fbpx
سياسةالسياسات العامة

مشروع التأمين الصحي الشامل في مصر

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

يُعد مشروع التأمين الصحي الشامل من أهم المشروعات التي داعبت طموحات وأحلام المصريين خلال العقود الماضية، وهو ما استغله الساسة من أجل تحقيق مكاسب وقتية عبر وعد المواطنين بأنهم باتوا على أعتاب تحقيق حلمهم في الحصول على خدمة طبية جيدة، ومع اندلاع ثورة الخامس والعشرون من يناير 2011 واشتعال هتافات العدالة الاجتماعية ازدادت توقعات الشعب المصري، واعتقد أنه قريب من الحصول على حقوقه الأساسية وفي مقدمتها الحق في الصحة، بعد أن عانى لعصور من سوء الخدمة في المستشفيات الحكومية والاستغلال في المستشفيات والعيادات الخاصة، وعانى أيضا من التمييز الوظيفي والاجتماعي، وهو يرى كبار رجال الحكومة يعالجون بالخارج وعلى نفقة الدولة بالرغم من أن لديهم نظم تأمين متطورة بالداخل تتيح لهم ولكثير من العاملين بالهيئات الحكومية السيادية العلاج بالمستشفيات الخاصة المتميزة داخل مصر.
وبعد أن ملأ ضجيج التأمين الصحي آذان المصريين من مبارك إلى السيسي بأن مصر بصدد تطبيق نظام جديد للتأمين له هيكل قانوني وهيئات محددة ومصادر مستدامة للتمويل ويغطي كافة المصريين وكافة الأمراض وخدمات الطوارئ، صدر في ديسمبر 2017قانون التأمين الصحي الشامل، وفي الخامس من مايو2018 صدرت اللائحة التنفيذية للقانون، وحتى الآن لم يتم البدء في تنفيذه بالرغم من أن الرئيس المصري أصدر في الخامس من يوليو قرارا بإطلاق المرحلة الأولى من تنفيذ القانون.
وفي هذه الورقة يحاول الباحث التعرف على التجارب السابقة لمشروع القانون وأوجه التشابه والاختلاف مع المرحلة الحالية، كما يحاول تقديم رؤية تحليلية لعدة إشكاليات مهمة وهي (الإشكالية المرتبطة بفلسفة المشروع، والإطار التشريعي ومرجعية الإطار القانوني له في ضوء دستور 2014 – الإشكالية المرتبطة بالتمويل وتنوع مصادر الدخل – إشكالية العدالة الاجتماعية – الإشكالية المرتبطة بالتنفيذ –إشكالية العلاقة بين القطاعين العام والخاص في القطاع الصحي).

أولا: التجارب السابقة

1 – قانون التأمين الصحي الشامل في عهد مبارك:

في حديثه بأحد البرامج الحوارية أكد أحمد عماد الدين راضي وزير الصحة السابق أن حاتم الجبلي وزير الصحة الأسبق عندما عرض الدراسة الإكتوارية لتطبيق مشروع قانون التأمين الصحي الشامل قالت له القيادة السياسية: “نكتفي بما حققته من تطوير في مجال الإسعاف ولا حديث لتطبيق هذا القانون حاليا”، لعل هذه المقولة المفتاحية توضح حقيقة مهمة جدا، وهي أن كل ما كان يقال عن القانون في عهد مبارك لم يكن يحمل الطابع الجدي من الدولة، وأن التصريحات المتضاربة لوزير المالية الأسبق يوسف بطرس غالي والذي كان يؤكد دوما أن الدولة ملتزمة بتطبيق القانون وبالتمويل دون تحميل المواطنين أعباء جديدة،ثم يناقض نفسه في تصريحات أخرى ويقول : ليس هناك أموال لتطبيق القانون وليس هناك قدرة على الاستدامة، ثم قام برفض الدراسة الإكتوارية التي أعدها حاتم الجبلي بالرغم من إشراف وزارة المالية على تنفيذها1 .
مع ذلك فإن الخط العام لنظام مبارك من حيث الرؤية والفلسفة لم يكن يختلف عن الخط الحالي في شيء، بل كان الاختلاف في الدرجة والجرأة والظرف التاريخي.

محاولات الخصخصة في عهد مبارك:

اتجهت حكومة نظيف إلى محاولة خصخصة الخدمات الطبية وذلك من خلال الإجراءات التالية:

  •  أصدر رئيس الوزراء في ذلك الوقت المهندس أحمد نظيف عام 2007 قرارا بتحويل هيئة التأمين الصحي إلى شركة قابضة، وهو ما يعني أنها “هادفة للربح”، لكن القضاء الإداري أصدر حكما ببطلان قرار رئيس الحكومة، وجاء في حيثيات الحكم: “إن كفالة الدولة للرعاية الصحية تحول دون أن يكون الحق في الصحة محلا للاستثمار أو المساومة والاحتكار”2 .
  • في مايو 2010 صدر قانون الشراكة بين القطاع العام والخاص رقم 67 لسنة 2010، والذي يخول القطاع الخاص المشاركة في مشروعات البنية التحتية والتعليم والصحة، وصدرت لائحته التنفيذية يوم23يناير 2011، أي قبل يومين فقط من اندلاع ثورة يناير، ليتم تجميد القانون.
  • فلسفة قانون مبارك هي ذاتها الفلسفة التي قام عليها القانون الحالي، حيث ارتكز قانون مبارك على ضرورة فصل الخدمة عن التمويل، وعلى ضرورة الشراكة مع القطاع الخاص، وتمويل الخدمة من الاشتراكات والمساهمات، واقتصار خزانة الدولة على تمويل غير القادرين فقط، ونفس الرجل محمد معيط وزير المالية الحالي كان يشغل سابقا مساعد وزير المالية ورئيس الإدارة الإكتوارية الحكومية لمنظومة التأمين الصحي الشامل في عهد يوسف بطرس غالي، والذي شغل منصب مساعد وزير الصحة للشئون المالية والإدارية، هو الذي يتحدث عن المشروع من حكومة نظيف إلى حكومة مدبولي وكأن شيئا في المنتصف لم يحدث، وأن اليوم هو ابن أول أمس.

2 – القانون بعد ثورة يناير:

تبنت جميع الحكومات التي جاءت بعد ثورة يناير فكرة إنشاء نظام للتأمين الصحي الشامل يعالج تشوهات النظام الحالي، ويؤدي خدمة صحية مُرضية للمواطن، لكن الموضوع لم يخضع للدراسة نظراً لانعدام الاستقرار السياسي والأمني وتلاحق الأحداث، حيث صدرت نسخة في عهد المجلس العسكري، وأخرى في عهد الدكتور مرسي، وصولا إلى نسخة أبريل 2014، وفبراير 2015، قبل أن نصل إلى النسخة الحالية التي وافق عليها البرلمان في نهاية 2017. ويمكن القول إن كل النسخ التي صدرت في الفترة من يناير 2011 وحتى يونيو 2013 يصعب الحكم عليها، نظرا لأنها لم يتم بلورتها، لكن الخط العام لها هو أنها كانت تؤكد على شعار العدالة الاجتماعية كاستحقاق ثوري أنتجته ثورة يناير.

ثانيا: الإشكاليات المرتبطة بالمشروع

1 – إشكالية الفلسفة الحاكمة للمشروع الحالي :

* تنص المادة الثامنة عشر من الدستور المصري على أن لكل مواطن الحق في الرعاية الصحية المتكاملة وفقا لمعايير الجودة، وأن الدولة تكفل الحفاظ على مرافق الخدمات الصحية العامة التي تقد خدماتها للشعب ودعمها والعمل على رفع كفاءتها وانتشارها الجغرافي العادل، والتزام الدولة بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومي للصحة لا تقل عن 3% من الناتج القومي الإجمالي تتصاعد تدريجيا حتى تتفق مع المعدلات العالمية، وتلتزم الدولة بإقامة نظام تأمين صحي شامل لجميع المصريين يغطي كل الأمراض، وينظم القانون إسهام المواطنين في اشتراكاته أو إعفاءهم منها طبقا لمعدلات دولهم3 .
هذا وقد حددت المادة الثانية من القانون الفلسفة والرؤية السياسية التي قام عليها، حيث نصت الفقرة على أن “التأمين الصحي الاجتماعي الشامل نظام إلزامي، يقوم على التكافل الاجتماعي وتغطي مظلته جميع المواطنين المشتركين في النظام، وتتحمل الدولة أعباءه عن غير القادرين بناء على قرار يصدر من رئيس مجلس الوزراء بتحديد ضوابط الإعفاء”.. وجاء بالمادة أيضا : “وتكون الأسرة هي وحدة التغطية التأمينية الرئيسية داخل النظام، كما يقوم هذا النظام على أساس فصل التمويل عن الخدمة، ولا يجوز للهيئة تقديم خدمات علاجية أو الاشتراك في تقديمها “ 4.
يتضح ما سبق أن القانون حول المشروع من إلزامية الدولة كما جاء بالدستور إلى إلزامية الفرد والمجتمع وهو خروج سافر ومخالفة واضحة لأحكام المادة الثامنة عشر من الدستور سالفة الذكر.
وقد أقرت الدولة أن القانون سيكون على غرار النظام البريطاني للتأمين الصحي والذي يمول كليا من الموازنة العامة للدولة التي يتم تحصيل معظمها من رواتب الموظفين والعمال، لكن ما جاء بالدستور والقانون تحدثت عن النظام التكافلي الذي أقرته منظمة الصحة العالمية والقائم على تمويل الدولة وتحصيل اشتراكات من المواطنين، ثم انقلب القانون على هذا النظام أيضا ولم يلتزم بما جاء في الدستور وتوسع في مصادر التمويل، وهو ما سنوضحه عند الخوض في جزئية “مصادر التمويل”، ومن ثم نجد أنفسنا أمام النسخة الأكثر شراسة والأكثر بعداً عن كل أفكار العدالة الاجتماعية والتشارك المجتمعي وإنسانية الخدمة الطبية ودور الدولة الأساسي والمحوري في تأدية هذه الخدمة.
ويتجه هذا النظام إلى الانفتاح على القطاع الخاص وذلك من خلال فصل الخدمة عن التمويل وإنشاء هيئة للجودة والاعتماد تكون وظيفتها اعتماد المستشفيات المتنافسة ولا تفرق بين ما هو حكومي وما هو خاص على أن يقتصر دور وزارة الصحة فقط على تأهيل المستشفيات الحكومية للحاق بركب المستشفيات الخاصة.
يفتح هذا الاتجاه الباب على مصراعيه للاستثمار الخارجي في القطاع الصحي، كما هو الحال في مجال الدواء وذلك من خلال دخول مستشفيات أجنبية للسوق المصري نظرا لتحرير الخدمات الصحية وإتاحتها وفق ضوابط السوق والتسعير الذي يشترك في تحديده ممثلين للقطاع الخاص، وهو ما حدث بالفعل من خلال دخول مجموعة أبراج كابيتال الإماراتية واستحواذها على 11 مستشفى بمصر، منها مستشفى كليوباترا والنيل بدراوي والقاهرة التخصصي والشروق5 .
ويسعى هذا النظام إلى تحرير الخدمة الطبية تماما حيث ستتحول المستشفيات الحكومية إلى مستشفيات تابعة إلى الهيئة العامة للرعاية الصحية، وهي هيئة مستقلة وتحصل على مقابل الخدمة وفق نفس الأكواد المعمول بها في القطاع الخاص والتي تقررها الهيئة العامة للتأمين الصحي الشامل بتحديد نظم التسعير.
كما أن جعل الأسرة وليس الدولة محور تطبيق القانون يجعل الدولة تتحمل فقط مصاريف علاج غير القادرين، ورب الأسرة يتحمل جميع الأعباء الخاصة بالحصول على الخدمة الطبية.
كذلك فإن تحديد غير القادرين وفق نظرية الحد الأدنى للأجور يجعل الشريحة التي تتحملها الدولة قليلة جدا ولا تزيد – في تقدير الباحث – عن 10 مليون مواطن، وهم المواطنين الذين تشملهم الدولة حاليا من خلال نظام تكافل وكرامة، علما بأن الدولة أعلنت أن غير القادرين سيتجاوز عددهم الـ20 مليون مواطن، وهو أمر غير واقعي، فلو كانت الدولة جادة فعلا لحددت غير القادرين وفق مؤشرات واقعية مرتبطة بالتضخم والقوة الشرائية.

2 – إشكالية مصادر التمويل

الإشكالية الكبرى الممتدة من بطرس غالي وحتى محمد معيط هي مصادر التمويل واستدامتها، ولعل هذا الهاجس هو ما دفع النسخة الحالية من قانون التأمين الصحي إلى التوحش في تنويع مصادر التمويل. فقد أشارت المادة 40 من القانون إلى أن مصادر التمويل تتكون من:
“أولا: حصة المؤمن عليهم والمعالين، وهم الخاضعون حاليا لمظلة الهيئة العامة للتأمين الصحي من العاملين في الدولة والمعاشات إضافة إلى ذويهم ممن يعولونهم.
ثانيا: حصة أصحاب الأعمال: حيث يلتزم أصحاب الأعمال المحددين بقوانين التأمينات الاجتماعية بأداء حصتهم عن اشتراكات العاملين لديهم بواقع 4% شهريا من أجر العامل وبما لا يقل عن خمسين جنيها شهرياً.
ثالثا: المساهمات: وهي عبارة عن رسوم يدفعها المريض نظير تلقي الخدمة وهي كالتالي (الزيارة المنزلية 100 جنيه – الدواء 10% بحد أقصى ألف جنيه وترتفع النسبة إلى 15% في السنة العاشرة من تطبيق القانون –  الإشاعات وكافة أنواع التصوير الطبي (الغير مرتبطة بالأمراض المزمنة والأورام) 10% من إجمالي القيمة – التحاليل الطبية والمعملية (الغير مرتبطة بالأمراض المزمنة والأورام) 20% بحد أقصى ألف جنيه للحالة – الأقسام الداخلية (فيما عدا الأمراض المزمنة والأورام) 7% بحد أقصى ألف وخمسمائة جنيه للمرة الواحدة.
رابعا: عائد استثمار أموال الهيئة.
خامسا: التزامات الخزانة العامة عن غير القادرين: حيث تتحمل الخزانة العامة للدولة عن غير القادرين نسبة 5% من الحد الأدنى للأجور المعلن عنها بالحكومة على المستوى القومي .
سادسا: مقابل الخدمات الأخرى التي تحددها الهيئة بخلاف ما يتضمنه هذا القانون وذلك وفقا لما يحدده مجلس إدارتها.
سابعا: المنح الخارجية والداخلية والقروض التي تعقدها الحكومة لصالح الهيئة.
ثامنا: الهبات والإعانات والتبرعات والوصايا التي يقبلها مجلس إدارة الهيئة.
تاسعا: مصادر أخرى، وتوضيحها في الجدول التالي6 :

القيمة

البيان

نصف جنيهاً

من قيمة علبة سجائر مباعة بالسوق المحلي سواء كانت محلية أو أجنبية الصنع.

10%

من قيمة كل وحدة مباعة من مشتقات التبغ غير السجائر .

جنيهاً واحداً

يحصل عند مرور كل مركبة على الطرق السريعة التي تخضع لنظام تحصيل الرسوم.

5 جنيهات

من قيمة كل متر مربع (رخام – بورسلين – جرانيت) مصنع محليا أو أجنبيا

25 جنيها

عن كل عام عند استخراج أو تجديد رخصة القيادة.

20 جنيهاً

من قيمة كل طن أسمنت مصنع محليا أو أجنبيا.

50 جنيهاً

عن كل طن حديد يصنع محليا أو أجنبيا.

50 جنيهاً

عن كل عام عند استخراج أو تجديد رخصة تسيير السيارات التي سعتها اللترية أقل من 1,6 لتر.

100 جنيهاً

عن كل عام عند استخراج أو تجديد رخصة تيسير السيارات التي سعتها اللترية 1,6 لتر وأقل من 2 لتر.

200 جنيهاً

عن كل عام عند استخراج أو تجديد رخصة تسيير السيارات التي سعتها اللترية 2 لتر أو أكثر.

ألف جنيه

عن كل سرير عند استخراج تراخيص المستشفيات.

10 آلاف

عن كل سرير عند استخراج تراخيص المستشفيات.

20 ألفاً

عند استخراج تراخيص الصيدليات.

250 ألفاً

عند تجديد تراخيص شركات ومصانع الأدوية والمستلزمات والأجهزة الطبية والتوزيع.

500 ألفاً

عند استخراج تراخيص شركات ومصانع الأدوية والمستلزمات والأجهزة الطبية والتوزيع.

عند محاولة تحليل مصادر تمويل القانون يتبين لنا الآتي:

1- التكلفة المتوقعة للمشروع 140 مليار جنيه سنويا، لن تتحمل الدولة منها سوى ما يقارب 10% وهي النسبة المخصصة لغير القادرين حيث أكد القانون أن الدولة تتحمل مساهمات غير القادرين فقط، وذلك في حال أن يكون عدد غير القادرين 20 مليون مواطن، ومن التوقع أن يكون العدد أقل من ذلك بكثير نظرا لأن القانون حدد غير القادرين بأنهم من يتقاضون أقل من الحد الأدنى للأجور والبالغ 1200 جنيه، وهو ما يعني أن الدولة ستساهم بـ 60 جنيها فقط شهريا عن كل فرد وهي نسبة الـ5% المقررة بالقانون لغير القادرين، وهذا يعني أن جملة ما تتحمله الدولة من مسامات مالية لن يتجاوز الـ14 مليار جنيه، وهي نسبة ضعيفة جدا، على فرض صحة مقولة الحكومة بأن غير القادرين عددهم 20 مليون مواطن.
2- تخلت الدولة عن التزامها تجاه الأطفال من سن يوم وحتى 6 سنوات، وكذلك أطفال المدارس وطلبة الجامعات والخريجين الذين لم يعملوا بعد، كذلك المرأة غير العاملة، حيث كانت تشمل الفئات السابقة من دون الخريجين بالعلاج داخل مظلة التأمين الصحي الحالي، أما الخريجين فكان يشملهم نظام العلاج على نفقة الدولة، لكن في القانون الجديد يتحمل رب الأسرة نفقات اشتراكات أبنائه حتى التخرج والحصول على عمل أو زواج بالنسبة للإناث، كما يتحمل نفقات زوجته غير العاملة، و هذا معناه ببساطة أن الدولة حولت التزاماتها تجاه الأسرة إلى عبء يضاف إلى رب الأسرة، ومولت المشروع من جيب المواطن وليس من ميزانية الدولة.
3 – تخلت الدولة عن فكرة النظام الصحي الإلزامي على الدولة الذي أقره الدستور المصري لعام 2014، كما تخلت أيضا عن نظام التأمين الصحي التكافلي الذي أقره هذا القانون والذي يعتمد على المزاوجة بين اشتراكات المساهمين ومشاركة الدولة، وذلك عندما قررت فتح المجال لتعدد مصادر التمويل ليصبح من بينها عوائد استثمار أموال الهيئة العامة للتأمين الصحي والتي يقررها مجلس إدارتها ولم يتم تحديد طبيعة تلك الاستثمارات سواء في القانون أو لائحته التنفيذية، كذلك قيام الدولة بتحصيل رسوم كبيرة خارج نظام الضرائب كما سبق توضيحه في الفقرة التاسعة لمصادر التمويل، وهو ما يعد تحايلا بفرض ضرائب خارج نظام الضرائب وخارج الموازنة العامة للدولة، وفي النهاية من يتحمل تكلفة ذلك هو المواطن نفسه بتحويل تلك الأعباء الضريبية على كاهله كقيمة مضافة على السلعة عند شراء المنتج النهائي.
4- يقوم المواطن بالرغم من كل ما يتحمله بدفع نسبة من تكلفة تلقي الخدمة كما تم توضيحه سابقا، وهو ما يعني أن ما يدفعه المواطن فعليا ليس قيمة الاشتراكات فقط بل أيضا يدفع جزءا من تكلفة الحصول على الخدمة.
5- الهيئة ستقبل منح وهبات وتبرعات، وهو ما يعني أنها قد تلجأ إلى السيطرة على مستشفيات المجال الخيري وإخضاع مؤسساته الناجحة مثل 57357 ومؤسسة مجدي يعقوب إلى مظلة قانون التأمين الصحي الشامل قسرا.
6- القانون أتاح للهيئة الحصول على قروض، وهو أمر غير مفهوم بالرغم من أن كل هذه المصادر الهائلة للتمويل تنذر بأنه سيكون هناك فائضا كبيرا في الميزانية الخاصة بالتأمين الصحي، كذلك لم يحدد آلية السداد.
7- هناك مصادر تمويل غامضة مثل البند السادس، والذي يتحدث عن مقابل الخدمات الأخرى التي تقدمها الهيئة بخلاف ما يتضمنه هذا القانون وذلك وفقا لما يحدده مجلس إدارتها.

3- إشكالية العدالة الاجتماعية:

العدالة الاجتماعية هي الفريضة الغائبة في قانون التأمين الصحي الشامل الجديد، كما يمثل القانون مفهوما جديدا معاكسا لفكرة العدالة الاجتماعية، فهو يكرس لمفهوم الظلم الاجتماعي، فالقانون أهدر الحقوق الاجتماعية والاقتصادية التي تمثل محور فكرة العدالة الاجتماعية لجميع فئات الشعب أغنياء وفقراء، وشعرة معاوية التي يتمسك بها النظام والممثلة في تحمل نفقات غير القادرين، لم تكن سوى التحديد الحقيقي لمفهوم الظلم الاجتماعي، حيث أنه حدد غير القادرين بالفئات التي يقل دخلها عن الحد الأدنى للأجور، بالرغم من أن الحد الأدنى للأجور في مصر وهو 1200 جنيه في ظل تحرير سعر الصرف لا يعادل 70 دولارا شهريا.
كما أضاف هذا القانون أعباء متزايدة على رب الأسرة الفقيرة نظرا لأنه سيدفع ما لا يقل عن 5 % من دخله بشكل ثايت كاشتراك شهري له ولذويه في حال كانت أسرته بسيطة، كما أنه سيدفع نسبة من رسوم العلاج كما تم توضيحه سابقا، وهو ما يجعله معرضا للتعرض إلى عدم القدرة على الحصول على الخدمة الصحية نظرا للمبالغ المتنوعة التي سيدفعها مقابل الخدمات المتكاملة في العيادات الخارجية ومعامل التحاليل وأقسام الأشعة والأدوية.
ويمثل القانون بصيغته الحالية ضغطا إضافيا على رب الأسرة الذي لا تعمل زوجته، فهو ملزم بدفع 3% من دخله كاشتراك شهري لزوجته، وهو رقم مرتفع جدا إضافة إلى ارتفاع نسبة المواليد في الأسر الفقيرة في مصر والأسر الأقل تعليما يكلف رب الأسرة أعباء إضافية كبيرة عند إضافة المواليد الجدد فهو يدفع عن كل طفل بعد الطفل الثاني 1,5 % من دخله، كما ألزم القانون تلك الشرائح بدفع مبالغ بنسب مئوية مرتبطة بمعدل الدخل، وهو ما يعني أنهم سيدفعون أموالا كثيرة إلى جانب ما يدفعون من ضرائب،,وبالتالي يمثل القانون عبء ماليا إضافيا نظرا للمبالغ الكبيرة التي سيدفعونها للاشتراكات الشهرية.

4- التمييز الوظيفي والاجتماعي:

لا يشمل هذا القانون العسكريين ولا المستشفيات العسكرية الأمر الذي يرسخ الفجوة الطبقية والوظيفية الواسعة بين أغلب طبقات الشعب المصري من جهة والطبقة الحاكمة التي تضم ذوى النفوذ والتي لا تتحمل أعباء إضافية وستحصل على الخدمة الطبية المميزة في المستشفيات العسكرية، كما أنه لم يحدد موقف الفئات الأخرى من رجال الشرطة والقضاء والتي من المتوقع أن يتم استثنائهم من الخضوع للنظام الجديد، كذلك الحال مع الوزراء والبرلمانيين.يضاف إلى ذلك مسألة إنشاء هيئات اقتصادية لإدارة النظام الصحي الجديد،وتحول طبيعة المستشفيات الحكومية المملوكة للشعب إلى مستشفيات تنافسية هادفة للربح بما يمثل خروجا على أي مفهوم اجتماعي وتجاوز ا لكل معايير العدالة الاجتماعية.

5- إشكالية الأداء المتعثر:

منذ عهد وزير الصحة حاتم الجبلي وحتى الآن، وسحب التصريحات الحكومية محملة بأطنان من الكلمات التي لا تتحدث سوى عن التجربة الاسترشادية، فحاتم الجبلي الذي أقنع الجميع بأن البنية التحتية في محافظة السويس جاهزة للتطبيق، ولم ينقذه من الفضيحة سوى وقوع ثورة يناير وتوقف التطبيق، فيم أكد أحمد عماد الذي قال في نهاية 2015 إنه انتهى من إعداد القانون وأنه سيبدأ في التنفيذ مطلع 2016 بتجربة استرشادية في بورسعيد حتى يتم إقرار القانون، وقام بما يقرب من 16 زيارة للمحافظة على مدار عامين ونصف، فقد خرج من الوزارة وهو لا يعرف حتى عدد سكان بورسعيد، حيث أنه صرح في مايو الماضي أن عدد سكانها 550 ألف مواطن7 ، في حين أن العدد الفعلي 750 في مارس الماضي وفق المركزي للإحصاء8 ، وعندما جاءت الوزيرة الحالية هالة زايد أصابتها الصدمة عندما وجدت البنية التحتية غير جاهزة لبدء عملية التنفيذ.
الغريب في الأمر أنه حتى هذه اللحظة هناك حالة من الارتباك والعجز في الرؤية والتنفيذ فما تم اعتماده من هيئات ثلاث بموجب القانون وهي (الهيئة العامة للتأمين الصحي الشامل – الهيئة العامة للرعاية الصحية – الهيئة العامة للاعتماد والرقابة الصحية)، لم يتم إنشاؤهم حتى الآن، ومازالت وزارة الصحة بهياكلها القديمة والهيئة العامة للتأمين الصحي هي المنوط بها إعداد وتنفيذ المرحلة الأولى.
لم تبدأ الدولة حتى الآن في تحديد الجدول الزمني للمرحلة الأولى بالرغم من أن تلك المرحلة والتي سيتم تطبيقها على خمس محافظات فقط وهي (بورسعيد – الإسماعيلية – السويس – شمال سيناء – جنوب سيناء) مجموع عدد السكان بها لا يزيد عن 3% من سكان مصر في حين أن الدولة تؤكد أن هذه المحافظات يقطنها 4% من السكان، ولو اجتهدوا في تجميع عدد السكان لتلك المحافظات فلن يجدوا المجموع يزيد عن 3,1 مليون مواطن وفق إحصاء مارس 2018.
لم تبدأ الدولة بعد في حصر أعداد المنتفعين ببورسعيد، ولم تحدد غير القادرين، ولم تحدد آلية دخول القطاع الخاص بالمحافظة ضمن مظلة نظام التأمين الصحي الشامل، ولم تنتهي من تجهيز المستشفيات والوحدات الصحية التي ستكون أداة التنفيذ الرئيسة في بور سعيد، كما لم تجهز الكوادر الطبية والتمريض، علما بأن أساس هذا القانون يقوم على فكرة وجود وحدات طب أسرة يكون عمادها الممارس العام وطبيب الأسرة، مع العلم أن نظام الطب المصري فقير جدا في تخصص الممارس العام، نظرا لسفر معظمهم للعمل بدول الخليج.
وفق تلك المعطيات فإن الدولة إذا كانت جادة فعلا في الانتهاء من البنية التحتية وكشوف المنتفعين والتعاون مع المستشفيات الخاصة وتجهيز الكوادر الطبية فأمامها على الأقل عام لبدء تنفيذ المشروع.

6- إشكالية العلاقة بين القطاعين العام والخاص في القطاع الصحي:

هناك عدة متغيرات متوقعة ستحدث بمجرد المضي في تطبيق المشروع مرتبطة بالهياكل الحالية للمنظومة الصحية، كذلك صنع لسياسات الصحية، بالإضافة إلى التشابك المحتمل بين القطاعين العام والخاص للحصول على كعكة تقديم الخدمة الصحية في ظل سياسات صحية تنافسية:

(أ) بالنسبة للهياكل الحالية للمنظومة الصحية:

ستتحول وزارة الصحة من الناحية الإدارية اقرب الى حالة وزارات الدولة ذات الصلاحيات المحدودة (مثل وزارة الدولة للشؤون البرلمانية), ولن تكون الأداة المركزية لتنفيذ السياسات الصحية، وذلك بعد أن يتم خروج جميع المستشفيات التابعة لها من تحت سيطرتها، وأيضا وحدات طب الأسرة من تحت سيطرتها، بالإضافة إلى مستشفيات التأمين الصحي والأماكن الإدارية التابعة لهيئة التأمين الصحي، ومديريات الشئون الصحية، والإدارات الصحية، كما سيتم إيقاف برنامج العلاج على نفقة الدولة المعمول به حاليا، ولن يظل تحت سيطرتها إلا مكاتب الصحة والتطعيم وخدمات الإسعاف والخدمات الوقائية وخدمات تنظيم الأسرة والسكان،وهو ما يعد تحولا هيكليا كبيرا سيغير من الشكل الحالي للوزارة ومن دورها المستقبلي وسيؤثر على ميزانيتها وأهدافها وأنشطتها ودورها، ولن يكون لها دورا محوريا إلى من خلال الإشراف على الهيئة العامة للرعاية الصحية، لكنه في الغالب سيكون ضعيفا لأنها ستكون هيئة مستقلة في ميزانيتها وسياساتها.

(ب) بالنسبة لصنع السياسة الصحية:

تُعد وزارة الصحة هي المسئول الأول عن صنع السياسات الصحية في مصر، وهي المنوط بالرقابة على المستشفيات الخاصة وإعطاء التراخيص ومراقبة جودة الخدمات الصحية المقدمة داخل تلك المستشفيات، وتملك أيضا الحق في معاقبة تلك المستشفيات واستصدار قرارات بالغلق الكلي أو الجئي وفقا لما تراه مناسبا للحفاظ على سلامة المريض.
بعد تنفيذ القانون ستتحول مهام صنع السياسات العامة للنظام الصحي المصري إلى الجهات الثلاث اللائي سيتم إنشائهن خصيصا لتطبيق القانون.
حيث ستتولى الهيئة العامة للتأمين الصحي الاجتماعي الشامل، وهي هيئة اقتصادية تابعة لمجلس الوزراء ولها شخصية اعتبارية وموازنة مستقلة، إدارة وتمويل النظام الصحي المصري وتكون أموال المشتركين بها أموالا خاصة تتمتع بجميع أوجه وأشكال الحماية المقررة للأموال العامة.
كما ستتولى الهيئة العامة للرعاية الصحية تقديم خدمات الرعاية الصحية والعلاجية بجميع مستوياتها الآلية والثانوية والثلاثية داخل أو خارج المستشفيات لجميع المؤمن عليه داخل مصر.
وستقوم الهيئة العامة للاعتماد والرقابة الصحية، وتكون تحت الإشراف العام لرئيس الجمهورية، بضمان جودة الخدمات الصحية والتحسين المستمر لها وتؤكد الثقة في جودة مخرجات الخدمة الصحية بمصر على جميع المستويات وتنظيم تقديم الخدمة الصحية التأمينية وفقا لمعايير محددة للجودة والاعتماد.

(ج) التحول لسياسات تحرير الخدمة الصحية:

لعل من الأمور المهمة التي يجب الإشارة إليها في مجال صنع السياسات الصحية بعد صدور قانون التأمين الصحي الشامل هو أن القانون أتاح فرصا تنافسية متساوية للقطاعين العام والخاص، وأتاح للمواطن حرية اختيار المستشفى التي سيعالج بها، ويجدر الإشارة هنا إلى أن أساس السياسات التنافسية هو وجود فرص متكافئة، وهو ما سيصعب تحقيقه في ظل التراجع الكبير والرهيب لكفاءة المستشفيات الحكومية وتدني الخدمة الصحية بها، كذلك عدم ثقة المواطن فيها وثقافته السلبية تجاهها، وهو ما سيجعل المنافسة محسومة لصالح القطاع الخاص، كذلك مرونة الهياكل الخاصة وقدرتها على التكييف والتطور وملاحقة المستجدات والدخول في بيئة تنافسية حقيقية، وصعوبة التطوير داخل الهياكل الحكومية نظرا لتعقد إجراءاتها الإدارية ومركزية التخطيط وبطء الاستجابة.

خاتمة

مما سبق يمكن الوصول إلى النتائج التالية:
1ـ الدولة بالرغم من أنها قامت بتوسيع مصادر التمويل وبالرغم من أنها ألقت عبء تكلفة الخدمة الطبية على كاهل المواطن، وحملته بأعباء خارج نطاق الموازنة العامة من اشتراكات ومساهمات وقيمة مضافة على بعض السلع يتحملها المستهلك وليس المنتج، بالإضافة إلى رسوم متعددة أخرى، إلا أنها غير قادرة على تنفيذ المشروع حتى الآن ومرتبكة ولا تمتلك من الرؤية أو الكوادر التي تؤهلها لتنفيذه بكفاءة.
2ـ الدولة بموجب هذا القانون المخالف للدستور جعلت الإنفاق من جيب المواطن يتحول من 72 % كما أعلنت وزارة الصحة المصرية على لسان عادل عدوي وزير الصحة السابق في أغسطس 2014 عندما أطلق الورقة البيضاء لاستراتيجية الصحة حتى عام 2030، ليصبح 90% من جيب المواطن و10% تتحملها الدولة، وهو ما يؤكد اتساع الفجوة واستمرار سياسة الدولة في تحميل فشل سياساتها على المواطن، والتحول إلى مجرد شركة أمن ليس لها علاقة بأية مسئوليات خدمية تجاه الشعب.
3ـ هذا القانون أنهى عصر المستشفيات الحكومية حتى ولو كانت خدماتها بسيطة أو ضعيفة، وفتح المجال إلى تحويل الخدمة الحكومية إلى خدمة بأجر تضع لسياسات تسعير تنافسية.
4ـ افتقر القانون لأي جانب من الجوانب الإنسانية، حتى أنه رفض معالجة من يتخلف عن دفع الاشتراك إلا في حالات الطوارئ، كما أنه كلف الوصي على الطفل اليتيم بدفع اشتراك هذا الطفل من معاشه في حال كان يتعدى الحد الأدنى للأجور، علما بأن الدولة كانت دوما من سياساتها الاجتماعية أنها تعفي الطفل اليتيم من المصروفات الدراسية بغض النظر عن عامل القدرة المالية.
5ـ غموض مصير المستشفيات الحكومية التي لن تستطيع النجاح في الحصول على الجودة والاعتماد، والتي من الممكن بيعها للقطاع الخاص وفق إتاحة القانون إمكانية استثمار الأموال والأصول.
6ـ تراجع النظام عن كل وعوده بأن ما يقوم به من إصلاح في بنية الدعم الهدف منه وصوله لمستحقيه من خلال تطوير الخدمات الصحية والتعليمية والمرافق، فهو بذلك يرفع دعم الدولة عن الخدمات الصحية باستثناء مشاركة رمزية10 .


الهامش

1  راجع تصريحات يوسف بطرس غالى على الروابط التالية (1)، (2)، (3).

2  راجع، اليوم السابع، الرابط

3 راجع دستور 2014، باب الثاني، المادة 18 ،

4 راجع قانون التامين الصحي الشامل الجديد، منشور بالجريدة الرسمية بتاريخ 11 / 2018 ،

5 راجع فى قصة استحواذ أبراج وتوغلها في السوق المصري، الرابط.

6 راجع قانون التامين الصحي الشامل الجديد، منشور بالجريدة الرسمية بتاريخ 11 / 1 /2018.

7 راجع تصريح الوزير، اليوم السابع، على الرابط.

8 راجع احصائيات الجهاز المركزى للتعبئة العامة والاحصاء على الرابط.

9 –  راجع تصريح عادل عدوي وزير الصحة السابق على الرابط.

10 الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات”.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. مع كل هذا التخبط لكن شيئ جميل لان الانسان يتعلم بالتجربة . وانا شخصياً أؤيد هذة الفكرة في التمويل لكن يجب اعادة النظر في رسوم انشاء مستشفيات و صيدليات ومصانع ادوية او ان يتم التفاوض مع المنشآت الجديدة بدلا من دفع هذة المبالغ تاخذ بقيمتها رعايات بعض الحالات بشكل مجاني او رمزي ويخصم من المبلغ المقرر عليها للترخيص كمشاركة في المشروع . والله الموفق وكل بنيته إليه راجع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close