دراسات

مستقبل النظام الدولي رؤية استشرافية بنائية

 

تقديم

تختلف المنظورات الكبرى في العلاقات الدولية في تحليل طبيعة النظام الدولي، وفي ظل التعدد النظري حول مقاربة هذا الموضوع يبرز المنظوران الواقعي والبنائي باعتبارهما يقدمان أبرز الاسهامات، إذ يعرف المنظور الواقعي النظام الدولي من خلال اعتبارات مادية بحتة تتعلق بعدد القوى الكبرى في العالم، وطبيعة علاقات القوة السائدة فيما بينها، أو ما يسميه الواقعيون بالتوزيع المادي للقوة، في حين يعرف المنظور البنائي النظام الدولي من خلال طبيعة الثقافة الدولية السائدة، وهذا يعني أن المنظور الواقعي يركز على البنية المادية للنظام الدولي في حين يركز المنظور البنائي على بنيته الثقافية، وإذا كان المنظور الواقعي يفسر دخول النظام الدولي في مرحلة انتقالية في السنوات الأخيرة على أساس التراجع في مكونات القوة الأمريكية – عسكريا واقتصاديا- نتيجة التورط الخاطئ في حربي العراق وأفغانستان،)1( وهذا ما فتح المجال من وجهة نظر واقعية إلى تعديل علاقات القوة السائدة بين القوى الكبرى، ولأن هذا التعديل لم يستقر بعد فانه من وجهة نظر واقعية فان بنية النظام الدولي لم تستقر هي الأخرى.

ويطرح المنظور البنائي تصورا مختلفاً للمرحلة الانتقالية التي يمر بها النظام الدولي، فالإصرار على فرض نظام العولمة الغربية باستخدام القوة الصلبة ( Hard Power ) كما حصل في فترة الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن أو باستخدام القوة الذكية ( Smart Power ) )2(، كما حصل في فترة الرئيس باراك أوباما، أدى إلى ارتفاع مستوى الفوضى في العلاقات الدولية، وهو ما دفع إلى القناعة بضرورة تدعيم الاستقرار على حساب الديمقراطية، وهذه الجزئية هي أحد المكونات الأساسية للعقيدة “النظامية” (orderism) )3(، التي تعمل روسيا على تجذيرها في العلاقات الدولية في السنوات الأخيرة، لذا فإن المرحلة الانتقالية التي يمر بها النظام الدولي، من وجهة نظر البنائيين، مرتبطة ليس بعدم استقرار علاقات القوة، كما يرى الواقعيون، ولكن بعدم استقرار التجاذبات الأيديولوجية بين العقيدة النظامية التي تتبناها روسيا وأيديولوجيا نظام العولمة الغربية التي يتبناها الغرب كعقيدة أيديولوجية.

لقد راهنت وجهة نظر معينة – مثل الأفكار التي طرحتها مدرسة كوبنهاغن في الدراسات الأمنية – على أن تشكل الأحادية القطبية منذ نهاية الحرب الباردة أدى إلى انتفاء التنافس الحقيقي بين القوى الكبرى وهو ما أثر على قيمة النظام الدولي كمستوى للتحليل في العلاقات الدولية )4(، ولكن المرحلة الانتقالية التي يمر بها النظام الدولي في السنوات الأخيرة، أعادت إنتاج التنافس على قيادة النظام الدولي، وهو ما يحفز على إعادة التركيز على مستوى النظام الدولي كمستوى أولي للتحليل، ويتبع ذلك أن معالجة القضايا الرئيسية في العلاقات الدولية تكون مجرد انعكاس لطبيعة النظام الدولي السائد.

ولأننا نعالج الموضوع من منظور بنائي فإننا نفترض أن الاتجاهات المستقبلية للنظام الدولي وما سيترتب عليها من معالجة القضايا الأساسية ستكون مرتبطة بطبيعة التجاذبات بين العقيدة النظامية التي تتبناها روسيا وأيديولوجية العولمة التي تتبناه الدول الغربية.

 

إشكالية الدراسة:

تتحدد الإشكالية المعالجة في هذه الدراسة باعتبارها ذات طبيعة مركبة إذ تتضمن جوانب نسقية من حيث الاستناد إلى التحليل النسقي لخصائص ومكونات الاتجاهات المستقبلية للنظام الدولي، وفي نفس الوقت تتضمن الإشكالية المعالجة جوانب معيارية من خلال تحليل الاتجاهات المستقبلية للنظام الدولي من خلال بنيتها الثقافية وليس بنيتها المادية وذلك يعبر عنه السؤال المركزي التالي: ما هي حدود الاستفادة من إسهامات المنظور البنائي في التنبؤ بالاتجاهات المستقبلية للنظام الدولي؟

 

منهجية الدراسة:

يقوم الباحث بتوظيف منهجية تحليل المتغيرات كمنهجية رئيسية، وبذلك فإن بناء الفرضية المركزية يرتبط بإطار نظري هو الإطار البنائي والذي يركز على دور الأفكار والأيدولوجيات في العلاقات الدولية وبذلك يطرح الباحث الفرضية التالية: تتحدد الاتجاهات المستقبلية للنظام الدولي من منظور بنائي استنادا إلى مخرجات التفاعلات بين أيديولوجيا نظام العولمة التي تتبناها الدول الغربية وبين الأيديولوجية النظامية التي تعمل روسيا على تجذيرها في العلاقات الدولية الراهنة، حيث أن المرحلة الانتقالية التي يمر بها النظام الدولي في الوقت الراهن مرتبط بعدم استقرار نتيجة التجاذبات بين هاتين الأيدولوجيتين.

 

المحور الأول: التنبؤ في نظريات العلاقات الدولية

عند تحليل الوظيفة التنبؤية لنظريات العلاقات الدولية نجد أنفسنا أمام جدل منهجي تشكله رؤيتين أساسيتين:

الأولى: تقوم على عدم اعتبار التنبؤ أحد وظائف نظريات العلاقات الدولية، وإن مورست هذه الوظيفة فتمارس بشكل عرضي، حيث يرى جيمس روزنو (J.Rousnau) أن حقل نظرية العلاقات الدولية لم يفشل فقط في التنبؤ ولكن أيضا في التعلم من الأخطاء بمعنى أن نظريات العلاقات الدولية فشلت حتى في ممارسة وظائف الوصف والتفسير فما بالك بوظيفة التنبؤ.

وفي نفس السياق يؤكد ميتشل نيكلسون (M.Nicholson) أن تعدد النظريات في حقل العلاقات الدولية يضفي نوع من التشوش المنهجي على هذا الحقل وهو ما يعقد من مهمة التنبؤ، كما يرى ريمون ارون (R.Aron) أن العلاقات الدولية هو علم تاريخي وبالتالي أقصى ما يمكن أن يطمح إليه هو استقراء التاريخ وليس التنبؤ بالمستقبل، كما يرى مورتون كابلان ( M.kaplan) أن ممارسة الوظيفة التنبؤية مرهون بالوصول إلى تعميمات متفق عليها بين المنظرين، وهو ما يعد غير متاح في واقع التنظير.

ويؤكد كينيث والتز ( kWaltz) أن التنبؤ كهدف منهجي لنظرية العلاقات الدولية هو هدف غير واقعي، فمن جهة أولى فان المتغيرات المؤثرة في واقع العلاقات الدولية هي متغيرات كبيرة العدد وغير قابلة للإحصاء، بالإضافة إلى التنوع الهائل في أهداف الفواعل، كما أن كل العوامل المؤثرة في واقع العلاقات الدولية لا يمكن التعبير عنها كميا، ويبرر روبرت جيرفيس (R.Jervis) عدم إمكانية ممارسة التنبؤ في نظريات العلاقات الدولية، بأن التنبؤ يمكن إنكاره ذاتيا إذا أثر في سلوكيات الفاعلين (5).

الثانية: تقوم على أن التنبؤ يجب أن يكون أحد الوظائف الأساسية لنظريات العلاقات الدولية حيث تقاس عليها قيمة التنظير في هذا الحقل المعرفي، وهنا يرى ستيفن هاوكينغ (S.Hawking) أن النظرية الجيدة هي التي تتصف بالاتساق الكبير بين مجموعة من الملاحظات، مع تقديم تنبؤات محددة حول مستقبل هذه الملاحظات، فقيمة نظريات العلاقات الدولية لا تتحدد على أساس الاختبار في أحداث الماضي، ولكن على أساس الاختبار في المستقبل، كما أن العلم الذي لا يملك الاستعداد للتعامل مع متغيرات جديدة هو علم محكوم عليه بالزوال، ويضيف رينولد تشارلز ( C.Raynold) أيضا أن نظريات العلاقات الدولية لا تشرح وضعا محددا ولكن تشرح الأوضاع كلها، ولذا فإن التنبؤ يجب أن يكون وظيفة منهجية أساسية لهذه النظريات( 6).

ونحن نميل إلى وجهة النظر الثانية مؤيدين في ذلك وجهة نظر كل من دافيد سنجر ( D.Singer) وجون ميرشامير ( J.Mearshimer)، أما دافيد سنجر فيرى أن نظريات العلاقات الدولية تستطيع الانفتاح على التنبؤ كمستوى منهجي لأن التنبؤ مرتبط بطبيعة الإطار التفسيري الذي تتبناه النظريات في حد ذاتها وبالنسبة إليه فإنه عندما تذكر وظائف التنظير فان الوظيفة التنبؤية تأتي في آخر مهام التنظير، وبالرغم من هذا الاعتقاد الشائع، فان التنبؤ هو أهون المهام التنظيرية لأنه مرتبط بطبيعة التفسير الذي تتبناه النظرية، إذ متى توفرت العوامل التي فسرت الأمور في الماضي والحاضر، فإنها هي ذات العوامل التي ستفسر الأمور في المستقبل (7) .

أما جون ميرشايمير فيرى أن نظريات العلاقات الدولية مجبرة على ممارسة التنبؤ لأنه أحد المداخل الأساسية لاختبار النظريات، فبالرغم من أن دراسة العلاقات الدولية كما هو الحال مع العلوم الاجتماعية الأخرى تقوم على أساس نظري أقل ثباتا فضلا على أن الظواهر السياسية أكثر تعقيدا ولذلك تستحيل التنبؤات السياسية الدقيقة بدون أدوات نظرية أرقى من تلك التي بحوزتنا الآن، ولكن هذه الاخطار لا تعني أن يمتنع العلماء الاجتماعيون عن استخدام نظرياتهم للتنبؤ بالمستقبل، فالتنبؤ يعين في بلورة الخطاب السياسي لأنه يساعد في فهم الأحداث التي تتكشف حولنا في العالم والتنبؤات الصريحة بما تسهم به في توضيح نقاط الخلاف وتساعد ذوي الرؤى المتعارضة على تاطير أفكارهم بمزيد من الوضوح علاوة على أن محاولة التنبؤ بالأحداث الجديدة تعد طريقة جيدة لاختبار نظريات العلم الاجتماعي لأن المنظرين لا يمتلكون ميزة الإدراك المتأخر ولا يستطيعون بالتالي أن يعدلوا ادعاءاتهم لكي تلائم الأدلة (8).

 

المحور الثاني: المنظور البنائي والنظام الدولي

في المنظور التقليدي لدراسة النظام الدولي والذي سيطرت عليه الافتراضات التحليلية للواقعية البنيوية كانت طبيعة هذا النظام تعرف وفقا لمنظور مادي بحت وهو المتعلق بطبيعة البنية الدولية وهي تتحدد أيضا بناءً على عاملين ماديين: الأول هو عدد القوى الكبرى، والثاني هو طبيعة العلاقات فيما بينها، فإذا كان هناك قوة واحدة كبيرة فهذا يسمى بالبنية الأحادية، أما إذا كانت هناك قوتين كبريتين، وهناك تعادل في موازين القوة الشاملة بينهما، فهذه تسمى بنية ثنائية قطبية جامدة، أما إذا كان هناك ميل نسبي لأحدها في موازين القوى فهذه تسمى ثنائية قطبية مرنة، وفي حال كان هناك قوى كبرى متعددة، وكان هناك توازن قوة فيما بينها فهذا يسمى نظام التعددية القطبية الجامدة، أما إذا كان هناك قوى كبرى متعددة وكان هناك اختلال نسبي في موازين القوى فيما بينها فهذا يسمى التعددية القطبية المرنة(9) وهو ما يمكن إيجازه بالشكل التالي:

ويعتبر المنظور البنائي من أبرز المنظورات التي قدمت انتقادا وطرحت بدائل نظرية لهذا التصور التقليدي الواقعي، فلقد أدى انتهاء الحرب الباردة إلى إعادة تشكيل هائلة للمناقشات داخل الخطاب الأمريكي السائد في نظرية العلاقات الدولية، وعزز ذلك من صعود المدرسة البنائية في الفكر، والتي يتعين النظر إليها بشكل أساسي باعتبارها ثمرة للنظرية الدولية النقدية، حيث سعى الكثير من روادها إلى تطبيق استبصارات تلك النظرية من أجل إلقاء الضوء على الأبعاد المتنوعة للسياسة العالمية، وبصورة عامة كان هناك عاملين رئيسيين حفزا على صعود البنائية في حقل التنظير:(10)

1ـ أن العقلانيين، أو الواقعيين الجدد والليبراليين الجدد، كانو مدفوعين بمحاولة إعادة تأكيد تفوق تصوراتهم عن النظرية والسياسة العالمية، وتحدوا المنظرين النقديين في أن يتحركوا إلى أبعد من النقد النظري إلى التحليل الواقعي للعلاقات الدولية، وبينما أدان المنظرون النقديون البارزون الدوافع الكافية وراء مثل هذا التحدي رأى البنائيون فيه فرصة لإثبات القوة الإرشادية للمنظورات غير العقلانية.

2ـ قوض انتهاء الحرب الباردة المزاعم التفسيرية للواقعيين الجدد والليبراليون الجدد، فلم تتنبأ أي منهما أو حتى استطاعت أن تفهم بطريقة صحيحة التحولات النظامية التي أعادت تشكيل النظام الدولي. وبذلك فان المنظور البنائي يتبنى انطولوجيا الاتجاه النقدي من حيث أن العناصر الاجتماعية، التي ليس لها بنية مادية – كالأفكار والأعراف والخطاب والهويات- هي الأكثر تأثيرا في واقع العلاقات الدولية، أما من الناحية الابستمولوجية فقد تبنى البنائيون الابستومولوجيا التقليدية من حيث أن الوظيفة الأساسية للنظرية هي التفسير، وليس بناء الواقع وهو ما عبر عنه الكسندر وندت وهو رائد المنظور البنائي حيث يرى انه انطولوجيا اقرب إلى النقديين أما ابستملوجيا فهو أقرب إلى العقلانيين (11).

وهذا الإطار العام لبنية النظرية البنائية يتضمن التركيز على قيمة الأفكار في فهم التفاعلات الدولية، فالأفكار عند البنائيين هي محدد لقوة الدول وليس العناصر المادية – العسكرية والاقتصادية- فقط، كما كان يرى الواقعيون، وبذلك فإن مكانة الدولة في العلاقات الدولية أصبحت ترتبط ليست بقوتها العسكرية والاقتصادية فقط، ولكن بقوة عقيدتها الفكرية ومدى قدرتها على نشرها، وفي هذا السياق يرى البنائيون أن كلا من القوة المادية والقوة الخطابية هما مفهومان مهمان، وأن الجمع بينهما يعد ضرورياً لفهم الشؤون الدولية، فالثقافة الأيديولوجية مرتبطة مع أنواع واضحة من القوة السياسية (12) .

وتبقى النقطة الأهم بالنسبة إلى موضوع الدراسة هي أن تعريف النظام الدولي يتحدد على أساس طبيعة الثقافة الدولية السائدة المسيطرة وليس على أساس التوزيع المادي للقوة كما كان ينظر الواقعيون، وعلى خلاف الواقعيين يرى البنائيون أن النظام الدولي يأخذ ثلاث صور محددة “نظام الثقافة الهوبزية”، نسبة إلى توماس هوبز، وهو النظام الذي يجعل السلوك الصراعي هو السلوك الشائع في العلاقات الدولية، و”نظام الثقافة اللوكية”، نسبة إلى جون لوك، وهو النظام الذي يطرح السلوك التنافسي باعتباره هو السلوك الأكثر انتشارا،” ونظام الثقافة الكانطية”، نسبة إلى إيمانويل كانط، وهو النظام الذي يجعل السلوك التعاوني هو السلوك الدولي الشائع. فالنظام الدولي هو عبارة عن وعاء فارغ ليس له معنى أو منطق خاص إلا إذا تم ملؤه بثقافة معينة، أي أن النظام الدولي له بنية ثقافية واجتماعية تشتمل على مجموعة من المعايير والقواعد والقيم والأفكار المشتركة .(13)

وإذا كانت الثقافة السياسية السائدة تحدد، من وجهة نظر بنائية، طبيعة النظام الدولي، فإن العقيدة الفكرية السائدة هي تعرف مضمون النظام الدولي السائد، فالنظام السائد منذ نهاية الحرب الباردة من وجهة نظر بنائية هو “نظام ايلوجيا العولمة” وهذا ما يفسر من وجهة نظر البنائيين التحولات في طبيعة النظام الدولي، فالنظام الدولي لا يتغير لان علاقات القوة تغيرت، ولكن باعتباره انعكاس لتغير طبيعة العقيدة الفكرية السائدة، وهذا الطرح النظري هو الذي وظفه البنائيون في تفسير نهاية الحرب الباردة، إذ أن هذا التحول لم يحدث، لأن علاقات القوة تعرضت للاختلال لصالح الولايات المتحدة، لا بحدوث تغيرات في المؤشرات المادية للقوة، كما يرى الواقعيون، ولكن نتيجة تفجر صراع أفكار داخل الاتحاد السوفيتي بين الأيديولوجية الاشتراكية، وهي الأيديولوجية الرسمية وبين الأفكار اللبرالية والتي دخلت في مسار الانتشار مما أدى إلى تفكك الاتحاد نتيجة التمرد من بعض الكيانات التي أصبحت مقتنعة بالأيديولوجية الليبرالية.

لقد نجم عن سقوط حائط برلين طرح سؤالين مهمين هما: لماذا كانت نهاية الحرب الباردة بهذه الطريقة المفاجئة؟ وماذا يعني هذا لنظرية العلاقات الدولية؟ وقد حاولت كثير من الدراسات البحث في الإجابة عن هذه الأسئلة، فبينما بحث الواقعيون الجدد عن طريقة لفهم انهيار الاتحاد السوفيتي السلمي، بما يتلاءم مع افتراضاتهم وبخاصة فيما يتعلق بالقيمة العليا للدولة وبقائها، فإن البنائيون فسروا الأمر بشكل واسع ومختلف كدليل على صواب معتقداتهم ونجاحها، وخاصة ما يتعلق بتأثير الأفكار والمعايير حول السياسات الدولية، وشعر الكثير من المنظرين البنائيين أن سقوط الثنائية القطبية لم يأت ليعلن فقط عن حدوث تحولات وتغيرات نظامية وإنما ليعلن أيضا عن حدوث تغيير أساسي في الطريق التي تعالج بها السياسات الدولية.(14)

 

المحور الثالث: مستقبل النظام الدولي من منظور بنائي

لقد استوعبت الفيدرالية الروسية جيدا الدرس من انهيار الاتحاد السوفيتي وذلك من ثلاث زوايا اساسية: الأولى أن هذا الانهيار حدث نتيجة صراع الأفكار داخله وهو ما يثبت قيمة الأفكار في تفاعلات العلاقات الدولية، ومن جهة ثانية أن ميكانزم الهيمنة الأمريكية في مرحلة ما بعد نهاية الحرب الباردة لم يرتبط فقط بالتطورات غير المسبوقة للقوة الأمريكية بالمعنى المادي- عسكريا واقتصاديا- ولكن من خلال جاذبية أيديولوجيا العولمة التي تتبنها الولايات المتحدة في سياستها الخارجية والتي تعتبر جذابة للكثير من الشعوب على اعتبار تضمنها لمفردات النظام الديمقراطي وحقوق الإنسان، في نفس الوقت الذي رأت فيه الفيدرالية الروسية أن إعادة إحياء الأيديولوجية الاشتراكية لن تشكل عامل جذب للدول والشعوب لأن هيمنة أيديولوجية العولمة منذ نهاية الحرب الباردة قد أدت إلى مسح أي جاذبية للأفكار الاشتراكية، أما الزاوية الثالثة فهي الحرص على تطوير عقيدة فكرية تستطيع اختراق المجتمعات الغربية في حد ذاتها.

وبناء عليه حرصت روسيا في السنوات الأخيرة على تطوير عقيدة فكرية جديدة تسمى بالعقيدة النظامية وهي العقيدة التي تقوم على المرتكزات الفكرية التالية:

1- أولوية الاستقرار على الديمقراطية: حيث ترى العقيدة النظامية أن تدعيم الاستقرار داخل الدول يجب أن يكون هو القيمة الأساسية التي يجب دعمها وليس تأسيس الديمقراطية كما تدعو أيديولوجيا العولمة، وهذا المرتكز يدعمه في العقيدة النظامية أثار الموجة الحالية من التحول الديمقراطي التي أنتجت الفوضى أكثر من الاستقرار، والفوضى في العلاقات الدولية الراهنة اكتسبت ثلاث خصائص جديدة كما يرى روبرت كوبر(R.Cooper ) فالأولى خاصية الانتشار إذ لا يمكن لأي أزمة داخل حدود دولة معينة أن تبقي أثارها داخل تلك الحدود وفقط، والثاني أن الفوضى أصبحت هي السبب الرئيسي في فشل الدول، والثالثة أن الفوضى هي أكثر ما يصنع سياق تهديدات الأمن القومي .(15) .

ب-معادة الانفتاح الفكري غير المحدود: ترى العقيدة النظامية أن الآثار السلبية للانفتاح الفكري غير المحدود وهو أحد الخصائص الأساسية للعولمة قد اكتملت عندما بدأت هذه الآثار تسير في الاتجاه العكسي، فالإشكالية التي كانت تطرح في السابق هي مدى تأثير العولمة الثقافية المرتبطة بالثقافة اللبرالية الغربية على الثقافات العالمية الأخرى (16).

ولكن الوضع الحالي يشير إلى أن الوضع الثقافي الغربي هو الذي أصبح يعاني -كما ترى العقيدة النظامية – من التغلغل السلبي لثقافات دخيلة مثل الثقافات الإسلامية والتي أفرزت جملة من المشكلات على جميع المستويات الأمنية والسياسية والاجتماعية وقد نبه إلى ذلك فرانسيس فوكوياما F.Fukuyama) ) وهو أكثر المدافعين عن أيديولوجيا العولمة حيث اعتبر أن اخطر الناس ليسوا المسلمين الأتقياء في الشرق الأوسط بل هم الشباب المعزولون والمستأصلون من جذورهم في هامبورج أو لندن أو أمستردام والذين يرون الأيديولوجية بوصفها الجواب لبحثهم الشخصي عن الهوية (17) .

ج- الانحياز الأيديولوجي للقانون الدولي: ترى العقيدة النظامية أن أيديولوجيا العولمة تتخذ موقفا سلبيا من القانون الدولي على اعتبار أن هذا القانون يمثل آليات بطيئة لا تتوافق مع التغيرات السريعة التي يعرفها العالم برغم كل التكييفات التي تم طرحها حتى يتماشى القانون الدولي مع واقع نظام العولمة وخاصة ما يتعلق بتوسيع الأبعاد الإنسانية لهذا القانون، فنظام العولمة يرى أن حل المشكلات العالمية في الوقت الراهن يجب أن يتم على أساس التضامن الدولي حول العقيدة الليبرالية السائدة وليس على أساس نصوص القانون الدولي، وهو ما يجعل تطبيق القانون الدولي مغلفا بالانحياز الأيديولوجي.

وفي هذا السياق يرى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن “عقدة المنتصر” التي اكتسبتها الولايات المتحدة الأمريكية نتيجة الحرب الباردة ليست مجرد مشكلة نفسانية فهي تتجلى بشكل متزايد في الجوانب العملية للسياسة الدولية حيث تستند أساليب حل المشكل الدولية لا على التحليل الموضوعي للوضع ولا على المبادئ العامة للقانون الدولي بل على “الجدوى السياسية” بالمفهوم الخاص بالولايات المتحدة.(18)

ولذا ترى العقيدة النظامية أن القانون الدولي لا يجب أن يخضع للتصور الأيديولوجي للدول الغربية، فإذا كانت إعادة السيطرة الروسية على شبه جزيرة القرم هي حالة عدوان بالنسبة للدول الغربية، فإن العقيدة النظامية تبرر ذلك بأنه حالة دفاع عن النفس لان التوسع الغربي استغلالا للقانون الدولي أصبح يلامس الحدود الروسية.

د- إعادة الاعتبار للنزعة الحمائية في الاقتصاد الدولي: ترى العقيدة النظامية أن العولمة الاقتصادية التي يشرحها الاعتماد الدولي المركب تجعل بعض الدول تتحمل أوضاع اقتصادية سيئة لدول أخرى هي في غنى عنها ويعتبر الانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوربي هو أفضل مثال على ذلك، فقوة الاقتصاد البريطاني تغنيه عن الارتباط باقتصاديات دول أوربية تعاني من أزمات بنيوية مثل الاقتصاد اليوناني، وان الانفتاح على استيعاب عمالة أجنبية تؤثر على الفرص الاقتصادية للمواطن البريطاني وهي الحجج الاقتصادية الرئيسية التي برر بها موقف المؤيدين للانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوربي.

ويستطيع البنائيون أن يقدموا الكثير حول تفسير مضامين العقيدة النظامية التي تسعى روسيا إلى تجذيرها في العلاقات الدولية الراهنة، إذ أن البنائيين يعتبرون أن الفوضى هي ما تصنعه الدول، أي أن طبيعة البنية الثقافية للنظام الدولي هي التي تحدد مدى انتشار الفوضى من عدمها وبذلك ترى العقيدة النظامية أن البنية الثقافية للنظام الدولي الحالي والذي تسيطر عليه أيديولوجيا نظام العولمة هي المسؤولة عن انتشار الفوضى في العلاقات الدولية الراهنة بشكل غير مسبوق.

وتسوق روسيا العقيدة النظامية على أنها عقيدة معادية للعولمة وليس للبرالية أي أن سلبيات نظام العولمة الغربي تؤثر حتى على الدول اللبرالية في حد ذاتها ولذا يرى الباحث – التزاما بمرتكزات المنظور البنائي- أن الاتجاهات المستقبلية للنظام الدولي ترتبط بمدى انتشار العقيدة النظامية في المجتمعات الغربية، وبناء على هذه الجزئية يحدد الباحث صورتين أساسيتن لمستقبل النظام الدولي:

 

الصورة الأولي: نظام ما بعد العولمة الغربي:

يرتبط تأسيس هذا النظام بتوسع الاقتناع بالعقيدة النظامية على المستوى الدولي وخاصة داخل المجتمعات اللبرالية الغربية، وقد كان الانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوربي هو أحد الأحداث الكبرى التي تؤيد إمكانية تشكل هذا النظام، فهذا الانسحاب له دلالة كبرى لأن بريطانيا كانت من أكثر الدول حماسة للدفاع عن أيديولوجيا نظام العولمة حيث تولت بريطانيا منذ فترة رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير الدعوة إلى توسيع العولمة لتشمل الأبعاد السياسية، من خلال ما سمي “عقيدة توني بلير” والمساماة أيضا “الليبرالية التدخلية” والتي تقوم على المرتكزات التالية:(19)

(أ) أن الليبرالية التدخلية والتي تشمل أساسا آلية التدخل الإنساني لا تمثل خيارا تفضيليا بقدر ما صارت توجها مهما في الممارسة الدولية، بما يعني الشرعنة الواقعية لهذا التدخل كرد فعل على فشل المسلمات التقليدية في التعامل مع المشاكل العالمية.

(ب) أن القيم الغربية هي الأكثر إقناعا وتقبلا في العالم ولذا فهي تمثل الأسس القيمي لتشكيل مجتمع دولي تضامني حيث تتوفر اللحظة التاريخية المناسبة التي يتضامن فيها المجتمع الدولي من أجل دعم هذه القيم، وأن احترام التنوع الثقافي العالمي مرتبط بجعل الأمم الأخرى أكثر مرونة في التفاعل مع القيم الغربية الأساسية، فهذه القيم أصبحت معيارا مستحدثا للاعتراف المتبادل بين الدول إلى جانب المعيار التقليدي للسيادة.

(ج) أن الحل الأمثل للمشاكل العالمية مرتبط بالدعم القوي للقيم الغربية بحيث أنه لا يمكن استبعاد أي وسيلة لتحقيق هذا الهدف بما فيها استخدام القوة العسكرية حيث أن التدخل يجب أن يكون جريئا وشاملا ومتسقا ,وفي حين تبقى الأولوية للعمل الجماعي ( في إطار منظمة الأمم المتحدة) فإن إمكانية أن يتصرف طرف من الأطراف بشكل انفرادي نيابة عن الجماعة الدولية تبقى قائمة مادام أن هذه الممارسة تتعلق بقضية عادلة.

(د) تبقى العولمة والاعتماد المتبادل أمرا واقعاً، وإذا كان ذلك قد فرض الترابط العالمي على المستوى الاقتصادي، وإذا كانت العولمة الثقافية قدر رسخت وحدانية الثقافة المدنية العالمية فإن الأهمية القصوى تبقى لتحقيق الترابط العالمي على المستوى السياسي حيث تشكل القيم السياسية الغربية الوسيلة المثلى لتحقيق هذا الترابط.

ويأتي الانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوربي ليتوج مجموعة من التحولات التي تحدث في القارة الأوربية والتي تعتبر في مجملها معادية لايدولوجيا العولمة : (20)

 

(1)صعود الأحزاب ذات التوجه القومي والصراع حول مفهوم الديمقراطية :

ففي الوقت الراهن هناك 47 حزب ذو نزعات قومية في القارة الأوربية وهي تسعى إلى تعزيز نفوذها في المؤسسات المنتخبة، ففي ثلث بلدان الاتحاد الأوربي أصبحت هذه الأحزاب أعضاء في حكومات ائتلافية ونجحت في تمرير الكثير من المطالب، وتشكك هذه الأحزاب في النظام الإقليمي الأوربي كما أنها تحمل عداءا صريحا لحلف الشمال الأطلسي وتنادي بغلق الحدود ووقف التجارة الحرة وترفض هذه الأحزاب التقسيم التقليدي للأحزاب الأوربية بين اليمين واليسار وترى أن التقسيم الصحيح هو بين الأحزاب القومية المناهضة للعولمة والأحزاب التي تدعمها، وقد وصل عدد الاستفتاءات التي طلبتها هذه الأحزاب إلى 32 استفتاء في 18 دولة في مختلف أنحاء الاتحاد الأوربي من اجل تجسيد مطالب كلها معادية للعولمة ومنها الانسحاب من الاتحاد الأوربي، الانسحاب من منطقة اليورو، أو منع اتفاقية الشراكة والاستثمار عبر الأطلسي مع الولايات المتحدة أو تقييد حري التجارة .

ويعكس صعود الأحزاب القومية الصراع حول مفهوم الديمقراطية الأكثر صلاحية للمجتمعات الأوربية والغربية بصورة عامة ففي حين يدافع البعض على الديمقراطية التمثيلية والتي تسمح للمؤسسات بإصلاح الخيارات غير العقلانية للجماهير إن حدثت فان الأحزاب القومية تنتقد “التسيير النخبوي” الذي لا يلامس اهتمامات واحتياجات المواطنين العاديين، ولذا تعتبر تلك الأحزاب انه يجب تطبيق الديمقراطية الشعبية في المجتمعات الغربية وهذا الصراع حول مفهوم الديمقراطية يطرح تحديات عديدة على الحكم الديمقراطية في تلك المجتمعات، وقد افرز ذلك انقساما سياسيا واضحا حيث تنقسم الضغوط التي تفرضا العولمة إلى شقين، فأولا سنجد أن أحزاب المؤسسة من اليمين والسيار التي دعمت التجارة الحرة والعولمة لأكثر من جيل تواجه الآن تحديات من قبل الشعوبيين والأحزاب القومية المعادية للهجرة والمناهضة للعولمة، وثانيا توجه أحزاب المؤسسة صعوبات هائلة من الداخل مع ظهور أنصار موجهة مناهضة العولمة التي تتحدى المعتقدات التقليدية السائدة .

 

(2) الآثار السلبية للعولمة الاقتصادية في القارة الأوربية:

فالانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوربي أثبت أن الذين ينتمون للطبقة العاملة والطبقة المتوسطة والذين يشعرون أنه تم تهميشهم بسبب العولمة هم أكثر غضبا مما كان يعتقده صناع القرار ولم يعد من الممكن تجاهلهم، فلقد كانت الأجندة النيولبرالية طوال العقود الأربعة الماضية مفيدة لأعلى 1% دخلا بين السكان وليس لبقيتهم، وعلى جانبي الأطلسي يعتبر المواطنون الاتفاقيات التجارية مصدرا لمحنتهم ذلك أن التفاوض على فاتفاقيات التجارة اليوم تجري سرا مع تمثيل مصالح الشركات بقوة في حين يستبعد المواطنون العاديون تماما، يضاف إلى ذلك انه في العديد من القطاعات يتجه التركيز الصناعي نحو الازدياد وكذلك قوة السوق وقد اقترنت التأثيرات المترتبة على ركود وانحدار الأجور الحقيقية بالتأثيرات التي خلفتها سياسات التقشف لكي تهدد بخفض الخدمات العامة التي يعتمد عليها كثيرون من ذوي الدخول الضعيفة والمتوسطة وقد زاد من ذلك تأثيرات إشكالية الهجرة نتيجة حرية انتقال العمالة التي تتيحها العولمة.

وبصورة عامة فإن حجج المؤيدين للانسحاب من الاتحاد الأوربي داخل المجتمع البريطاني تتقاطع بشكل كبير مع الإحساس بسلبيات العولمة فمن الناحية السياسية فان الديمقراطية المنقوصة لهياكل الاتحاد الأوربي تؤثر على خصوصية وتميز الديمقراطية البريطانية ويستشهدون بالصلاحيات الواسعة للمفوضية الأوروبية غير المنتخبة التي يحق لها وضع مشاريع قوانين على البرلمان الأوروبي المنتخب مباشرة من الشعوب الأوروبية.، أما من الناحية الاقتصادية فان الاقتصاد البريطاني القوي والذي يعتبر ثاني اقتصاد داخل القارة الأوربية بعد الاقتصاد الألماني غير مجبر الارتباط باقتصاديات أوربية تعاني أزمات بنيوية كالاقتصاد اليوناني بالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية المتوقعة في البرتغال، كما أن بريطانيا مجبرة على دفع 8 مليارات جنيه استرليني للاتحاد الأوربي من أجل تمويل ميزانيته، أما اجتماعيا فالهجرة الأوروبية إلى بريطانيا من شرق أوروبا، تؤثر سلباً على البلاد، ثقافيًا لكونهم غريبين، واقتصاديًا نظرا لمنافستهم للبريطانيين على الوظائف، ورفعهم لأسعار العقارات والسلع.(21)

ويلي ذلك أيضا المشكلات المتطورة للسياسة الأمنية الأوربية المتأثرة بالانفتاح الفكري غير المحدود، فالعمليات الإرهابية في الدول الأوربية والمجتمعات الليبرالية الغربية بصورة عامة لم تعد تسند إلى فواعل وافدة، ولكن إلى أشخاص ينتمون إلى المجتمعات الغربية، ولكن يحتفظون بأصولهم التي تمثل ثقافات دخيلة وخاصة ما تعلق بالثقافة الإسلامية، وقد كان الانعكاس المباشر لذلك هو صعود أحزاب اليمين المتطرف في الدول الأوربية، فلقد حظي مفهوم أسلمة أوربا بنقاش واسع في الأدبيات اليمينية في الغرب وهو ما يعني أن المسلمين الذين يمثلون حضارة دونية يحصلون على المزيد من التغلغل والنفوذ بما يكفي لتشكيل تهديد حقيقي. 22

في ظل الانفتاح الاقتصادي والثقافي العالمي على الآخر، الذي تفرضه عمليات العولمة الجارية على نطاق واسع، خبرت أوروبا تزايد عدد المهاجرين وتدفق اللاجئين وطالبي العمل المنتمين إلى أقليات قومية ودينية وعرقية مختلفة، بما أدى إلى تنوع وتعددية ثقافية في المجتمعات الأوروبية، في سياق كهذا، لم يعد ينظر إلى المهاجرين فقط كمصدر تهديد لفرص العمل ولدولة الرفاه في أوروبا، ولكن كمصدر تهديد للهوية والثقافة الوطنية أيضاً من قبل الآخر، وأضحت فئات واسعة من المجتمع الأوروبي تتجه نحو إظهار مزيد من عدم الثقة، وحتى العداء تجاه الأجانب وثقافتهم وقيمهم، التي أصبح ينظر إليها كثقافات غريبة تضفي مزيداً من التحدي على التماسك الوطني، والثقافة الوطنية وطريقة الحياة المحلية.(23)

ويتأثر ذلك أيضا بالتحولات الداخلية في تركيا والتي تعتبر حلقة الوصل بين الثقافة الغربية والشرقية إذ انقلب النظام التركي الحالي بعد المحاولة الانقلابية عن الترويج للديمقراطية في مقابل الترويج للاستقرار، بالإضافة إلى أن سوء العلاقات التركية مع الدول الغربية ستفرض تحديات أمنية اكبر على المجتمعات الأوربية باعتبار تركيا تؤدي دوارا مهما في السياسة الأمنية الأوربية من حيث كونها تمثل حاجزا أمام المشكلات الوافدة من منطقة الشرق الأوسط( 24)، وفي الحالتين ستكون تركيا إحدى القوى الداعمة لنظام ما بعد العولمة.

ويعتبر فوز دونالد ترامب دفعا قويا لتشكل نظام ما بعد العولمة الغربية إذ أن شعار السياسة الخارجية الذي رفعه دونالد ترامب مرشح الحزب الجمهوري والذي عنوانه “أمركة لا عولمة”، وتمسكه بالانسحاب من النظام المتعدد الأطراف للتجارة العالمية كما تجسده المنظمة العالمية للتجارة، وهي احد الركائز الأساسية للعولمة الغربية في بعدها الاقتصادي، ويضاف إلى ذلك عداء ترامب لكل الثقافات الدخيلة على المجتمع الأمريكي وخاصة الثقافة الإسلامية، فكل هذه المؤشرات تثبت أن السياسة الخارجية لدونالد ترامب ستكون متماهية إلى حد كبير مع العقيدة النظامية التي تروج لها روسيا وهو ما يحفز تقاربا روسيا أمريكيا من اجل تأسيس نظام ما بعد العولمة الغربية.

ويظهر ذلك من خلال مبادئ السياسة الخارجية عند دونالد ترامب والتي تشمل ما يلي: (25)

  • يتبنى ترامب في سياسته الخارجية مبدأ “أمريكا أولا” كالهدف العام من سياسته الخارجية بمعنى أنه لا يجب على أمريكا أن تؤَّمن مصالح غيرها أو تضعها في اعتبارها بالقدر الحالي، مع ضرورة الالتزام بالمصالح الأمريكي والتعامل معها على أساس أنها الدافع الأساسي لأي تحرك على مستوي السياسة الخارجية. فأمريكا ليس عليها أن تتحمل عبء حماية أو دفاع عن دول أخرى دون مقابل.
  • يعد ترامب من أصحاب مبدأ العزلة في السياسة الخارجية حيث يرى أن الولايات المتحدة ليس عليها أن تتدخل في تنظيم شئون العالم من حولها وحل مشاكله، ويتجنب في سياسته الحديث عن العالمية لذا يغلب على خطابه الروح القومية بل ويعظم من أهمية الدولة القومية كما أشار صراحةً في خطابه عن سياسته الخارجية.
  • لا يؤمن ترامب بفكرة التدخل الإنساني كأساس أو دافع للتدخل في الشأن الداخلي للدول. فطالما الأمر لم يمس المصالح الأمريكية فلا داعي لتورط القوات الأمريكية والسياسة الأمريكية في هذا الشأن. لكن عندما يتعلق الأمر بمصالح الولايات المتحدة يجب عليها التدخل العسكري الأحادي الذي لا تعتمد فيها على أطراف أخري.
  • يقف ترامب ضد الهجرة فهو أكثر توجهًا للتأكيد على أن الولايات المتحدة تقتصر على مواطنيها فهو يسعى إلى تقليص معدل الهجرة إلى الولايات المتحدة بل أحيانا يصل إلى حد منع فئات معينة من الانتقال إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
  • يتبني ترامب مبدأ الحماية التجارية للسوق الأمريكي بجانب أنه يتشكك في مدي فعالية وتأثير الاتفاقيات والمعاهدات التجارية الدولية والتحالفات التجارية الدولية ويعتبرها أنها غالبًا ما تكون في مصلحة الطرف الآخر على حساب الولايات المتحدة أو على أقل تقدير تنتج عنها سلبيات تضر بالاقتصاد والسوق الأمريكي.

 

الصورة الثانية: نظام القطبية الأيديولوجية الجديدة :

في المقابل يتوقع أن تقود القوى الغربية المرتبطة بالأيديولوجيا الليبرالية حملة مضادة لانتشار العقيدة الروسية واستمرار الدفاع عن أيديولوجيا الليبرالية الغربية باعتبارها العقيدة الفكرية التي يجب ان تهيمن في النظام الدولي، وهذا سيجعل النظام الدولي يكتسب خصائص قطبية أيديولوجية جديدة مشابهة لتلك التي كانت سائدة في فترة الحرب الباردة وهذا من وجهة نظر الباحث مرتبط بما يلي:

 

1ـ تكاليف التراجع عن العولمة في الدول الغربية:

إن الآثار السلبية للدول الغربية للتراجع عن العولمة سيحفزها بشكل كبير على الاستمرار في الدفاع عنها ويرى جيفري فرانك(J.Francel ) بأن التراجع عن العولمة في الدول الغربية له العديد من الآثار الكارثية ومن ذلك فتح الباب أمام الحروب التجارية، وكذلك العواقب الوخيمة على النمو الاقتصادي، بالإضافة إلى تخفيض مستويات التجارة إلى المستويات التي كانت سائدة قبل 50 سنة، وما يشجع على ذلك هو أن الكثير من الفئات في الدول الغربية لا تزال تؤمن بايجابيات نظام العولمة، فالعولمة لا تزال تدر فوائد صافية على الأسواق المتقدمة والناشئة على حد سواء ولهذا السبب يظل الخاسرون يمثلون أقلية في اغلب الاقتصادات المتقدمة في حين يمثل أولئك الذين يستفيدون من العولمة أغلبية كبيرة – وإن كانت صامتة في بعض الأحيان- ولهذا السبب لا تزال الأحزاب القومية / الشعبوية تمثل أقلية سياسية .

وبالرغم من أن ردود الفعل العنيفة ضد العولمة هي في ازدياد إلى أن احتواء وإدارة ردود الفعل هذه في حكم الممكن بالاستعانة بالسياسات التي تعوض العمال عن أضرارها وتكاليفها الجانبية، ويرتبط ذلك أيضا بالإجراءات المتعلقة بتنظيم وضع المهاجرين من خلال خلق فرص وتوفير موارد كافية للخدمات العامة من اجل التخفيف في تأثير القادمين الجدد والتحقق من أن المقيمين المحليين لا يشعرون بالتأثير السلبي لاستقبالهم المهاجرين في مجتمعاتهم وذلك وفقا للنموذج الألماني التي تنبنى مؤخرا إجراءات جديدة لتوفير التدريب على اللغة وتسهيل اندماج اللاجئين، أو وفقا للنموذج الكندي التي يحيل تبني القادمين الجدد على القطاع الخاص وتظهر الأبحاث أن الاستثمار في هذا المجال يمكن استرداد أرباحه في مدة لا تتجاوز الخمس سنوات، أي انه يمكن الاستثمار في مسالة الهجرة بالشكل الذي يضخ دينامكية جديدة في المجتمعات الغربية المضيفة اجتماعيا واقتصاديا .(26)

 

2ـ إنقاذ وضع العولمة في أوربا يفتح صراع مباشر مع روسيا:

إن إنقاذ الاتحاد الأوربي من التفكك باعتبارها واجهة نظام العولمة في أوربا يرتبط باتخاذ مجموعة من الإجراءات تفتح جبهة صراع مباشر مع روسيا، ومن ذلك ما يقترحه جورج سورس الذي يرى أن إنقاذ وضع العولمة في أوربا من الناحية الاقتصادية مرتبط بجزئيتين : الأولى ضرورة التمييز بين عضوية الاتحاد الأوربي والعضوية في منطقة اليورو، أي ان الدول الأوربية مطالبة بتوسيع دائرة الدول المنتمية إلى منطقة اليورو، حتى تستطيع اكتساب حلفاء جدد وخاصة في شرق المتوسط وأوربا الشرقية، والثانية: أن الدول الأوربية يجب أن تكون متحفزة أكثر لمواجهة العدو الروسي، ولان أن أعظم أصول الاتحاد الاروبي موجودة في أوكرانيا فان دول الاتحاد الأوربي مجبرة على مضاعفة الدعم للنظام الأوكراني لان دفاع الاكرانيين عن بلدهم هو دفاع عن أوربا في حد ذاتها.27

 

3ـ صراعات الهوية داخل المجتمعات الغربية:

مما يحفز أيضا على ضرورة التمسك بالايدولوجيا اللبرالية باعتبارها الايدولوجيا التي يجب أن تبقى مهيمنة على البنية الثقافية للنظام الدولي هي الخطورة المتوقعة لإثارة صراعات هوية داخل المجتمعات الغربية في حد ذاتها، فالمجتمعات الغربية في مجملها هي مجتمعات متعددة الأعراق، لا ترتبط هويتها بمكون أصلي وقد زادت اتجاهات العولمة من وجهة نظر من يدافعون عنها من إزالة الفروق بين تلك الهويات المختلفة وأن اندثار نظام العولمة يؤدي إلى انتعاش الهويات الفرعية في المجتمعات الغربية وهو ما يخلق أزمة عميقة للهوية القومية في هذه الدول.

 

خاتمة:

إذا كان التصور التقليدي يعتبر أن نظريات العلاقات الدولية موجهة فقط للوصف والتفسير، ولكن بعكس ذلك الاعتقاد الشائع فان تلك النظريات تمارس الوظيفية التنبؤية أيضا، ولقد حاولنا في هذه الدراسة أن نوظف المنظور البنائي من اجل استشراف الاتجاهات المستقبلية للنظام الدولي، والتي حددنها في صورتين أساسيتين، صورة نظام ما بعد العولمة الغربية والذي يرتبط تشكله في واقع العلاقات الدولية بمدى انتشار العقيدة النظامية- وهي العقيدة الأيديولوجية للسياسة الخارجية الروسية في الوقت الراهن- في العلاقات الدولية وخاصة داخل المجتمعات الغربية أين ظهرت مجموعة من المؤشرات القوية تؤيد هذا الاتجاه، وفي مقابل ذلك قد ينفتح النظام الدولي في المستقبل على قطبية أيديولوجية جديدة شبيهة لتلك التي كانت سائدة في فترة الحرب الباردة استنادا إلى تحفز القوى الغربية لمقاومة انتشار العقيدة النظامية والدفاع عن أيديولوجيا العولمة الغربية باعتبارها العقيدة الفكرية التي يجب أن تبقى مشكلة للبنية الثقافية للنظام الدولي(28).

—————————————

الهامش

(1) حول الجدل على مستقبل القوة الأمريكية انظر: ستيفن والت، روبرت كاجان، الجدل حول مستقبل القوة الأمريكية. ترجمة: محمد العربي، سلسلة أوراق، ع 04، مكتبة الإسكندرية: وحدة الدراسات المستقبلية .2012.

(2) حول تطور مفهوم القوة في العلاقات الدولية أنظر:

– Ernest J. Wilson. “Hard Power, Soft Power. Smart Power”. Annals of the American Academy of Political and Social Science. Vol. 616. Public Diplomacy in a Changing World Mar . 2008 p.168 .

(3) ينسب المصطلح إلى الصحفي الأمريكي جوشين بيتنر.

(4 ) انظر حول مراجعات مستويات التحليل بعد نهاية الحرب الباردة:

– Reza Ekhtiari Amiri. Levels of Analysis in International Relations and Regional Security Complex Theory. Journal of Public Administration and Governance. Vol. 4, No. 4.2014

(5) خالد حامد شنيكات. غالب عبد عريبات. التنبؤ و نظرية العلاقات الدولية: مراجعة للأدبيات النظرية. مجلة دراسات للعلوم الإنسانية والاجتماعية. المجلد 39. ع03. 2012. ص ص 601-605

(6) المصدر نفسه

(7) David Singer.The Level of Analysis Problem in International Relations.World Politics. October.1961

(8) John J Mearshimer.The Tragedy of Great Power Politics. New York: W.W : Norton & Company.2001

(9 ) Kenneth N.Waltz.Theory of International Politics .U.S.A : Addison-Wesly Company.1979

( 10) Christian Reus- Smit. Constructivism.In Theories of International Relations .eds Andrew Linklater.Scott Burchill.Deakin University.1996

(11) Alexander Wendt .Social Theory of Politics.Cambridge University Press.1999

(12) WalkerR.B.J. International Relations as Political Theory. Cambridge University Press.1993

13) Alexander. Wendt.Anarchy Is What States Make of It :The Social Construction of Politics International Organization .Vol.46.no 2.Spring 1992.p

(14) خالد حامد شنيكات. غالب عبد عريبات. مرجع سابق. ص 602.

(15) Robert Cooper.THE Breaking of Nations. London :Atlantic Books.2004

(16) للتفصيل في العلاقة بين العولمة والثقافات العالمية انظر:

-Peter L. Berger and Samual P.Huntington.Many Globalizations:Cultural Diversity in The Contemporary World.New York :Oxsford Unversity Press.2000

(17) فرانسيس فوكوياما. أمريكا في مفترق الطرق: ما بعد المحافظين الجدد. ترجمة محمد محمد التوبة. الرياض: مكتبة العبيكان. 2007

(18) س .غ. لوزيانين. عودة روسيا الى الشرق الكبير. ترجمة هاشم حمادي. بيروت: دار المدى للنشر والتوزيع.2012

19 Tony Blair . Aglobal alliance for global values . London : Foreign Policy Center. 2006

(20) حول تفاصيل هذه التحولات انظر المقالات التالية :

– https://www.project-syndicate.org/commentary/brexit-direct-democracy-destroys-europe-bymark-leonard-2016-06/arabic

– Marko Papic, The Divided States of Europe, Stratfor, June 28, 2011, http://www.stratfor.com/weekly/20110627

– https://www.project-syndicate.org/commentary/brexit-future-of-advanced-economies-by-josephe- stiglitz-2016-07/arabic

(21) صفاء الملاح. بريطانيا والاتحاد الأوربي بين البقاء والانفصال . المركز الدبلوماسي للدراسات الإستراتجية .سلسلة تقدير موقف استراتيجي. ع 10. ماي 2015

(22) رابح زغوني. الاسلاموفوبيا وصعود اليمين المتطرف في أوربا : مقاربة سوسيو ثقافية . مجلة المستقبل العربي. ع 421. مارس 2014 ص 127

(23) نفس المرجع ص 131

(24)بلخيرات حوسين. المحاولة الانقلابية ومستقبل السياسة الخارجية التركية. اسطنبول : المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتجية.يوليو 2016

(25) يمنى سليمان. توجهات السياسة الخارجية عند دونالد ترامب. اسطنبول : المعهد المصري للدراسات السياسية والإستراتجية. ماي 2016

(26) انظر المقالات التالية:

https://www.project-syndicate.org/commentary/brexit-us-election-parallels-by-jeffreyfrankel-2016-07/arabic

-https://www.project-syndicate.org/commentary/brexit-migration-policy-by-petersutherland-2016-07/arabic

(27)https://www.project-syndicate.org/commentary/the-promise-of-regrexit-by-georgesoros-2016-07/arabic

(28) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى