سياسةقلم وميدان

مصر التسوية السياسية بين مخاوف النظام وواجبات المعارضة

تشهد مصر أزمة سياسية غير مسبوقة منذ انقلاب 3 يوليو 2013، مما دفع العديد من السياسيين والأكاديميين ورؤساء الأحزاب إلى تقديم المبادرات والمقترحات لحل الأزمة السياسية في مصر خلال السنوات الأخيرة، ومع كل طرح أو مبادرة تشتعل الخلافات بين المؤيدين والمعارضين لتسوية الصراع، فالمعارض يجد أن التسوية السياسية هو استسلام ورضوخ للانقلاب الذى أهدر الدماء واعتقل مئات الآلاف من المعارضين، بالإضافة إلى الانتهاكات التي تم ارتكابها منذ بداية الأزمة والتي لم تنتهى حتى اللحظة، أما المؤيد لتمرير التسوية السياسية فيرى أن الأمر لابد أن ينتهي بأي شكل، فالوضع صار صعبا على الجميع، لذا فلابد من السعي لمحاولة حلحلة حالة الجمود بأي ثمن.

ويؤكد هذا الفريق بضرورة التركيز على المستقبل بدلاً من استحضار مآسي الماضي، ودائما ما يضرب هذا الفريق المثل بنجاح المبادرات بجنوب أفريقيا بإنهاء العداء بين البيض والسود، عبر مبادرات لغلق ملفات الماضي، وتحقيق العدالة الانتقالية الناقصة وفتح صفحة جديدة تسمح للأجيال القادمة بعدم تكرار جرائم الماضي، كما فعل ملك المغرب الحسن الثاني، بغلق ملفات الماضي، وتعويض أكثر من عشرين ألف من ضحايا الإخفاء القسري والاعتقال التعسفي والتعذيب والمعاملة السيئة في سياق النزاع بالصحراء الغربية.

ورغم الخلافات التي لا تنتهي بين الأطراف المختلفة، يتناسى كثيرون بأن النظام الحاكم في مصر على مدار السنوات الماضية لم يُبدِ أي رغبة للسماح بتمرير أي مبادرة أو محاولة للمصالحة السياسية، فالنظام المصري ليس مضطراً للتنازل أو قبول أي مبادرات، بل قام بملاحقة من يروّجون للمبادرات سواء قضائياً أو أمنياً، ويمكث البعض منهم حتى الآن خلف القضبان لمجرد إلقائهم حجر في المياه الراكدة.

فرص التسوية السياسية

لقد عاشت المعارضة المصرية بكل أطيافها منذ انقلاب 3 يوليو 2013، حقبة ممتلئة بالانتكاسات والهزائم، ولم تحقق أيا من أهدافها، في مقابل سيطرة النظام العسكري بشكل تام على مفاصل الدولة المصرية عاما بعد عام.

وشهدت السنوات الماضية العديد من المبادرات السياسية، والتي كان من أبرزها مبادرة كمال الهلباوي، ومبادرة معصوم مرزوق، يليهما المبادرة التي أطلقها السياسي الأكاديمي حسن نافعة، ثم التصور الذي طرحه السفير عبد الله الأشعل، وأيضا مبادرة سعد الدين إبراهيم، والنائب أحمد الطنطاوي، وأخيرا وثيقة التوافق الوطني التي أعلنها محمد على.

ثم باتت الآفاق السياسية في مصر مسدودة بشكل كامل، مما يؤكد استحالة تمرير أي تسويات سياسية للأزمة المصرية في ظل النظام الحالي، حتى الوساطات الدولية والدعاوى الإقليمية والمبادرات الوطنية على مدار السنوات الأخيرة فشلت في جعل الإخوان والمعارضين يجلسون فقط مع القيادات العسكرية حول طاولة الحوار، فما بالنا بمحاولات الاتفاق على مبادئ للمصالحات السياسية.

وتزامنت الأزمة في مصر مع حالة النزاع الإقليمي بين المعسكر التركي القطري من جانب، والمعسكر الإماراتي السعودي من جانب آخر، مما تسبب في استحالة نجاح أي فرص للتسوية السياسية في الوقت الراهن.

استراتيجيات النظام المصري لإفشال المبادرات

اعتمدت الأجهزة الأمنية على إفشال أي مبادرة أو دعوات للتوحد، من خلال الحملات الإعلامية التي تديرها الأجهزة المخابراتية في مصر، والخطابات السياسية والإعلامية أيضا التي تقوم باستهداف وتشويه كل من يسعى لتسوية الأزمة السياسية في مصر.

وتعمد النظام المصري مع كل مناسبة انتخابية أو حوادث أمنية الترويج لمبادرات مخابراتية من داخل المعتقلات يسعى من ورائها لإحداث مزيد من الفُرقة بين من هم خارج المعتقلات ومن بداخلها، وهذه استراتيجية معلومة للاستهداف النفسي لأسر المعتقلين المكلومين منذ سنوات، ولا ننكر أبدا الرسائل أو المبادرات الحقيقية التي خرجت من داخل المعتقلات، ولكن الحديث هنا عن المبادرات التي يشرف عليها مكتب الأمن الوطني بالسجون.

وبطبيعة الحال فإن أسلوب تمرير المبادرات الأمنية هو نهج قديم في السجون المصرية، وهي وسيلة تستخدمها الأجهزة الأمنية لإشغال الجميع بالخلافات المفتعلة بين المؤيد والمعارض للمبادرات والتسوية السياسية أُحادية الطرف.

اعتمد النظام المصري منذ يناير 2014، وتحديداً بعد عملية تفجير مبنى مديرية أمن القاهرة، سياسة فصل وعزل قيادات الإخوان داخل سجن العقرب، وبعد حادثة مقتل النائب العام السابق في 30 يونيو 2015، تم عزل قيادات الإخوان عن بعضهم البعض داخل السجن نفسه، من خلال حبسهم في زنازين انفرادية، ومنع الزيارات عن عدد منهم منذ سنوات، وذلك لمنع أي شكل من أشكال التواصل، وضمان بقاء الحال كما هو عليه في الداخل والخارج.

أقرأ أيضاً: المعارضة السياسية بعد الانقلاب 7 سنوات من التحولات

الخلاصة

رغم كل المبادرات التي طُرحت، والتي تُشرعن نظام السيسي ولا تنكر الانقلاب العسكري، باستثناء وثيقة التوافق الوطني التي أعلنها محمد على، نستطيع أن نؤكد بعد سبع سنوات من الأزمة المصرية أنه لا أحد يملك تصورا عمليا أو مخرجا حقيقيا للأزمة، لأن زمام الأمور ممسوك بإحكام من خلال القبضة الأمنية التي يتحكم بها عبد الفتاح السيسي، والذي بدوره يكتب شهادة وفاة لكل مبادرة أو تحرك سياسي لحلحلة الوضع.

المعادلة الصعبة التي يغض الكثيرون الطرف عنها، هو أنه لا أمل في تصحيح المسار السياسي في مصر في ظل هذا النظام الحاكم وعلى رأسه عبد الفتاح السيسي، والذي تعمد تدمير وتجريف الحياة الحزبية والسياسية، بالإضافة للانتهاكات الإنسانية والحقوقية التي مارسها النظام منذ بداية انقلاب يوليو.

فمن مصلحة النظام بقاء الحال كما هو عليه، فكل من يعارض فهو من أهل الشر، وكل من يحاول أن يكشف فساد الدولة وديكتاتورية النظام فهو إرهابي، لذا فالنظام يعتمد على بقاء الواقع الحالي لتمرير سياساته الداخلية والخارجية، ولن تفيده أي تسويات سياسية للأزمة، لذا فهو حريص على إبقاء هذا الواقع الأليم.

لذا يجب على كل الأطراف المعنية في الداخل والخارج بناء رؤية مستقبلية على قواعد وأسس مشتركة استعدادا لمرحلة ما بعد هذا النظام، والتوقف عن إضاعة الوقت والجهد في مشاريع أثبت الأيام فشلها، والبحث عن مشاريع حقيقة لإنقاذ الوطن، كوضع مشاريع مستقبلية لإنقاذ الاقتصاد المصري، والدَين الخارجي لمصر، وكيفية استرجاع جزيرتي تيران وصنافير وغير ذلك من المشكلات التي تسبب بها نظام السيسي.

ولا ننسى قبل البدء في تلك المشاريع المستقبلية الواجبة على كل مصري محب لوطنه، ويسعى لإصلاح ما أفسده النظام الحالي، أن يتبنى نهج التسامح والتوافق مع الآخرين، فكفى ضياعاً للوقت في نزاعات لن تفيد إلا النظام.

وهو ما يتطلب مجموعة من الإجراءات العملية، من بينها:

1ـ مشروع وطني جامع: فقد سقطت البلاد في ممارسات وسياسات أفقدتها الكثير سواء من قبل النظام الحاكم الآن في البلاد، أو من قبل الأطراف المعنية بالتغيير، لذا يجب على الجميع العمل تحت مظلة واحدة في مشاريع قابلة للتنفيذ والتوقف الفوري عن سياسة العزف منفرداً، على أن يتضمن المشروع رؤية شاملة فكريا، واجتماعياً واقتصاديا وأخلاقياً ودينياً، وذلك لإنقاذ البلاد بعد سقوط هذا النظام واسترداد مصر لأراضيها وثرواتها ومكانتها.

2ـ تحديد أولويات المرحلة: غياب أهمية العامل الزمنى كان سببا رئيسيا في عدم استدراك الواقع، فما كان يتصدر في الماضي قائمة الأولويات سبقته مطالب أخرى فرضها الأمر الواقع، وعلى الجميع تقبل الواقع لكي يعملوا على أولوياته طبقا للمعطيات المتاحة.

3ـ الوعي: يحتاج المجتمع المصري بكل أطيافه إلى وعى حقيقي بعد تعمد النظام للتشويش عليه وتهميشه، لذلك نحتاج إلى النُخب للقيام بهذا الدور، فمعركة الوعي حلها دائماً لدى النخبة السياسية المستنيرة لبناء وعى الشعوب التي تسعى لإعادة ريادتها بين الأمم الأخرى.

4ـ رأب الصدع: لن ينجح أي عمل وطني جماعي طويل الأمد أن يتم دون الالتزام بمواثيق شرف تلزم الجميع عن وقف النزاع والتراشق، الذي أثبتت الأيام والسنون أن لا فائدة منه غير استمرار الاوضاع كما هي عليه، فإذا أرادت الأطراف المعنية بالعمل على مشروع وطني جامع لإنقاذ البلاد فعليهم توحيد أنفسهم قبل سعيهم لتوحيد المجتمع، فالنُخب التي لا تطبق مطالبها على نفسها أولا ستظل بعيدة كل البعد عن التأثير في الشارع المصري الذي فقد الثقة في كل الأطراف.

5ـ التركيز على الطبقة الوسطى: حماية المواطن والدفاع عنه من أهم الإجراءات العملية التي ينبغي العمل عليها والاهتمام بها، وتُعد الطبقة الوسطى هي الأكثر تأثيراً في المجتمع وصاحبة التأثير الأقوى بين كل الفصائل، لذا تعمد النظام محوها من المجتمع، فاستعادة الطبقة الوسطى ثقافياً واجتماعياً وأيضًا اقتصاديا مطلب هام ومحوري، فالطبقة الوسطى تعتبر رمانة الميزان في استرداد مكانة المواطن داخل المجتمع، ولا يقل العمل المجتمعي أهمية عن العمل السياسي بأي حال بل لابد من الانخراط في العمل المجتمعي، فالمصالحة المجتمعية تسبق المصالحة السياسية في ترتيب الأولويات.

6ـ العلاقات الخارجية: العمل على توطيد العلاقات الخارجية مطلب في غاية الأهمية، فلابد من مد جسور التواصل في الخارج سواء حكومات أو برلمانات أو منظمات مجتمع مدني، بالإضافة إلى الإعلام ومراكز البحث المهتمة بالقضية المصرية، فالعلاقات الخارجية تفوت على النظام الحالي ما يحاول تزييفه وترسيخه عالميا، فإحياء القضية المصرية مرهونا باستمرار وتوحيد الجهود لكل أبناء مصر في الداخل والخارج.

أسماء شكر

باحثة وإعلامية مصرية، وحدة الدراسات الإعلامية، المعهد المصري للدراسات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى