهوم الصحة العامة مع جوانب متعددة خاصة بالرفاهية الصحية المبنية على المكون الجسدي والعقلي والاجتماعي والعاطفي والروحي، وهو ما يساهم في تطوير المنظومة الصحية وتطوير أسلوب مقدم الخدمة.
  • يتسع مفهوم الصحة العامة ليشمل الفئات المهمشة والضعيفة، فهو يهتم بمناعة وصحة الأم والجنين، ومواجهة الفقر والعشوائيات والتلوث البيئي والانحراف والجريمة، والتعامل مع الشيخوخة، وارتفاع متوسط عمر الإنسان.
  • يعتبر مفهوم الصحة العامة أسلوب حياة، ولديه مظاهر وأنماط متعددة منها ما هو طبي وما هو ثقافي وما هو اجتماعي وما هو رياضي وما هو وقائي، والهدف في النهاية هو تعزيز الصحة.
  • يعظم مفهوم الصحة العامة من قدرة المجتمع على اتخاذ إجراءات احترازية ووقائية وتنظيمية تساهم في تقليل حدة الأوبئة، وإفساح المجال أمام التعامل معها وعدم انتشارها السريع.
  • يقلل هذا النظام من تعرض العاملين في القطاع الصحي من التعرض للعدوى، والإصابة بالفيروسات، وبالتالي يقلل نسب الوفاة بين أعضاء الفريق الطبي.

خاتمة

أثبتت أزمة كورونا عدم قدرة النظم الصحية التقليدية على مواجهة انتشار الأوبئة، وقد ساهم في ذلك عدة عوامل أهمها سهولة وسرعة وكثافة انتشار البشر بين دول العالم بفضل التطور الكبير في حركة النقل العالمية، واكتفى النظام الصحي التقليدي بدور رد الفعل، ومحاولته الصمود وعدم الانهيار، وقد نتج عن ذلك استدعاء أفكار إصلاحية مرتبطة بضرورة إعطاء المكون الوقائي دورا كبيرا في بناء المنظومة الصحية الجديدة، كذلك إفساح المجال أمام تكوين شبكات حماية اجتماعية تكون قادرة على تنظيم المجتمع وقت الأوبئة.

كما أدى تفاقم فيروس كورونا إلى إحداث جدل حول أهمية التغطية الشاملة لجميع المواطنين، كذلك عدالة توزيع الخدمات الطبية، ومركزية دور الدولة في إصلاح المنظومة الصحية، وعدم تسليع الخدمة الطبية، وبالتالي أصبح التوجه الأكثر ملاءمة هو بناء نظام صحي قائم على مفهوم أكثر اتساعا يشمل المكونات الوقائية جنبا إلى جنب مع المكون العلاجي، ولا يقتصر فيه إدارة الملف الصحي على وزارات الصحة فقط، بل تكون وزارة الصحة جزءاً من المنظومة.


الهامش

[1] – منظمة الصحة العالمية، الرابط

[2] – CDC Foundation, LINK

[3] – P N H P, Health Care Systems – Four Basic Models, link

[4] – جريدة المال، 21 أغسطس 2014، إطلاق برنامج الورقة البيضاء لبدء استراتيجيات صحية للأعوام المقبلة، تاريخ الاسترداد 2020، الرابط

[5] – أسماء سرور(حوار)، 4 يناير 2013، في حواره مع الشروق: مساعد وزير الصحة.. إلغاء العلاج على نفقة الدولة بعد تطبيق التأمين الصحي، تاريخ الاسترداد 2020، من الشروق، الرابط

[6] – محمد وحيد، 20يونيو2019، استمرار أزمة نقص الأطباء..62% منهم يعملون خارج مصر، تاريخ الاسترداد 2020، من البوابة نيوز، الرابط

[7] – الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، نشرة مصر في أرقام-الصحة 2018، الرابط

[8] – راجع النشرة السنوية لإحصاء الخدمات الصحية لعام 2016، الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في نوفمبر 2017، الرابط

[9] – أحمد عواد، 10 يونيو 2020، بعد أزمة أسعار كورونا: كم تمثل المستشفيات الخاصة من القطاع الصحي في مصر، من جريدة المال، الرابط

[10] – أسماء سرور وياسمين عبد الرازق، رئيس قطاع الطب العلاجي للشروق: البنية التحتية ل30% من المستشفيات الحكوية متهالكة، تاريخ الاسترداد 2020، من الشروق، الرابط

[11] – وليد سلام، 4 أبريل 2017، مستشفيات يسكنها الإهمال..186 مستشفى خارج الخدمة للصيانة أو عادة البناء، من البوابة نيوز، الرابط

[12] – حسام عماد،1 يونيو 2020، الصحة: استخدمنا 10% من أسرة العناية المركزة منذ بدء جائحة كورونا، من بوابة الشروق، الرابط

[13] – النقابة العامة لأطباء مصر , نقلا عن المصري اليوم, 6 فبراير 2020، حسين خيري نقيب الأطباء: نحتاج مبادرة رئاسية لدعم الرعاية المركزة والحضانات، الرابط

[14] – محمد خميس، 21 مايو2020، الوزراء يكشف عدد أسرة العناية المركزة لدى الصحة، من مصراوي، الرابط

[15] – الوففد، 18 يوليو 2020، فيديو.. وزيرة الصحة: نسبة إشغال أجهزة التنفس الصناعي كانت97% منذ شهر، من الوفد، الرابط

[16] – راجع أمجد حمدي، المعهد المصري للدراسات، الرابط

[17] – موقع وزارة البيئة المصرية، الرابط

[18] – World Health Organization, What is the WHO definition of health?, link

[19] – World Health Organization, What is health promotion? , link

[20] – World Health Organization, Infection prevention and control, link

أمجد حمدي

باحث مصري متخصص في السياسات العامة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى