قلم وميدانمجتمع

مصر: المتحف الكبير والحد الأقصى للأجور

وافق مجلس النواب منذ أيام على قرار بعدم التزام هيئة المتحف المصري الكبير بالحد الأقصى للأجور، وكذلك عدم التقيد بالقواعد والنظم والقوانين واللوائح المطبقة في الجهاز الإداري للدولة.

وقد جاء القرار على إثر موافقة البرلمان المبدئية على مشروع قانون المتحف المصري الكبير[1]، مع إرجاء الموافقة النهائية لحين مراجعته بقسم التشريع بمجلس الدول[2]، وهو القانون الذي تقدمت به الحكومة بخصوص إعادة تنظيم هيئة المتحف الكبير، بهدف تحويلها إلى هيئة اقتصادية ذات شخصية اعتبارية، كما جاء بالمادة الأولى منه. فهو قانون يعمل على فصل المتحف الكبير عن وزارة الآثار بشكل كامل، ويقضي على أحلام العاملين بالوزارة الذين عملوا لسنوات في انتظار إتمام المتحف عله يكون سببا في تحسين مستواهم المادي بعد أن عانوا طويلا.

ولذا فإن هذا القانون وما احتواه من مواد سيكون له تأثير سلبي كبير على كل من؛ العاملين بالحكومة وعلى الأخص العاملين بوزارة الآثار، وعلى ميزانية الوزارة، وعلى الأمن القومي. ولذا فإن هذا التقرير سيتناول العناصر الثلاثة بشيء من التفصيل.

أولا: قانون المتحف الكبير. والحد الأقصى للأجور

إن قرار مجلس النواب بخصوص عدم التزام هيئة المتحف المصري الكبير بالحد الأقصى للأجور؛ قد جاء بناء على ما ورد بالمادة التاسعة من القانون والتي تنص على: “تصدر اللوائح الداخلية المتعلقة بالشؤون الإدارية والفنية والمالية، وغير ذلك من اللوائح التنظيمية العامة، وكذلك اللوائح المتعلقة بنظام العاملين بهيئة المتحف، وتنظيم جميع شؤونهم الوظيفية بقرار من رئيس مجلس الوزراء، بعد العرض من الوزير المختص بشؤون الآثار، وبناء على موافقة مجلس الإدارة، وبمراعاة ما تقتضيه الطبيعة الخاصة لعمل هيئة المتحف أو متطلبات الأمن القومي، وذلك كله دون التقيد بالقواعد والنظم والقوانين واللوائح المطبقة في الجهاز الإداري للدولة”[3]

وبرر الدكتور علي عبد العال رئيس البرلمان القرار قائلا: نحن أمام هيئة اقتصادية والقضاء حرر الجهات الاقتصادية مثل البنوك والشركات من الالتزام بالحد الأقصى للأجور. وأضاف: لا أريد تكبيل مجلس إدارة المتحف بهذه اللوائح بما فيها الحد الأقصى[4].

ولما اعترض عدد من النواب على القرار، كالنائب إسماعيل نصر الدين والنائب صلاح عبد البديع قائلين: إننا لسنا أمام تخصصات نادرة تبرر الخروج على الالتزام بالحد الأقصى للأجور[5]. رد عليهم رئيس مجلس النواب، بقوله: هذا المتحف قد يكون في حاجة لشخص معين له قدرات معينة وإذا التزم بالحد الأقصى سيرفض العمل[6]. وتأكيدا على موافقته على القرار؛ قام عبد العال بإثباته في مضبطة المجلس.[7]

لكن المثير في الأمر؛ أنه وفي الوقت الذي لن يُلتزم فيه بالحد الأقصى للأجور بالمتحف الكبير، يطمع الموظفون بالدولة في الحصول على الحد الأدنى الذي لم يطبق في الكثير من المصالح؛ بالرغم من أن عبد الفتاح السيسي قد أعلن عنه منذ مارس الماضي[8]، بل ودارت نقاشات بالبرلمان بسبب عدم تنفيذه؛ بالرغم من أن وزارة المالية أصدرت منشورا عاما لجميع الجهات الداخلة في الموازنة العامة للدولة والهيئات الاقتصادية والخدمية تشدد فيه على أهمية الالتزام بقرار رئيس مجلس الوزراء برفع الحد الأدنى لمجمل أجر الدرجات الوظيفية من أول يوليو الماضي[9]. وحددت الحكومة قيمة الحد الأدنى بـ 2000 جنيه؛ بحيث يستحق شاغلو الدرجة الممتازة 7 آلاف جنيه، والدرجة العالية 5 آلاف جنيه، ودرجة مدير عام 4 آلاف جنيه، والدرجة الأولى 3500 جنيه، والدرجة الثانية 3 آلاف جنيه، والدرجة الثالثة 2600 جنيه، والدرجة الرابعة 2400 جنيه، والدرجة الخامسة 2200 جنيه، والدرجة السادسة 2000 جنيه[10]، وبالرغم من ذلك لم يطبق.

وبناء على قيمة الحد الأدنى المذكورة؛ فالحد الأقصى يجب أن يبدأ من 70 ألف جنيه، فقد قررت القوانين السابقة بأن الحد الأقصى يبلغ 35 ضعف الحد الأدنى، ولما كان الحد الأدنى في السابق 1200 جنيه كان الحد الأقصى 42 ألف جنيه، وبناء على ذلك فإن أقل مرتب بالمتحف الكبير بعد عدم الالتزام بالحد الأقصى سيتجاوز 70 ألفا[11].

وبذلك سيتم التفرقة بين العاملين بوزارة الآثار؛ الذين صبروا معا من أجل إتمام هذا الصرح العظيم الذي كانوا ينتظرون افتتاحه بفارغ الصبر، بعد أن تم التقتير عليهم بحجة الإنفاق عليه. والآن لن يعمل بالمتحف الكبير غير أصحاب الحظوة من العاملين بالوزارة أو خارجها ممن تم التعاقد معهم – أو من سيتم التعاقد معهم – من الأكاديميين والأمنيين. ويظل العاملون بالوزارة على أمل الحصول على الحد الأدنى؛ في الوقت الذي تتجاوز فيه مرتبات زملائهم وكل العاملين بالمتحف الكبير 70 ألف جنيه بناء على هذا القانون.

ثانيا: تكلفة المتحف. وديون الوزارة

أكد الدكتور خالد العناني وزير الآثار، أن تكلفة المتحف الكبير تبلغ مليار دولار[12]. كما أن المركز الإعلامي لمجلس الوزراء قد نشر فيديو عن مشروع المتحف المصري الكبير، أوضح خلاله أن المشروع يقام على مساحة 117 فدانا، بتكلفة مليار دولار، ليضم 100 ألف قطعة أثرية من مختلف العصور التي شهدها التاريخ المصري، مقسمة إلى 50 ألف قطعة تستخدم بالعرض الدائم للمتحف منها 20 ألف قطعة ستعرض لأول مرة، إلى جانب 50 ألف قطعة أخرى موجودة بمخازن حديثة لاستخدامها في الدراسات الأثرية والمعارض المتغيرة[13].

والمليار دولار، تكلفة المتحف، قدم منها الجانب الياباني قرضين لما يقرب من 800 مليون دولار، أما باقي التكلفة فتتحملها الحكومة المصرية متمثلة في وزارة الآثار، طبقا لتصريحات الوزير[14].

وقد كان الأمل في المتحف الكبير -الذي من المتوقع أن تكون حصيلة عائداته ضخمة جدا – أن يساعد في تسديد ديون الوزارة، إن أُحسن استثماره، ولكن بالشكل المُفضي إليه هذا القانون سيصبح المتحف هيئة مستقلة له موازنة مستقلة بحساب مستقل بالبنك المركزي وذلك بناء على المادة الثالثة عشر منه والتي تنص على أن: “يكون لهيئة المتحف موازنة مستقلة تعد على نمط موازنات الهيئات الاقتصادية، على أن تبدأ السنة المالية للهيئة مع بداية السنة المالية للدولة، وتنتهي بانتهائها، وتودع أموال هيئة المتحف في حساب خاص بالبنك المركزي أو في حساب بأحد البنوك التابعة له، تودع فيه حصيلة مواردها”.

فبالرغم اقتطاع جزء من تكلفة المتحف الكبير من أموال الوزارة؛ إلا أن المتحف بهذه الصفة لن يكون تابعا للوزارة بل ولن يساعد في تسديد مديونيتها والتي تزداد عاما بعد عام؛ فنقابة العاملين بوزارة الآثار كشفت مؤخرا عن أن جملة عدد العاملين بالوزارة يبلغ 35 ألفا، وأن حجم الديون على الوزارة بلغ 5.962 مليارات جنيه. بل وفي سبتمبر من عام 2017 أعلن وزير الآثار أن عدد العاملين بالوزارة بلغ 37 ألفا وأن المرتبات التي يتقاضونها شهريا تبلغ 80 مليون جنيه، في حين أن متوسط الدخل لوزارة الآثار من تذاكر الزيارات لا يزيد عن 25 مليون جنيه شهريا، وتستكمل باقي المرتبات من خلال الاستدانة من وزارة المالية[15]. وسبق أن أعلن الوزير في 2016 أن مديونية الوزارة بلغت حاليا 4.6 مليارات جنيه[16]

ثالثا: قانون المتحف الكبير. والأمن القومي

لم تتوقف مخاطر قانون المتحف الكبير عند الأضرار المادية التي ستطال العاملين بوزارة الآثار، ولا على مديونية وزارة الآثار؛ بل هناك أخطار أخرى تمس هيبة الدولة المصرية والأمن القومي بشكل كبير؛ ومنها أنه وحسب المادة الخامسة من مشروع القانون، تتكون أجهزة المتحف من: مجلس الأمناء، ومجلس الإدارة، والرئيس التنفيذي. والغريب في الأمر أن الذي يرأس مجلس الأمناء هو رئيس الجمهورية طبقا للمادة السادسة التي تنص على أن: “يكون لهيئة المتحف مجلس أمناء برئاسة رئيس الجمهورية، وعضوية ما لا يزيد على 20 عضوا، ويختص المجلس بإقرار السياسات العامة والخطط والشؤون الاستراتيجية لهيئة المتحف، وله أن يتخذ ما يراه من القرارات اللازمة في هذا الشأن، لتمكين هيئة المتحف من أداء رسالته الحضارية والتاريخية والعلمية للعالم، كما يختص بدعم ومتابعة نشاط هيئة المتحف، وإسداء ما يراه من توجيه في هذا الشأن، على أن يصدر بتشكيل مجلس الأمناء، ومدة عضويته، وتنظيم عملة قرار من رئيس الجمهورية”[17].

فالمادة لم تكتف بالنص على رئاسة رئيس الجمهورية لمجلس الأمناء؛ بل جعلت منه فضلا عن ذلك المتحكم الوحيد في كل ما يدور بالمتحف؛ فهو الذي يشكل مجلس الأمناء وهو الذي يرأسه بل ويحدد عضوية أفراده وينظم عمله!

ولم يتوقف القانون عند هذا الحد؛ بل فتح الباب واسعا أما التدخلات الأجنبية في آثارنا؛ فقد جاء بالمادة الـحادية عشر منه أن: “لهيئة المتحف -في سبيل تحقيق أغراضها -تأسيس شركات مساهمة بمفردها أو مع شركاء آخرين أو المشاركة في شركات قائمة … “، وأضافت: “ويكون للهيئة أن تعهد إلى الشركات أو جهات الخبرة المتخصصة المصرية أو الأجنبية لتقديم وإدارة وتشغيل الخدمات بهيئة المتحف، وذلك على النحو الذي تنظمه اللوائح التنظيمية العامة، ودون التقيد بالنظم والقواعد الحكومية. وبذلك أصبح المتحف الكبير هيئة اقتصادية وشركة مساهمة، بإمكانها التعهد بشراكات واستثمارات لأجانب مع عدم التقيد بقوانين الحكومة، وهذا أيضا في حد ذاته أمر في غاية الخطورة.

بل إن المادة العاشرة فتحت الباب أيضا أما توظيف الأجانب؛ فقد نصت على أن: “لمجلس إدارة هيئة المتحف -بعد عرض الرئيس التنفيذي-الموافقة على التعاقد مع غير المصريين في حال الضرورة لتحقيق أهداف هيئة المتحف كمجمع عالمي متكامل، أو أن يعهد إليهم ببعض المهام أو الأعمال المؤقتة… “، فالحقيقة لا أعرف معنى لهذه المادة، خاصة وأن المسؤولين يعلنون أننا في تقدم دائم ولدينا الكفاءة في جميع التخصصات.

الخاتمة:

وفي النهاية؛ وكباحث مطلع ومرتبط بوزارة الآثار المصرية، وعلى دراية بأحوالها ـ أرجو من المسؤولين والبرلمان إعادة النظر في هذا القانون، كما أدعو المختصين والعاملين بوزارة الآثار للوقوف صفا واحد ضد هذا القانون الجائر؛ والذي إن مر وتمت الموافقة النهائية عليه؛ فسيمر خلفه مباشرة قانون آخر يتم التجهيز له الآن بخصوص المتحف القومي للحضارة المصرية، والذي تسعى الحكومة إلى جعله هيئة اقتصادية مستقلة عن وزارة الآثار كذلك.


الهامش

[1] – الوطن، النص الكامل. مواد مشروع قانون هيئة المتحف المصري الكبير بعد التعديل، 4 نوفمبر 2019

[2] – اليوم السابع، مجلس النواب يوافق على مشروع قانون هيئة المتحف المصري الكبير في مجموعه، 4 نوفمبر 2019

[3] – أخبار اليوم، البرلمان يعفي العاملين بهيئة المتحف المصري الكبير من الأقصى للأجور، 4 نوفمبر 2019

[4] – المصريون، البرلمان: إعفاء العاملين بـ «المتحف الكبير» من الأقصى للأجور، 4 نوفمبر 2019

[5] – مصراوي، تعرف على مادة إعفاء العاملين بالمتحف الكبير من “الأقصى للأجور”، 4 نوفمبر 2019

[6] – الوطن، البرلمان يعفي المتحف المصري الكبير من الالتزام بـ “الأقصى للأجور”، 4 نوفمبر 2019

[7] – الأهرام، “البرلمان” يوافق على إعفاء العاملين بهيئة المتحف المصري الكبير من الالتزام بالحد الأقصى للأجور 2019

[8] – مصراوي، السيسي يقرر زيادة الحد الأدنى للأجور إلى 2000 جنيه، 30 مارس 2019

[9] – الأهرام، الحد الأدنى والأقصى للأجور. النواب يشكون من عدم التنفيذ. و«المالية» تحذر، 9 أكتوبر 2019

[10] – الوطن، المالية تعلن قواعد تطبيق الحد الأدنى للأجور. يشمل الأساسي والمتغير، ا أغسطس 2019

[11] – صدى البلد، بعد زيادة الحد الأدنى إلى 2000 جنيه. لماذا سيرفع البرلمان الأقصى للأجور إلى 70 ألف جنيه، 10 يوليه 2019

[12] – صدى البلد، وزير الآثار يكشف بالأرقام: المتحف الكبير تكلف مليار دولار. وتطوير الهرم انتهي بنسبة 100%. واستعدنا 1100 قطعة آثار، 3 نوفمبر 2019

[13] – بوابة فيتو، مليار دولار تكلفة بناء المتحف المصري الكبير. ويضم 100 ألف قطعة أثرية (فيديو)، 3 مارس 2019

[14] – أخبار اليوم، وزير الآثار يوضح تكلفة إنشاء المتحف المصري الكبير، 27 يناير 2018

[15] – جاء هذا خلال لقاء وزير الآثار مع برنامج: مساء dmc -وزير الاثار “دخل الوزارة قل كثيراً وأصبح علينا ديون للحكومة ولكنه تحسن منذ العام الماضي، 10 سبتمبر 2017 https://www.youtube.com/watch?v=QvOrrde2bhU

[16] – المصري اليوم، الدكتور خالد العناني وزير الآثار: ديون الوزارة ٤٫٦ مليار جنيه. ولابد من إلغاء «الأعلى للآثار”، 5 سبتمبر 2016

[17] – العربي الجديد، رئيس البرلمان المصري: لا فساد على الإطلاق في شركات الجيش، 4 نوفمبر 2019

الوسوم

د. حسين دقيل

أكاديمي مصري،باحث ومتخصص في الآثار حاصل على الدكتوراه في الآثار اليونانية والرومانية من جامعة الإسكندرية حاصل على الدراسات العليا في التربية قسم اللغة العربية من جامعة جنوب الوادي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى