إن التحولات الاجتماعية والتغيرات الثقافية والسياسية والاجتماعية التي يشهدها المجتمع المصري ألقت بظلالها على مختلف الشرائح المجتمعة، وأضعفت نسيج العلاقات الأسرية والمجتمعية بل وعملت على تدمير الشخصية المصرية، وساهمت في نمو أساليب وأنماط حياتية جديدة جعلت الأفراد داخل المجتمع الواحد يعيشون أوضاعاً اجتماعية مستقلة حتى داخل التركيبة الأسرية الواحدة مما ساهم في تعدد أشكال الانفصال داخل المجتمع، وغابت فكرة التضامن مع الآخرين والمشاركة في القيم والمعتقدات والممارسات المختلفة، وأدى ذلك إلى رفض كافة أشكال التوافق مع المؤسسات المختلفة سواء أكانت اجتماعية أو ثقافية أو سياسية وأدت تلك المتغيرات إلى غياب الطاقات الإنتاجية والابتكارية بقدر ما تزداد حالة التبعية والتواري في المجتمع.
وقد أثبتت العديد من الدراسات البحثية بتعدد مجالاتها واختلاف أشكالها إلى أن ظاهرة الاغتراب من أشد تداعياتها تدمير الذات الإنسانية والتي تتجسد في العدوانية والانعزال الاجتماعي وانعدام الهوية المجتمعية بل وإيذاء النفس وتدميرها أحياناً.
الدافع للبحث:
أن التحديث الاجتماعي والسياسي والمؤسسي الذي تسعى إليه الأمم المتحدة على اختلاف توجهاتها لن تتحقق أهدافه في غياب نسق قيمي أعلى يدعم العلاقات والتفاعلات المتبادلة، ويعزز من مساحة الثقة الواجب توافرها بين الحكومات وشعوبها، سعياً لتفعيل العدالة والمساواة وزيادة فرص التمكين والمشاركة الفاعلة، وتعدد الخيارات والفرص في المجتمع ركيزته تبادل المواطنة وتعزيز العلاقة بين الدولة والمجتمع.
ومن ثم فإن برامج التنمية أصبحت في ضوء التحول الديمقراطي تعمل على الاهتمام بعملية المشاركة على اختلاف أنواعها ومجالاتها، فالمواطنون هم ذوي الحقوق المدنية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية المعترف بها من الجميع للجميع، بحكم العقد الاجتماعي ويعبر عنها القانون فهي تعبير مباشر عن سيادة الشعب.
وعلى صعيد آخر ظل وجود المؤسسات التي تعني بحقوق الإنسان الشغل الشاغل للمنظمات الدولية منذ أكثر من نصف قرن، حين دعي المجلس الاقتصادي والاجتماعي عام 1964 الدول الأعضاء إلى النظر في إنشاء مجموعات إعلامية أو لجان محلية لحقوق الإنسان، وظل السعي حثيثاً من أجل إيجاد مؤسسات كفيلة بالمساهمة في ذلك، ودعت لجنة حقوق الإنسان 1990 إلى دراسة موضوع المؤسسات وتكوين فريق عمل خاصة لإعداد مشروع بصدده، وتوسع هذا الجهد عام 1991 بوضع المبادئ المتعلقة بالمؤسسات الوطنية أو ما عرف بمبادئ باريس التي أقرتها الأمم المتحدة في 20 ديسمبر 1993.
وأصبحت المؤسسات الوطنية آليات أساسية إلى جانب رؤساء الدول أو رؤساء الحكومات تعمل في نطاق البحث عن السبل الناجحة – الفاعلة – أو متابعة أعمال التعهدات والتزامات الدول الأعضاء في اتفاقيات القانون الدولي لحقوق الإنسان، والعمل على رؤية المجتمع إلى المستويات الأرقى في تنظيم مسئولياته عن أفراده وصيانة أحد أهم مصادر تقدمه على الأطلاق وهو العنصر البشري.
إلا أن هذا الانسان المرهون بوعيه ومسئولياته وبأهمية مشاركته غالباً ما يلقى على كاهله تحديات مجتمعه وكيفية مواجهته، فالحق في الرعاية على وجه التحديد والمساندة والتدعيم يغيب فيه بل ويختفي الخط الفاصل بين مسئولية المجتمع ومؤسساته وسياسات وخطط التنمية المنشودة، وتأتى القوانين لتحدد العلاقة وتحسمها وتسرف في التأكيد على الحق الإنساني أو تسقطه في مواضع أخرى، وتبقى معه الاستجداءات ولا تردعه الأحداث ويرتد على الانسان نفسه فيجاهد صانع القرار وواضعي السياسات حتى يقدر له أحياناً أن يحصل على ما يريد وقد يلتقط بعض أنفاسه بجرح المدافعة لحين مواجهات أخرى ولعل ذلك ما يناقض الحالة التي تسعى إليها كل المواثيق والمعاهدات وأن ينعم الجميع في مجتمع المساواة و الحقوق والواجبات مع عدم التمييز.
ولقد شهدت مصر في عقدي الثمانينيات والتسعينيات تراجعاً ملحوظاً للحياة السياسية وانحسر بشكل واضح نفوذ الأحزاب والقوى السياسية، نتيجة عدة عوامل، أبرزها: الاستبداد السياسي الذي وصل إلى ذروته في مواجهة القوى اليسارية في السبعينيات وأوائل الثمانيات وجرى تأميم النقابات العمالية والمهنية وباتت الساحة خالية من المنظمات غير الحكومية الحقوقية، ونشطت بعض الكوادر اليسارية والناصرية من جيل السبعينيات، وكان محور عملها متابعة للحصار الأمني الحكومي وما أصابها من انقسامات وعزلة من بعض التيارات السياسية في المجتمع.
مما أدى إلى عزلها وانحسار أنشطتها داخل مقارها أو في إحدى الفنادق بالإضافة إلى التدهور الاقتصادي نتيجة فشل سياسات الدولة في الاستفادة من ازدياد القوى العاملة، وأدى إلى ظهور جيل من الشباب من حملة الشهادات الجامعية لكنهم من غير وظائف، في مقابل ذلك احتكار رجال الأعمال والمستثمرين للسيطرة على هيئات ونظم الدولة محاولين إدارة دفة الحكم لصالحهم والسيطرة على كل هيئات وسلطات الدولة تشريعية كانت أو تنفيذية أو حتى قضائية.
ولقد أدت تلك العوامل مجتمعة وما حدث من قيام الثورة الشعبية في تونس ديسمبر 2010، احتجاجاً على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية السيئة إلى إضاءة ثورة الأمل لدى كافة الشعوب العربية وبثقتها في قدرتها على تغيير الأنظمة الجاثمة عليها وتحقيق تطلعاتها وجاءت الثورة السلمية البيضاء في مصر، بعد الثورة التونسية وتنحى الرئيس محمد حسني مبارك عن الحكم في 11 فبراير عام 2011.
وتوالت حركات التغيير بكافة أشكال التظاهر الثوري وتطوراته المختلفة وما تعكسه التغيرات التلقائية من شعارات للتنوع الطيفي في كافة أشكال التظاهر واتجاهاته والتي للأسف لم تسلم من الادعاءات بالتمويل والتبعية والاملاءات الخارجية، وسرعان ما انقلبت عملية التحول الديمقراطي مثل دوران العجلة للخلف، وسرعان ما انقلبت الأمور للأسوأ عما كانت عليه قبل الربيع العربي، وساهمت جهات عدة على محاور عدة بالتأثير على حدة الواقع الإقتصادي والسياسي والاجتماعي إلى مزيد من المعاناة ودفعت البلاد ثمناً باهظاً لمجرد محاولة التغيير مما أغرق واجهة المجتمع بالغربة والعزلة نتيجة كافة أشكال الاستبعاد التي تمت ونعرض منها:
* حركات الهجرة واسعة المدى اختيارية أو قصرية
* انتقال العمالة من قُطر لآخر بل من قارة لأخرى سواء كانت شرعية أو غير شرعية
* زيادة مساهمة التهميش الاجتماعي والسياسي والثقافي وفشل الدولة في معالجتها
* احتكار القلة للقدرات السياسية والاجتماعية للمجتمع
* عجز المنظومات الفكرية والسياسية القائمة عن إبداع حلول للأزمات سواء ليبرالية أو قومية أو اشتراكية أو دينية وينبع هذا العجز من أن هذه المنظمات مشبعة بعناصر أيديولوجية معادية للديمقراطية والحقوق المدنية على وجه الخصوص.
* فشل التجارب الخاصة بإبداع الفكر وأطروحات المشاريع المنتجة للهوية الوطنية فالمواطن اعتبر محدود الصلاحيات وأداء وواجبات وظيفته وإطاعة وتنفيذ الأوامر والأحكام بعيداً عن الذات الوطنية طالما ظلت العلاقة بينهما تحكمها قضية الحاكم والمحكوم.
كل ذلك حتى حالات الاحتجاج الاقتصادي أو السياسي لم يعد مسموحاً بها مما زاد من انتشار الجرائم وعدم الشعور بالانتماء ومزيد من التفكك المجتمعي وحالة التردي المجتمعي نتيجة انتهاك كافة أشكال حقوق الانسان في شتى المجالات.
ولهذا كانت الدراسات والاهتمامات البحثية لرصد الظواهر المجتمعية الناتجة عن تلك الأوضاع والتي من أهمها ظاهرة الاغتراب المجتمعي وهى نتيجة حتمية لحركة التعامل أبان الأزمات السياسية والاقتصادية التي يتعرض لها مجتمعنا ويعد الاغتراب ظاهرة انسانية واجتماعية عامة سوية مقبولة حيناً ومعوقة أحياناً أخرى شائعة في كثير من المجتمعات بغض النظر عن الأيدولوجيات وطبيعة مستويات التقدم الاقتصادي والمادي والتكنولوجي بها ولعل ما يعطي لها من أهمية هو ما يستتبعها من مشكلات تضيف على المشكلة الرئيسية من خطورة إذا لم تتم مواجهتها وحلها ومنها الأدمان والانتحار والدعارة وجيوش المرتزقة وهجرة العقول وغيرها.
ومن هنا ونظراً لأن الاغتراب مشكلة انسانية عامة وأزمة الانسان المعاصر أيضاً لذا سوف نقوم بعرض الآتي:
أولاً: التأصيل للمفهوم ونظرياته:
جاءت كلمة اغتراب في أصلها اللغوي مجسدة لمعناها المباشر من خلال المعاجم والقواميس اللغوية التي وردت بها بوصفها حالة من حالات الوجود الانساني بالإضافة إلى المعنى البسيط لكلمة غريب (Alien) أو اغتراب بمعنى (Alienation). أو ابتعاده عن مكانه الأصلي كما ورد في المعاجم العربية ما يؤكد المعنى العام لكلمة اغتراب.
والمقابل لكلمة اغتراب أو غربة في الكلمة الإنجليزية Alienation وهي اسم مشتق من الفعل اللاتيني Alienare وتعنى نقل ملكية شيء ما إلى آخر وهذا الفعل مستمد بدوره من كلمة أخرى وهي Alienars أي الانتماء إلى شخص آخر أو التعلق به، وهذه كلمة مستمدة في النهاية من اللفظ Alius الذي يدل على الآخر كاسم أو صفة.
ويُعد “هيجل” Hegel أول مَن أدخل مصطلح الاغتراب إلى الفلسفة ويُقصد به – الفصل بين الوجود والجوهر، أي بين الواقع الفعلي للفرد وطبيعته الجوهرية ومن ثم يصبح الفرد مقهوراً نتيجة لهذا الفصل، ثم انتقل مفهوم الاغتراب من الفلسفة إلى علم الاجتماع – حيث ظهر في كتابات May عن اغتراب العامل عن نتائج عمله – وفى ظل المجتمع الرأسمالي. وكتابات “دوركايم” Durkheim عن الأنوميا التي تعني انعدام المعايير الاجتماعية، ثم انتقل مفهوم الاغتراب إلى علم النفس ويرجع ذلك لكتابات “فروم هورني”.
نظريات الاغتراب:
تعددت النظريات التي قدمها الباحثون حول الاغتراب واختلفت باختلاف وجهات النظر المراد إبرازها في كل منها ومن أهم تلك النظريات:
1) نظرية هيجل 1831:1770
يُعد “هيجل” من المفكرين المثاليين الأوائل الذين استخدموا مصطلح الاغتراب وكثيراً ما ننظر إليه أنه رائد الاغتراب إذ يرى أن العالم الذي نعيش فيه الانسان هو إلى حد كبير انكار الانسان لنفسه واكتفاءه بنفسه والاغتراب لديه يعني الفصل بين الوجود والجوهر والانسان المغترب عند “هيجل” هو ذلك الشخص الذي يعيش في عالم ميت لا انساني.
2) نظرية “أريك فروم” 1900:1837
كانت مساهمة فروم كبيرة في تناول مصطلح الاغتراب فقد تناول فروم موضوع الاغتراب من زاوية تكوين الشخصية إذ يرى أن بناء شخصية الفرد يرجع إلى المجتمع الذي يعيش فيه. ويتصور “فروم” مجموعة من العوامل التي تؤدي بالفرد إلى الشعور بالاغتراب يمكن ايجازها على النحو التالي:
- الحركة التكنولوجية التي حولت الانسان إلى مفهوم استهلاكي وحرمته من الشعور بهويته وقيمته وشعوره بأنه يعيش في مجتمع ترتكز كل أهميته في الانتاج ولا يهتم بتنمية العلاقات الانسانية الصحيحة بين الأفراد.
- التربية الخاطئة التي يتلقاها الفرد في عملية التطبيع الاجتماعي التي تنفذه بشدة أوامرها قدرته على التفاعل الاجتماعي.
- شعور الانسان بالملل ومسايرته الآلية لنظام الحياة الحديثة التي جعلته يفقد الشعور برونق الحياة في تدفقها الطبيعي ومسارها الذي يحتاج إلى التعامل معها.
- يُرجع “فروم” الاغتراب إلى الفشل في التفاعل بين العوامل النفسية والعوامل الاجتماعية إذ يصف الانسان الحديث بأنه هرب من روابط العصور الوسطى غير أنه لم يكن حُراً في إقامة حياة ذات معنىً كامل تقوم على العقل والحب.
ويمكن القول بأن الاغتراب عند “فروم” بمعنى فقدان العلاقة والحوار الجدلي البناء في الانسان والآخر تلك العلاقة التي تحدد أشكال الاغتراب ففي علاقة الانسان بالطبيعة يرى “فروم” أن اغتراب الفرد يكمن في انفصاله عن الطبيعة وفي علاقة الفرد بالآخرين ويرى “فروم” أن جوهر الاغتراب هو أن يُصبح الآخرون غرباء بالنسبة للفرد ومن أهم صور عمليات الانفصال هي انفصال الفرد عن ذاته.
3) نظريات “كارل ماركس” Marx Karl [1883:1818]:
وتندرج فكرته الأساسية وهي اغتراب الانسان عن العمل إذ ربط ماركس مفهوم الاغتراب بالعمل والإنتاج فهو يرى أن جوهر الانسان لا يتحقق إلا عن طريق العمل والإنتاج وإذا فُصل الفرد عن عمله فهو بالضرورة سيغترب عن ذاته وإمكاناته وعن علاقاته التي يتجدد من خلالها إنسانيته ونظر إليها من خلال ثلاث زوايا: اغتراب العمل، واغتراب الذات، واغتراب عن الآخرين.
4) نظرية “اميل دوركايم” 1917-1958:
في تحليله لما سماه ظاهرة (الأنومي) والتي تُعني بفقدان المعايير وترتكز دعوته على أن المجتمع البسيط يعيش بنظام معين يخضع فيه مصالح أفراده لصالح المجتمع على عكس المجتمع الصناعي ولقد أشار “دور كايم” أن عزلة الانسان وبعده عن التضامن الاجتماعي وهي مصدر اغترابه في المجتمع الحديث وأن التصنيع والديمقراطية قد أدت إلى النزعة الفردية التي سادت التاريخ الحديث والتي بدت مظاهرها في اليأس والوحدة والاكتئاب وهي مظاهر الاغتراب بصفة عامة.
5) نظرية “ميلفين سلمان”: 1861-1923:
وتناول مفهوم الاغتراب من الناحية الاجتماعية وتحدث في بحثه المعروف حول معنى الاغتراب عن خمسة معان أو ابعاد للاغتراب:
(أ) فقدان السيطرة وحالة اللاقدرة: وهذا المعنى يشير للاغتراب أنه الحالة التي لا يستطيع الفرد التأثير على المواقف الاجتماعية التي يتفاعل معها فالفرد المغترب هنا لا يتمكن من تقرير مصيره أو التأثير في مجرى الأحداث الكبرى أو صُنع القرارات المهمة التي تتناول حياته ومصيره فيعجز بذلك عن تحقيق ذاته.
(ب) اللامعنى أو فقدان المعنى: وهذا المعنى للاغتراب يشير إلى أن شعور الفرد بأنه يفتقر إلى مرشد أو موجه للسلوك والاعتقاد والفرد المغترب هنا يشعر بالفراغ الهائل نتيجة لعدم توفر أهداف أساسية تعطي حياته معنى وتحدد اتجاهاته وتستقطب نشاطاته بما يعني عجز الفرد عن الوصول إلى قرار.
(ج) اللامعيارية: وهي الحالة التي تنشأ عندما تتفكك القيم أو المعايير الاجتماعية وتفشل السيطرة على السلوك الفردي ووضعيته.
(د) الاغتراب الاجتماعي أو حالة العزلة أو اللانتماء: وهي الحالة التي لا يشعر الفرد فيها بالانتماء إلى الشعب أو الأمة.
(هـ) الاغتراب الذاتي أو النفور من الذات: ويشير إلى شعور الفرد بعدم القدرة على إيجاد الأنشطة المتكافئة ذاتياً، أن الانسان لا يستمد الكثير من الرضا والاكتفاء الذاتي من نشاطاته ويفقد صلته بذاته الحقيقية ويصبح مع الزمن مجموعة من الأدوار والسلع والأقنعة لا يتمكن من أن يشعر بذاته ووجوده الا في حالات نادرة.
6) نظرية “كينستون” 1965:
قدم نظريته عن الاغتراب أنه يظهر في ثنايا المجتمعات تبعاً لاختلاف أنماطها الثقافية والاجتماعية والسياسية وأن الاغتراب يتضمن معاني التشاؤم والتوتر والصراعات النفسية تبعاً لما تحدثه تلك الأنماط من ضغوط لا يتقبلها الشباب ويصبح الرفض لهذه المعطيات الثقافية والاجتماعية التي تؤدي إلى السخط وعدم الانتماء والتهرب من تحمل المسئولية.
ويرى كينستون أن هناك مجموعة من الخصائص الأساسية التي تشكل ملامح الشخص المغترب تدفعه إلى فقدان الخصائص الأساسية لديه وتحرمه من توظيف إرادته على الوجه التالي منها:
- فقدان الثقة في التعامل مع الآخرين
- الإحساس بالقلق والتوتر النفسي
- الغضب واختبار التفاعل مع المواقف
- ضياع القيم الجمالية في مقابل المسايرة للحركة الألية وما يتبعها من عوامل مادية تكنولوجية
- رفض القيم الاجتماعية التي تضغط على إرادة الانسان
- الانسحاب وعدم تحمل المسئولية
ثانياً: أدبيات الاغتراب المجتمعي:
ويمكن النظر إليه في ضوء عدد من الاعتبارات الآتية: التوجه الأيديولوجي في سياق المفهوم، وتنوع أشكال الممارسة للاغتراب المجتمعي
1ـ التوجه الايديولوجي في سياق المفهوم:
ويعرف بأنه الحالة السيكو اجتماعية المسيطرة بشكل تام على الفرد بحيث تحوله لشخص غريب وبعيد من النواحي الاجتماعية في واقعه، وتسيطر فكرة الاغتراب في الوقت الراهن على تاريخ الفكر الاجتماعي والأدب المعاصر وفن ارتباطه بالتعصب العنصري الوعي الطبقي والصراعات السياسية والصناعية.
كما تم استخدامه بطرق تنوعيه مصاحبة لاختلاف الاتجاهات النفسية والسيكولوجية والسوسيولوجية فأول من استخدمه بشكل منهجي تنظم لصالح الاغتراب كان “هيجل” وتم استخدام مصطلح الاغتراب في الكتابات المبكرة ل”ماركس” في مؤلفه “رأس المال” عندما ربط الاغتراب بالعمل المأجور فالإنسان ينتجُ عملاً لكنه يصير عبداً له بمعنى أنه يشعر بالعزلة عما تنتجه يداه وهكذا حول “ماركس” الاغتراب من الظاهرة الفلسفية إلى الميتافزيقية.
وهناك من اعتبرها ظاهرة إنسانية تشمل جميع أنماط الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في كل الثقافات ويرى هذا الرأي تزايد مشاعر الاغتراب وارتباطها يكون عادة بالظروف المجتمعية وخاصة عندما توجد مشاكل واضطرابات متعددة تهدد كيانه.
ويعرف “لونج” الاغتراب على أن له أنواعاً متعددة وأهمها الاغتراب السياسي ويرى أنه حالة من الشعور بعدم الرضا وخيبة الأمل والانفصال عن القادة السياسيين والسياسات الحكومية والنظام السياسي، ويرى أن مشاعر الاغتراب تضم على الاقل خمس مكونات وهي الشعور وبالعجز والاستياء وعدم الثقة والغربة واليأس.
كما ارتبط الاغتراب بالمشاركة السياسية حيث أن المغتربين يكونون أقل مشاركة ونتيجة نقص الحوافز واحساسه بعبثية المشاركة، كما تلعب السياسة دوراً بارزاً في تنمية عملية المشاركة ولا يحب اغفال الجوانب الاجتماعية والاقتصادية وأثرها على الشعور بالاغتراب السياسي حيث أن تدنى المستوى الاقتصادي والمكانة الاقتصادية والاجتماعية لدى الفرد يكون باعثاً على الشعور بالاغتراب وخاصة الاغتراب السياسي وهو الاحساس بعدم فاعليته وقدرته على التغيير ولا سيما حينما تكون قنوات الاتصال فيه بين الافراد والنسق السياسي ضعيفة وغير مجدية الشيء الذي يشجع على طغيان السياسات العامة التي تفرض نوعاً من عدم العدالة التوزيعية للنظام وظاهرة العداء السياسي.
حيث أن هناك من يرى ظاهرة العداء السياسي نوعاً من أنواع الاغتراب السياسي ودرجاته، واستكمالاً لارتباط المفهوم بالناحية السياسية، وهناك من يرى أن الاغتراب نتاجاً لعدم الثقة في القيادات السياسية وغيرها من عوامل تكون سبباً في اتساع اللامبالاة السياسية وتكون الحالة هي القلة المنشغلة بالسياسة من واقع تحقيقها للمصلحة الخاصة وليس العامة.
وارتبط الاغتراب بالناحية النفسية والاجتماعية نتيجة طبيعية للأوضاع الاجتماعية حيث يُعرف بأنها عدد من المواقف الموضوعية والذاتية التي تظهر عن أوضاع اجتماعية، ويصاحبها سلب حرية الجماعة بالقدر الذي يُفقدها منه القدرة على انجاز الأهداف، فهو حالة نفسية تُمثل الشعور بضعف الانتماء إلى مؤسسات المجتمع والشعور بعدم القدرة على التأثير في سير واتخاذ القرارات المتعلقة بجانب أو أكثر من جوانب حياة الفرد اليومية.
كما استهوى مفهوم الاغتراب الفلاسفة والمفكرين وارتبط بذات الفرد أو الكيان النفسي وجاء في بعض المضامين الاتية:
- الاغتراب بمعنى الانفصال ويصف هذا المعنى تلك الحالات الناتجة عن الانفصال المعرفي للكيانات أو عناصر معينة في واقع الحياة تنشأ معه حالة من الاحتكاك والتوتر بين الأجزاء المختلفة.
- ويُعرف بمعنى الانتقال عندما يرتبط الاغتراب بعملية التخلي عن حق من الحقوق التعاقدية ورأوا نقل هذه الحقوق من فرد إلى آخر ويولد هذا الانتقال توتراً في العلاقات وشعوراً بالغضب أو التسليم من جانب الأفراد الذين يواجهون مثل هذا العقاب.
- الاغتراب بمعنى الموضوعية وهذا يتجسد نتيجة وعي الفرد بوجود الآخرين ونظرة الفرد للآخرين كشيء مستقل عن نفسه بغض النظر عن طبيعة العلاقات التي تربطه بهم ومن أهم مؤشرات الاغتراب الشعور بالوحدة والعزلة ومزيد من التوتر والاحباط.
- بينما يراه البعض أنه حالة تنشأ من خبرة الفرد التي يمر بها مع نفسه ومع الآخرين ولا تتصف بالتواصل والرضا ويصاحبها كثير من الأعراض وهي العزلة والاحساس بالتمرد والرفض والانسحاب والخضوع فهو اضطراب نفسي يعبر عن اغتراب الذات عن هويتها وبُعدها عن الواقع وانفصالها عن المجتمع وهو غربة النفس والعالم وغربة بين البشر أيضاً.
ويُعرف معجم العلوم الاجتماعية الاغتراب بوجه عام أنه البُعد عن الأهل الوطن ولكن اللفظ استعمل حديثاً للدلالة عن فقدان الانسان لذاته واستنكاره لأعماله نتيجة أوضاع يمر بها.
وفي هذا المجال وبمراجعة بعض هذه المراجعات النظرية الخاصة بتأهيل المفهوم وتعريفه تبرز مدارس هي:
- مدرسة يتعاظم فيها دور الفرد وسلوكه والقيم الأخلاقية والاجتماعية التي توجه هذا السلوك وتصيره اغتراباً أو اندماجاً وتحدد علاقته بالمجتمع وأنظمته ومؤسساته.
- مدرسة تؤكد على وجود النظم والمؤسسات في المجتمع ومسئوليتها عن تحديد علاقة الفرد بالجماعة ومسار هذه العلاقة لكل منها بالمجتمع انعزالاً أو اندماجا.
- مدرسة تهتم بالحقوق نقصاً وإقصاء أو تخصيصاً (استحواذ) وهنا التمييز موقع الارتكاز والحرمان وهو الشعور بالغربة – نتيجة الاستبعاد واخضاع البعض للقبول – نتيجة للحفاظ على الوضعية، والتمكين الحقوقي وسيلة للمستبعدين لتصحيح هوياتهم الاستبعادية لأن الاغتراب يعني الانعزال في مجتمعات مغلقة والتهميش واللجوء وطبيعة أوضاعهم في مجتمعات تتعدد ثقافتهم ومعاملاتهم نحوهم ويجمع ذلك كافة أشكال الاغتراب.
2ـ تنوع أشكال الممارسة – لمفهوم الاغتراب:
تعددت أنواع الاغتراب واختلفت وجهات النظر وانعكست على أشكال الممارسة إذ اهتم كل باحث برؤيته حول الاغتراب وفقاً لذاتيته وأيدولوجيته التي تختلف باختلاف طبيعة مجال تخصصه، ومن ذلك:
(أ) الاغتراب الاجتماعي:
وهو اغتراب ناتج عن اغتراب قيم اجتماعية أصيلة مثل التواد والتعاون لتحل محلها قيم أخرى مثل الأنانية والتنافس وترجمة هذه الحالة في سلوك الأفراد وشعورهم في مقياس الاغتراب الاجتماعي وهذه الحالة عبارة عن حالة عدم الاستقرار والاطمئنان نتيجة لسرعة التغيير، ومما لا شك فيه أن الاغتراب الاجتماعي يخص في المقام الأول المجتمع إذ يجد الفرد نفسه عاجزاً تماماً أمام ما يسود المجتمع الذي يعيش فيه من أنظمة اجتماعية معقدة وتقف هذه الأنظمة حائلاً دون تحقيق أهدافه وتطلعاته ورغباته مما يؤدي إلى الانعزال عن المجتمع.
ويرى “فروم” أن الاغتراب الاجتماعي يتعلق بالانفصال عن الآخرين وعن المجتمع وهو ما عليه إحالته إلى النظم الاجتماعية المعاصرة التي لا يستطيع الفرد أن يتوافق معها أو يراها غير ملائمة من وجهة نظره ومن ثم يجد نفسه متبنياً لثقافة تختلف عن ثقافة المحيطين به فينعكس ذلك على علاقاته الاجتماعية التي تفتقد القوة والحماسة ومن ثم البعد عن المشاركة الاجتماعية الفعالة وهو ما يؤدي إلى الشعور بالوحدة والانعزال.
(ب) الاغتراب النفسي:
ويقصد به اضطراب العلاقة والتي تهدف إلى التوفيق بين مطالب الفرد وحاجاته وامكاناته من جانب وبين الواقع وأبعاده المختلفة من جانب آخر، وهنا يشعر الفرد بكونه منفصلاً عن ذاته مما يؤدي بالتبعية إلى الإنفصال عن الآخرين إذ يصعب فهمه من خلال أفعاله وتصرفاته التي تتحكم فيه ومن ثم يفقد القدرة على أن يصبح مبدعاً في المجتمع فهو صراع داخلي يفصل الفرد عن ذاته ويفقده القدرة على التوافق مع نفسه ليصبح غريباً عنه ومن خلال ذلك لا يشعر بذاته أيضاً.
(ج) الاغتراب الوظيفي:
يرتكز مفهوم الاغتراب الوظيفي على فكرة الفاعلية الوظيفية بمعنى شعور الفرد بمدى قدرته على التأثير في مجريات العمل الذي يمتهنه سواء على المستوى القرار الوظيفي أو مستوى الأحداث الناتجة في المجتمع الذي يعيش فيه وعلى هذا الأساس اعتبر الفرد الذي يشعر بضآلة الفرص أمامه للتأثير على هذه العملية في المجتمع مغترباً وظيفياً وينشأ اغتراب الفرد في محيط عمله عندما يكون واقع المنظمة في صور مختلفة عما يتمناه الفرد أو يرغب فيه ويشعر بأن العمل نشاط خارجي غريب عنه وأنه يفتقد الألفة والمودة داخل المنظمة التي يعمل بها إلا إذا استطاع إبراز شخصيته واهتماماته ويضمحل حماسه للعمل المكلف بأدائه.
(د) الاغتراب السياسي:
ويتحدد الاغتراب السياسي نحو المجتمع ليشمل كافة الاتجاهات السلبية ونجد “أولسن” يُعرف الاغتراب السياسي بأنه الفصل أو الغربة بين المرء ومجتمعه ويتم تقسيمه إلى فئتين عريضتين وهما عدم القدرة السياسية والسُخط أو عدم الرضا السياسي، أما “سيمان” فقد حدد معاني الاغتراب في عدة أبعاد وهي: انعدام القوة، وانعدام المعنى، والغربة الثقافية، والعزلة الاجتماعية.
ويعبر سيمان عن الاغتراب السياسي بأنه حالة التناقض القائم بين ذات الفرد ومؤسسات النظام السياسي والقائمين على زمام السلطة بل على العملية السياسية ذاتها ونتائجها.
(هـ) الاغتراب القانوني:
ويقصد به ذلك الفصل الذي تتحول بمقتضاه ملكية أي شيء إلى شخصي آخر تحويلاً يتم عن طواعية واختيار ويعني ذلك أن الشيء يصبح خلال عملية النقل أو التحويل أو الاغتراب يصبح ملكاً لشخص آخر وغريباً عن مالكه الأول ويدخل ضمن نطاق مالك الملك الجديد.
(و) الاغتراب التربوي:
ويعني عدم قدرة المؤسسة التعليمية طالب أو أستاذ على التكيف مع معطيات التكامل المعرفي التي توفرها تكنولوجيا الاتصال التعليمي المتطور (فيديو– كومبيوتر– انترنت) حيث يعد التعليم بوصفه الحالي حارماً ابناءه من الثقافة العليا في حين تكمن المهمة الاساسية للتعليم في رفع مستوى القدرة على استخدام التكنولوجيا المتوفرة فيه وتوظيفها لصالح المجتمع.
(ز) الاغتراب المعلوماتي:
ويتخذ الاغتراب المعلوماتي ثلاث صور، الأولى: حالة من عدم التكيف مع الثورة المعلوماتية نتيجة عدم اتقان وسائل تكنولوجية مما يؤدي إلى الشعور بالتخلف، الثانية، الاستغراق الكامل للإنسان في حالة البوتقة المعلوماتية بعيداً عن مظاهر الحياة الانسانية الطبيعية ويتضح هذا عند شباب هذا العصر وعلمائه، الثالثة، عدم قدرة الانسان على متابعة أو ملاحقة المتغيرات التي تحدث في أي ميدان من ميادين المعرفة.
(ح) الاغتراب الابداعي:
وهو يعني لحظة التفاعل العميق (الإلهام) التي تأتي للعالم أو المفكر وتكون سبباً في إبداعه عملاً مميزاً يجعله يتساءل هل أنا الذي صنعت هذا؟ وكيف صنعته؟ وهو اغتراب من النوع الإيجابي لأنه يبدع المفكر في تحقيق ذاته.
(ط) الاغتراب الديني:
مهما اختلفت الديانات فإن مصدرها هو الله الواحد الأحد ولقد ساد هذا الاعتقاد منذ الأزل فالاغتراب الديني جاء في الاديان كافة وعرف بأنه الانفصال أو البعد عن الله.
انعكاسات الاغتراب على المجتمع المصري (رؤية تحليلية)
أن انتماءنا الحقيقي لم يعد له وجود إلا في إطار محدود من خبراتنا الحياتية ويتسم الفرد في مجتمعٍ نامٍ بمحاولته مواكبة تلك المجتمعات المتقدمة لأنه يعيش في عالم لا يستجيب لرغباته واحتياجاته وغير قادر على التنبؤ بالمستقبل فضلاً عن تغيير المعايير دائماً التي تنظم سلوكه وتعاملاته ورفضه المستمر لمنظومة القيم الخاصة بحضاراته، كل ذلك أمعن في انعزاله عن الآخرين وبالأصح عن ذاته في كثير من الأحوال.
ولما كان الاغتراب ظاهرة انسانية متعددة الأبعاد وأنه لتزايد حدته ومجال استشاره كلما توافرت العوامل والأسباب المهيئة للاغتراب نفسياً واجتماعيا ووجودياً وسياسياً لذا فهو قضية بالغة الأهمية لكونها سمة من سمات الانسان المعاصر.
وقد مر المجتمع المصري خلال السنوات الماضية بهزات عنيفة بدءً من أحداث ثورة يناير 2011 وبأجواء الحرية اللامحدود عقبها وبالتوسع الشعبي في الممارسة الديمقراطية مروراً بالانتكاسة الكبيرة في مسيرة الثورة أو بالأحرى في أحداث الثورة المضادة في منتصف العام 2013 وما أعقبها من تقهقر شديد في مسار الحريات التي انتزعها الشعب بعد ثورته قبل نحو عامين ونصف وصولاً إلى التردي الشديد في كل مؤشرات التنمية والنشاط البشرى في مصر ما أدى إلى تحول المناخ في مصر إلى مناخ طارد نفسى ومادى داخلي وخارجي، كل ذلك أدى بدوره إلى تداعيات خطيرة على الإنسان المصري وعلى رؤيته لنفسه ولبلده ومجتمعه ولحاضره ومستقبله.
ونظراً لارتباط ظاهرة الاغتراب المجتمعي بأسباب مختلفة ومسئوليتها عن تحديد اتجاه علاقة الفرد بمجتمعه انعزالاً أو استبعاداً أو اندماجاً سنتناول في مباحث بعضاً من تلك العوامل والمحددات وعلاقاتها وتقاطعاتها مع قضية الاغتراب بما يُعد إلقاءً بحجر في الماء الراكد وهو أمر يحتاج إلى مزيد من الجهود البحثية والتحليلات وصولاً لصورة صادقة للمجتمع المصري ومن ثم وصف العلاج الناجع لإنقاذ سفينة الوطن مما اعتراها خلال السنوات السابقة:
1ـ الاغتراب والفقر:
من الاستخدامات الواسعة لمفهوم الاغتراب تلك التي تناولت علاقته بالفقر إلى جانب غيره إلا أنه ربما اعتبرها البعض أحد أهم الأسباب التي ساهمت في كونه احتل مكان الصدارة في استخدام الإطار الأوسع انتشاراً للمفهوم في الآونة الأخيرة، ففي الوقت الذي جسد فيه الفقر أبعاداً مادية للاستبعاد وبرز الباحثون في تشخيص واقع المجتمعات وامكانية للتعامل معه بالإصلاح – أضافوا الاستبعاد ذاته في أطره النظرية كمفهوم إلى الفقر أبعاداً سياسية وقانونية وتبريراً لاستمرار التغلغل في الفقر برغم كل التحولات السياسية والاقتصادية في حياة المجتمعات دون أن تهدأ جذوته.
ولا يمكن اعتبار علاقة الفقر بالاغتراب نوعاً من المكافأة للفقراء بانتقالهم من زوايا النسيان إلى دائرة الضوء والاهتمام، فمن الممكن أن تكون فقيراً إلا أنه ليس من الضرورة أن تكون مغترباً كما أنه ليس كل المغتربين فقراء. إذ كشفت الدراسات عن مساحة حدودية قائمة بين الفقر والاغتراب فتسقط بذلك عن الاغتراب إمكانية اعتباره وجاهة اجتماعية وعن الفقر مسئوليته الكاملة عند كل استبعاد.
فمفهوم الاغتراب يمكن فهمه على أنه تراكم للعديد من المتغيرات حادة التأثير والمتعاقبة خلفتها ترهلات وتمزقات اقتصادية وسياسية في قلب المجتمع وقد باعدت تدريجياً بين الأشخاص والجماعات والمناطق والمجتمعات المحلية وشكلت موقفاً يقوم على مركب النقص في اتجاه علاقاتهم بمراكز القوة وموارد المجتمع والقيم السائدة.
ويعني الفقر تدني أنصبة الفرد من النواحي المادية والاجتماعية والعاطفية فهو قد يعني تقلص الطعام والكساء عما يجب أن يتحقق من الدخل، وهناك الفقر المدقع، وإن يكن أعلى حالة من تلك التي يقل فيها مستوى الشخص عن المستوى العام للمعيشة في بلده أو موطنه أو ما يعتبرونه فقراً نسبياً.
وقد نشر الجهاز المركزي للإحصاء، تقريرًا عن الفقر في مصر، ووفقًا لتقدير الجهاز فإن نحو 28% من الشعب المصري لا يستطيع الوفاء باحتياجاته الأساسية من الغذاء وغير الغذاء، وعرّف الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء في مصر الفقر بأنّه الوضع الذي لا يستطيع فيه الفرد أو الأسرة توفير الاحتياجات الغذائية الأساسية، في حين بيّن البنك الدولي الفقر حول العالم، بالوضعية التي يقلّ فيها دخل الفرد الواحد عن 600 دولار أمريكي سنوياً.
وفي السياق ذاته، يُواجه المواطن المصري أزمة حقيقية بسبب زيادة معدلات الفقر والبطالة، وسط ارتفاع كبير في الأسعار وخاصة المواد الغذائية والمعيشية، الأمر الذي حال دون توفير أبسط الضروريات الأساسية في حياتهم اليومية.
ومن نماذج الوظائف الاقتصادية للفقر:
- رفد الرأسمالية بقوة العمل الراغبة فيه والمتطلعة إليه وكلما زاد المعروض من قوة العمل في سوق العمل انخفضت الأجور وتعاظم الربح وفائض القيمة.
- وجود جيش احتياطي للعمل من الفقراء من شأنه أن يلبي احتياجات الرأسمالية في حقب الأزمات وهو في الوقت ذاته وفي عصر العولمة يحقق الأهداف المتعاظمة للربح لشركات عابرة للقارات التي أصبحت حرة تماماً في نقل استثمارها حيث يوجد العمل الرخيص.
- الأعمال أو الروتينية التي يتطلبها المجتمع (جمع القمامة – بيع الصحف)
- يؤدي الفقر إلى خلق مهن تعيش على وجوده وبقائه وهي مهمة وقد تكون في خدمة الفقراء أو لحماية الآخرين منهم كالأجهزة العقابية والشرطة وبعض مؤسسات المجتمع المدني.
- استهلاك السلع الرديئة من الدرجات الدنيا والتي لا يُقبل عليها الآخرون كما أنهم يمثلون مصادر دخل للأطباء والمحامين والمدرسين غير المؤهلين لجذب زبائن أكثر.
- الفقراء كمستودع لقطع غيار بشرية حيث أخذت تجارة الأعضاء البشرية في التزايد.
وهكذا فتآكل المكاسب في عالم يتزايد في بعض مجتمعاته عددُ الفقراء المعدمين والجياع وانهيار الطبقة الوسطى وتدنى مستويات المعيشة وارتفاع معدلات الفقر وتصفية القطاع العام لحساب السماسرة كلها عوامل أدت إلى تضاؤل فرصة الشخص الفقير إلى أن يحيا حياةً كريمة أو تكون هذه الفئات لها حق التمكين الحقوقي لتصحيح هوياتهم الاستبعادية.
2ـ الاغتراب والانتماء والمواطنة:
يستدعي الكثيرون قيمة المواطنة عند الحديث عن الاغتراب أو الاستبعاد، فهناك تنوع في المجتمعات وثمة مصدر معرفي لهذا التنوع وهو ما يحول بين علاقات الأفراد والجماعات وشعورهم الكامل بالمواطنة، فطاقة الأفراد على الإنجاز قد تحول دون امكانية استثمار مثل هذا التنوع في المجتمعات من حيث موقفها من الفرد استبعاداً أو اندماجا وخصائصهم الاجتماعية وتكافؤ الفرص، وواضعوا السياسات ومتخذوا القرارات يمكنهم التأكيد على هذا الحق أو إسقاطه في مواقع أخرى.
فالمواطنة تعني قدرة كل فرد على تحقيق ما يراه الأفضل له حيث يستخدم حقوقه في تنظيم مصالحه شريطة احترام حقوق الآخرين وعدم الإضرار بهم فلا يكفي أن يكون مواطناً حاملاً للحقوق ولكن أن يمارس هذا الحق بالتزامن مع الآخرين والمجتمع.
وفي واقعنا المعاصر فعدم الإحساس بالمسئولية الفردية أو الجماعية تجاه الآخرين وطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم أصبح المواطن فيها محدود الصلاحيات والواجبات وأصبحت وظيفته اطاعة ولي الامر وتنفيذ الاوامر والأحكام.
فلقد تناولت العديد من الدراسات أوضاع المجتمع المصري والتغيرات التي طرأت عليه وانعكاساتها على طبيعة هذا المجتمع حيث أكدت على غياب الحقوق الأساسية للمواطنين وضعف الشعور بالانتماء وهو أحد معالم عدم الاستقرار في المجتمع المصري. ودراسات أخرى أكدت على أن عدم الفهم للحقوق والواجبات وعدم ممارسة المسئوليات الاساسية هي ركائز هامة عند الحديث عن المواطنة.
وفيما ذهبت أخرى إلى أن المواطنين يُعانون من الفراغ السياسي وعدم الوعي بالحقوق والواجبات وفقدان الدافعية للإنجاز وعدم القدرة على اتخاذ القرارات وانتشار مفاهيم السلبية واللامبالاة والاتكالية ولا شك أن كل هذه التحديات تعزز الشعور بالاغتراب والاستبعاد المجتمعي.
وهناك من ذهب لأكثر من ذلك إلى الحد الذي اعتبر أن التنمية ليست مجرد الدعوة للزيادة في معدل النمو الاقتصادي أو مجرد تحسين وضع دول العالم الثالث في العلاقات التجارية الدولية أو رفع حصة دول العالم الثالث في المساعدة والاستثمارات الخارجية ولكن حقٌ مُركب يتمثل في زيادة إجمالي الدخول المتاحة مع ضمان عدالة التوزيع بين الفئات المختلفة في إطار النص الكامل على حماية الحقوق الأساسية للإنسان والتركيز على الجانب المادي والمعنوي، وهكذا فإن هذا الحق الإنساني أو التأكيد عليه تسقطه مواقف وتبرره مواقف أخرى تساهم بشكل أو بآخر في تأكيد الانتماء والمشاركة والمواطنة وعدم الشعور بالغربة داخل المجتمع.
ولعل هذه المؤشرات تُؤشر لدرجة الاستبعاد في المجتمع المصري، فالنمو الاقتصادي والمساواة في الحياة لا يمكن اعتبارهما وجهاً واحداً فهناك مؤشرات قدمت عوناً صادقاً يمكن استخدامها لقياس تأثير السياسة والممارسة على ظاهرة الاغتراب وتأثرها به، كما أوضحت كل أبعاد القضية المتعلقة به وهذه المؤشرات تعود إلى مصادر واسعة أخرى كالانتحار والهجرة وارتفاع نسبة الجريمة حيث يتعين دراستها لما يمكن أن يتهدد به المجتمع لو تغاضى عمداً أو سهواً عن ذلك من احتقان مجتمعي يحمل مسمى الاغتراب.
3ـ الاغتراب والعزوف السياسي:
اتسمت المشاركة السياسية للمصريين في مصر قبل الثورة وبعدها وبعد الانقلاب العسكري التباين الشديد بشكل غير ملتبس عبّر عن الحالة المزاجية للشعب المصري وطموحه وأمله في أن يحكم نفسه ويودع الاستبداد الذي عاشه لعقود وداعاً مطلقاً بعد الثورة ويأسه من تحقيق أهدافها لذا فإن سلوك الناخبين في 2015 يتسق مع ما حدث بالمناسبتين السابقتين (استفتاء الدستور وانتخابات الرئاسة). فإذا كان الشعب يعتبر أن ما حدث في 2013 ثورة تصحيحية ستجلب الديمقراطية والرخاء وتقضي على الفساد أو حتى تحارب الإرهاب، فلماذا لم يخرج بنسب تقترب من النسب المشابهة في حالات أخرى؟ إن نسب التصويت بالانتخابات البرلمانية (التي تتراوح بين 10% و60% في الدول المستقرة ديمقراطيا بالغرب) ترتفع في الدول التي تشهد ثورات وعمليات تغيير حقيقية لتصل 70%-80%.
فالأمم والشعوب تُعني بقضايا المجتمع واحتياجاته العديدة وتضع نصب أعينها كثيراً من الاهتمام لتحسين مستويات المعيشة للأفراد والجماعات والمجتمعات من أجل تذليل الصعاب والمشكلات التي تحول دون تنميتها ورفاهيتها وعادة ما يتم ذلك من خلال مؤسساته الاجتماعية والاقتصادية وتقوم بتنظيمها على المستوى الوطني والعلاقات مع الدول القومية الأخرى ويتطلب جهاز معبراً عن الحكومة والإدارة وأحزاب سياسية ذات أهداف وسياسات مصاغة بشكل واسع حيث تتحمل تلك الأحزاب السياسية مسئولية كبيرة في تعميق ممارسة الديمقراطية والمشاركة السياسية وتحفيز المواطنين للمشاركة في كافة المشروعات التنموية الخدمية بالدولة إلا أنه ونتيجة للعوامل الاقتصادية والاجتماعية القائمة في المجتمع شكلت اطار حقوق المشاركة تحديداً دقيقاً ومختزلاً على أن تكون الاحتكارية المطلقة في إدارة الدفة لدى شخصيات سياسية وهيئات لها من الصلاحية لذلك بالإضافة إلى إرهاق المواطن سعياً وراء كسب العيش والاختزال في التعبير عن احتياجاته لأدنى مستوياته.
لقد جاءت ثورة 25 يناير لتعطي فرصة للتنفس ومباشرة الحقوق السياسية وإجراء انتخابات حرة ونزيهة وإطلاق حرية الاعلام وتشكيل حكومة انتقالية من الكفاءات الوطنية لإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية شفافة وذات مصداقية. إلا أنه سرعان ما تم تسليم هذه الثورة البيضاء للثورة المضادة وأصبح النسيج الائتماني للحشد لأي تظاهر متلاشي تماماً وتلاشت الحرية السياسية وأصبحت الأمور كلها تتم تحت إشراف أمني كامل وقُيدت حرية كافة التنظيمات النقابية ومنظمات المجتمع المدني وبدأت مرحلة أخرى للاستبعاد حتى أصبح المجتمع بكامله أسيراً في قبضة الدولة القمعية ويقرر أن الفرد دائماً مخطئ في حق المجتمع إذا ما أراد المطالبة بالتغيير.
(4) الاغتراب والبطالة:
البطالة هي ظاهرة تشير إلى وجود عدد كبير من الأيدي العاملة القادرة على العمل وترغب به ولكن لا تجد فرصة لذلك، وتعتبر أحد المؤشرات الاقتصادية التي تدلّ على ضعف الاستثمار والتنمية. ويُعد الارتباط بين الاغتراب والبطالة ارتباطا وثيقاً حيث غالباً ما تؤدى البطالة إلى تدنى قدرة الفرد على تلبية احتياجاته الشخصية واحتياجات أسرته ومن ثم تزيد من حِدة الضغوط عليه وفى كثير من الأحيان تؤدى به إلى الانكفاء على الذات وشعوره بالاغتراب وربما أصيب بأمراض نفسية وعضوية مع تزايد إحساسه بأن المجتمع يُدير له ظهره ويتنكر له وتبدأ معها سلسلة من المشكلات المتراكمة والمركبة لدى من يعاني من البطالة وربما طالت حتى أسرته ومحيطه وتزداد معها عزلته عن المجتمع.
ولمعرفة مدى حجم تلك الظاهرة نتابع معاً ما أوردته مؤسسات عن البطالة ولنستنتج معاً ما تخلفه من تداعيات. فقد أصدر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر، نتائج بحث القوى العاملة للربع الأول يناير/ كانون ثاني – مارس/ آذار لعام 2018، حيث بلغ معدل البطالة 10.6% من إجمالي قوة العمل وقد بلغت نسبة العاطلين من حملة الشهادات المتوسطة، وفوق المتوسطة، والجامعية وما فوقها 87.7% من إجمالي نسبة العاطلين في مصر، ويعتبر معدل البطالة، ثاني أهم رقم تصدره أجهزة الإحصاء، خاصة وأنه يمس قطاع الأعمال والاقتصاد للدولة، إلا أن البيانات التي تصدرها الأجهزة الرسمية تتناقض تماما مع الواقع الذي يعيشه عموم الناس في المجتمعات العربية.
وقد سجل تقدير حجم قوة العمل 29.19 مليون فرد، وبلغ عدد العاطلين 3.094 مليون عاطل، وبلغ معدل البطالة بين الذكور 7.3% من إجمالي الذكور في قوة العمل، بينما بلغ معدل البطالة بين الإناث 22%. وبلغت نسبة العاطلين من الشباب (15 – 29 سنة) 75.2% من إجمالي العاطلين، كما بلغ معدل البطالة في الحضر 12.1% من إجمالي قوة العمل، بينما بلغ معدل البطالة في الريف 9.5%.
وقد قدر البنك الدولي قوة العمل في مصر عام 2016 بنحو 31.569 مليون فرد، بينما قدرها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء لنفس العام بعدد 28.934 مليون فرد، بفارق 2.635 مليون فرد بين التقديرين. وبإضافة هذا الفارق إلى عدد العاطلين، يصبح العدد 6.148 مليون عاطل، وترتفع نسبة البطالة لتصل إلى 20% من قوة العمل. أضف إلى ذلك أن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، ذكر أن عدد المشتغلين المساهمين في أعمال – مشروعات داخل الأسرة من دون أجر بلغ 2.01 مليون مشتغل، بنسبة 12% من إجمالي المشتغلين.
وهؤلاء الذين يعتبرهم الجهاز ضمن المشتغلين، هم في الحقيقة أشخاص عاطلين لا يجدون فرصة عمل، فإذا أضفت هذا العدد إلى عدد العاطلين، يرتفع الرقم إلى 8.16 مليون عاطل، وترتفع نسبة البطالة إلى 27% من قوة العمل، بحسب تقدير البنك الدولي، أو تصل إلى نسبة 29% من قوة العمل بحسب تقديرات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، وهذه هي النسبة المنطقية التي يستشعرها عموم الناس.
وعلى أي الأحوال فإن البيانات الرسمية بشأن حجم ومعدل البطالة في مصر والتي تشير إلى أن عدد العاطلين 3.5 مليون عاطل، وأن معدل البطالة 10.6% هي بيانات غير منطقية، أما المعدل الحقيقي للبطالة فإنه يتراوح بين 20% و30% من قوة العمل كحد أدنى لهذا المعدل وهو يوازي ما يزيد علي 8 ملايين عاطل.
ويرى خبراء أن بيانات البطالة التي يتم إعلانها من قبل الأجهزة الرسمية لا تجد قبولا لدى عموم الناس، عندما يجدونها مختلفة تماما عن الواقع الذي يعيشونه، وبالتدقيق في تلك البيانات يتضح أن التعريف الذي يتم احتساب أرقام البطالة على أساسه لا يتسق مع الواقع، حيث تعتبر الأجهزة الرسمية أن المشتغل هو من عمل ولو لساعة واحدة في الأسبوع السابق على مسح البطالة، وبالتالي يخرج ملايين العاطلين من إطار البطالة الرسمي، وهو أمر قد يصلح لمجتمعات متقدمة تقدم إعانات للبطالة وخدمات صحية مجانية، بينما أجر عمل ساعة في مجتمعاتنا لا يكاد يكفي لشراء وجبة من الطعام، بل إن غالب جهات العمل لا تتبع أسلوب العمل بالساعة وإنما باليوم أو الأسبوع أو الشهر.
وربما يتضح للناظر أن البطالة مشكلة اقتصادية لكنها في الحقيقية مشكلة مركبة حيث أنها يترتب عليها الكثير من العواقب والآثار الاجتماعية والاقتصادية والسياسية فيرى مثلاً ارتفاع معدل الجريمة كلما زادت البطالة والانحراف والتعصب والأحباط المجتمعي مما يؤثر في النهاية في كافة أشكال الاغتراب.
وتكشفُ دراساتٌ عن الشباب في المجتمع العربي عن كافة أشكال الفراغ التي يعاني منها الشباب وتزيد من هجره وبعده عن مجتمعه ومنها الفراغ النفسي فهو أكثر تغلغلاً في نفوس الشباب وحتى وإن لم يجدوا وقتاً للفراغ بتوصيف الباحثين أنفسهم، فالفراغ الفكري كارثة جيل الشباب ولقد ألقى بعضهم في دوامة الانصياع للآخرين في شتى أنواع التضليل الفكري والفراغ الاقتصادي فهو يشل كل حركة من شبابنا والذين نطالبهم بالمشاركة وجيوبهم خاوية ورؤوسهم ممتلئة بأحلام العمل وبناء الأسرة وبحياة آمنة. أما الفراغ السياسي فقد انتظم شباب المجتمع العربي بكامله تحت مظلته – اللهم إلا من بعض ممارسات مستأنسة – تصبح الممارسة بهذا التوجه – ممارسة الفراغ – وليس فراغ الممارسة.
5ـ الاغتراب والانتحار:
كشف مركز المصريين للدراسات الاقتصادية والاجتماعية في تقرير أن مصر شهدت 4000 حالة انتحار بسبب الحالة الاقتصادية، في الفترة من مارس/آذار 2016 إلى يونيو/حزيران 2017، وكان مركز السموم التابع لجامعة القاهرة أصدر تقريرا عام 2016 يفيد أن مصر تشهد نحو 2400 حالة انتحار باستخدام العقاقير السامة سنويا، فيما سجلت محاضر وتحقيقات الشرطة والنيابة العامة 30 حالة انتحار في يوليو/تموز الماضي في 15 محافظة، وسجلت محافظة القاهرة خمس حالات منها ثلاث بالقفز أسفل عجلات مترو الأنفاق.
وتباينت أسباب حوادث الانتحار بين الظروف المادية السيئة إضافة إلى الخلافات الأسرية والأمراض النفسية ومشاكل الارتباط العاطفي، بينما كانت نتائج الثانوية العامة سببا في 8 حالات انتحار.
وإذا كان الانتحار نتيجة لاعتلالات نفسية في حالات كثيرة ونتيجة الشعور بالاغتراب المجتمعي في حالات أخرى فإن وراء كل هذا وذاك هو الفشل في إدارة الدولة وممارسة المزيد من التضييق على الحريات والحط من كرامة الناس فإن هذا يؤدى إلى تشوهات نفسية وإحباطات تؤدى في الغالب إلى الانتحار.
فيما يرى مراقبون أن مسئولية كبيرة في تفشى هذه الظاهرة تقع على عاتق النظام نفسه حيث أشار بعضهم أن النظام الحاكم يتحمل المسؤولية الكبرى عن ارتفاع معدلات الانتحار في مصر وذلك بسبب السياسات الاقتصادية التي يتبعها والتي زادت من الأعباء اليومية للمواطنين وارتفاع التضخم ومن ثم ارتفاع معدلات الفقر والبطالة، مما أدى لانتشار الجريمة وتنامي ظاهرة الانتحار، وتابع “أي نظام يسلب من الشعوب الأمل في غد أفضل تكون النتيجة تحول الناس لمجرمين أو إرهابيين أو مكتئبين ومن ثم يقدمون على الانتحار”.
وأشار آخرون إلى أن الانتحار هو انعكاس لفقدان المصريين الأمل في المستقبل تماما كمحاولات الهجرة العشوائية وأن “الانتحار هو هروب من الواقع بعد سرقة الأمل من جيل كان يحلم بالحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، وهو ما لم يجده بعد الانقلاب على أهداف ثورة يناير 2011”.
6ـ الاغتراب والهجرة:
في سبتمبر 2016 نُشرت دراسة للمجلس القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية بالتعاون مع وزارة الخارجية، تحت عنوان “الهجرة غير الشرعية للشباب المصري”، ولفتت الدراسة إلى أن الظاهرة في مصر بدأت في عام 2001، بعدما تم القبض على 649 شابا وازداد تدريجيا حيث وصل في العام 2007 إلى عدد 2015 شابا.
وتابعت الدراسة أن مصر تحتل المركز السابع بين أعلى عشرة جنسيات للمهاجرين في البحر إلى إيطاليا خلال الفترة من 2012 حتى 2015، كما تحتل الترتيب الـ 11 بين أعلى الدول المرسلة للمهاجرين غير الشرعيين لليونان، والترتيب العاشر بالنسبة للهجرة غير الشرعية إلى مالطا في 2014.
وفى 28 يونيو 2016، أوضح فابريس ليجيري، رئيس وكالة حرس الحدود الأوروبية “فرونتكس”، في تصريحات أوردتها وكالات أنباء عالمية، أنه قلق للغاية من تزايد أعداد المهاجرين الذين يحاولون الوصول إلى أوروبا بحرًا انطلاقاً من مصر، مشيرًا في هذا التوقيت إلى مصر بدأت في التحول لبلد انطلاق المهاجرين.
إن ممارسة المزيد من الضغوط على الناس وحرمانهم المستمر من حقوقهم وتفاقم الإحساس لديهم بأنه لم يعد هناك أي أمل في إصلاح أو رخاء أو حرية أو كرامة في وطنهم يعزز من شعورهم بالاغتراب المجتمعي ويدفع الشباب خصوصاً إلى الهجرة خارج الوطن سواءٌ أكانت شرعية أو غير شرعية وأدى ذلك إلى السحب من رصيد المستقبل المتمثل في ثروته البشرية وفقدان مصر عدداً من أبنائها غرقى في مياه البحر ما لم تتوقف تلك الأسباب [1].
المراجع:
- أحمد يوسف وآخرون، المواطنة والشأن مفهوم المجتمع المدني، الاسكندرية، المركز المصري للدراسات والبحوث التنموية للبحر المتوسط، 2004
- على ليلة المجتمع المدني العربي، قضايا بالمواطنة وحقوق الانسان، القاهرة مكتبة الانجلو المصرية
- عبد اللطيف محمد خليفة دراسات في سيكولوجية الاغتراب، القاهرة، دار غريب
- يسرى مصطفى، ملاحظات حول أزمة المواطنة، في قضايا معاصر، المواطنة ونشأة المجتمع المدني، مركز الجزويت الثقافي
- برنامج الامم المتحدة الإنمائي، تقرير التنمية الانسانية العربية لعام 2004 نحو الحرية في الوطن العربي
- ريتشارد شافت الاغتراب – ترجمة كامل يوسف حسنين القاهرة دار مشرقيات للنشر والاعلان 1998
- محمد محمد مسعود الاغتراب – ماهيته وابعاده ونظرياته الجامعي 2007
- سعد ابراهيم جمعة، الشباب والمشاركة السياسية، القاهرة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1984، ص 50
- دنيا حمد، استخدام المراهقين للأنترنت وعلاقته بالاغتراب الاجتماعي، لديه رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة عين شمس، القاهرة، 2007
- عماد صيام، منظمات المجتمع المدني وقضية المواطنة المؤتمر السنوي السابع عشر للبحوث السياسية – مركز الدراسات السياسية، جامعة القاهرة – 2007
- مجلس الوزراء – مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرارات – جمهورية مصر العربية – دراسة استطلاع راي حول المواطنة – 2006 – ص105
- شادية فتحي إبراهيم – الأحزاب السياسية ورأس المال الاجتماعي في مصر – القاهرة مركز بحوث الدول النامية 2003
- السيد يحيي – نظرية الاغتراب من منظور علم الاجتماع – اسكندرية – مؤسسة شباب الجامعة 1993
- إسماعيل على سعد – أصول علم الاجتماع السياسي – بيروت – دار النهضة العربية.
[1] الآراء الواردة تعبر عن كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المعهد المصري للدراسات