دراسات

مقدمات أصولية في ضبط العمل الثوري وترشيده

 

مقدمة:

المسلم مطالب في شئونه كلها أن تكون مرجعيته العليا هي القرآن والسنة من خلال فهم سلفنا الصالح من علمائنا الربانيين ودعاتنا المجددين وقادة الرأي في الأمة على مر التاريخ، فالشرع الشريف هو المصدر الأوحد الذي عنه يصدر المؤمن، وإليه يرجع، ومنه ينطلق، وعليه يعتمد، وفيه يثق؛ لأنه من لدن حكيم خبير، عليم لطيف؛ إذ خلق الإنسان، وعلمه البيان، وأنزل له ما يجلب له الصالح النافع، ويدرأ عنه الفاسد الضار.

وإذا كان هذا هو حال المؤمن في أحواله العادية، فكيف يكون الأمر حال ظرف دقيق ومعقد يمر به مجموع الأمة كالذي نحياه الآن، وكيف بفترات التحول التاريخي، وأوقات الأحداث العظمى والظواهر الاجتماعية الكبرى التي تمر بها أمتنا العربية والإسلامية في هذا الوقت الذي نحياه، بما يذكرنا بما حدث في مطالع القرن الماضي قبل مائة عام؟!

إن المعهود في مثل هذه الفترات أن تستجد مستجدات وتنزل نوازل وتحدث حادثات؛ يشيب لها الولدان، وتحار فيها العقول، ولا يستطيع أحد أن يفتي فيها إلا إذا جمع لها “أهل بدر”، بل لا أبالغ إذا قلت: إن أهل بدر يحارون أمامها ويتوقفون فيها!

كما أن هذه النوازل لا يصلح معها – في أغلب الأوقات – الاستنجاد بالنصوص الجزئية وحدها، بل بالاحتكام إلى القواعد الكلية، والنصوص الكلية، وفقه المقاصد، وفقه المصالح والمفاسد، والموازنة بين المنافع والمضار، والنظر في المآلات القريبة والبعيدة، الفردية والجماعية، وهذا هو الفقه الحي الراشد الذي ينهض بالأمة، ويضبط سيرها، ويرشد حركتها، ويقوم بالوفاء بحاجاتها، ويشبع نهمتها، ويسدد فيها فروض الكفاية الإفتائية، ويُدخل الوقائع تحت مظلة الشريعة، وهو مقصد معتبر من مقاصد الشريعة الإسلامية.

ولهذا أردت في هذه الدراسة أن أحاول وضع بعض مقدمات مركزة أو معالم مختصرة لهذا الفقه الراشد الذي يستدعيه الفقهاء والمفتون والدعاة والحركيون والمجاهدون في وقتنا الحالي، وما شابهه؛ لضبط الفعل الثوري وترشيد الحركة الجهادية والفتوى والاجتهاد في النوازل، ومن أهم هذه المقدمات: فقه النص الشرعي وفهمه بشكل صحيح، وفقه المقاصد، وفقه موازنات المصالح والمفاسد، وفقه المآلات. وفي كل مقدمة أو محور نبين طبيعتها، ومعالمها، وأوجه ضبطها للعمل الثوري وترشيد النظر في النوازل والمستجدات، والموازنة بين المنافع والمضار في ضوء قواعد ومعالم كل محور. وبدون هذه الأدوات الفقهية لن يستطيع المفتون أن يفتوا، ولن يتسنى للعاملين أن يعملوا، ولا للحركيين والتنفيذين أن يتحركوا وينفذوا.

المبحث الأول: فقه النص الشرعي وفهمه بشكل صحيح:

يمثل فقه النص الشرعي نصف صوابية الاجتهاد وضبطه، والنصف الآخر يتجلى في فهم الواقع بكل أبعاده، ومآلات تنزيل الفتوى في هذا الواقع؛ فعملية الاجتهاد إذن لها ثلاثة أبعاد: الفقه الصحيح للنص الشرعي، والوعي الكامل بأبعاد الواقع، وهذا سيمكن من توقع المآلات واستكشافها، ومهارة تنزيل الحكم الشرعي على الواقع.

أولاً: من مظاهر الانحراف في فهم النص الشرعي:

حديثنا هنا عن الفقه الصحيح للنص الشرعي؛ إذ إننا نواجه أزمة كبيرة في فقه النص الشرعي وفهمه على الوجه الصحيح، قبل أن نواجه مشكلات المفتين في الوعي بالواقع وأبعاده؛ فضلا عن حسن تنزيل النص المفهوم بشكل صحيح على الواقع المدرَك بأبعاده جميعا.

1ـ هناك من يفصل النص الجزئي عن بقية النصوص في الموضوع الواحد، والحكم الشرعي لا يمكن فهمه إلا بعد جمع النصوص الواردة فيه، وحشدها في سياق واحد، والنظر فيها نظرا فقهيا أصوليا؛ إذ إن جمع النصوص في الحكم الواحد من شأنه الكشف عن الحكم الصحيح، والوقوف على مراد الشارع بدقة وضبط، أما نزع نص واحد بعيدًا عن بقية النصوص فهو تشويه للشرع، وانحراف في فهمه، وبعد عن مراد الشارع سبحانه وتعالى .. ومن أمثلة هذا: إدراك النصوص الآمرة بالسمع والطاعة للحاكم والتعاون معه والصبر عليه، وإهمال النصوص التي تبين موجبات عزله وأسباب محاسبته، ووجوب قيامه في الرعية بالحق والعدل؛ لحراسة الدين وسياسة الدنيا به.

2ـ هناك من يخرج النص الشرعي عن مناطه، وينزله على مناط آخر، وهذا تحريف للكلم عن مواضعه، وتشويه للنصوص، كما أن فيه ليًّا لأعناقها، وعدم مطابقة مع النازلة المتحدَّث فيها، وقد يؤدي إلى استخدام وسائل خاطئة، مما يؤدي في النهاية إلى مجانبة الصواب، وعدم التمكن من تحقيق مقاصد الشرع ومصالح الناس. ومن أمثلة ذلك: تنزيل النصوص الواردة في شأن الكافرين على أفراد عصاة وحكام جبابرة وظالمين لكنهم في النهاية مسلمون، يظهرون الإسلام ويعلنون الإيمان .. وكذلك من ينزل النصوص الواردة في أعداء الأمة الذين هم على غير ملتها، والمتصلة بالاحتلال مثلا، على واقع حكام فجرة يظهرون الإسلام ويوالون غير أمتهم وحضارتهم ..

3ـ هناك من يعتسف النص الشرعي، وينقله من آفاقه الواسعة إلى أطر ضيقة تحجِّم النص وتقيد إطلاقه بلا مقيد، وهذا فيه ظلم للنص الشرعي، وتضييق من مساحة عمله وتفعيله بتعطيل بعض من صور وأفراد النص الشرعي عن العمل. ومن أمثلته: من ينزل النص الشرعي الوارد في شأن الأمة على واقع حزب أو جمعية أو جماعة، ويقيم رئيسها أو مديرها أو إمامها مقام خليفة المسلمين وولي أمرهم، وينزل المنتمين لهذه الجمعية أو الحزب منزلة الرعية.

4ـ هناك من يجلب مصطلحات قديمة، ومع قدمها لا يفهم مضامينها، ومن ثم ينزلها إنزالا مخطئا على غير مناطها الصحيح، وقد يكون على علم بالمصطلح ومضمونه، لكنه يدلس على الناس ويلبس عليهم دينهم وفكرهم. ومثال ذلك: مصطلح “الخوارج”، الذي يطلق اليوم على غير مناطه، ويترك مناطه الواضح بغير إنزال عليه، فينقلب الحق باطلا، والباطل حقًّا، ويتحقق الحديث الذي رواه أحمد وابن ماجه والحاكم بسندهم عن أبي هريرة – رضي الله عنه- وصححه الألباني، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتُ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ» ، قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: «الرَّجُلُ التَّافِهُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ».

5ـ هناك من ينزل النصوص الواردة في شأن الأفراد منزلة المقامات الخاصة بالأمة والدولة والمجتمع، ومن المعلوم أن أحكام الأمة وفتاويها يختلف شأنها عن أحكام الفرد والفتاوى المتعلقة به، يضاف إلى هذا التشابك والتعقيد والتداخل الشديد الذي أحدثه تطور عصرنا بما يوجب إعادة النظر في “الحالة الإفتائية”، ومحاولة وضع منهجية صحيحة لها.

ومن أمثلة ذلك: الوقائع المعاصرة التي يقتل فيها الحكامُ المحكومين بغير جريرة، قتلا جماعيا، ويحرقون جثثهم، ويدفنونهم جماعيًّا دون مراعاة لأي أحكام شرعية تتصل بالتغسيل أو صلاة الجنازة ونحو ذلك، ويخرج علينا من يقول بدفع الدية لهؤلاء القتلى، دون تفريق بين قتل العمد وقتل الخطأ، وقتل الفرد وقتل المجتمع، وتجرد القتل عن أي مظالم أخرى، واقتران القتل بجرائم مثل الظلم والاستبداد والقهر ومصادرة الحريات ومطاردة بني الإنسان.

هذه أمثلة فقط – مجرد أمثلة – نستطيع من خلالها أن نقف على الكارثة التي تعانيها أمتنا على يد بعض من يتصدرون للإفتاء، ويبصرون الأمة بأحكام شريعتها، سواء من الهيئات الرسمية التي غالبا توالي أنظمة الحكم، أو من أنصار الحق الذين لم تتحقق بهم – في نظري – فروض الكفاية من هذه الناحية.

ثانياً: معالم المنهج الوسطي في فهم النصوص:

حتى لا يكون الكلام فضفاضا نضع بعض المعالم التي تعيننا على تلمس المنهج الوسطي في فهم النصوص بشكل صحيح، والتي أهمها ما يلي:

1ـ جمع النصوص الواردة في الحكم الواحد.

2ـ فهم النص مجردا دون أن يطغى عليه موروث أو وافد، أو ترغيب أو ترهيب.

3ـ فهم النصوص في ضوء ملابساتها وظروفها وبيئاتها.

4ـ التفريق في النصوص بين ما هو خاص وعام، ومطلق ومقيد.

5ـ فهم النصوص في ضوء عللها وحكمها ومقاصدها.

6ـ التفريق في النصوص بين ما هو واقعة عين لا تتعدى غيرها وبين ما هو مطلق مطرد.

7ـ التشبث والتمسك بالثوابت، والمرونة في المتغيرات.

8ـ التشدد في الأصول والكليات، والتسامح في الفروع والجزئيات.

9ـ التفريق في فهم النصوص بين الحقيقة والمجاز.

10ـ الترحيب بكل ما يؤيده النص حتى لو كان وافدا، ورفض كل ما يتعارض معه حتى لو كان موروثا.

11ـ الرجوع للعلماء المشهود لهم بالحجة الشرعية والخشية القلبية فيما أشكل في الفهم أو التطبيق.

المبحث الثاني: فقه المقاصد:

مقاصد الشريعة هي الأهداف والغايات التي نزلت الشريعة لإقامتها وإيجادها، وشرعت من التدابير ما يعمل على بقائها واستمرارها، ولها مراتبها، وأنواعها، وضوابطها، ومسالك الكشف عنها، وأحكامها المتنوعة. ولقد كان – ولا يزال – إهدار مقاصد الشريعة الإسلامية هو السبب المباشر في الأحداث التي تمر بها أمتنا، أو ما أطلق عليه إعلاميًّا “الربيع العربي”، وأخص منها مرتبتين:

الأولى: المقاصد العالية أو المفاهيم التأسيسية، وهي التي تواضعت عليها البشرية، وتلاقت عليها الإنسانية في كل عصورها، مثل الحرية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية، والأمن الاجتماعي، وغيرها من مقاصد عالية. وهذه المقاصد هي البيئة التي تطبق فيها الأحكام، وينبت فيها الشرع، وتحفظ فيها المراتب الأخرى من المقاصد، فلن نستطيع تحقيق حفظ ضروريات المقاصد إلا في حضن الحرية والأمن والعدلة والكرامة؛ فلا حفظ للنفس أو المال أو العرض في غياب الأمن والحرية والعدالة.

الثانية: المقاصد الضرورية، وهي حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال، وأضاف بعض الأصوليين العرض كليةً سادسة للضروريات.

وقد كان إهدار هذه المقاصد جميعا سببا مباشرا – كما سلفت الإشارة – في قيام الشعوب بثورتها ضد الأنظمة الحاكمة التي مارست الاستبداد السياسي، والظلم الاجتماعي، والفساد الأخلاقي، ومصادرة حريات الناس ومنع فكرهم، وإهدار كرامتهم، وعدم وضع أي اعتبار لقيمة الإنسان، وكل هذا أهدر الكرامة والعدالة والحرية والأمن الاجتماعي.

وعلى الرغم من أن مصر – وغيرها من بلادنا العربية – دولة دينها الرسمي الإسلام، أي أنها واجب عليها أن تحفظ على الناس دينهم، فإن قصور المؤسسة الدينية الرسمية كان لها الفضل في كثير من مشكلات التدين، حيث أصبحت تعاني من هزال كبير، بالإضافة إلى سعيها ـ في كثير من الأحيان ـ في ركاب الرؤية العامة للأنظمة المستبدة، مع الاختلاف في قليل من التفصيلات، وخطاب المؤسسة الرسمية في مصر أثناء يناير 2011م، وما بعده، كان خير شاهد على ذلك.

وعن النفس باعتبار حفظها مقصدًا من كليات مقاصد الشريعة، فلو توجهنا لمنظمات حقوق الإنسان في مصر والتي فاق عددها الثلاثين، وسئلت عن البلاغات التي قدمت لها بالموت والتعذيب في أقسام الشرطة ومقرات مباحث أمن الدولة، لأيقنا أن هذه الثورة قامت من أجل حفظ النفس من الإهانة والموت والتعذيب.

كذلك العقل الذي انتشرت وسائل إفساده المادية كالمخدرات، والفكرية كوسائل الإعلام المضلل، والمال الذي نُهِبَ وسرق حقوق الشعب فيه، كونتها مجموعة لا تتعدى نسبتها الـ “5%” من الشعوب.

وكذلك العرض، حيث انتشر التحرش بين الناس، واغتصاب البنات في أقسام الشرطة والمعتقلات، والهجوم على البيوت في أي وقت من ليل أو نهار دون مراعاة لحرمتها، وقتل أو خطف من فيها، والتماس التهم والعيوب للبرآء في الأعراض والأموال، ويمكن القول إنَّ المقاصد الضرورية قبل الثورات أصيبت بحاله من التقهقهر فما بالنا بالحاجيات؛ فضلا عن المقاصد العالية؟!.

من أجل هذا كله انتفضت الشعوب، وثارت على طغاتها، وقررت استعادة حريتها وكرامتها وإرادتها في اختيار من يحكمها ومن ينوب عنها في حراسة الدين وسياسة الدنيا به.

إن الغايات التي قامت الثوراتُ من أجلها، وقدمت الأمة من الشهداء والجرحى ما قدمت، ولا تزال، لا يصح ـ بل لا يجوز ـ أن تغيب عن الوعي الجمعي في المجتمع، فينبغي أن تُظلِّلَ تحركاته، وتؤثر في اختياراته، وتنظم سيره، وتضبط حركته؛ ليكون سيره وفكره على هدى ونور: “أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ”. سورة الملك: 22. وذلك لأن في رعاية الفكر المقاصدي وتفعيله آثارًا وفوائد بالغة الأهمية والدقة والخطورة، ونذكر منها ما يلي (1):

1. رعاية المقاصد تضبط الرؤية وتُقوِّم الاختيارات:

لهذا كان من الأهمية بمكان أن نراعي المقاصد التي قامت من أجلها الثورات؛ لأن في اعتبارها وتفعيلها ورعايتها ضبطًا للرؤية؛ حيث تعصم العقل الجمعي من الوقوع في براثن التخبط ومهاوي التشتت وضبابية الرؤية؛ وذلك لأن التعلق بالهدف واستحضاره دائما يضمن صحة الاختيارات، وصوابية التصور، ويتحكم في الاختيارات التي نختارها، ويضبط المسار الثوري دون ميل عنه أو حيد إلى جهة اليمين أو الشمال.

فلا يمكن لراعي المقاصد وملاحظها أن يختار اختيارا خطأ، أو يستمر مع اختيار خطأ إن وقع دون تصحيح وتقويم بحيث يستقيم الاختيار مع الهدف الموجود والمقصد المرصود؛ لأن ملاحظة المقصد تصحح استخدام الوسائل وترشد الاختيارات وتقوم الرؤية وتضبطها في مسارها الثوري الصحيح.

2. رعاية المقاصد توحد الصف وتسرِّع في تحقيق النتائج:

ومن الفوائد المهمة في تحكيم المقاصد في الواقع الثوري ــ وكل واقع وكل فكرة وكل عمل ونشاط ــ أنها توحد الصف الثوري، بل الصف الدعوي والعملي؛ لأننا متى اتفقنا على الهدف فلن يكون بيننا خلاف؛ إذ غياب الهدف أو المقصد يحل محله النزاع والخلاف وسعة الفجوة والهوة بين التيارات، ويحل محل الهدف الأهواء الشخصية، والمآرب الحزبية، والمصالح الذاتية، والفتنة الطائفية، ويدور كل فريق حول تحقيق مصالحه الخاصة دون اعتبار للمصلحة العامة التي يجب أن تقدم وتُصدَّر، ويكون لها الاهتمام، وعليها التركيز بعيدا عن تحقيق المآرب الشخصية واتباع الهوى.

كما أن من شأن استحضار الغايات والمقاصد دائما أن يعمل على تحقيق النتائج والأهداف المرصودة بأقل جهد وأقل تكلفة وأسرع وقت؛ إذ الذي يغيب عنه هدفه يتخبط هنا وهناك، ويصبح فريسة لسبل الشيطان وطرق الأبالسة من الجن والإنس، ويضل ضلالا بعيدا، وقد قال الله تعالى: “وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ”. الأنعام: 153.

وعن عبد الله بن مسعود قال: خط لنا رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ خطًّا، ثم قال: “هذا سبيل الله”، ثم خط خطوطًا عن يمينه وعن شماله ثم قال: “هذه سبل ـ قال يزيد ـ متفرقة، على كل سبيل منها شيطانٌ يدعو إليه، ثم قرأ {إن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} سورة الأنعام: 153. [والحديث رواه ابن حبان، والحاكم، وصححه 2/318، ووافقه الذهبي].

إن الذي يسير في طريق وعينه على نقطة الانتهاء يختلف اختلافا كبيرا وجذريًّا عن الذي يسير على غير هدى ولا هدف ولا مقصد، الأول سيختصر المسافات، ويصل إلى غايته في أقرب وقت وبأقل جهد ومال، والثاني ستتخبطه السبل في مهاوي الشياطين، ويصبح فريسة للجزئيات والجدال والتنازع الذي يؤدي إلى الفشل وذهاب الريح: ” وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ”. (الأنفال: 46).

3. رعاية المقاصد تحفظ النسيج الاجتماعي وتحول دون الاستقواء بالخارج:

ومن أهم الفوائد التي تتحقق برعاية المقاصد في واقعنا الثوري المعاصر أنها تعمل على حفظ النسيج الوطني والاجتماعي من التحلل والتفسخ والاهتراء؛ إذ إن تحكيم الأهداف العليا والمقاصد الكبرى والمفاهيم التأسيسية يحفظ القوى الوطنية السياسية، والنخب الثقافية من التنازع، كما أن ذلك يقضي على النعرات الطائفية التي نراها في بعض البلدان التي تجري فيها ثورات، وهذا النعرات هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق المجتمع، وتهدد استقراره، وتبدد سلامته، ويحل التنازع والفرقة والخلاف والتشرذم محل التفاهم والتعاون والوحدة.

كما أن رعاية أهداف الثورة تحمل أصحابها على حفظ أمن المجتمع وسلامته، وأن تتكون مناعة ضد أي تدخل خارجي طامع، وإنما تأتي عمليات الاستقواء بالخارج ـ وهي خيانة دينية ووطنية وسياسية ـ حين يغيب الهدف، وتتحكم الأطماع الشخصية والمصالح الذاتية المحدودة التي لا ترى إلى ذاتها، ولا تنظر إلى تحت أقدامها.

وهذا سبب كبير لما نراه في بعض البلاد التي سقطت أنظمتها الطاغية الظالمة؛ حيث تتعدد الرؤى، وتتنوع الأهواء، وتتباين المصالح الشخصية، وتتعارض المآرب الحزبية؛ فيحدث الصدام، ويكون الصراع، ونسمع بقوى غير وطنية تنادي بتدخل الغرب الطامع في بلادنا؛ ليبني أمجاده ويحقق أطماعه على سُلَّم الجماجم وآلام الجرحى ودماء الشهداء!.

4. رعاية المقاصد تعين على التحديد الصحيح للمآل:

من الأمور الخطيرة وبالغة الأهمية في تصرفاتنا جميعًا أن نراعي المآل الذي سيؤول إليه الفعل أو التصرف، وإذا كان هذا في التصرفات والأفعال العادية خطيرًا، فإنه يبلغ من الخطورة منتهاها إذا كان في واقع ثوري كالذي تحياه الأمة اليوم. فكم من مصيبة حدثت وكان سببها عدم رعاية المآل، وكم من أرواح أزهقت، ودماء سالت، وجراحٍ جرحت، لو راعينا مآل فعلنا أو نتيجة تصرفنا لما وصل الحال إلى ما وصل إليه؛ ولهذا فإنه من الذكاء والفطنة وتمام الحكمة أن ننظر إلى مآل الفعل قبل اختياره والتلبس به. ووضوح المقصد واستحضاره دائما من المعينات على التعرف إلى المآل أو توقعه، والأهم من هذا ضبطه أثناء توقعه، وهذا ما يقوم به فقه المقاصد، وسيأتي مزيد بيان عن فقه المآلات.

5. رعاية المقاصد تضبط الموازنة بين المصالح والمفاسد:

ليس الفقيه من عرف المفسدة من المصلحة، وإنما الفقيه هنا من جلب أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أكبر المفسدتين بارتكاب أخفهما. ومن الفوائد المهمة التي نستثمرها من تفعيل المقاصد في الواقع الثوري المعاصر، وكل واقع، أنها تضبط الموازنة في الاختيار بين المصالح بعضها وبعض، وبين المفاسد بعضها وبعض، وبخاصة أن واقع الثورات يحكمه ـ في أغلب أحكامه واختياراته ـ مبدأ المصلحة والمفسدة، فبتحكيم المقاصد ورعايتها في التفكير والحركة والاختيار يمكننا أن نختار المصلحة ونرفض المفسدة، ونختار أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وندفع أعظم المفسدتين بارتكاب أخفهما.

وهذا ما تواتر القول به في ضوء فهم نصوص القرآن الكريم والسنة الشريفة عند العلماء الذين أفاضوا في الحديث عن هذا، مثل: الجويني والغزالي وابن عبد السلام والقرافي، وابن تيمية، وابن القيم، والشاطبي، وغيرهم. فالواقع الثوري المعاصر وغيره لا يخلو من مصالح ومفاسد، ومن وجود مصلحتين، ومن وجود مفسدتين في كل اختيار وكل قضية، فنجلب المصلحة وندفع المفسدة، ونحصل أعظم الخيرين، وندفع شر الشرين.. والذي يحكم ذلك هو اعتبار المقاصد وتفعيل الفكر المقاصدي، فملاحظته تبين أي المصلحتين أكبر فنحصلها، وأي المفسدتين أقل فنرتكبها.

6. رعاية المقاصد تحدد الأولويات “ما يقدَّم وما يؤخَّر”:

لكل واقع أولوياته، ولكل مؤسسة وكيان وهيئة ما يجب أن يقدَّم وما يجب أن يؤخَّر، وإن الناظر في أحكام الإسلام، وفي كل مجالاتها وأبوابها الفقهية والخلقية والعقدية يجد فيها الأهم والمهم، والواجب والفرض، والمندوب والمستحب، والمكروه والمحرم وهكذا.

ولقد قرر القرآن الكريم أن الأعمال ليست سواء، قال سبحانه: “أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ”. التوبة: 19.

وجعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الإيمان شعبا منها أعلى ومنها أدنى، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “الإيمان بضع وستون شعبة. فأفضلها قول لا إله إلا الله. وأدناها إماطة الأذى عن الطريق. والحياء شعبة من الإيمان”. رواه مسلم.

ومن الفوائد الجليلة التي تؤديها رعاية المقاصد في كل عمل وكل قول أنها تضبط مسار اختيار الأولويات، فقد نختلف على تصرف أو عمل ما في واقع معين أنه الأولى الآن، أو هو واجب الوقت، ولكن حين نستحضر المقاصد ونستدعي الغايات ينضبط الميزان وتصح الموازنة، ونختار التصرف الأولى وفق التصور المقاصدي الذي يرشحه الواقع ويضبطه الشرع، فيقدم الضروري على الحاجي؛ فضلا عن التحسيني، والحاجي على التحسيني، ويقدم حفظ الدين على حفظ النفس، وهما على حفظ المال، وهكذا.

فمتى أدرك الشاب أولويات دينه، وأولويات واقعه فلن يُقْدم على أعمال ليست من واجب الوقت؛ فضلا عما من شأنه أن يزعزع أمن المجتمعات مثلا، ويهدد سلامتها، ويسفك دماءها، أو يؤخر عملية الإصلاح والبناء.

ومن الدوائر المهمة لعمل المقاصد الضابط للحركة الثورية لشعوبنا العربية والإسلامية وهي في طريقها للتحرر واستعادة هويتها وامتلاك إرادتها، تحكيم الفكر المقاصدي في مؤسسات الأمة، ومحاكمة عمل وممارسات هذه المؤسسات إلى الأهداف والغايات والمقاصد التي قامت من أجلها.

ومن ذلك الوزارات والمؤسسات والهيئات والجمعيات الموجودة في الأمة، فوزارة التربية والتعليم مقصدها تربية النشء على الأخلاق الحميدة وتخليتهم من الصفات الذميمة، وتعليمهم ما يكون خادما لنهضة الأمة ونافعا للملة، ووزارة الداخلية والمؤسسات الأمنية قائمة على تحقيق الأمن وتوفير الحماية للناس، ووزارة الأوقاف والشئون الدعوية قائمة على تهيئة الأجواء للعبادة ووعظ الناس وتوجيههم بالفكر السليم والشرع الصحيح، ووزارات العدل ومؤسسات القضاء مهمتها الحكم بالعدل وأخذ الحق لأصحابه…الخ.

فإذا غادرت وزارة التربية والتعليم مهمتها إلى محاضرة الطلاب وكبت آرائهم وتقييد فكرهم، وتجاوزت ووزارات الداخلية والمؤسسات الأمنية مهمتها إلى قتل الناس وتفزيعهم وترويعهم في بيوتهم، وتحولت مؤسسات القضاء إلى آلة في يد المستبدين والظالمين تبطش بالناس وتحكم عليهم بأحكام ظالمة طاغية باغية، وقامت وزارات الأوقاف بتأميم المساجد وإفساد الحياة الدعوية والوعظية خدمة للحاكم المتجبر … الخ، فكل هذا يوجب مقاومة هذه المؤسسات والوزارات، وأمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر قدر الطاقة والوسع – “فاتقوا الله ما استطعتم” – وتغييرها بما يحقق وظيفتها، والمقاصد التي قامت من أجلها، وهذا ما ينبغي أن يكون نصب أعين الأمة، وهي تسعى حثيثا نحو الاستقلال الكامل وامتلاك الإرادة الحقيقية والتحرر الشامل.

 

المبحث الثالث: فقه موازنات المصالح والمفاسد:

قاعدة المصالح هي الركن الأكبر والأصل الأعظم التي تقوم عليه السياسة الشرعية، ولقد كان سلطان العلماء العز ابن عبد السلام محقًّا حين حصر مقاصد الشريعة في جلب المصالح ودرء المفاسد، بل جعل درء المفاسد من جملة المصالح.

وفي مثل هذه الفترات التي نحياها التي تحمل في طياتها تحولا كبيرا للأمة تشتد الحاجة إلى الحديث عن المصالح والمفاسد والقواعد الضابطة لها والمنظمة لاستعمالها والعمل بها؛ إذ إن أغلب المسائل والقضايا والنوازل والمستجدات يُحتكم فيها إلى قاعدة المصلحة وجلب أعلاها بتفويت أدناها، والمفسدة ودرء أعلاها بارتكاب أدناها. ولهذا قال الإمام ابن تيمية الإمام ابن تيمية فيبين سبب تشريع الأحكام ومبنى الشريعة قائلا: «إن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، بحسب الإمكان». [منهاج السنة النبوية: 6/72. وكذلك: 1/375، 3/52، 4/313. وانظر: مجموع الفتاوى: 10/512، و30/193.].

وقال تلميذه العلامة المحقق ابن قيم الجوزية في نصٍّ شهير: «إن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل؛ فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله – صلى الله عليه وسلم – أتم دلالة وأصدقها». [إعلام الموقعين: 3/3].

وفقه الموازنة بين المصالح والمفاسد يترتب عليها تحديد الأولوية مباشرة، فهي خطوة ضمنية ملصوقة بالأولويات، والجميع في منظومة واحدة يمكن أن نطلق عليها “المنظومة الفقهية”، أو “الفقه الحي”، الذي يدخل على القلوب بغير استئذان، كما قال ابن القيم. وفي أحداثنا المعاصرة نحتاج إلى تفعيل هذا الكلام، لا سيما في مجالات السياسة الشرعية التي تستغرق أغلب القضايا التي نحياها الآن، وتشتد الحاجة أكثر إلى الاستنجاد بالقواعد الضابطة للمصلحة والمفسدة في الاجتهاد المعاصر، والموازنة بينها، بين المصالح والمفاسد، وبين المصالح بعضها وبعض، وبين المفاسد بعضها وبعض، كيف نجمع بين المصلحتين، وماذا نفعل عند التعارض، وكيف نتعامل مع المفاسد عند التعارض… الخ.

أولاً: كلام سلطان العلماء العز ابن عبد السلام:

والحق أنه لم يتحدث أحد في تاريخ الإسلام وعلمائه عن المصلحة والمفسدة والقواعد الضابطة لهما والمنظمة للعمل بهما مثلما تحدث وكتب سلطان العلماء عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام السلمي (ت: 660هـ) في كتابه “قواعد الأحكام في إصلاح الأنام”، الذي لم يؤلَّف قبله مثله، ولم ينسج أحدٌ بعده على منواله، وهو كتاب يعتبر كتاب المرحلة التي نحياها وما شابهها؛ فينبغي للعلماء أن يتدارسوه ويقبلوا عليه وينوهوا به؛ لأنه ضابط للمصالح والمفاسد مؤصل لأحكامها ومفصل لجوانبها ومعالمها، وسبق القول إن أغلب المستجدات في عصرنا تتصل بباب السياسة الشرعية الذي يقوم كليًّا وجزئيًّا على قاعدة المصلحة والمفسدة.

وحسبنا فقط أن ننقل بعض الإشارات والعبارات – مجرد إشارات وعبارات – عن العز بن عبد السلام من هذا الكتاب؛ لنرى قيمة الكتاب وأهميته.

قال: “ومعظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروف بالعقل وذلك معظم الشرائع؛ إذ لا يخفى على عاقل قبل ورود الشرع أن تحصيل المصالح المحضة، ودرء المفاسد المحضة عن نفس الإنسان وعن غيره محمود حسن، وأن تقديم أرجح المصالح فأرجحها محمود حسن، وأن درء أفسد المفاسد فأفسدها محمود حسن، وأن تقديم أرجح المصالح فأرجحها محمود حسن، وأن درء أفسد المفاسد فأفسدها محمود حسن، وأن تقديم المصالح الراجحة على المرجوحة محمود حسن، وأن درء المفاسد الراجحة على المصالح المرجوحة محمود حسن. واتفق الحكماء على ذلك، وكذلك الشرائع على تحريم الدماء والأبضاع والأموال والأعراض، وعلى تحصيل الأفضل فالأفضل من الأقوال والأعمال.

وإن اختلف في بعض ذلك فالغالب أن ذلك لأجل الاختلاف في التساوي والرجحان، فيتحير العباد عند التساوي ويتوقفون إذا تحيروا في التفاوت والتساوي. وكذلك الأطباء يدفعون أعظم المرضين بالتزام بقاء أدناهما، ويجلبون أعلى السلامتين والصحتين ولا يبالون بفوات أدناهما، ويتوقفون عند الحيرة في التساوي والتفاوت؛ فإن الطب كالشرع وُضِعَ لجلب مصالح السلامة والعافية، ولدرء مفاسد المعاطب والأسقام، ولدرء ما أمكن درؤه من ذلك، ولجلب ما أمكن جلبه من ذلك. فإن تعذر درء الجميع أو جلب الجميع فإن تساوت الرتب تخير، وإن تفاوتت استعمل الترجيح عند عرفانه والتوقف عند الجهل به”. [قواعد الأحكام: 1/ 7-8].

وقال: “ومصالح الدارين ومفاسدهما في رتب متفاوتة فمنها ما هو في أعلاها، ومنها ما هو في أدناها، ومنها ما يتوسط بينهما، وهو منقسم إلى متفق عليه ومختلف فيه؛ فكل مأمور به ففيه مصلحة الدارين أو إحداهما، وكل منهي عنه ففيه مفسدة فيهما أو في إحداهما، فما كان من الاكتساب محصلا لأحسن المصالح فهو أفضل الأعمال، وما كان منها محصلا لأقبح المفاسد فهو أرذل الأعمال”. [قواعد الأحكام: 1/ 11].

وقال: “المصالح ضربان: أحدهما حقيقي وهو الأفراح واللذات، والثاني مجازي وهو أسبابها، وربما كانت أسباب المصالح مفاسد فيؤمر بها أو تباح لا لكونها مفاسد بل لكونها مؤدية إلى مصالح، وذلك كقطع الأيدي المتآكلة حفظا للأرواح، وكالمخاطرة بالأرواح في الجهاد، وكذلك العقوبات الشرعية كلها ليست مطلوبة لكونها مفاسد بل لكونها المقصودة من شرعها كقطع السارق وقطع الطريق وقتل الجناة ورجم الزناة وجلدهم وتغريبهم: وكذلك التعزيرات، كل هذه مفاسد أوجبها الشرع لتحصيل ما رتب عليها من المصالح الحقيقية، وتسميتها بالمصالح من مجاز تسمية السبب باسم المسبب. وكذلك المفاسد ضربان: أحدهما حقيقي وهو الغموم والآلام، والثاني مجازي وهو أسبابها، وربما كانت أسباب المفاسد مصالح فنهى الشرع عنها لا لكونها مصالح بل لأدائها إلى المفاسد وذلك كالسعي في تحصيل اللذات المحرمات والشبهات المكروهات والترفهات بترك مشاق الواجبات والمندوبات فإنها مصالح نهي عنها لا لكونها مصالح بل لأدائها إلى المفاسد الحقيقية، وتسميتها مفاسد من مجاز تسمية السبب باسم المسبب”. [قواعد الأحكام: 1/ 18-19].

هذه نصوص ثلاثة عن العز بن عبد السلام تبين أهمية الكتاب ومكانته، وضرورة استدعائه لعصرنا بقوة لنستنجد بقواعده ومعالمه وطبيعته في نوازلنا المعاصرة ومستجداتنا الحالية، فهو فقه يبين كيف كان يمكننا فيما مضى، أن نتقي وقوع كوارث ومحن، ويوضح لنا كيف يمكننا اليوم وغدا أن نبتعد عن الفتاوى الضيقة، ونتيح لأنفسنا وأمتنا خيارات واسعة، تنهض بأمتنا، وتخرجها من كبوتها، وتقيها من عثرات وأزمات ومحن؛ لتستعيد بذلك عافيتها وتسترد إرادتها وحريتها.

ثانياً: كلام شيخ الإسلام ابن تيمية:

وقد عقد الإمام ابن تيمية فصلا في فتاويه أسماه: “فصل جامع في تعارض الحسنات؛ أو السيئات؛ أو هما جميعا”، وهو يطلق الحسنات والسيئات على المصالح والمفاسد، ووضع فيه كثيرًا من القواعد المنظمة للموازنة بين المصالح والمفاسد، وهو باب نفيس لا يسع أحدًا أن يتحدث عن المصالح والمفاسد والموازنة بينها عند التعارض دون أن يشير إلى كلامه فيه، رحمه الله.

قال: إذا اجتمعا – يعني الحسنات والسيئات أو المصالح والمفاسد – ولم يمكن التفريق بينهما؛ بل الممكن إما فعلهما جميعا وإما تركهما جميعا. وقد كتبت ما يشبه هذا في ” قاعدة الإمارة والخلافة ” وفي أن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها ترجح خير الخيرين وشر الشرين، وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما …

ونقول: إذا ثبت أن الحسنات لها منافع وإن كانت واجبة، كان في تركها مضار والسيئات فيها مضار وفي المكروه بعض حسنات. فالتعارض إما بين حسنتين لا يمكن الجمع بينهما؛ فتقدم أحسنهما بتفويت المرجوح. وإما بين سيئتين لا يمكن الخلو منهما؛ فيدفع أسوأهما باحتمال أدناهما. وإما بين حسنة وسيئة لا يمكن التفريق بينهما؛ بل فعل الحسنة مستلزم لوقوع السيئة، وترك السيئة مستلزم لترك الحسنة؛ فيرجح الأرجح من منفعة الحسنة ومضرة السيئة.

الأول: كالواجب والمستحب، وكفرض العين وفرض الكفاية، مثل تقديم قضاء الدين المطالب به على صدقة التطوع.

الثاني: كتقديم نفقة الأهل على نفقة الجهاد الذي لم يتعين، وتقديم نفقة الوالدين عليه كما في الحديث الصحيح: {أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على مواقيتها قلت: ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين قلت. ثم أي؟ قال: ثم الجهاد في سبيل الله}. وتقديم الجهاد على الحج كما في الكتاب والسنة متعين على متعين ومستحب على مستحب، وتقديم قراءة القرآن على الذكر إذا استويا في عمل القلب واللسان، وتقديم الصلاة عليهما إذا شاركتهما في عمل القلب وإلا فقد يترجح الذكر بالفهم والوجل على القراءة التي لا تجاوز الحناجر، وهذا باب واسع.

الثالث: كتقديم المرأة المهاجرة لسفر الهجرة بلا محرم على بقائها بدار الحرب كما فعلت أم كلثوم التي أنزل الله فيها آية الامتحان {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات} وكتقديم قتل النفس على الكفر كما قال تعالى: {والفتنة أكبر من القتل} فتقتل النفوس التي تحصل بها الفتنة عن الإيمان؛ لأن ضرر الكفر أعظم من ضرر قتل النفس وكتقديم قطع السارق ورجم الزاني وجلد الشارب على مضرة السرقة والزنا والشرب وكذلك سائر العقوبات المأمور بها فإنما أمر بها مع أنها في الأصل سيئة وفيها ضرر؛ لدفع ما هو أعظم ضررا منها؛ وهي جرائمها؛ إذ لا يمكن دفع ذلك الفساد الكبير إلا بهذا الفساد الصغير، وكذلك في “باب الجهاد”، وإن كان قتل من لم يقاتل من النساء والصبيان وغيرهم حراما فمتى احتيج إلى قتال قد يعمهم مثل: الرمي بالمنجنيق والتبييت بالليل جاز ذلك، كما جاءت فيها السنة في حصار الطائف ورميهم بالمنجنيق، وفي أهل الدار من المشركين يبيتون، وهو دفع لفساد الفتنة أيضا بقتل من لا يجوز قصد قتله.

وكذلك “مسألة التترس” التي ذكرها الفقهاء؛ فإن الجهاد هو دفع فتنة الكفر فيحصل فيها من المضرة ما هو دونها؛ ولهذا اتفق الفقهاء على أنه متى لم يمكن دفع الضرر عن المسلمين إلا بما يفضي إلى قتل أولئك المتترس بهم جاز ذلك؛ وإن لم يخف الضرر لكن لم يمكن الجهاد إلا بما يفضي إلى قتلهم ففيه قولان. ومن يسوغ ذلك يقول: قتلهم لأجل مصلحة الجلاد مثل قتل المسلمين المقاتلين يكونون شهداء، ومثل ذلك إقامة الحد على المباذل؛ وقتال البغاة وغير ذلك، ومن ذلك إباحة نكاح الأمة خشية العنت. وهذا باب واسع أيضا.

الرابع: فمثل أكل الميتة عند المخمصة؛ فإن الأكل حسنة واجبة لا يمكن إلا بهذه السيئة ومصلحتها راجحة، وعكسه الدواء الخبيث؛ فإن مضرته راجحة على مصلحته من منفعة العلاج لقيام غيره مقامه؛ ولأن البرء لا يتيقن به، وكذلك شرب الخمر للدواء.

فتبين أن السيئة تحتمل في موضعين دفع ما هو أسوأ منها إذا لم تدفع إلا بها، وتحصل بما هو أنفع من تركها إذا لم تحصل إلا بها، والحسنة تترك في موضعين إذا كانت مفوِّتة لما هو أحسن منها؛ أو مستلزمة لسيئة تزيد مضرتها على منفعة الحسنة. هذا فيما يتعلق بالموازنات الدينية. ا.هـ. [مجموع الفتاوي: 20/ 48-53].

هذا ما تحدث به شيخ الإسلام ابن تيمية عن فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد، وبين المصالح بعضها وبعض، وبين المفاسد بعضها وبعض، والقواعد المنظمة لهذه الموازنات، وهو كلام أفاده شيخ الإسلام من سلطان العلماء، وهو سابق بيقين عليه.

ثالثاً: خلاصة قواعد الموازنة بين المصالح والمفاسد:

لقد حصرت “معلمة زايد للقواعد الفقهية والأصولية” – وهي آخر عمل علمي موسوعي مستوعب للقواعد وحاصر لها – القواعد المتصلة بالموازنة بين المصالح والمفاسد، فأحصوا أربع عشرة قاعدة تنظم هذه المسألة، هي: الجمع بين المصلحتين أولى من إبطال أحدهما. يرجح خير الخيرين بتفويت أدناهما ويدفع شر الشرين بالتزام أدناهما. درء المفاسد أولى من جلب المصالح. ترتيب المصالح بحسب الأحكام الخمسة عند التعارض. الضرورات مقدمة على الحاجات والحاجات مقدمة على التتمات والتكملات. إذا تساوت المصالح في الحكم والرتبة قدم أعظمها نوعا. إذا اتحد نوع المصلحة والمفسدة كان التفاوت بالقلة والكثرة. المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة.

وكذلك: النفع المتعدي أفضل من القاصر. لا أثر لمفسدة فقد المكمل في مقابلة مصلحة وجود المكمل. المكمل للضروري مقدم على الحاجي. تقديم المصلحة الغالبة على المصلحة النادرة. المصالح والمفاسد الأخروية مقدمة في الاعتبار على المصالح والمفاسد. كل مصلحتين متساويتين يتعذر الجمع بينهما يخير بينهما. [معلمة زايد للقواعد الفقهية: 4/115 : 4/ 268].

ومن الجدير بالذكر أن المعلمة مع كل قاعدة من هذه القواعد تورد صيغا أخرى لها، مع تأصيلها وتطبيقاتها، وقد أودناها مجردة عن ذلك طلبا للتركيز والاختصار، ومن أراد التوسع فليرجع للمعلمة في الموضع المشار إليه منها.

وأحسب أننا لو حكَّمنا هذه القواعد في أي عمل فقهي أو اجتهادي أو سياسي شرعي سيثمر الخير الكثير، ويوفر علينا جهدا ووقتا ومالا، ويحقن دماء، ويعصم نفوسًا، ويحقق مصالح الأمة على المستويات جميعًا، لكن الأمر ليس سهلا، وإنما يحتاج إلى دربة ومران، ويحتاج إلى عقل مرن ونفس واسعة تستوعب أن تفوت بعض المصالح لجلب الأعلى منها، وتحتمل بعض المفاسد لتدرأ ما هو أكبر.

المبحث الرابع: فقه المآلات:

من أخطر أنواع الفقه التي يجب على الفقيه أو المفتي أو حتى القاضي رعايتها هو فقه المآلات؛ إذ قد يكون الحكم واجبًا ويتحول إلى محرم أو مكروه أو مباح بالنظر إلى المآلات التي سيتمخض عنها تنفيذ الحكم، وقد يكون حراما ويصبح واجبا أو مستحبا أو مباحا بالنظر كذلك إلى المآلات التي سؤول إليها تطبيق الحكم، ومن هنا كانت رعاية المآلات من الأركان الأساسية في صحة الفتوى والقضاء والحكم الشرعي.

“والمآلات تعني اجتهاد الفقيه أو المجتهد في توقع ما تؤول إليه الأفعال أو الأحكام أو الفتاوى أو المواقف، وهو نوع من أنواع دراسة المستقبل، والموازنة بين ظاهر الحال وبين النص وبين النتائج المترتبة على الفعل أو المترتبة على الترك”. [من محاضرة للدكتور سلمان العودة في اجتماع مجلس الإفتاء الأوروبي حول ” فقه المآلات وأدلته الشرعية “، منشورة على موقع الإسلام اليوم بتاريخ: 12 شعبان 1433هـ].

وفقه المآلات هو حالة من الوعي بالماضي والحاضر والمستقبل، فالاستغراق في الماضي وحده يخرج الإنسان خارج إطار الواقع فضلا عن المستقبل، واستغراق الفرد في الواقع وجزئياته يعميه عن إدراك المستقبل، ويقعده عن التفكير المستقبلي لدعوته وأمته، والاستغراق في المستقبل دون الوعي بالماضي والحاضر هو خيالات وأوهام لا يقوم عليها شيء، وهذا ينطبق على الجماعات والأمم انطباقه على الأفراد.

وهو فقه لا يحتاج إليه الفقيه فقط، بل يحتاج إليه المفتي والمجتهد والحاكم والقاضي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والنفسي والتجريبي، وتحتاجه الأسر والمجتمعات والهيئات والمؤسسات والجماعات والأحزاب والجمعيات، وغيرها.

والشريعة لا تقتصر في اعتبار المآلات على ما هو متحقق وواقع بالفعل فقط بل يمتد نظرها إلى ملاحظة ما يتوقع في ثاني الحال أيضا؛ لذا يمثل الطريق الوقائي العلاجي جناحي الاجتهاد المآلي؛ انطلاقا من ضوابط محددة تضمن سلامة ذلك الاجتهاد. [اعتبار المآلات ونتائج التصرفات لعبد الرحمن السنوسي: 469].

ولقد تنبه الإمام الشاطبي لخطورة المآلات وأهمية اعتبارها فقال في كلام مفصَّل منضبط: “النظر في مآلات الأفعال مُعْتَبَرٌ مَقْصُودٌ شَرْعًا، سواءٌ كانت الأفعال موافقةً أو مخالِفَةً، وذلك أنّ المجتهد لا يحكم على فعلٍ من الأفعال الصادرةِ عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلاّ بعد نَظَرِهِ إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، فقد يكون مشروعًا لمصلحةٍ فيه تُسْتَجْلَبُ، أو لمفسدةٍ تُدْرَأُ.. ولكنّ له مآلًا على خلاف ما قُصِدَ فيه. وقد يكون غيرَ مشروعٍ لمفسدةٍ تنشأ عنه، أو مصلحة تندفع به، ولكنَّ له مآلًا على خلاف ذلك، فإذا أُطْلِقَ القول في الأول بالمشروعية، فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعًا من إطلاق القول بالمشروعية. وكذلك إذا أُطْلِق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدةٍ تساوي أو تزيد، فلا يصحُّ إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجالٌ للمجتهد صَعْبُ الْمَوْرِد، إلا أنه عَذْبُ المذاق، مَحْمُودُ الغِبِّ، جارٍ على مقاصد الشريعة”. [الموافقات: 5/177-178].

وقد أورد الإمام الشاطبي عددا من الأحاديث النبوية الجزئية الصحيحة للتدليل على اعتبار المآلات، ومن ذلك الحديث حين أشير عليه بقتل من ظهر نفاقه فقال – صلى الله عليه وسلم -: “أخاف أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه”.

وقوله: “لولا قومك حديث عدهم بكفر لأسست البيت على قواعد إبراهيم”. قال: بمقتضى هذا أفتى مالك الأمير حين أراد أن يرد البيت على قواعد إبراهيم، فقال له: لا تفعل لئلا يتلاعب الناس ببيت الله. هذا معنى الكلام دون لفظه.

وفي حديث الأعرابي الذي بال في المسجد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتركه حتى يتم بوله وقال: “لا تزرموه”. وحديث النهي عن التشديد على النفس في العبادة خوفا من الانقطاع.

ثم قال الشاطبي: “وجميع ما مر في تحقيق المناط الخاص مما فيه هذا المعنى حيث يكون العمل في الأصل مشروعا، لكن ينهى عنه لما يؤول إليه من المفسدة أو ممنوعا، لكن يترك النهي عنه لما في ذلك من المصلحة، وكذلك الأدلة الدالة على سد الذرائع كلها، فإن غالبها تذرع بفعل جائز، إلى عمل غير جائز فالأصل على المشروعية، لكن مآله غير مشروع، والأدلة الدالة على التوسعة ورفع الحرج كلها، فإن غالبها سماح في عمل غير مشروع في الأصل لما يؤول إليه من الرفق المشروع، ولا معنى للإطناب بذكرها لكثرتها واشتهارها”. [الموافقات: 5/ 180-182].

والحق أن مبدأ اعتبار المآلات من أهم القواعد التي يتأسس عليها علم مقاصد الشريعة؛ وذلك لما يمتاز به من خصائص الغائية والواقعية واستهداف الموازنة بين المصالح والمفاسد، ولا شك أن هذه العناصر هي المحاور الجوهرية التي ينطلق منها النظر في مقاصد التشريع … والاجتهاد الذي يهمل ملاحظة المقاصد ولا يعتبر مآلات التصرفات: هو في حقيقته جهد غير مكتمل وقد يقع صاحبه في مناقضة مقاصد الشرع، ويتسبب في إحداث المفاسد التي تنزهت الشريعة المطهرة عنها. [اعتبار المآلات ونتائج التصرفات: 468-469].

وهذا الفقه يبنى على أكثر من نظر: الأول: على معرفة الواقع القائم وأبعاده وأسبابه ومحاولة توصيفه وتكييفه. والثاني: على معرفة الحكم الأصلي الملائم بميزان الشريعة، والثالث: على النظر الطارئ في مدى مناسبة حكم أو آخر؛ لأن المسألة قد يتنازعها أكثر من حكم لتطبيقه على الواقعة. [سلمان العودة: مرجع سابق].

وفقه المآلات يمكن أن يوظّف في ابتكار حلول وأسباب وسياسات ونماذج وليس فقط كما يظن البعض في تأجيل حكم من الأحكام الشرعية، وهذا ما نحتاجه في واقعنا المعاصر.

 

أولاً: قواعد المآلات ومسالك كشفها وشرائطها:

أما عن قواعد المآلات ومسالك الكشف عنها، وضوابط اعتبارها فلا نفصل القول فيها هنا، وإنما نذكرها على سبيل الإجمال، ونحيل للتوسع فيها على رسائل متخصصة.

فللمآلات قواعد تضبطها، منها قاعدة سد الذرائع، وقاعدة الحيل، وقاعدة الاستحسان، وقاعدة مراعاة الخلاف، وقاعدة القواعد المشروعة بالأصل لا ترفعها العوارض الخارجية، وقاعدة تقييد الشخص في استعمال حقه. [راجع في تفصيل القول في هذه القواعد وصلتها بالمآل: أصل اعتبار المآل بين النظرية والتطبيق للدكتور عمر جدية: 125، وما بعدها. طبعة دار ابن حزم].

كما أن لها مسالك للكشف عنه، ومنها: الإقرار أو التعبير الصريح عن مآل الفعل، والفراسة والأمارات، واعتبار العادة الغالبة وفق السنن الإلهية في الخلق، واعتبار كثرة قصد الناس بمقتضى العادة. [أصل اعتبار المآل: 53، واعتبار المآلات ونتائج التصرفات: 380، وما بعدها].

ولها شروط ضابطة لاعتبار المآل، هي: الإلمام بمقاصد الشريعة الإسلامية، وفقه الواقع، ومعرفة أحوال المكلفين، وفقه السنن الإلهية. [أصل اعتبار المآل: 55، وما بعدها].

ثانياً: أنواع المآلات ومراتبها:

للمآلات أنواع ومراتب لم تأخذ حقها من التأصيل والتفصيل والتطبيق حتى ىلآن، وهذه الأنواع والمراتب لها أهميتها الدقيقة وانعكاساتها القوية على الاختيارات والترجيحات والتصرفات.

وللدكتور سلمان العودة حديثا عامًّا عن مراتب المآلات في مرجع سبقت الإشارة إليه، قال: إن بعض الباحثين ذكروا ثلاث مآلات أو ثلاث مراتب، الأولى: المآلات قطعية التحقق، والثانية: ظنية التحقق، والثالثة: نادرة التحقق، ورأى أن يُضيف مرتبة رابعة وهي “محتملة التحقق”.

واعتبر أنها من أكثر المراتب ظهوراً وحضوراً وأشدها إشكالاً؛ إذ لابد فيها من الترجيح ومعظم القضايا يصعب على الإنسان أن يجزم فيها أو حتى أن يظن ظناً قوياً راجحاً، فيحتاج الأمر إلى مزيد من البحث والدراسة ، وأيضاً الحوار ما بين المختصين في جانب معيّن حول جدية المخاطر وحول التحديات والحاجات والضروريات، بمعنى رسم استراتيجيات المستقبل وليس فقط انتظار المشكلات حتى تقع ثم البحث لها عن حلول”. [سلمان العودة: مرجع سابق].

ويمكننا تقسيم المآلات إلى عدة تقسيمات بالنظر إلى الجهات والحيثيات التي ينطلق منها التقسيم كل تقسيم، على النحو الآتي:

1ـ من حيث درجة تحققها، تنقسم إلى: مآلات قطعية، ومآلات ظنية، ومآلات نادرة، ومآلات محتملة: فالقطعية هي التي نقطع بتحققها من خلال المسالك المقررة سلفا، فلا يوجد فيها أدنى درجة من درجات الشك. والظنية هي التي يغلب الظن أن تتحقق، ويبقى احتمال عدم تحققها واردا، لكن في الغالب تحدث. والنادرة هي التي يكون الأصل فيها عدم الوقوع، ويبقى وقوعها قليل من قليل، ويبنى الفعل أو التصرف والحكم فيها على أنها لن تقع. والمحتملة هي التي ينبغي أن تكون في الحسبان، واحتمالية تحققها أعلى من المآلات النادرة، فهي في درجة أعلى منها، وفيها ينبغي أن نجري أحكامنا واختياراتنا وتصرفاتنا وهي ضمن احتماليات التحقق.

2ـ من حيث الشمول والعموم تنقسم إلى: كلية وجزئية أو عامة وخاصة: فالكلية أو العامة هي التي تشمل كليات الدوائر المختلفة، مثل المؤسسات والهيئات والوزارات والدول. بينما الجزئية أو الخاصة فهي التي تشمل قطاعات أو أجزاء من هذه الدوائر، ولا تشمل الدائرة كلها.

3ـ من حيث زمن تحققها تنقسم إلى: مآلات قريبة، ومآلات بعيدة: فالمآلات القريبة هي التي تتحقق في المدى المنظور قصير الزمن، وقصر الزمن هنا نسبي حسب النظر المستقبلي لأمر ما، فقد يقاس بالأيام أو الشهور أو السنين. وأما المآلات البعيدة فهي التي تتحقق في المدى البعيد طويل الزمن، فليس منتظرًا أن يتحقق في الزمن المنظور وإنما يحسب بالعقود والأجيال.

4ـ من حيث قوة الأثر تنقسم إلى:مآلات قوية الأثر، ومآلات ضعيفة الأثر: فالمآلات قوية الأثر هي التي تفعل فعلها وتعمل عملها، وتكون آثارها ظاهرة سواء كانت في الفرد أو المجموع. أما المآلات ضعيفة الأثر فهي التي يكون فعها ضعيفا لا ينهض للاعتبار القوي، ومن ثم يمكن أن يكون احتسابه ضعيفا.

5ـ من حيث الظهور والخفاء تنقسم إلى: مآلات ظاهرة، ومآلات خفية: فالمآلات الظاهرة هي التي تتسم بالوضوح ولا تحتمل الشك ولا الغبش. والمآلات الخفية هي التي يعاني المكلَّف حتى يراها ويقع عليها أو يتلمسها.

6ـ من حيث الاطراد وعدمه تنقسم إلى: مآلات مطردة، ومآلات غير مطردة: فالمآلات المطردة هي التي لا تتخلف أبدًا، بالنظر إلى الفعل إذا وقع، وهذا يضبطه العادات أو ما اعتاده الناس، والسنن الكونية. والمآلات غير المطردة أو المتخلفة، فهي التي تتخلف في بعض الصور، ولا تحدث دائما حتى لو وقع الفعل أو التصرف.

هذه الأنواع جميعا أو المراتب تحتاج إلى مزيد حديث، تأصيلا وتطبيقا وتفعيلا، وهذا ليس مجاله الآن، وحسبنا فقط أن نعرف أيها يقدم وأيها يؤخر، أيها يعتبر وأيها لا يعتبر، أيها يحسب له حساب وأيها لا يقام له حساب .. عند الفتوى والاجتهاد والتنزيل والاختيارات والتصرفات.

ثالثاً: ترجيح المآلات عند التعارض:

الحديث عن تعارض المآلات حديث متشابك ومركب؛ إذ الحديث عن المآلات وحدها أمر شائك وصعب المورد، فإذا انضاف إليه الترجيح المستقبلي بين متعارضات هناك كان الأمر أكثر صعوبة، وأشد تشابكا!.

ولا شك أن قواعد الموازنة بين المصالح والمفاسد ستعمل هنا بكامل هيئتها، فهي جزء من عملية ترجيح المآلات التي تتكون من فقه المصلحة وقواعدها، وفقه المآلات وقواعدها.

يقول د. سلمان العودة: هناك ثلاثة مراتب تتعلق بالأحكام، الأولى: المستوى الأصلي السالم من المعارضة، مثل مشروعية النكاح حفظاً للجنس البشري كحكم عام وإمضاءً للفطرة أو تحريم السرقة كقطعية من قطعيات الشريعة، والثاني: هو المستوى التبعي بالنظر إلى اعتبار الإضافات والشروط كوجوب النكاح لمن خشي العنت وقدر على النكاح، وكذلك درء الحد عن شخص معين لشبهة عرضت، فهذا مستوى تبعي نُظر فيه إلى عدم توفر الشروط، أما الثالث: فهو المستوى الاستثنائي، وهو الذي يقتضي توقف الحكم أو استبداله بحكم آخر أو استبدال حكم آخر به لعارض طارئ قد يطول أو يقصر، كإبطال الحد عام الرمادة، وهذا محل خطورة من حيث أهميته وضرورته؛ إذ إن إبطال الحد أو إيقاف تنفيذه هو خاص بالحاجيات المتعلقة بالمجاعة، فلو أن الناس سرقوا شيئاً آخر مما لا يؤكل لدافع السرقة المحضة، ما كان عمر -رضي الله عنه- سيوقف عنهم الحد. [سلمان العودة: مرجع سابق].

وبالنظر إلى الأنواع والمراتب التي تحدثنا عنها سابقا، فالمآلات القطعية تقدم على الظنية والنادرة والمحتملة، والمآلات الظنية تقدم على النادرة والمحتملة، وهكذا.

والمآلات الجماعية تقدم على الفردية، والمآلات الكلية أو العامة تقدم على الجزئية أو الخاصة، والمآلات قوية الأثر تقدم على ضعيفة الأثر، والظاهرة تقدم على الخفية، والمطردة تقدم على التي تتخلف في بعض صورها.

وقد وضعت الشريعة نظاما يسيِّر الأمور على النسق الصحيح، كما يقول بحق د. عبد الرحمن السنوسي: “استقراء تصرفات الشريعة في مصادرها ومواردها يهدي إلى منهج دقيق للغاية في الموازنة والترجيح بين المصالح والمفاسد من شأنه أن يضمن استقرار شؤون الأمة وانتظام أمورها على أحسن الأحوال وأفضلها”. [اعتبار المآلات ونتائج التصرفات: 469].

إن هذه الأنواع من الفقه التي نسميها “الفقه الحي”، أو “فقه الفقه” كما يقول الزركشي بحق في البحر المحيط، لا غنى للفقيه عنها، ولا غنى للمفتي ولا للحاكم ولا للقاضي، ولا للمختصين في العلوم الإنسانية … وإذا كان الأمر كذلك فإن حاجتنا تشتد إلى اعتبار هذه القواعد الضابطة والحاكمة فيما نحياه الآن من حراك كبير وأحداث ضخمة، وظواهر اجتماعية كبرى، ستتمخض – يقينا – عن تحول كبير في جسد الأمة قد تتشكل به أنساق دولية جديدة وتحالفات جديدة وأشكال للعالم والمنطقة جديدة.

ولن يسعفنا مع هذه الأحداث إلا الاستنجاد بهذه “المنظومة الفقهية”، تلك المنظومة التي تضم إلى النص الوعيَ بالواقع بما يتطلبه من فقه الحادثة وفقه المصالح والمفاسد والقواعد الضابطة لهما، وفقه المقاصد الذي يرشد السير ويضبط وجهة الحراك، وبما يوفِّر الوعيُ به من إدراك للمآلات بأبعادها ومعالمها.

خاتمة: في بيان منهجية الوصول للضبط والترشيد

كانت هذه إشارات ومقدمات أصولية في فقه النص الشرعي، وأنواع من فقه الوعي بالواقع وفق ضوابط شرعية وقواعد فقهية من شأنها أن تعيننا على التطبيق الصحيح للشريعة، والتنزيل الدقيق للأحكام، ولن يتحقق هذا إلا بمنهجية معينة.

تتلخص هذه المنهجية في اجتماع أهل الشرع وأهل الخبرة، ففي نوازل الأمة الكبرى التي تتجاوز الشأن الفردي إلى الشأن الجماعي والأممي لابد من صدور أحكام الشريعة بعد اجتماع الفقهاء والخبراء في كل تخصص.

فأحكام الشريعة الإسلامية أو أحكامها التكليفية لا تتحرك في فراغ، ولا تطير في الهواء، وإنما تتحرك في واقع يكتنفه الخطاب الوضعي، بتوفر أسبابه وتحقق شروطه وانتفاء موانعه، ولن يستطيع الفقهاء أن يصدروا عن حكم شرعي إلا إذا رفع الواقعَ أمامهم بأمانة وشمول أهل الخبرة بكل مجال وكل تخصص.

فإذا كانت النوازل المطلوب فيها حكم الشرع تتصل بمجال الاقتصاد فيجب أن يجلس أهل الاقتصاد مع أهل الشرع ويبصروهم بالواق حتى يكون تنزيل الحكم على بصيرة.

وإذا اتصلت المستجدات بمجال السياسة فلابد أن يجلس أهل السياسة إلى أهل الشرع ويضحون لهم واقع السياسة ومفردات المستجد، من نواحيه جميعا: محلية وإقليمية ودولية.

وإذا كان يتصل الأمر بمجال الطب فلابد أن يكون هناك حوار بين أهل الطب وأهل الشرع، ثم ينزل الفقهاء أحكام الشريعة على هذه النوازل بعدما يتبصرون بها ويحيطون بجوانبها ويفهمون معالمها.

يقول العلامة المحقق ابن قيم الجوزية: “ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما. وثانيهما: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان قوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر؛ فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرا؛ فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله”. [إعلام الموقعين: 1: 69].

وقال: “فالواجب شيء والواقع شيء، والفقيه من يطبق بين الواقع والواجب، وينفذ الواجب بحسب استطاعته، لا من يلقى العداوة بين الواجب والواقع، فلكل زمان حكم، والناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم”. [إعلام الموقعين: 4: 169].

عندئد – وعندئذ فقط – يكون الوعي بالواقع من خلال خبرائه ومختصيه مؤديًا إلى التنزيل الصحيح للحكم الشرعي عليه؛ إذ الحكم على الشيء فرع عن تصوره كما يقول المناطقة، والفقيه الحق هو من يطبق بين الواجب والواقع. كما نقلنا عن العلامة ابن القيم، رحمه الله (2).

—————————-

الهامش

(1) من مقال للكاتب بتصرف واختصار، في مجلة الأزهر بعنوان: الفكر المقاصدي وتفعيله في الواقع الثوري المعاصر.

(2) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.

 

د. وصفي عاشور أبو زيد

مفكر إسلامي مصري، دكتوراه في مقاصد الشريعة الإسلامية، جامعة القاهرة، حصل على عدد من الإجازات العلمية في القرآن الكريم والفقه والأصول وكتب السنة ومؤلفاتها

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى