استراتيجيات الدول الصغرى في مواجهة القوى الكبرى
الوضع الغربي في سوريا، أبريل 2018، أخذ شكل ضربة عسكرية محدودة، وهذا في النهاية شكل من أشكال التدخل العسكري الذي تمارسه الدول الكبرى ضد القوى الأقل منها مكانة في هرمية النسق الدولي، وقد أضيف هذا التدخل الى سلسلة من التدخلات العسكرية عبر التاريخ المعاصر، فلو توقفنا مثلا عند الخمس عشر سنة الأخيرة سنجد مجموعة من التدخلات العسكرية ومنها التدخل العسكري الأمريكي في العراق والتدخل العسكري الروسي في جورجيا وأوكرانيا والتدخل العسكري الغربي في ليبيا ثم التدخل العسكري الغربي في سوريا.
وعادة ما تميل الدول الضعيفة الى التركيز على التحليل القانوني للسلوك العسكري للدول الكبرى وتتهمه بأنه سلوك غير شرعي، مع أن الدول الكبرى لا تراعي كثيرا الجوانب القانونية في سلوكها وخصوصا في جانبه العسكري بغض النظر عن المبررات الوهمية التي تسعى لتجميعها لتبرير تدخلها, لذا فان التفكير العقلاني يقتضي البحث عن أفضل الاستراتيجيات التي من خلالها يمكن للدول الصغيرة والمتوسطة من أن تتجنب التهديدات العسكرية للدول الكبرى، وأكثر من اهتم بهذا الموضوع هم علماء العلاقات الدولية المنتسبين الى المنظور الواقعي العلاقات الدولية والذين يقترحون مجموعة من الاستراتيجيات.
أولا: استراتيجية مسايرة الركب
يعتقد “كينيث والتز” أن أفضل استراتيجية لحماية الأمن القومي للدول هي استراتيجية توازن القوة والتي تعني قدرة الدولة على امتلاك قدرات عسكرية تحقق لها وضع التوازن مع بيئتها الخارجية، وتكون هذه الاستراتيجية أكثر سهولة للتطبيق بالنسبة للدول الكبرى باعتبار امتلاكها لقدرات عسكرية كبيرة، ولأن الدول الصغيرة والمتوسطة لا تستطيع تحقيق وضع التوازن مع الدول الكبرى نظر لقدراتها المحدودة فان كينيث والتز يقترح استراتيجية ذات طابع سياسي أكثر منها عسكري ” وهي استراتيجية “مسايرة الركب” لتجنب التهديدات العسكرية لتلك الدول.
وتقوم هذه الاستراتيجية على عدم الاعتراض على السياسات التي تمارسها الدول الكبرى لتحقيق مصالحها حتى وان كانت لها تداعيات سلبية في منطقة معينة، وأن الاعتراض على تلك السياسات يتولد عليه مثل ما يقول “والتز” عقوبات من النظام الدولي، وهذه العقوبات توقعها سياسات القوى الكبرى، بحكم أنها هي التي تصنع بنية هذا النظام وبذلك تصبح استراتيجية مسايرة الركب استراتيجية مفروضة على الدول الصغيرة والمتوسطة لتجنب التهديدات العسكرية للقوى الكبرى.
وقد بررت دول عربية مثل العراق (في مرحلة صدام حسين)، وليبيا في مرحلة معمر القذافي) وسوريا في المرحلة الراهنة الاستهداف الغربي، بكون هذه الدول لم تمارس استراتيجية مسايرة الركب اتجاه الدول الغربية الكبرى حيث تصادمت مخرجات سياسات هذه الدول كثيرا مع مضمون السياسات الغربية وهو ما جعلها محل استهداف من طرف هذه القوى، ويعتبر هذا بالنسبة لهذه الدول والمؤيدين لسياساتها موقف سياسي في حين يترجمه الأكاديميون بكون هذه الدول لم تندمج في استراتيجية مسايرة الركب وهو ما عرضها لعقوبات النظام الدولي والذي تسيطر عليه توجهات الدول الغربية الكبرى.
ثانياً: استراتيجية توزان المصالح
يرى “راندل شويللر” ورواد الواقعية النيوكلاسيكية بصورة عامة أن استراتيجية مسايرة الركب ليست استراتيجية مفروضة على الدول الصغيرة والمتوسطة على أساس عجزها عن تحقيق توازن قوى مع الدول الكبرى وأن هذه الدول يمكنها تجنب تهديدات الدول الكبرى من خلال تطبيق استراتيجية أخرى، هي استراتيجية “توازن المصالح”، عن طريق توظيف الدول الصغيرة والمتوسطة لما يسميه “شوييللر” بالقوة المعنوية، وهي القوة التي يمكن من خلالها إضفاء الشرعية أو نزعها عن سياسات القوى الكبرى في منطقة معينة.
ومن الممكن في هذا السياق تذكر تطورات السياسة الخارجية المصرية اتجاه الدول الغربية، فالرئيس جمال عبد الناصر اختار سياسة التصادم، والتي لم تسعفه في تجنب الاستهداف الغربي، ثم جاء الرئيس محمد أنور السادات والذي طبق استراتيجية توازن المصالح حيث استخدم “القوة المعنوية” في إضفاء الشرعية على فكرة السلام العربي الإسرائيلي والتي كانت مطلباً ملحاً للدول الغربية في المنطقة، وهي أيضا لم تسعفه مع مرور الوقت في تجنب الاستهداف الشخصي، ثم جاء الرئيس محمد حسني مبارك والذي طبق استراتيجية ” مسايرة الركب” والتي لم تسعفه أيضا في توفير الحماية الغربية.
ثالثاً: استراتيجية التحالف
يقترح “جلين سنايدر” استراتيجية أخرى لتجنب التهديدات العسكرية وهي “استراتيجية التحالف”، ويرى سنايدر أن هذا التحالف بالنسبة للدول الصغيرة والمتوسطة يأخذ شكلين، فإما أن تنضم الدولة إلى تحالف عسكري تقوده قوة كبرى أو أن ترتبط باتفاقية دفاع مشترك مع دولة كبرى لكن خبرة تقييم التحالفات تشير الى اختلال هذه الاستراتيجية، فالتحالفات لا تتوفر من جهة على ضمانات لاستمرارها مثل ما حدث لحلف وارسو، وقد لاحظنا ان بعض الدول التي انتمت لهذا الحلف قد تعرضت لتدخلات عسكرية قاسية مثل ما حدث مع صربيا سنة 1999، كما أن الدول الكبرى لا يمكن أن تتصادم مع بعضها البعض من أجل دول صغيرة فعلى سبيل المثال وقعت الولايات المتحدة اتفاقية دفاع مشترك مع تايوان سنة 1950 لكن بمجرد تبني سياسة التقارب مع الصين تم التخلي عن تفعيل تلك الاتفاقية.
رابعاً: استراتيجية توازن التهديد
تبدو هذه الاستراتيجية التي يقترحها “ستيفن والت” هي الأكثر فعالية للتطبيق كما هو ظاهر سلوك الدول التي تطبيقها بفعالية مثل كوريا الشمالية وإيران، وتقوم هذه الاستراتيجية على ضبط مصادر التهديد الأساسية – وهي في هذه الحالات الدول الغربية – مع تطوير قدرات تسمح لها باستهداف مصالح حيوية لتلك الدول وهو ما يشكل عامل رادعا يمنع حصول الاستهداف، إذ بالرغم من الفارق الشاسع بين قدرات الولايات المتحدة وقدرات كل من إيران وكوريا الشمالية إلا أن هاتين الدولتين نجحتا في تطبيق استراتيجية توازن التهديد بفعالية مما جنبهما حتى الآن أي استهداف عسكري غربي، بالرغم من تصنيفهما من طرف الدول الغربية على أنهما دولتان تعملان على تهديد الاستقرار الدولي.
إن استراتيجية ” توازن التهديد ” توفر ميزتين بالنسبة للدول الصغرى والمتوسطة في سياق محاولة تجنبها للتهديدات العسكرية للدول الكبرى، أما الأولى فهي أن هذه الاستراتيجية تركز على عامل الإدراك وليس فقط على القدرات التي تحوزها الدول بمعنى أن الدول الصغرى والمتوسطة من الممكن أن تتلاعب بادراك الدول الكبرى وتجعلها لا تغامر باستهدافها عسكريا حتى مع عدم امتلاك قدرات عسكرية فعلية لمواجهتها، أما الميزة الثانية فهي أن استراتيجية توازن التهديد ترتبط بالقدرة على إلحاق الأذى وليس بتحقيق توازن قوة شامل، بمعنى حتى مع وجود فوارق في القدرات العسكرية تستطيع الدولة أن تتجنب التهديدات العسكرية في حالة ما إذا استطاعت تطوير قدرات تلحق الأذى بمصالح حيوية للدول الكبرى بالشكل الذي يجعل هذه الأخيرة تتجنب الاستهداف العسكري تخوفا من التداعيات.
ختاماً:
كان لعلماء العلاقات الدولية إسهامات متعددة متعلقة بطرح استراتيجيات لحماية الأمن القومي للدول الصغرى، وقد لاحظنا عبر الشواهد التاريخية أن الدول الصغيرة والمتوسطة قد طبقت هذه الاستراتيجيات بغض النظر عن اطلاعها على خلفيتها الأكاديمية، وبالنسبة للدول العربية فقد تعرضت مرات عديدة للتدخلات العسكرية للدول الغربية، منذ نهاية الحرب الباردة وحتى اليوم، ولذا فإنها مطالبة باستمرار بالبحث عن أفضل الاستراتيجيات التي تجنبها الاستهداف العسكري (* ).
المراجع
1/Stephen M. Walt, “Testing Theories of Alliance Formation : The Case of Southwest Asia,” International Organization. 42, no. 2 (1988)
2/Snyder, Glenn H. Alliance politics.( Ithaca: Cornell University Press, 1997 ).
3/Schweller, Randall L. ʺBandwagoning for Profit : Bringing the Revisionist State Back In .ʺ International Security, Vol. 19, No. 1 (Summer, 1994)
4/ Kenneth N.Waltz.Theory of International Politics.(U.S.A : Addison-Wesly Company.1979)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) الآراء الواردة تعبر عن كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المعهد المصري للدراسات