السياسات العامةسياسة

مصر وترويض القضاء: المجلس الأعلى للهيئات القضائية نموذجاً

(الثورة لم تصل إلى القضاء بعد، فقط سقط مبارك لكن نظامه لايزال يحكم، والقضاء لايزال يعاني من عدم الاستقلالية)[1] تصريح للمستشار زكريا عبد العزيز رئيس نادي القضاة الأسبق وأحد زعماء تيار الاستقلال إبّان حكم مبارك، تعليقاً علي انتقادات وُجهت إلي القضاء علي خلفية التراخي في محاكمة مبارك ورؤوس نظامه. يصلح ذلك التصريح مدخلاً لتلك الورقة التي تلقي الضوء على أهم ملامح الخبرة المصرية في ترويض القضاء، وترصد أهم التدخلات من السلطة التنفيذية، وكيف ترغم القضاء على خدمة أهدافها.

وتنقسم تلك الورقة إلى مطلبين، يتناول المطلب الأول ظروف نشأة المجلس الأعلى للهيئات القضائية وما عرف بمذبحة القضاة، فيما يتناول المطلب الثاني إجراءات ما بعد 2013 في هذا الشأن.

المطلب الأول: نشأة المجلس الأعلى للهيئات القضائية

استقرت الأعراف في الأوساط القضائية على تشكيل مجالس إدارات للهيئات والجهات القضائية، تكون لها كثير من الصلاحيات وعليها كثير من الأعباء النابعة، تعمل بمنطق الالتزام الأبوي بين الأجيال المختلفة، ذلك العرف المصان بقوانين انتزعتها التجربة القضائية من النظم المختلفة، بالتدافع أحياناً وتبادل المصالح أخري.

على خلاف هذا العرف المستقر جاءت نشأة المجلس الأعلى للهيئات القضائية الذي أعطي الكلمة الأولي والأخيرة في شئون القضاء والقضاة لرئيس الجمهورية حصراً، وجاءت نشأة المجلس الأعلى للهيئات القضائية في خضم إجراءات اتخذها نظام عبد الناصر ضد السلطة القضائية ومجالسها ونواديها فيما عرف بمذبحة القضاة.

الفرع الأول: تركيبة المجالس القضائية

للقضاء مجالس مستقرة عرفاً وقانوناً، سواء القضاء العادي الذي يضم مصفوفة محكمة النقض ومحاكم الاستئناف وتوابعها والمحاكم الابتدائية والجزئية، ويديره مجلس القضاء الأعلى المشَكَّل بموجب قانون السلطة القضائية[2] ويهيمن على كامل الاختصاصات الولائية والإدارة والفنية للقضاء.

أو قضاء مجلس الدولة المختص بنظر الدعاوي الإدارية يضم قسماً قضائياً يشمل المحكمة الإدارية العليا ومحكمة القضاء الإداري والمحاكم الإدارية والمحاكم التأديبية وهيئة مفوضي الدولة، وقسماً للفتوي وآخر للتشريع، وجمعية عمومية لقسمي الفتوي التشريع، وينظم شئون مجلس الدولة مجلساً خاصاً للشئون الإدارية والولائية. على غرار تلك المجالس كان للنيابة العامة مجلساً استشارياً أعلى ولهيئة قضايا الحكومة مجلساً أعلى.

الفرع الثاني: مذبحة القضاة

دارت مشاهد تلك المذبحة في العام 1969، كأحد أصعب الفترات التاريخية التي مرت بالقضاة، جرت فصولها في أجواء ملتهبة سادت فيها منهجية إنشاء التنظيمات السرية البديلة المنتمية للنظام الطليعي والاتحاد الاشتراكي الذي هندسه نظام عبد الناصر ليكون ذراعه الطولي في مؤسسات الدولة، في ذلك الوقت وبعدما استقر النظام الطليعي في مؤسسات سيادية أخري كالجيش والشرطة، كانت قد حانت لحظة القضاء، اتخذت بالفعل حزمة من الإجراءات المتعسفة ضد القضاء عقب حراك بنادي القضاة وإصدار بيان بدا منه عدم الرضا عن قرارات القيادة السياسية، استغلت هذه الأجواء لتمرير التنظيم الطليعي بالقضاء وإحلال رجاله محل قادة الهيئات القضائية وأفرادها غير الراضين عن أداء النظام آنذاك، سلسلة قرارات في مقدمتها إلغاء جميع المجالس العليا للقضاة وعلى رأسها مجلس القضاء الأعلى[3]، وإحالة جميع اختصاصاتها للمجلس الجديد “الأعلى للهيئات القضائية” الذي ابتكره عبد الناصر لسلب جميع اختصاصات تلك المجالس لصالح سلطة رئيس الجمهورية.

الأغرب من إنشاء هذا المجلس كان السند القانوني الذي اتخذت في ضوئه تلك القرارات، حيث استند عبد الناصر لقانون سابق استصدره من مجلس الأمة خلال أجواء التحشيد لحرب 1967 هو القانون 15 لسنة 1967[4] الذي أصدره مجلس الأمة في مادة وحيدة فوضت جمال عبد الناصر في كامل اختصاصات المجلس تقريباً[5] وكان الغرض من ذلك القانون الاستثنائي دعم إجراءات حالة الحرب التي تمر بها البلاد، وتوفير بيئة دعم للمجهود الحربي والعمليات العسكرية والدفاعية، فاستغله نظام عبد الناصر في إجراءات مذبحة القضاة التي دارت رحاها عقب النكسة والفشل في الحرب ذاتها التي أقر القانون لأجلها، فكان البديل افتعال حرب في الوسط القضائي ضمن أوساط المجتمع المصري التي عانت حرب انتقامية عقب الخسارة التي مُني بها الزعيم!

تم إنشاء المجلس الأعلى للهيئات القضائية بالقانون 82 لسنة 1969[6] الذي منحه اختصاصات مجالس عدة شملت “المجلس الأعلى للقضاء، والمجلس الاستشاري الأعلى للنيابات، وكل من الجمعية العمومية والمجلس الخاص للشئون الإدارية بمجلس الدولة، واختصاصات اللجنة التي تدير النيابة الإدارية واختصاصات مديرها”.

في مقاله نشرته جريدة الشروق عن مذبحة القضاة يروي رجائي عطية نقيب المحامين فصلاً من فصولها “وقضى القرار جمهوري الثالث 83/ 1969 بأكبر حيلة ارتُكبت في حق العدالة لفصل القضاة غير المرضي عن عدم انصياعهم للسلطة التنفيذية فلم يعجب النظام أنه غداة تصريح الرئيس بإدانة السمني ــ أصدرت محكمة الجنايات حكما ببراءته، وجرت الحيلة بإصدار القرار الجمهوري (83 / 1969) بإعادة تشكيل الهيئات القضائية.

واكتملت الخطة ـ بعد إلغاء تعيين جميع رجال القضاء تحت عنوان إعادة تشكيل الهيئات القضائية ـ بأن أصدر الرئيس جمال عبدالناصر القرار الجمهوري رقم 1603/ 1969 بمـا أسمـاه «إعادة تعيين رجال القضاء والنيابة العامة في وظائفهم»، ولكن هذا القرار العجيب أغفل تعيين مائة وسبعة وعشرين من رجال القضاء والنيابة العامة غير المرضى عنهم بداهة، وقضى القرار الجمهوري رقم 1605 / 1969 بتعيين 36 من هؤلاء المعزولين في وظائف حكومية أخرى، وبتاريخ 13/9/1969 أصدر وزير العدل تنفيذاً للقرارات الجمهورية القرار الوزاري رقم 927 / 1969 بإنهاء خدمة الواحد وتسعين من رجال القضاء الذين لم يشملهم القراران الجمهوريان 1603) و1605/ 1969)، وبإحالتهم إلى المعاش، هكذا بقدرة قادر، بلا دستور ولا قانون ولا شرعية ولا أي احترام للقضاء ولا لمقومات الدولة القانونية. [7]

شملت إجراءات المذبحة حل المجالس القضائية وضم جميع رؤساء الهيئات والجهات القضائية[8] للمجلس الجديد برئاسة رئيس الجمهورية ووزير العدل نائبا له، فيما يعد التفافاً من النظام علي استقلال القضاء وتدخلاً في شئونه، شملت القرارات أيضاً إنشاء المحكمة العليا بالقانون 81 لسنة 1969 التي سحبت كثير من اختصاصات محكمة النقض والتي حلت محلها المحكمة الدستورية العليا فيما بعد[9]

الفرع الثالث: مجلس تنسيقي

استمرت الأوضاع مضطربة بين النظام والقضاء حتى تمت بعض المحاولات خلال حكم مبارك لحلحلة الأمور، وفي العام 1984 أعيد مجلس القضاء الأعلى[10] وأعيدت له جميع اختصاصاته، فيما استمر المجلس الأعلى للهيئات القضائية في العمل بسلطاته الواسعة التي كبلت مجالس الجهات القضائية، وأنتجت المحاولات الدؤوبة التي قادها قضاة الاستقلال في 2005 وما بعدها واقعاً جديداُ أجبر نظام مبارك على تضمين بعض تلك المطالب في التعديلات الدستورية التي تمت في 2007 والتي خففت بدورها من الهيمنة التي منحها القانون للمجلس الأعلى للهيئات القضائية ليصبح وفق هذه التعديلات مجلساً تنسيقياً يرعي الشئون المشتركة بين مجالس الهيئات القضائية مع النص علي استقلال كل مجلس بشئونه الخاصة وشئون أعضائه، وبالفعل أفرغ ذلك التعديل في القانون رقم 192 لسنة 2008[11] الذي ألغي قانون عبد الناصر[12] بتشكيل المجلس الأعلى للهيئات القضائية واكتفي بالنص في مادته الأولي على (يشكل مجلس للهيئات القضائية يرعي شئونها المشتركة ويتولى التنسيق بينها، ويناط به كذلك التنسيق في الأمور المشتركة الواردة في أي قانون …) فحذف من تسمية المجلس لفظ (الأعلى) ليقتصر دوره علي التنسيق والرعاية وأضاف في مادته الأولي ( .. بما لا يمس اختصاصات المجالس العليا لهذه الهيئات)

كما نص في المادة السادسة منه صراحة على إلغاء القانون 82 لسنة 1969 في شأن المجلس الأعلى للهيئات القضائية.

وبهذا انتهت مؤقتاً هيمنة المجلس الأعلى للهيئات القضائية لتستمر مناوشات النظام مع القضاة بأساليب أخري.

المطلب الثاني: عودة المجلس الأعلى للهيئات القضائية بعد 2013

اعتمد الانقلاب عدة أساليب للسيطرة والهيمنة على عمل القضاء فيما يخص التعيينات والقوانين الحاكمة للجهات القضائية، وتعديل النصوص الدستورية بالإضافة لسيل من التعديلات القانونية في مقدمتها القوانين الإجرائية التي تعتبر عٌدة القاضي الرئيسية في الحكم والولاية كقانون العقوبات والإجراءات الجنائية والمرافعات المدنية وكذا المواد القانونية الخاصة بإجراءات التقاضي أمام محاكم الاستئناف والنقض، ولم يتوقف الأمر عند ذلك الحد ففي سعيه لإحكام السيطرة على الجهات القضائية، أحيا نظام الانقلاب مجدداً المجلس الأعلى للهيئات القضائية ضمن التعديلات الدستورية التي أجراها في 2019 ومنحه اختصاصات أوسع بكثير من نسخته الأولي في 1969، شملت آليات حصرية لتعيين رؤساء الجهات والهيئات القضائية، وأعطت للمجلس حق النظر في شروط التعيين والترقية والتأديب، وأخذ رأيه في مشروعات القوانين المنظمة لهذه الجهات والهيئات، وهو ما يمثل تدخلاً أشد وسيطرة أعمق من تدخلات نظام عبد الناصر، ولعل أبرز القرارات التي اتخذها هذا المجلس والتي غيرت من بنية القضاء رغم اعتراضات مكتومة لمجالس الهيئات القضائية هو قرار تعيين عضوات بالنيابة العامة والقضاء العادي وقضاء مجلس الدولة بالرغم من كون هذا اختصاص أصيل لمجلس القضاء الأعلى والمجلس الخاص بمجلس الدولة.

الفرع الأول: دور المجلس الأعلى للهيئات القضائية – الاختصاصات والتشكيل

كما قدمنا فإن المجلس الأعلى للهيئات القضائية أنشئ بغرض السيطرة علي الجهات والهيئات القضائية، وسحب السلطات الإدارية لجهات القضاء ووضعها في يد رئيس الجمهورية.

تعديلات دستور 2019[13] وسعت بشكل غير مسبوق من اختصاصات هذا المجلس بما يفوق الاختصاصات التي أنشئ بموجبها حددتها المادة 185 من الدستور بعد تعديلها نوجزها في النقاط التالية.

اختصاصات المجلس

  • بموجب التعديلات أصبح المجلس مختص بالنظر في شروط تعيين أعضاء الجهات والهيئات القضائية وترقيتهم وتأديبهم، وكان هذا من اختصاص مجالس الهيئات والجهات القضائية كل فيما يخصه.
  • حل المجلس محل مجالس الهيئات القضائية في أخذ الرأي في مشروعات القوانين المنظمة لشئون هذه الجهات والهيئات.
  • (يقوم) المجلس على إدارة الشئون المشتركة بين الجهات والهيئات القضائية بعدما كان مجلس تنسيقي في تعديلات 2008

التشكيل وآلية اتخاذ القرار

  • تشكيل المجلس كما ورد بالتعديل الدستوري يترأسه رئيس الجمهورية وعضوية رئيس المحكمة الدستورية ورؤساء الهيئات والجهات القضائية (رئيس محكمة النقض ورئيس مجلس الدولة ورئيس هيئة القضاء العسكري ورئيس هيئة قضايا الدولة ورئيس هيئة النيابة الإدارية) ورئيس محكمة استئناف القاهرة والنائب العام.

وتصدر قراراته بموافقة أغلبية أعضائه على أن يكون من بينهم (فيما يشبه حق الفيتو) رئيس المجلس الذي هو رئيس الجمهورية سيما بعد تعديل طريقة التعيين التي سيأتي ذكرها بعد.

الفرع الثاني: انعقاد المجلس الأعلى للهيئات القضائية

عقب التعديلات الدستورية في 2019 جاء الانعقاد الأول للمجلس في مايو 2020 برئاسة وزير العدل والذي اكتفي فيه وزير العدل بنقل (توجيهات) السيسي للقائمين على منظومة القضاء، هكذا جاءت تغطية الصحف للقاء[14] مستخدمة لفظ (توجيه) الذي لا يتلاءم بحسب الأصل مع البيئة القضائية كسلطة مستقلة تتخذ ما تراه مناسباً حسب متطلبات العدالة وتوجهات مجالس الهيئات القضائية، وهو ما يعبر عن مرحلة جديدة يقتصر دور المجلس على تنفيذ التوجيهات.

قرارات هامة

اتخذ المجلس في اجتماعه برئاسة السيسي في يوليو 2021 قرارات وصفت إعلامياً بالتاريخية، شملت بعضها إجراءات إدارية تنظيمية وأخري تضمنت شئونا فنية تمس العمل القضائي كالتالي:

  • بدء عمل العنصر النسائي في مجلس الدولة والنيابة العامة
  • اعتباراً من 1 أكتوبر القادم اعتبار الأول من أكتوبر كل عام يوماً للقضاء المصري.
  • توحيد المستحقات المالية بين الدرجات المناظرة في الجهات والهيئات القضائية الأربعة.
  • عدم تكرار أسماء المقبولين للتعيين في الجهات والهيئات القضائية اعتباراً من خريجي دفعة عام 2018 بالنسبة لمجلس الدولة والنيابة العامة، ومن خريجي دفعة 2013 بالنسبة لهيئة النيابة الإدارية وهيئة قضايا الدولة.
  • إمداد هيئة قضايا الدولة بأسباب عدم قبول طالب التعيين في الوظائف القضائية لتقديمها إلى جهة القضاء في الدعاوي المنظورة.
  • عدم تكرار ندب العضو القضائي الواحد في أكثر من جهة – عدا وزارة العدل – مع وضع سقف زمني لمدة الندب.
  • الموافقة على إنشاء مدينة العدالة بالعاصمة الإدارية وعلى كل جهة وهيئة قضائية موافاة وزارة العدل بطلباتها.

القرارات على درجة كبيرة من الأهمية، ومعبرة إلي حد كبير عن مدي تدخل المجلس الأعلى للهيئات القضائية في صميم عمل مجالس الهيئات، وهو ما يعد تأكيداً لتوجه التعديلات الدستورية التي أضعفت من سيطرة مجالس إدارة الهيئات القضائية على شئون أعضائها، في مقدمتها مجلس الدولة الذي أزعج النظام في فترات سابقة في قضايا عدة أبرزها دوره البارز في قضية تيران وصنافير ودوره الواضح من قرارات التحفظ على أموال المعارضين ما اضطر النظام لتعديلات قانونية جوهرية لمجابهة أحكام مجلس الدولة المتتابعة برفض التحفظ والاستيلاء على الأموال[15]

عمل المرأة بمجلس الدولة

أهم هذه القرارات على الإطلاق، بدء عمل العنصر النسائي في مجلس الدولة، والذي كان محل جدل ورفض بات من الجمعية العمومية لمجلس الدولة، وقد بات في مرحلة سابقة على شفا الانقسام الحاد بين مستشاريه عندما نوقش موضوع تعيين المرأة واتخذت فيه خطوات جادة.

انقسام حاد

في 2010 شهدت أروقة مجلس الدولة حالة انقسام حاد حول قرار تعيين المرأة بالمجلس، حيث شهدت الجمعية العمومية لمجلس الدولة التي انعقدت في 15 فبراير 2010 حالة تقترب من الإجماع برفض عمل المرأة بالمجلس، وذلك رداً على القرار الذي اتخذه المجلس الخاص بتعيين مندوبين و(مندوبات) من خريجي دفعة 2008-2009، وتسبب انعقاد الجمعية وقراراتها في اهتزاز قرار المجلس الخاص وتراجع بعض المستشارين عن الموافقة ما اضطر رئيس مجلس الدولة باتخاذ القرار رقم 92 لسنة 2010 بالمضي في إجراءات التعيين التي سبق اتخاذها بالمجلس الخاص، هذا القرار تسبب في ثورة من قضاة المجلس ضد رئيسه متهمين إياه بالانفراد باتخاذ القرار ومخالفة قرارات المجلس الخاص والجمعية العمومية ووصل الأمر في سابقة تاريخية بالتهديد بسحب الثقة منه ومن ثم انعقدت جمعية عمومية طارئة في 1 مارس 2010 قررت إرجاء إجراءات تعيين المرأة بالمجلس واعتبار الجمعية في انعقاد دائم لمتابعة تنفيذ قراراتها، تزامن مع ذلك طلب تفسير تقدم به وزير العدل للمحكمة الدستورية لتفسير بعض نصوص الأزمة قابله اعتراضات من قبل شيوخ مجلس الدولة بعدم اختصاص المحكمة الدستورية[16]

صرح وقتها المستشار أحمد عبد التواب المتحدث الرسمي باسم الجمعية تصريحاً أضاف بعداً جديداً للأزمة يكمن رفض الرغبة في تعميم تجربة تعيين المرأة التي نجحت في جهات أخري عندما صرح “أن الجمعية العمومية بمجلس الدولة تكنّ كل احترام لجميع الهيئات القضائية الأخرى، وأهاب عدم التدخل فى شئون مجلس الدولة الداخلية مع رفض كل التلميحات والتهديدات التى تنطوي على تدخلات غير مشروعة لإجهاض قراري الجمعية العمومية والمجلس الخاص”[17]

من هذه الوقائع التاريخية يتضح أهمية القرار الذي اتخذه المجلس الأعلى للهيئات القضائية برئاسة السيسي، ويوضح مدي تدخل السلطة التنفيذية في عمل أصيل من أعمال المجلس الخاص والجمعية العمومية لمجلس الدولة لا سيما في أمر كان ومازال محل خلاف في أوساط قضاة مجلس الدولة وهو ما يقوم دليلاً على نوعية القرارات والتوجهات التي من أجلها أعيد المجلس الأعلى للهيئات القضائية للعمل بعد تعطيله منذ.

الفرع الثالث: تعيين رؤساء الهيئات القضائية

حتي تكتمل الصورة التي يدير بها النظام شئون القضاة ومعركته مع الجهات القضائية، نستعرض طريقة التعيينات القضائية التي استحدثها النظام بالتزامن مع استعادة دور المجلس الأعلى للهيئات القضائية، شملت التعديلات الدستورية طريقة تعيين رؤساء الهيئات والجهات القضائية بطريقة أطلقت يد رئيس الجمهورية في اختيارهم بصورة منفردة، وكان المستقر بالجهات والهيئات القضائية قيام مجالس الإدارة بالإشراف على اختيار رؤساء تلك الهيئات بالاستئثار حيناً وبالمشاركة في القرار أحياناً.

فيما يلي نوضح بشكل موجز تاريخ خطوات الهيمنة التي اتخذتها السلطة التنفيذية بضمان هيمنة (رئيس الجمهورية) على قرار تعيين رؤساء الهيئات والجهات القضائية عقب 2013.

أولا: المحكمة الدستورية

الرفض الذي قوبل به قرار مبارك بتعيين المستشار فاروق سلطان رئيساً للمحكمة الدستورية في الأوساط القضائية وبالأخص قضاة الدستورية، دفع المجلس العسكري لمعالجة الأمر بتعديل قانون المحكمة الدستورية عام 2011[18] ليتم بموجبه صدور قرار رئيس الجمهورية بتعيين رئيس المحكمة من بين أقدم ثلاثة نواب لرئيس المحكمة، كما يعين نوابه بقرار رئيس الجمهورية، وذلك بعد موافقة الجمعية العامة للمحكمة في كليهما، واشترط التعديل أن يكون ثلثا نواب رئيس المحكمة من بين أعضاء الهيئات القضائية والأولوية في التعيين لهيئة المفوضين بالمحكمة الدستورية[19].

دستور 2014 اعتمد طريقة مثالية ومرضية إلي حد كبير لقضاة الدستورية فيما اعتبر مكافأة لدور المحكمة الدستورية في دعم خطوات الانقلاب العسكري، فجاءت تعيينات المحكمة بالأقدمية البحتة، فالجمعية العامة للمحكمة هي المعنية باختيار الرئيس والنواب ويقتصر دور رئيس الجمهورية علي إصدار قرار التعيين.

دستور 2019 عكس وضعية التعيين تماماً، حيث ينفرد رئيس الجمهورية بتعيين رئيس المحكمة من بين أقدم خمسة نواب دون أي دور للجمعية العامة للمحكمة، كما يعين رئيس الجمهورية نواب رئيس المحكمة من بين اثنين ترشح أحدهما الجمعية العامة للمحكمة ويرشح الآخر رئيس المحكمة، كما يعين رئيس هيئة المفوضين بقرار رئيس الجمهورية بناء علي ترشيح رئيس المحكمة بعد أخذ رأي الجمعية العامة للمحكمة[20] وهو ما صدر به القانون 78 لسنة 2019 بتعديل قانون المحكمة الدستورية العليا[21]

ثانيا: تعيينات رؤساء الهيئات القضائية

استقرت أعراف الهيئات القضائية علي اختيار أقدم نواب رئيس الهيئة ليخلف رئيسها المنتهية مدته.

نسخ ذلك تماماً في 2017[22] حيث صدرت حزمة من التعديلات لقانون السلطة القضائية فيما يخص النائب العام ورئيس محكمة النقض، وكذا قوانين مجلس الدولة وهيئتي النيابة الإدارية وقضايا الدولة، غيرت من طريقة تعيين رؤساء تلك الهيئات لتتم من بين ثلاثة ترشحهم مجالس تلك الهيئات من بين أقدم سبعة نواب، كما تضمنت التعديلات قيوداَ من قبيل وجوب إبلاغ رئيس الجمهورية بأسماء المرشحين قبل نهاية مدة رئيس الهيئة بستين يوما، بالإضافة لأحقية رئيس الجمهورية في التعيين من بين أقدم سبعة نواب مباشرة (دون ترشيح من المجالس) في حال عدم تسمية المرشحين خلال المدة، أو ترشيح عدد أقل من ثلاثة، أو ترشيح من لا تنطبق عليهم الشروط التي وضعها القانون.

تحمل طريقة صياغة تلك التعديلات قدراً كبيراً من التعالي والفوقية رغم إبقائها علي متنفس لمجالس الهيئات القضائية تشارك بموجبه في اختيار ثلاثة مرشحين.

صاحب تلك التعديلات احتجاجات واعتراضات من القضاة وبعض الساسة[23] لم تمنع البرلمان من إقرارها وأصدرها السيسي، بالرغم من توصية قسم التشريع بمجلس الدولة بعدم إصدارها لتوافر شبهة عدم الدستورية في أغلب مواد القانون.

فسّر البعض الإصرار عليها برغبة الانقلاب في استبعاد بعض القضاة من رئاسة مجالسهم، كالمستشار يحيي الدكروري النائب الأول لرئيس مجلس الدولة بسبب موقفه في قضية تيران وصنافير، والمستشار أنس عمارة النائب الأول لرئيس محكمة النقض بسبب أحكامه التي ألغي فيها أحكام الإعدام المستندة علي تحريات الأمن الوطني[24]

للمرة الثانية جري تعديل ذات القوانين في 2019[25] لتتضمن هذه المرة (طريقة موحدة) ينفرد فيها رئيس الجمهورية بتعيين رؤساء تلك الهيئات[26] من بين أقدم سبعة نواب لرئيسها، ليتجاوز بها ضرورة الموافقة الرسمية لمجالس تلك الهيئات والتي أقرتها القوانين السابقة كمكتسبات، كما يتجاوز بالقدر ذاته كافة أعراف تلك الهيئات التي استقرت علي اختيار أقدم النواب رئيساً لها.

خاتمة

مرت معركة استقلال القضاء بمراحل عدة خلال قرن من الزمن منذ نشأة المحاكم المصرية الوطنية في العهد الملكي مروراً بعهود رؤساء الجمهورية المتعاقبين، والتي شهدت فترات صدام تمثلت ذروتها في مذبحة القضاة، وفترات هدوء نسبي متفاوت القدر، الفترة الأخيرة بعد 2013 نستطيع تسميتها بالصدام المكتوم الذي استخدم فيه النظام الانقلابي آليات تأليبية تستخدم القضاة ضد زملائهم وتستغل التجاذبات السياسية في تقليم أظافرهم، في ظل غياب تام لتحركات تيار الاستقلال في جيلي الرموز والأبناء، يضاف لذلك حالة الإغداف المفرط للمزايا التي يستخدمها النظام في استمالة فريق من القضاة ضد آخر، ما اتخذه النظام من آليات لإحكام السيطرة على الجهات والهيئات القضائية بالدستور والقوانين والقرارات التنفيذية جعل من الجسد القضائي مسخاً لا روح فيه، لا هو احتفظ بحيوية جهود الاستقلال، ولا نال الشراكة الكاملة مع النظام، حتي أضحي المجال القضائي وظيفياً بامتياز في ظل الاحتكام لمجلس معين بالكامل من رئيس الجمهورية، مهادناً لأبعد درجة، يفعل ما يُطلب منه ويتوقى مزالق الغضب ويكتب قصائد المدح وينضبط بتقارير الأداء.


الهامش

[1] زكريا عبد العزيز: الثورة لم تصل القضاء بعد، بوابة الأهرام https://2u.pw/MiqcP

[2] تشكل وفق القانون 56 لسنة 1959 في شأن السلطة القضائية منشور بالجريدة الرسمية العدد 33 مكرر “ب” غير اعتيادي في 21 فبراير 1959

[3]المؤسسة الأقدم والأبرز المعنية بشئون قضاة القضاء العادي في مصفوفة محكمة النقض

[4] القانون رقم 15 لسنة 1967 المنشور بالجريدة الرسمية في 31 مايو 1967

[5] نصت على (يفوض رئيس الجمهورية في إصدار قرارات لها قوة القانون خلال الظروف الاستثنائية القائمة في جميع الموضوعات التي تتصل بأمن الدولة وسلامتها وتعبئة كل إمكانياتها البشرية والمادية ودعم المجهود الحربي والاقتصاد الوطني وبصفة عامة كل ما يراه ضرورياً لمواجهة هذه الظروف الاستثنائية)

[6] الجريدة الرسمية العدد رقم 35 مكرر في 31 أغسطس 1969

[7] من مقال رجائي عطية “توفيق الحكيم وعودة الوعي (5) – جريدة الشروق https://cutt.us/3eCxg

[8]يضم المجلس (رؤساء محكمة النقض والمحكمة العليا ومجلس الدولة ورئيس محكمة استئناف القاهرة والنائب العام ورئيس هيئة قضايا الحكومة ومدير النيابة الإدارية وأقدم نواب مجلس الدلة ورئيس محكمة القاهرة الابتدائية)

[9] المحكمة الدستورية المصرية: نصف قرن من التحولات – دراسة منشورة للباحث بالمعهد المصري للدراسات عن قرار إنشاء المحكمة العليا ضمن إجراءات مذبحة القضاة وتطورات نشأة المحكمة الدستورية https://cutt.us/EoRzF

[10]صدر القانون 35 لسنة 1984 بتعديل قانون السلة القضائية 46 لسنة 1972، الجريدة الرسمية العدد 13 مكرر في 31 مارس 1984

[11] القانون 192 لسنة 2008 في شأن مجلس الهيئات القضائية الجريدة الرسمية العدد 25 مكرر (ب) في 22 يونيه 2008

[12] في المادة السادسة من القانون ألغي القانون 82 لسنة 1969 في شأن المجلس الأعلى للهيئات القضائية.

[13] نص المادة 185 (المعدلة) (تقوم كل جهة أو هيئة قضائية على شئونها، ويؤخذ رأيها في مشروعات القوانين المنظمة لشئونها، ويكون لكل منها موازنة مستقلة. ويعين رئيس الجمهورية رؤساء الجهات والهيئات القضائية من بين أقدم سبعة من نوابهم، وذلك لمدة أربع سنوات، أو للمدة الباقية حتى بلوغه سن التقاعد، أيهما أقرب، ولمرة واحدة طوال مدة عمله، وذلك على النحو الذى ينظمه القانون. ويقوم على شئونها المُشتركة مجلس أعلى للجهات والهيئات القضائية، يرأسه رئيس الجمهورية، وعضوية رئيس المحكمة الدستورية العليا، ورؤساء الجهات والهيئات القضائية، ورئيس محكمة استئناف القاهرة، والنائب العام. ويكون للمجلس أمين عام، يصدر بتعيينه قرار من رئيس الجمهورية للمدة التي يحددها القانون وبالتناوب بين الجهات أعضاء المجلس. ويحل محل رئيس الجمهورية عند غيابه من يفوضه من بين رؤساء الجهات والهيئات القضائية. ويختص المجلس بالنظر فى شروط تعيين أعضاء الجهات والهيئات القضائية وترقيتهم وتأديبهم، ويؤخذ رأيه فى مشروعات القوانين المنظمة لشئون هذه الجهات والهيئات، وتصدر قراراته بموافقة أغلبية أعضائه على أن يكون من بينهم رئيس المجلس.

[14] اليوم .. أول اجتماع لمجلس الهيئات القضائية لتطوير منظومة القضاء وميكنتها – اليوم السابع – https://cutt.us/z4KuY

[15] أموال الإخوان المسلمين بين التحفظ والاستيلاء – دراسة للباحث منشورة بالمعهد المصري للدراسات https://cutt.us/fYUjw

[16] رؤية حقوقية حول أزمة تعيين المرأة قاضية بمجلس الدولة – المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية – https://cutt.us/Yh0pZ

[17] عمومية مجلس الدولة ترفض تعيين المرأة قاضية – اليوم السابع – https://cutt.us/Qr5jf

[18] مرسوم بقانون 48 لسنة 2011 بتعديل قانون المحكمة الدستورية الجريدة الرسمية العدد 24 مكرر 19 يونية 2011

[19] حدد دستور 2012 عدد أعضاء المحكمة من رئيس وعشرة أعضاء وأحال طريقة تعيينهم للقانون، في حين أطلق دستور 2014 عدد أعضاء المحكمة وعبر بجملة عدد كاف من نواب الرئيس، ونص علي (تختار الجمعية العامة رئيس المحكمة من بين أقدم ثلاثة نواب لرئيسها كما تختار نواب الرئيس وأعضاء هيئة المفوضين بها ويصدر قرار بتعيينهم من رئيس الجمهورية)

[20] عقب التعديلات الدستورية صدر القانون 78 لسنة 2019 بتعديل قانون المحكمة الدستورية متضمنا طريقة التعيين الجريدة الرسمية العدد 25 مكرر(ب) 26 يونيه 2019

[21] منشور بالجريدة الرسمية العدد 25 مكرر (ب) في 26 يونية 2019

[22]القانون 13 لسنة 2017 الجريدة الرسمية العدد 17 تابع 27 أبريل 2017

[23]ما سر قانون السلطة القضائي؟ زياد بهاء الدين، الشروق https://2u.pw/rHIIE

[24] أحمد مكي: خياران لا ثالث لهما أمام قضاة مصر في أزمتهم، عربي 21 https://2u.pw/SzQWh

[25] وفق القانون 77 لسنة 2019 الجريدة الرسمية العدد 25 مكرر(ب) 26 يونية 2019

[26] تشمل طريقة تعيين رؤساء (محكمة النقض ومجلس الدولة وهيئتي النيابة الإدارية وقضايا الدولة وهيئة القضاء العسكري)

الوسوم

عباس قباري

باحث سياسي، متخصص في الشأن المصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى