دراسات

مسـتقبل التغـيير السـياسي بعد الثـورات العـربية

شهدت المنطقة العربية منعطف سـياسي خطـير بات يعـرف بالربيع العـربي، وهو مصطلح أطلق على الأحداث التي أطيحـت بحكم زين العابدين بن علـي في تونس، وحسني مبارك في مصر، والعقيد معمر القذافي في ليبيا، وعلى عبد الله صالح في اليمن.
ومفهوم التغيير السياسي يتسم بنوع من الشمولية والاتساع، ولفظ التغير السياسي لغة يشير إلى التحول، أو النقل من مكان إلى آخر ومن حالة إلى أخرى، ويقصد به أيضاً مجمل التحولات التي تتعرض لها البني السياسية في مجتمع ما بحيث يعاد توزيع السلطة والنفوذ داخل الدولة نفسها أو عدة دول. كما يقصد به أيضاً الانتقال من وضع لاديموقراطي استبدادي إلى وضع ديموقراطي.
وجاءت إيديولوجيا التغيير في المنطقة العربية لعدة أسباب وعوامل داخلية سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية كان لها دور مهم وحاسـم في تغـيير الأحداث، هذا بجانب عوامل خارجية لا يمكن إغفالها اختلف الباحثون حول اهميتها في عملية التغيير، لأن البعض يرى أن الثورات العربية اندلعت من المحيط العربي الداخلي ولم يكن لأي عنصر خارجي دور في ذلك.
وتناقش الورقة عوامل وأسباب اندلاع ثورات الربيع العربي، بجانب محاولة الإجابة على إمكانية أن تدفع ايديولوجيا التغيير إلى تحقيق إصلاح سياسي في دول الربيع العربي بحيث يجب أن تضع هذه الثورات أهداف معينة تنبني عليها إرادة الشعوب فكرياً ومعرفياً.

أولاً: مفهوم التغيير السياسي وأهميته:

التغيير لغة في المعجم الوسيط هو “جعل الشيء على غير ما كان عليه”، واصطلاحاً يعرف في العلوم الاجتماعية على أنه “التحول الملحوظ – في المظهر أو المضمون – إلى الأفضل”، كما يعرف في الإطار الإداري على كونه “عملية تحليل الماضي لاستنباط التصرفات الحالية المطلوبة للمستقبل”، وعلى كونه “تحول من نقطة التوازن الحالية إلى نقطة التوازن المستهدفة”(1) ويعرف التغيير بأنه “انتقال المجتمع بإرادته من حالة اجتماعية محددة إلى حالة أخرى أكثر تطوراً (2) ويشير مفهوم التغيير السياسي إلى مجمل التحولات التي تتعرض لها البنى السياسية في مجتمع ما بحيث يعاد توزيع السلطة والنفوذ داخل الدولة نفسها أو دول عدة، كما يقصد به الانتقال من وضع غير ديموقراطي استبدادي إلى وضع ديموقراطي.(3)
ويتسم مفهوم التغيير السياسي بنوع من الشمولية والاتساع، ويشير لفظ التغير السياسي لغة إلى التحول، أو النقل من مكان إلى آخر ومن حالة إلى أخرى. التغير السياسي السلمي قد يطلق عليه مصطلح (إصلاح) ويمكن اعتباره مرادفا للتغيير الدستوري في القيادة أو لإعادة بناء التأثير السياسي داخل المجتمع .
ويأتي التغيير السياسي استجابة لعدة عوامل: (4)
1. الراي العام أو مطالب الأفراد من النظام السياسي، هذه المطالبة تتحول في كثير من الأحيان إلى مخرجات إذا لم يتم تبنيها من الأحزاب وجمات المصالح والضغط.
2. تغيير في نفوذ وقوة بعض الحركات والأحزاب بما يعنيه تحول الأهداف الحزبية أو الخاصة من إطار الحزب إلى إطار الدولة.
3. تداول السلطات في الحالات الديموقراطية أو إعادة توزيع الأدوار في حالات أخرى كالنقابات.
4. ضغوط ومطالبة خارجية من قبل دول أو منظمات وتكون هذه الضغوط بعدة أشكال سياسية واقتصادية وعسكرية.
5. تحولات خارجية في الوسط الإقليمي أو في طبيعة التوازنات الدولية قد تؤثر في إعادة صياغة السياسات الداخلية والخارجية في إطار التعامل مع المدخلات الجديدة في السياسة الدولية.
ويعتبر تحديد القادة والفاعليين الاجتماعيين والسياسيين لنوع التغير يمثل الأولوية الأولى في العملية التغيرية، ويلي ذلك تحديد المسار الذي يجب أن يسلكه المجتمع لتحقيق التغيير الشامل.
وهنالك نوعين من التغيير: (5)
(1) التغيير الشامل العميق: يبدأ بتغيير القيادة الدكتاتورية ويمتد ليشمل جميع مناحي النظم الأخرى الاجتماعية والاقتصادية والتربوية والتشريعية والقضائية والدينية، …الخ، ومن ثم فإن تغيير القيادة الديكتاتورية أو المتعسفة أو النجاح في تغيير أنماط تفكيرها بما يتناسب مع صالح الدولة أو المؤسسة لا يمثل الهدف النهائي للراغبين في إحداث التغييرات، ولكنه يمثل الخطوة الأولى الفعالة نحو التحولات النوعية الكبرى التي تقفز بالدولة أو المؤسسات قفزة هائلة إلى الأمام. فتغيير القيادة هو خطوة نحو التغيير الشامل، وليس هو الهدف النهائي.
(2) التغيير الجزئي: ويتناول فقط جزئية من الجزئيات، كالتغييرات التي تتناول الإصلاح الاقتصادي أو الدستوري أو العسكري، أو غيرها من التغييرات التي تمس جانباً من الوضع العام للمجتمع وتترك الجوانب الأخرى إما لكون الجوانب الأخرى لا تحتاج إلى تعديل أو لعدم توفر المشروع المحلي الذي يملي على المجتمع وقيادته التحرك في اتجاه محدد.

ثانياً – العوامل الداخلية والخارجية لقيام ثورات الربيع العربي:

أطلق مصطلح الربيع العربي على الثورات العربية التي مثلت حركات احتجاجية سلمية ضخمة انطلقت في كُلِّ البلدان العربية خلال أواخر عام 2010 ومطلع 2011 ، متأثرة بالثورة التونسية التي اندلعت جراء إحراق محمد البوعزيزي نفسه، والتي اطيحت بحكم زين العابدين بن علي في تونس و محمد حسني مبارك في مصر و العقيد معمر القذافي في ليبيا. وكذلك تنازل الرئيس اليمني على عبد الله صالح عن صلاحياته لنائبه بموجب المبادرة الخليجية هي تندرج ايضاً في هذا الإطار، وكان من أسبابها الأساسية انتشار الفساد والركود الاقتصاديّ وسوء الأحوال المَعيشية، إضافة إلى التضييق السياسيّ والأمني وعدم نزاهة الانتخابات في معظم البلاد العربية . (6)
وهنالك أسباب وعوامل داخلية وخارجية أدت إلى قيام ثورات الربيع العربي تتمثل: (7)
أولاً – الأسباب الداخلية: ولها دور مفصل وحاسم في تفجير الأحداث واندلاع الثورات، وهي عديدة منها أسباب اجتماعية واقتصادية وسياسية وتعليمية وثقافية.
(1) الأسباب الاجتماعية والاقتصادية: حيث يعيش معظم سكان منطقة الشرق الأوسط في ظل نظام اجتماعي متخلف يعتمد على علاقات القرابة ونواتها الأساسية هي القبيلة والذي يتحرك بدافع العرف والعادات والتقاليد القديمة، وللخرافات الدينية ايضاً دور محوري في تأصيل هذا النظام المتخلف.
وهنالك عاملين وراء تخلف الدول العربية من النواحي الاقتصادية والاجتماعية هما:

  • الاقتصاد: حيث تعاني معظم دول الشرق الأوسط من التخلف الاقتصادي خاصة الدول العربية، فهي غالباً ما تعتمد على واردات النفط أو السياحة والمعونات الخارجية في حين تغيب التنمية الحقيقية بسبب صعوبات تتمثل في ارتفاع معدل تزايد السكان في الدول العربية، نقص الكوادر الوطنية، التفاوت في مستوى التطور الاقتصادي والاجتماعي، انخفاض مستوى الإدخار. وفي ظل هذا الوضع المتردي فأن دخل الفرد سيكون متدني.
  • التربية والتعليم: حيث وصل عدد سكان العالم العربي عام 2009م نحو 335 مليون نسمة بينهم 100 مليون نسمة من الأميين وتبلغ نسبة الأمية حوالي 30%، وارتفاع نسبة الأمية يشكل فجوة عميقة تؤثر على تطور المجتمع العربي، وتترتب عليها نتائج سياسية واجتماعية خطيرة.

كما أن السياسة التعليمية في الشرق الأوسط ماعدا إسرائيل تسير بشكل تقليدي في التلقين وعدم إعطاء الطالب فرصة للتفكير المفتوح، وهناك عدم الاهتمام بالبحث العلمي في الجامعات مما يعني أن ازمة البحث العلمي في العالم العربي تعني التخلف العربي عن ركب الحضارة والنهضة العلمية، والملاحظ أن نسبة الإنفاق على البحث العلمي بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي لم تتعد 0.5% في الأقطار العربية كافة لعام 1992، بينما في إسرائيل فأن الإنفاق على البحث العلمي عدا العسكري حوالي 9.8 مليارات “شيكل” يوازي 2.6% من الناتج القومي .(8)
(2) الأسباب السياسية: معظم بلدان الشرق الأوسط هي ذات نظم تسلطية واستبدادية يقع بعضها في جغرافية العالم العربي، وبالتالي في ظل هذه الأنظمة تنعدم مظاهر التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة وحرية التعبير والإعلام، وبالتالي كلها اسباب ادت إلى اندلاع ثورات الربيع العربي.

ثانياً: الأسباب الخارجية:

بجانب الأسباب والعوامل الداخلية التي أدت إلى قيام الثورات العربية هنالك عوامل مؤثرة خارج حدود الدول التي قامت بها الثورات، وهذه العوامل الخارجية لها دور لا يمكن إغفاله بصورة عامة في إحداث التغيير في الشرق الأوسط، ولكنها لا يظهر لها تأثير فعال في حال الربيع العربي في البلدان العربية.
وحول مدى تأثير العوامل والأسباب الخارجية هنالك اتجاهان:

  • اتجاه يرى أن الثورات العربية والاحتجاجات هي صناعة داخلية خالصة لم يكن فيها أي دور خارجي، ويذهب أنصار هذا الاتجاه إلى أبعد من ذلك ويعتقدون بأن الغرب وخاصة الولايات المتحدة ليست سعيدة بالثورات العربية وإنما يتم التعامل معها كأمر واقع.
  • اتجاه يرى دور العامل الخارجي له قوة مؤثرة في تحريك الشارع العربي وإحداث تغييرات فيه، ويعتقد أصحاب هذا الاتجاه استناداً إلى وثائق سرية كشفها موقع “ويكليكس” أن الولايات المتحدة دفعت ملايين الدولارات إلى منظمات تدعم الديموقراطية في مصر، والبعض يرى أن هذه الوثائق والموقع نفسه كان له دور فاعل بما حدث في العالم العربي لأن هذه الوثائق كشفت امور سرية عديدة حول الحكام وحاشيتهم وعن حجم الفساد الموجود في هذه الدول.

ثالثاً: التغيير والإصلاح السياسي:

إن فكرة الإصلاح فكرة قديمة قدم الإنسانية، حيث وجد في كتابات قدماء المفكرين اليونان من أمثال أفلاطون وأرسطو الكثير من الأفكار الإصلاحية مثل العدالة والقوانين وتنظيم المجتمع والدولة والاستقرار السياسي والتوزيع العادل للثروة وغيرها، ويمكن القول إن فكرة الإصلاح كانت ومازالت الهدف الأسمى للعديد من الفلاسفة والقادة والحركات السياسية والاجتماعية في مختلف أرجاء العالم، فضلاً عن كونها موضوعاً رئيسياً في النظريات السياسية للفلاسفة والمفكرين منذ أيام ميكافيلي في العصور الوسطى حتى كارل ماركس في القرن العشرين. أما في العالم العربي فان فكرة الإصلاح بدأت في الدولة العثمانية في المجال العسكري بعد الهزيمة التي تعرضت لها أمام روسيا القيصرية عام 1774، ثم امتدت لاحقاً إلى المجالات السياسية والإدارية والاجتماعية.
والإصلاح هو:( التغيير والتعديل نحو الأفضل لوضع شاذ أو سيء، ولا سيما في ممارسات وسلوكيات مؤسسات فاسدة أو متسلطة أو مجتمعات متخلفة أو إزالة ظلم أو تصحيح خطأ أو تصحيح إعوجاج ).(9)
والإصلاح السياسي هو خطوات فعالة وجدية تقوم بها الحكومات والمجتمع المدني نحو ايجاد نظم ديمقراطية حقيقية تكون فيها الحرية القيمة العظمى والأساسية وأن يحكم الشعب نفسه بنفسه من خلال التعددية السياسية التي تؤدي إلى تداول السلطات، وتقوم على احترام جميع الحقوق مع وجود مؤسسات سياسية فعالة على رأسها التشريعية المنتخبة، والقضاء المستقل والحكومة الخاضعة للمساءلة الدستورية والشعبية والأحزاب السياسية بكل تنوعاتها الفكرية. (10)
والإصلاح السياسي مرتبط بعملية التغيير وله أبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي جاءت متضمنة في الكثير من المفاهيم الشائعة مثل: التنمية السياسية Political Development ، أو التحديث Modernization ، أو التغيير السياسي، Political Change ، أو التحول Transition ، أو التغيير Changeوهي جلها مفاهيم مرتبطة بالعالم الثالث ومنه الوطن العربي، كما انه يوجد لديها تعريفات متعددة دقيقة وواضحة، إلا أن مفهوم الإصلاح لا يزال يكتنفه الغموض وذلك لتداخله مع العديد من المفاهيم السابقة،
وبالرغم من أن الإصلاح ضرورة ملحة من أجل إعادة ترتيب البيت العربي وتحصينه لمواجهة الاستحقاقات المستقبلية إلا انه ما زال مثار جدل للكثيرين في العالم العربي سواء قادة أو مفكرين أو جماهير، فأهدافه ودوافعه لا يزال يكتنفها الغموض ويكثر حولها الخصام، الأمر الذي يعطل فرص تحقيق إصلاح سياسي في كثير من دول العالم العربي.
فهنالك من يعتبر ان العالم حقيقة متغيرة لأن التغيير هو سنة الكون، لذلك فان الإصلاح السياسي هو عملية حضارية وطبيعية لابد من الدخول فيها من أجل تغيير الوضع الراهن بواقع أفضل، وهنالك فريق له نظرة أخرى خاصة بعد تبني الولايات المتحدة الأميركية لعدد من المبادرات والمشاريع الإصلاحية، حيث يرى أن الإصلاح المفروض من الخارج الذي نادي به الغرب هو حلقة جديدة من حلقات الهيمنة والتآمر على العالم العربي، وهو يهدف إلى تحقيق أجندة خفية خاصة بمصالح الدول الغربية، لذلك يؤمن هذا الفريق بان الإصلاح لابد وان يكون ذاتياً ولا يأتي من الخارج.
ولابد من توفر بعض الشروط حتى يمكن اعتبار أي تغييرات في وضع ما إصلاحاً:
1. أن يكون هناك وضع شاذ يحتاج إلى إصلاح أو علة تحتاج إلى دواء، إذ أنه في ظل غياب الوضع الشاذ فإنه لا مبرر للإصلاح، لأنه يصبح أقرب إلى الترف. فالعلة قد تكون غياب العدالة أو الحرية أو انتشار الفقر أو المرض وعدم الاستقرار، فالعلة تساعد في تحديد موطن الخلل لكي يتم اختيار العلاج الشافي.
2. أن يكون التغيير نحو الأفضل، مثلاً تسود الحرية محل الاستبداد، أو العدالة محل الظلم.
3. أن يكون التغيير له صفة الاستمرارية ولا يتم التراجع عنهIrreversible ، فالتغيرات المؤقتة التي يمكن التراجع عنها لا يمكن اعتبارها إصلاحاً بالمعنى الحقيقي، فتحول نظام سلطوي إلى نظام ديمقراطي هش يمكن زواله بسرعة لا يعتبر إصلاحاً .
ويمكن تلخيص أبرز التحديات التي يمكن أن تحد من اندفاع حركة الإصلاح خاصة في مجتمعات العالم الثالث التي تعاني من أزمات متعددة تعيق حركة الإصلاح بما يلي: (11)
أولاً- العوامل السياسية: تتعدد العوامل السياسية التي تشكل عقبة في طريق الإصلاح ومنها:
– ضعف الإرادة السياسية لدى الفئة الحاكمة، فالإصلاح يحتاج إلى إرادة سياسية لديها الرغبة الصادقة والقدرة الأكيدة على العمل الجاد وإحداث تغييرات سياسية هامة.
– غياب المؤسسات الدستورية أو ضعفها وفقدانها سلطات التشريع والمراقبة أو اتخاذ القرار، وضعف وغياب مؤسسات المجتمع المدني من أحزاب ونقابات واتحادات وجمعيات.
– تدني نسبة المشاركة السياسية لدى الجماهير وخاصة المرأة وغياب الضغط الشعبي مع ضالة الوعي السياسي.
– عدم الاستقرار السياسي والتطرف والفوضى والإرهاب والأزمات والحروب الأهلية.
ثانياً – العوامل الثقافية: حيث تلعب العوامل الثقافية دوراً بارزاً ومؤثراً على الإصلاح السياسي اما بدفع مسيرته إلى الأمام أو العكس بوقف وإعاقة عملية الإصلاح، ذلك أن تركيبة المجتمع ومؤسساته وقيمه وأنماط سلوكه، لها دور مباشر في التأثير على الإصلاح سلباً أو إيجاباً.
ويعتبر الدين في المجتمعات المحافظة من العوامل الثقافية التي تقف عقبة في طريق الإصلاح، حيث أن عدم دعم ومباركة رجال الدين للكثير من الإصلاحات والتغييرات يفقدها شرعيتها، وبالتالي يتم رفضها.
ثالثاً – العوامل الاقتصادية: تعاني معظم الدول والشعوب من الأزمات الاقتصادية مثل ضعف الموارد والإمكانيات وانتشار الأمية والفقر والبطالة وتفاقم الهوة بين الأغنياء والفقراء، وبالتالي هذه الأزمات تحول دون تحقيق الإصلاح السياسي الذي يصبح الحديث عنه اشبه بالترف الفكري
ومن المؤكد أن بلدان الربيع العربي تسير في اتجاه الإصلاح السياسي بمواقف متنوعة، ولكن هنالك إشكاليات تظل ماثلة في الواقع العربي تتخذ مظهرين:

  • إشكالية بناء مشروع الإصلاح والنهضة: حيث تعتبر قوى وتيارات التغيير داخل البلاد العربية القطرية المجزأة الضعيفة لا تملك مشروعا للإصلاح والنهضة يستجيب لحاجيات شعوبنا وأهدافها في التحرر والتنمية والنهضة.
  • إشكالية وجود قيادة: حيث تظهر الحاجة إلى قيادات وطلائع للإصلاح السياسي والنهضة العمرانية الشاملة، مشكل قيادات ميدانية يظل محورا مهما في سياق الحركية المنشودة، خاصة إذا أثبتنا حاجة الشعوب إلى قيادات سياسية قادرة على التعبئة والتأطير واقتراح سبل إجرائية وجريئة وتكون قيادات طلائعية تكسب ثقة الجماهير.

والحقيقة إن الاصلاح السياسي يحتاج الى ارادة والى عمل يرافق هذه الارادة وان تكون هناك توجهات تجري في جو وفضاء المجتمع المدني والاستقلال بالنسبة الى الجهات المنوط بها اجراء تحديث واصلاح وبشكل علمي جدي وليس بشكل عاطفي رغبوي يطور هنا ويستثني هناك وهكذا تكون العملية مبتورة وبالتالي لا يكون هناك أي نتائج مرجوه من هذا الإصلاح.
فمن تجربة الاصلاح السياسي في العالم الأوربي نجد هناك تلازما وتفاعلا بين عالم السياسة وعالم الاقتصاد والانساق الثقافية في التركيبة السياسية التي شاخت مع عملية تغير حتى لرجالات السلطة وهذا امر مهم جدا لأنه لكي يقتنع المجتمع بجدوى الاصلاح يجب استبعاد الاناس المسؤولين عن آثار التردي والفساد وهو ظاهرة مستشرية في العالم العربي ومحاسبتهم قانونيا، وحلول اناس وخبرات جديدة حديثة ويتولون عملية رسم آفاق جديدة لإصلاح ما فسد او ما أفسده غيرهم وهكذا تستمر الحياة ويتابع البلد والمجتمع مسيرته نحو الافضل.
عملية الإصلاح السياسي والاقتصادي في العالم العربي هي عملية ضرورية جداً وذلك ليس مجرد رغبة بل هي ضرورة لان انماط والأشكال السياسية الحالية السائدة في العالم العربي لم تعد تناسب المرحلة المعاصرة وهي بالتالي قد انتفت الحاجة لها ولان السبب الذي كان يضمن للنخب الحاكمة الاستمرار في الحكم وفي السلطة بهذا الشكل مثل ان تحتكر السلطة الحكم لثلاثة عقود او عقدين لم يعد مقبول في مرحلة العولمة وبعد انهيار المنظومة الاشتراكية والحكومات الشمولية وانتهاء الحرب الباردة ولان العالم بشكل اجمع يمر بمرحلة انتقالية جديدة من الحياة اذا ان التغيير السياسي والاقتصادي هو كالسيل الجارف سيجرف معه كل اشكال السلطات والتشكيلات التي لا تلائم نفسها مع معلم الحياة الجديدة . (12)

رابعاً – مستقبل التغيير السياسي في بلدان الربيع العربي:

نجحت ثورات الربيع العربي في إسقاط أنظمة الحكم في كل من تونس ومصر وليبيا، هذا الوضع سيؤدي إلى خلق علاقات جديدة ستلقي بظلالها على العلاقات الدولية لهذه البلدان مع دول أخرى في المجال الإقليمي أو الدول الغربية.
فدول الربيع العربي كانت لها علاقات خاصة مع الغرب خاصة الولايات المتحدة، إضافة إلى علاقة كل من مصر وتونس بإسرائيل، فمصر كانت لها علاقات دبلوماسية ودية مع تل أبيب بسبب اتفاقية كامب ديفيد الموقعة عام 1978 ومعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية الموقعة في مارس 1979، كما أن تونس أيضاً قامت بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل وإقامة علاقات دبلوماسية على مستوى فتح مكاتب اتصال بين البلدين.
ووفقاً لهذه التغيرات التي أحدثتها ثورات الربيع العربي على المستوى الداخلي، سوف يكون هنالك تغيير للعلاقات الدولية التي تربط دول الربيع العربي، وبالتالي يكون هنالك سياسات خارجية جديدة تتماشي وتتوافق مع المصلحة الوطنية.
وسوف يكون مستقبل النظام السياسي في دول الربيع العربي غير واضح المعالم التي لم تتشكل بصورة نهائية، ولكن هنالك بعض السيناريوهات المحتملة الحدوث حسب القوى التي من الممكن ان تسيطر على نظام الحكم في الدول التي قامت فبها ثورات الربيع العربي:

السيناريو الأول – سيطرة الإسلاميين:

حيث شهد الشرق الأوسط بعد انهيار المنظومة الاشتراكية وانتهاء الحرب الباردة صحوة إسلامية عامة بشقيها المعتدل والمتطرف، مما كان له كبير الأثر على مجرى العلاقات الدولية لدول المنطقة بما فيها الدول العربية، وأدى إلى توتر العلاقات مع الغرب خاصة بعد التفجيرات الإرهابية التي تقوم بها الحركات الإسلامية.
وفي هذا الصدد هنالك سيناريوهات ممكنة (13)
1. سيطرة القوى الإسلامية المعتدلة: جميع القوى الإسلامية في الشرق الأوسط والعالم العربي ليست من القوى المتطرفة وإنما هناك القوى المعتدلة أمثال جماعة الإخوان المسلمين المتمثلة في حزب الحرية والعدالة في مصر، والمتمثلة في حزب النهضة الإسلامية في تونس وحزب العدالة والتنمية في المغرب والبعض الأحزاب والحركات الأخرى في العالم العربي. فالكثير من هذه القوى المعتدلة لا تقوم سياساتهم على أساس الكراهية للغرب – أو تقسيم العالم الى عالم الكفر والإيمان، بل تقوم سياسات تلك الأحزاب المعتدلة على الأساس البراغماتي.
ويظهر ذلك في توضـيح محمد الكتاتني الأمين العـام لحزب الحرية والعـدالة بقوله:” أننا نرحب بأي نوع من العلاقات من الجميع بشرط إلا يتم التدخل في الأمور الداخلية”، وهذه الحكومة سوف تنال رضى الغرب.
وكذلك حزب النهضة التونسي الذي تقوم سياساته على الأساس البراغماتي ليس على المستوى الدولى بل على المستوى الداخلي، الواقع هو أن ما يدعم رصيد حزب النهضة في الشارع التونسي هو تبنيه أفكار زعيمه ومؤسسه راشد الغنوشي، الذي لا يجد حرجاً في الجمع والتوفيق ما بين القيم والأحكام الإسلامية وبين قيم ومبادئ الدولة المدنية والتعددية السياسية وتداول السلطة واحترام حقوق الإنسان وغيرها. (14)
2. سيطرة حكومة إئتلافية إسلامية مع حكومة ليبرالية، في الشرق الأوسط والعالم العربي عدد كبير من أحزاب إسلامية متطرفة، والكثير من هذه الحركات والأحزاب مرتبطة بشكل أو بآخر بتنظيم القاعدة الإرهابية، وبرزت الأحزاب الإسلامية المتطرفة بشكل قوي وأظهرت بعض الأحزاب الجديدة مثل حزب النور في مصر. وأصبح إحدى السيناريوهات حول مستقبل المنطقة هي سيطرة القوى الإسلامية المتطرفة على السلطة، ويتخوف المجتمع الدولي خاصة الدول الغربية من حدوث وتحقيق هذا السيناريو .
وهو أيضاً سيناريو يرضي الغرب بهدف الحصول على مزايا جديدة في العلاقات التجارية والاقتصادية.

حكومة إئتلافية إسلامية معتدلة مع حزب إسلامي متطرف، ولا تنال رضى الغرب بسبب صعوبة التعامل مع ديموقراطية أعطت التيار الإسلامي الأغلبية الساحقة. وبالتالي فان درجة تغيير العلاقات مع الغرب ستكون متفاوتة حسب التشكيلة الحكومية ومدى قوة وسيطرة الإسلاميين.

السيناريو الثاني – سيطرة الجيش:

وهو احتمال يقوم على سيطرة الجيش على السلطة، ولكنه لا يمكن حدوثه إلا في ظل توفر مناخ مناسب وذلك في حالة عدم اتفاق القوى السياسية على شكل النظام السياسي وإفشاء الفوضى وحدوث الحروب الأهلية، أو يمكن الحدوث في حالة سيطرة الإسلاميين المتطرفين على السلطة وتحويل الدولة إلى دولة إسلامية معادية للغرب وحليفة مع القوى الإرهابية.
وبالتالي في كل الحالتين سيكسب الجيش الرضى والقبول من الغرب لأن حدوث أي الاحتمالين سيعرض المنطقة إلى حالة فوضى وتهديد للسلم والأمن الدوليين، وبالتالي يلحق الضرر بالمصالح الغربية، وفي حالة سيطرة الجيش على الحكم لا يمكن تصور تغيير جذري في سياسات الدول وإنما تساير سياسات الأنظمة.

خاتمة:

من خلال الدراسة عن التغيير السياسي الذي حدث في العالم العربي فيما يعرف بالربيع العربي تم الوصول إلى النتائج الآتية:
أولاً: تعتبر ثورات الربيع العربي هي حصيلة لمجموعة من العوامل الداخلية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بجانب العوامل الخارجية التي كان لها دور محدود، وبالتالي شكلت هذه الثورات العربية الداعية للتغيير السياسي زعزعة لبنية الدولة التسلطية في العالم العربي مما ساعد في سقوط بعض الأنظمة العربية، لذلك كان لثورات الربيع العربي دور فاعل في إحداث التغيير السياسي في المنطقة العربية.
ثانياً: ظهر المجتمع المدني في دول الربيع العربي باعتباره قوة مركزية في إحداث التغيير السياسي في المنطقة.
ثالثاً: غيرت ثورات الربيع العربي الرؤية السياسية للدول الغربية حول منطقة الشرق الأوسط عموماً ومستقبلها السياسي، وبالتالي ستفرز هذه الثورات علاقات دولية جديدة مع الغرب تعمل على تغيير شكل التحالفات التي كانت موجودة بالمنطقة.
رابعاً: افرزت الثورات العربية هيمنة للقوى الإسلامية على السلطة وذلك بعد نتائج الانتخابات التي اعقبت التغيير السياسي للأنظمة العربية التي سقطت، ما كان له كبير الأثر في تنشيط التيارات الإسلامية بمختلف أنواعها مما يعني تنشيط لأيديولوجية الإسلام السياسي في المنطقة العربية(*).

قائمة المصادر:

  • د. مصطفى الخشاب، المدخل إلى علم الاجتماع، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1992.
  • أحمد عبد الكريم وهشام مرسي – حرب اللاعنف – النسخة الالكترونية، أكاديمية التغيير www.Aco.fm بتاريخ 4-7-2007.
  • إسماعيل صبري ومحمد محمود ربيع – موسوعة العلوم السياسية – الكويت: جامعة الكويت- 1994 – ص 47.
  • بلال محمود محمد الشوبكي – التغيير السياسي من منظور حركات الإسلام السياسي في الضفة الغربية وقطاع غزة “حماس نموذجاً” – بحث لنيل درجة الماجستير في التخطيط والتنمية السياسية، جامعة النجاح الوطنية بنابلس – 2007 – ص 36.
  • أحمد عبد الكريم وهشام مرسي – المصدر السابق.
  • موسوعة ويكيبيديا – www.wikipedia.com .
  • مهدي أبوبكر رحمة – الشرق الأوسط والربيع العربي آفاق ومستقبل – الحوار المتمدن، العدد 3615 بتاريخ 22 يناير 2012.
  • مهدي أبو بكر – المصدر السابق.
  • د. عبد الله بلقزيز- أسئلة الفكر العربي المعاصر، – الدار البيضاء: مطبعة النجاح الأيوبية- 1998- ص 13.
  • محمد تركي بني سلامة- الإصلاح السياسي دراسة نظرية www.dash.com .
  • د. امين مشاقبة – معوقات اٌصلاح السياسي في الوطن العربي، ورقة غير منشورة مقدمة إلى ورشة عمل اٌصلاح السياسي – مركز الرأي للدراسات، عمان – سبتمبر 2005 – نقلاً عن محمد تركي، المصدر السابق.
  • جاسم الصغير – الأنظمة العربية والإصلاح السياسي – الحوار المتمدن، العدد 1221 بتاريخ 7 يونيو 2005.
  • باسم حسين الزيدي – أسلاميو مصر والتحول البراغماتي – wwwannaba.org .
  • عمر كوكش – الإنتخابات التونسية وقطيعة الاستبداد – www.aljazeera.net

(*) الورقة قدمت ضمن أعمال مؤتمر فلادلفيا السابع عشر – ثقافة التغيير، كلية الأداب والفنون – جامعة فلادلفيا، الأردن، الآراء الواردة تعبر عن كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المعهد المصري للدراسات

د. ريـم محمـد مـوسى

أستاذ العلوم السياسية، قسم العلوم السياسية، جامعة بحري، الخرطوم، السودان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى