تقارير

الحكومة العراقية بين مطرقة إيران وسندان أمريكا

إن سياسة “دونالد ترامب” في العراق هي جزء لا يتجزأ من سياسته في الشرق الأوسط، والتي تبدو مستندة إلى النهج الصقوري القوي المتشدد، وترك سياسة أوباما في استخدام القوة الناعمة والتعددية. ويبدو أن احتواء إيران ودعم حكومة بغداد سيؤديان إلى استمرار سياسة العبادي في العراق، وقد يشجع الامريكان عبد المهدي الوصول إلى صفقة مساومة مع الكرد بصدد المناطق المتنازعة عليها. ولكن انسحاب الولايات المتحدة من الصفقة النووية مع إيران ومحاولتها إجبار الحكومة العراقية المستقبلية لفرض عقوبات ضد إيران من المحتمل أن يكون لها تأثير خطير على استقرار العراق. ويرى بعض المراقبين احتمال أن يؤدي الصراع الايراني-الامريكي إلى تفجير الأوضاع وسقوط حكومة عبد المهدي.
نناقش في هذه الورقة جذور سياسة ترامب الخارجية، والتناقضات في سياسته الخارجية تجاه الشرق الاوسط بصورة عامة. وملامح سياسته تجاه العراق في عهد العبادي، وسياسته المحتملة تجاه حكومة عادل عبد المهدي.

عقيدة دونالد ترامب في السياسة الخارجية:

1ـ إن الأيديولوجية التي يؤمن بها دونالد ترامب، هي أيديولوجية يمينية محافظة، وتلتقي هذه القناعات مع أهداف اللوبي الصهيوني اليميني والمنظمات المسيحية الأنجليكانية، وأيديولوجية “حفلة الشاي” التي تؤكد على ضمان ومواصلة الهيمنة الامريكية في الخارج باستعمال القوة الصلبة1 .
2ـ يريد ترامب أن يحافظ على الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة ضد كل الصعاب والواقع، حيث يرى أن بروز روسيا والصين كقوى منافسة في العلاقات الدولية، والاستقلالية التي يبديها الاتحاد الأوروبي في علاقاتها الخارجية، وظهور عناصر جديدة غير تابعة للدولة مثل المنظمات الإرهابية والتحررية وحصول كوريا وإيران على الأسلحة النووية يجعل من الصعوبة بمكان على أمريكا أن تظل القوة العالمية الوحيدة التي تتحكم في العلاقات الدولية. لذلك إن السياسة الامريكية ليس لها خيار غير العودة إلى التعددية القطبية واستخدام القوة الناعمة وهذا ما لا يدركه ترامب، أو ليس له الاستعداد لذلك 2.
3 – السمات الشخصية وتأثيرها: يقول إليوت أ. كوهين، مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية بجامعة جونز هوبكنز: “ترامب ليس محافظاً ولا محافظاً جديداً. ولا هو واقعياً بشكل واقعي أو مثالي أو انعزالي جديد. فهو يعين في إدارته الاشخاص الموالين والمعجبين به. وحالهم “كحال الأب مع الأطفال الكبار وحال القائد المحاط بجيش مخلص”3 .
ولكن هناك من حوله ممن يؤمنون وينطلقون من الأيديولوجية المتجذرة في القاعدة المسيحية الإنجيلية اليمينية التي ترى الصراعات في الشرق الأوسط من خلال العدسة الإنجيلية، بما في ذلك الاعتقاد بأن إقامة دولة إسرائيل الحديثة وغزوها للأراضي المجاورة هو تحقيق لوعد الله وخطوة نحو المجيء الثاني للمسيح 4 .
4ـ العقلية التجارية في سياسة ترامب الخارجية ( (Mercantilism : هناك من يعتقد بأن الحرب الباردة حين انتهت عام 1989 أدخلت أمريكا في حرب أخرى مع حلفائها من الناحية الاقتصادية. فكتاب “الحرب القادمة مع اليابان”، الذي شارك في تأليفه في عام 1991 الخبير الاستراتيجي الأمريكي جورج فريدمان، جادل بأنه مع نهاية الحرب الباردة، لم تعد الولايات المتحدة تتحمل التعديات الاقتصادية لليابان، مما يجعل “الحرب الساخنة” بين الحلفاء مرجحة في العقود القادمة. ويبدو أن هذه العقلية أيضا سيطرت على جيل ترامب.
ويقول الكاتب الأمريكي ج. فيفر: “كانت تلك الفترة الزمنية التي كان يأكل الحلفاء فيها من غذائنا الاقتصادي هي الحدث الجيوسياسي الحاد الذي شكل تفكير ترامب. “إن الدرس الذي يبدو أن ترامب قد استفاد منه هو أن الساحة الدولية مكان تنافسي للغاية، وإذا لم نكن حذرين ومتشددين فإن أصدقاءنا بالإضافة إلى خصومنا سوف يستغلوننا”5 . وهو القائل إن الولايات المتحدة كان يجب أن تسيطر على حقول النفط الكويتية والليبية والعراقية بعد التدخل العسكري الأمريكي في تلك الدول.
ج- أسلوب العمل في السياسة الخارجية الرائدة: تشير الأدلة حتى الآن إلى أن ترامب براغماتي يمتلك غريزة متمردة وثقة غير محدودة في قدرته على التفاوض على صفقات تجارية تضع “أمريكا أولاً”.
د- يرى والتر راسل ميد -أستاذ الشؤون الخارجية والإنسانية في كلية بارد- الناري القومي أن التعبوية والشعبية الموجودة في خطاب وشخصية ترامب تجعله أقرب شبهاً بالرئيس الامريكي السابع أندريه جاكسون (1829-1837). والجاكسونيين في العصر الحديث يؤيدون إسرائيل بقوة، ويطالبون برد هائل على الهجمات الإرهابية، ويتحمسون من أجل فرض ضوابط صارمة على الهجرة، ومقاومة الدبلوماسية مع إيران وكوريا الشمالية، ويريدون بقاء مرافق الاحتجاز في خليج غوانتانامو مفتوحة، والحفاظ على موقف معارض تجاه منظمات الأمم المتحدة، وعدم الالتزام بالاتفاقيات الدولية المتعلقة بالحفاظ على البيئة. كما ويومن هؤلاء بشرعية استعمال التعذيب في الحصول على المعلومات من خصوم أمريكا 6 .
ه- إن عقدة النقص التي يشعر بها ترامب تجاه النخبة الأمريكية المتعلمة في واشنطن لها أيضا أثر في رسم السياسة الخارجية ويمكن ملاحظة ذلك في محاولاته المستمرة لتهميش وزارة الخارجية، وتصريحاته المتكررة في محاولة التقليل من شأن قدرات أوباما وهيلاري كلينتون، فهو يبحث عن إعجاب واهتمامات الجمهور باستمرار.
و- الشعور النرجسي: إنه يعتقد أنه عظيم، أكثر حسماً، أكثر حزماً من أسلافه. يضحي بأي شخص بغض النظر عن مدى ولائه له للحفاظ على نفسه. وقد شهد البيت الابيض التخلي عن وطرد واستقالات العديد من المقربين لترامب ما لم تشهده أية إدارة أمريكية في التاريخ الحديث.
ز- الاندفاعية والعاطفية: هناك تنافر واضح بين ما يقوله الرئيس وما تقوله إدارته، ويشرح هذه الظاهرة في شخصية ترامب ولي نصر عميد كلية جونز هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة في أمريكا قائلاً: إنه متسرع للغاية، وأكثر عاطفية في قراراته تجاه الحلفاء وأعداء أمريكا على سواء 7.

تناقضات سياسة ترامب الشرق الأوسط:

1 -الصراع العربي -الإسرائيلي إن سياسة ترامب بمجملها تجاه الشرق الأوسط مليئة بالتناقصات وخطة حملة ترامب لنقل السفارة الأمريكية في إسرائيل إلى القدس، وشعارها الجديد، وبيانها السياسي الجديد بأن مستوطنات الضفة الغربية لم تعد تعتبر عقبة في طريق السلام، دفعت بالفعل أعضاء الجناح اليميني في الحكومة الإسرائيلية إلى إعلان موت حل الدولتين للصراع الإسرائيلي الفلسطيني والتي تبناها الرؤساء الجمهوريون والديمقراطيون في الولايات المتحدة والتي تعود إلى أربعة عقود. وهذا ما دفع نفتالي بينيت زعيم حزب بيت اليهود ووزير التعليم الإسرائيلي الحالي إلى التصريح بقوله: لقد انتهى عهد الدولة الفلسطينية.8
وعين ترامب على الفور دعاة حركة المستوطنين اليمينيين في إسرائيل في المواقع الرئيسية في ادارته. ديفيد فريدمان والذي عينه ترامب كسفير للولايات المتحدة في إسرائيل، أصر على أنه يجب على الولايات المتحدة إنهاء “قصة الدولتين” واخضاع الفلسطينيين لحل الدولة الواحدة. وبعد كل هذا ياتي ترامب ويقول إنه يدعم خيار الدولتين9 .
2- يقول ترامب إن سياسة بلاده مبنية على حفظ حقوق الإنسان. ولكن في الواقع على العكس تماماً، يبدو أن ترامب يعود إلى العقيدة الأمريكية القديمة في المنطقة: تبني أسطورة الاستقرار السلطوي، كما هو موضح في دعمه للأوليغارشية القديمة والديكتاتوريين القدامى في الشرق الأوسط مثل نظام السيسي في مصر، العائلة المالكة السعودية، التخلي عن دعم المعارضة السورية للأسد، وكذلك الدعم غير المشروط تقريبا الى إسرائيل ودول الخليج العربي 10 .
3- أما سياسة ترامب المبنية على احتواء إيران وتهميشها فهي الأخرى غير منسجمة حيث إن هناك بيانات متناقضة في هذا الصدد تتراوح بين النية لتغيير النظام وتغيير سياستها والاستعداد لمقابلة المسؤولين الإيرانيين. ولكن تخلي ترامب الأحادي عن الاتفاق النووي مع إيران المسمى بـِ (خطة العمل المشتركة الشاملة) والموقعة في فيينا في 14 يوليو 2015 بين إيران، P5 + 1 (الأعضاء الخمسة الدائمون في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة (الصين، فرنسا، روسيا، الولايات المتحدة، المملكة المتحدة)، بالإضافة إلى ألمانيا هو الأبرز حتى الآن. ولكن قامت القوات الأمريكية بالتنسيق مع الميليشيات الشيعية الموالية لإيران في محاربة داعش في سوريا والعراق. وهنا نرى مواصلته لسياسة باراك أوباما رغم اتهامه له بالضعف تجاه إيران11 .
5) كما تتميز سياسته تجاه تركيا بمزيد من التناقضات والتقلبات. فهناك الوعد بمواصلة العمل مع تركيا في الشرق الأوسط كحليف استراتيجي في الحرب ضد داعش 12 . ثم تقوم إدارة ترامب بتسليح حزب الاتحاد الديمقراطي PKK-PYD) ) في سوريا والوعد بتشكيل 30 ألف من ميليشيات PYD على الحدود مع تركيا لعزل تركيا بالكامل عن سوريا. وكان هذا الإجراء الأمريكي هو الذي أجبر تركيا على دخول عفرين في عملية غصن الزيتون الذي عارضته الولايات المتحدة. وكما أن الاتفاق الذي أبرمه ترامب مع الحكومة التركية على التنسيق والعمل المشترك معها في منبج في شمال سوريا لم يتم تنفيذه من قبل الولايات المتحدة التي تتملص منها بأعذار عدة 13 .
.6- كانت سوريا فشلاً تاماً لسياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وقد أثبتت روسيا أنها تمتلك المبادرة هناك وتمكنت روسيا وإيران من دعم حليفهما في دمشق وسحق المعارضة المسلحة التي درّبتها الولايات المتحدة. وكان التخلي الكامل عن دعم المعارضة السورية أيضا سجل العودة من قبل ترامب إلى سياسة أوباما المتمثلة في ترك القوى الإقليمية لأجهزتهم وهذه هي نفس السياسة التي أدانها ترامب واعتبرها ضعفًا لأمريكا وتعتبر أيضا متناقضة مع سياسة احتواء إيران14 .

سياسة ترامب في العراق:

تتسم سياسة ترامب في العراق لحد الآن بكونها بمجملها سياسة غامضة ومتناقضة أيضا وفيها الكثير من العشوائية. حيث اعتبر ترامب غزو العراق خطأ. ثم يعود ويقول: لكن كان من المفروض ألا نغادرها في عام 2011. قال ترامب: إن العراق حليف ويريد إدامة العلاقات المتينة بين الولايات المتحدة والعراق ثم يأتي ويفرض حظر على سفر العراقيين إلى أمريكا، لكن تم إزالته فيما بعد 15 .
بعد تنصيبه رئيسا في يناير عام 2017، قال ترامب: كان من المفروض على الولايات المتحدة أن تحتفظ بالنفط في العراق بعد أن غزت قواتها العراق في عام 2003. ويضيف ربما سنحظى بفرصة أخرى، كما قال في خطابه الأول في مقر وكالة المخابرات المركزية. وفي مارس2017 وبعد أن قابل السيد حيدر العبادي وبعد أن وصفه في العلن حليف أمريكا في العراق، قال مسؤول أمريكي سابق في البيت الأبيض وصف ترامب في حديث غير معلن له العبادي والحكومة العراقية بكونهم: أنجح مجموعات اللصوص الذين قابلهم في حياته16 .
كما أن مبدأ سياسة “أمريكا أولاً” والإيمان بنهج القوة الصلبة وعدم استخدام القوة الناعمة في السياسة الخارجية ترك بصماته السيئة على سياسة ترامب تجاه العراق. فأصر ترامب على استخدام القوة الصلبة في محاربة داعش وعدم الضغط على حكومة العراقية في تشجيع المصالحة الوطنية أو إعادة الإعمار في المناطق السنية المنكوبة. وقال ترامب مرارا إن أمريكا تبذل الجهود العسكرية الكبيرة وعلى الآخرين دعم العراق في إعادة الإعمار. وهو ما يصدق على فلسفة ترامب “أمريكا أولاً”، وهو يبدد أي فكرة عن قيام امريكا بدور استباقي في بناء الدول في الخارج. وتجسد هذا المبدأ اثناء انعقاد مؤتمر الكويت في 13 فبراير 2018 لدعم الإعمار في العراق. فبينما كان وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون نفسه في طريقه إلى المؤتمر في مدينة الكويت لتشجيع الحاضرين شخصياً على السخاء في التبرع، قام ترامب بالتغريد على حسابه في التويتر من مدينة كولومبيا قائلاً: الولايات المتحدة قامت في السابق بغباء بضخ أموال في الشرق الأوسط ولن تقدم على سياسات كهذه في المستقبل17 .
مع تدمير جزء كبير من العراق بعد الحرب الطويلة مع داعش، أصدرت بغداد نداء يائسا إلى الولايات المتحدة والحلفاء المجاورين للتبرع بمبلغ 88 مليار دولار للمساعدة في إعادة بناء هذه الدولة الهشة. ومع ذلك فقد انفضّ المؤتمر رفيع المستوى للمانحين في الكويت بنسبة ضئيلة فقط من المبلغ المستهدف، أي ما يقارب 30 مليار دولار في شكل قروض واستثمارات، وبدون مساعدة حكومية مباشرة جديدة من الولايات المتحدة 18.

مستقبل سياسة الولايات المتحدة في العراق:

شكلت نتائج انتخابات العراق في 12 أيار / مايو 2018: مؤشرا واضحا على هزيمة سياسة ترامب في العراق وسياسة الاحتواء تجاه إيران في العراق. وقال عبد الوهاب أحمد من مؤسسة الشرق الأدنى في واشنطن أن الولايات المتحدة كانت تأمل في أن تمنح الانتخابات للعبادي ولاية جديدة تمكنه من إطلاق حملة شاملة ضد الفساد وتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية بالإضافة إلى قوة الاستعادة التي تم التنازل عنها لكل من إيران والميليشيات المستقلة المدعومة إلى حد كبير من إيران، من المؤكد أن نتائج الانتخابات العراقية تشكل نكسة مذهلة لاستراتيجية احتواء ترامب ضد إيران. وكانت واشنطن راهنت بشدة على التحالف الذي يقوده رئيس الوزراء حيدر العبادي للفوز، لكنه هبط إلى المركز الثالث، حيث فاز بـ 42 مقعدًا فقط في البرلمان المؤلف من 329 عضوًا 19 .
يرى الخبير في معهد بروكينغز ومقره واشنطن ان فوز التحالف الذي يقوده الصدر كان بمثابة انتكاسة واضحة وقلب لسياسة أمريكا في العراق رأسا على عقب، وتواجه واشنطن الآن أزمة سياسية حادة في بلد استثمر فيها دمًا كثيرا وكنزًا كبيرًا.20 والصدر هو في الحقيقة شخصية زئبقية حيث له ميول نحو العناصر الشيعية ذوي الميول الشيوعية في نظرته إلى الاقتصاد السياسي للعراق. حيث كان حلفاء الصدر في الانتخابات الوطنية الأخيرة هم الشيوعيون والعلمانيون المعادون لأمريكا. 21

خسارة الأكراد أيضا:

على الرغم من الزيارات العديدة التي قام بها بريت ماكورك للبرزاني بعد إعلان نتائج الانتخابات رفض الأخير الإنضمام إلى كتلة الإصلاح التي كانت تحاول إعادة عبادي لولاية ثانية للحكم. نجحت طهران في ضم الحزبين الكرديين العراقيين الرئيسيين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني اللذَين يشعران بالظلم وتواطؤ الولايات المتحدة مع حملة العبادي في كركوك في 16 أكتوبر 2017. حيث أعطى العبادي الضوء الأخضر إلى قاسم سليماني رئيس قوة القدس الإيرانية لمهاجمة الأكراد في كركوك. وعلى نفس المنوال قام السليماني بتشكيل قوة عسكرية من المليشيات بقيادة أبو مهدي المهندس، المحكوم عليه بالإعدام غيابيا في أمريكا بتورطه بتفجير السفارة الأمريكية في الكويت عام 1983، لاستخدام دبابات أبرامز المستوردة من الولايات المتحدة في الهجوم على كركوك 22 . ولذلك شهدت الفترة بعد عمليات كركوك من قبل القوات العراقية وبضوء الاخضر من أميركا اعادة النظر من قبل القادة الكورد، خاصة مسعود البارزاني. فبعد زيارات متبادلة بين الطرفيين أصبح هناك تقارب واضح في موقف مسعود البارزاني من إيران، وتجلى ذلك في اتخاذ البارزاني موقفاً مؤيدا لكتلة العامري والمالكي بصدد الموقف من اعطاء العبادي المدعوم من اميركا ولاية ثانية 23 .

حكومة عادل عبد المهدي والسياسة الامريكية في احتواء إيران:

يقول ريناد منصور المحلل في تشاتام هاوس في المملكة المتحدة: إن إيران هي الآن اللاعب الأجنبي المهيمن في العراق، لقد اخترقت إيران العديد من مؤسسات الدولة العراقية ولن تستطيع أية حكومة عراقية أن تتخلص من هذه الهيمنة.24 وإذا صعد ترامب من سياسته المعادية لإيران في الشرق الأوسط سيلجأ الأخير إلى الإنتقام من أمريكا في المناطق الرخوة25 . ويعد العراق منطقة رخوة حيث ستهاجم المليشيات العراقية الممولة إيرانيا القوات الأمريكية المتواجدة في العراق. وسوف تطالب الأكثرية البرلمانية المؤيدة لإيران في بغداد بجدول زمني لانسحاب القوات الأمريكية من العراق. ولم يخفِ قادة المليشيات العراقية النية في ضرب المصالح الامريكية في العراق إذا طلب منهم ذلك.26
إن سياسة ترامب لاحتواء إيران ومحاولة الضغط على حكومة عبد المهدي لتطبيق الحصار الاقتصادي المعلن من قبل ترامب ستكون لها عواقب سلبية على الحكومة والاستقرار. علما أن العراق يتقاسم حدودا طولها 1485 كيلومترا مع إيران، يمكن بذلك أن يتضرر من العقوبات. يعتمد العراق على جارته الشرقية لكل شيء من إمدادات الغاز إلى الكهرباء والماء والمواد الغذائية. أن السياسة الأمريكية في العراق بعد إزاحة نظام صدام حسين هي التي خلقت حالة التبعية في العراق لإيران.27 وإن حالة التبعية لإيران تتضح في عدة أمور:
أولاً: يحتاج العراق إلى غاز إيران المكرر. قال وزير الكهرباء العراقي في يوليو / تموز 2017: إن العراق سيعتمد على الغاز الإيراني لتوليد الكهرباء لمدة سبع سنوات على الأقل. ينتج العراق الغاز الطبيعي من تلقاء نفسه، لكنه يفتقر إلى التسهيلات اللازمة لمعالجته كوقود للاستهلاك المحلي. يشكل الغاز الذي يستقبله العراق من إيران حوالي 20 بالمائة من الكهرباء التي ينتجها. بالفعل، لا يستوفي العراق سوى 70 في المائة من الطلب على الكهرباء. لقد أرسل العراق النفط لإيراني لدفع ثمن وارداته من الغاز ولسداد ديون الكهرباء.
ثانياً: تعتمد إمدادات المياه في العراق على تدفقات نهري دجلة والفرات حيث تحصل على 98 في المائة من مياهها السطحية. إذا اختارت إيران استعمال سلاح الماء ضد العراق يمكن أن تقوم بتحويل 13 في المائة من موارد المياه في العراق. وقال نائب وزير المياه العراقي لـ “جلف نيوز” في أبريل إن 20 إلى 30 في المائة من مياه نهر دجلة في العراق تنبع من إيران. وإذا امتثل العراق للعقوبات التي أعلنها ترامب، يمكن لإيران بسهولة أن تقطع تدفق المياه، كما فعلت في منطقة كردستان في محافظة السليمانية واستعملتها كورقة ضد الاستفتاء في الإقليم، وفقا لوزارة الزراعة في حكومة إقليم كردستان.
ثالثاً: غمرت إيران الأسواق العراقية عن عمد بواردات رخيصة، مثل المواد الغذائية. وقد أدى هذا إلى تقويض الزراعة في العراق من خلال تقليل الطلب على المنتجات المحلية الأكثر تكلفة. وحتى لو توقف العراق عن شراء هذه السلع فلن يتمكن المزارعون من إنتاج ما يكفي من الإمدادات في الوطن. على مدى عدة سنوات فر مزارعون عراقيون إلى المناطق الحضرية بسبب نقص الطلب والصراع مع داعش وسياسة الأرض المحروقة التي اتبعتها المليشيات العراقية في المنطقة. ففي الوقت الحالي يشكل انخفاض أعداد المزارعين عقبة حقيقية في توفير المواد الغذائية ويشكل هذا الاعتماد عقبة رئيسية في سياسة الأمن الغذائي في العراق.
رابعا: النفوذ السياسي لإيران في العراق: لقد تأخر تشكيل الحكومة في بغداد خمسة أشهر بعد انتهاء الانتخابات وكان ذلك بسبب الضغوط الإيرانية التي كانت تمارسها على الأطراف السياسية الشيعية حتى تكون تشكيلة الحكومة ورئيسها من عناصر موالية لهم 28 .
وتبدو دول الخليج وتركيا بديلاً للتجارة العراقية مع إيران. ولكن الإيرانيين ومصالحهم الاقتصادية خلقوا اخطبوطا من العلاقات الاقتصادية التي ليس من السهل اليسير تجاوزها خاصة في ظل وجود المسؤولين الفاسدين في المناطق الحدودية بين إيران والعراق 29.
ووفقاً لتقارير إعلامية عراقية زار مسؤولو وزارة الخزانة الأمريكية البنك المركزي العراقي في يوليو/تموز وقالوا إن الولايات المتحدة ستعاقب أي بنك عراقي يقوم بمعاملات مالية مع إيران. وفقا لصحيفة وول ستريت جورنال فإن لدى الحكومة العراقية حسابات مصرفية لدى بنك الاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة، حيث يتم الاحتفاظ بدولاراتها. وهذه الدولارات التي يعتمد عليها الاقتصاد العراقي يمكن تجميدها إذا خالف العراق العقوبات. 30
فبمجرد أن ضربت أحدث جولة من العقوبات الأمريكية التي أعلنتها إدارة ترامب في 7 أغسطس إيران، قال رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي إن بلاده ستلتزم على مضض بهذه الحصار. لكن بعد مرور أسبوع شهدت الساحة العراقية جدال كبير حول حكمة تصريح العبادي بهذا الشأن ودفع ذلك العديد من المسؤولين العراقيين في بغداد للحفاظ على العلاقات التجارية مع طهران.
ويعزي بعض المراقبين للوضع العراقي خسارة العبادي للترشيح لولاية ثانية إلى هذا التصريح. ففي في 6 اب 2018كتبت جريدة “إريم” اليومية في طهران والمقربة من خط المحافظين انتقادا شديد اللهجة تجاه الحكومة العراقية وقالت “سيواجه العبادي مصير صدام”. وهذا ما دفع العبادي في ف 13 أغسطس / آب بالقول: إنني لم أقل إننا نلتزم بالحصار بل قلت إننا نلتزم بعدم استخدام الدولار في المعاملات إذ ليس لدينا خيار آخر.31
بشكل عام، بينما تعترض دول الخليج على اعتماد العراق الاقتصادي على إيران فإن الحكومات هناك لم تفعل الكثير لمساعدة العراق على أن يصبح أكثر استقلالية. ولم يؤدِّ مؤتمر إعادة الإعمار الذي رعته الكويت لمساعدة العراق الذي عُقد في فبراير / شباط إلى نتائج بحسب مصادر عراقية على الرغم من تقديم تعهد ب 30 مليار من قبل الولايات المتحدة.

التحديات المستقبلية للعراق

إن حكومة عبد المهدي ستكون أمام خيارات صعبة داخليا، منها عدم وجود أغلبية حزبية أو كتلة برلمانية خاضعة لحكومة عبد المهدي لتسانده بثبات في التصدي لهذه التحديات. علماً بأنه وصل إلى الحكم لعدم قدرة الفئات الحزبية الشيعية من الحصول على الأغلبية البرلمانية لمرشحيها وليس لثقتهم بالمشاريع الإصلاحية التي يتبناها عبد المهدي. وإن الأطراف السياسية التي أجبرت على دعمه في الترشيح لن تستمر في ذلك إذا أضرت سياسات عبد المهدي مصالحها. وإن هذه الأطراف يهيمن عليها ما يسمى محليا بـ “حيتان الفساد” والذين سيعرقلون كل جهود الحكومة في محاولة الإصلاح. ولن يتم الإصلاح الاقتصادي والإداري بدون التخلص من هذه النخبة الفاسدة والتي لها جذور في كل مؤسسات الدولة وهناك دول إقليمية تساندها.
وقد أقر عبد المهدي قبل أسبوع فقط من قبوله بالترشيح بأنه غير راغب بقبول الترشيح لرئاسة الوزراء لأن العراق يمر بمرحلة لا يمكن فيها تحقيق رؤيته الإصلاحية. ولخص في مقال له تحديات العراق الحالية بسبعة نقاط وقال إنها معضلات غير قابلة للحل في ظروف العراق الداخلية والتحديات الخارجية. فقال عادل عبد المهدي إنه كخبير اقتصادي يفهم خطورة الاعتماد على سياسة الاقتصاد الريعي (الاعتماد الكلي على موارد النفط). ولكن النخبة العراقية وهيكلة الاقتصادي العراقي الحالي لا يتحمل هذا التغيير الجوهري. وإن الفساد تأصل في مؤسسات الدولة وهذا يحتاج عزيمة وثورة شاملة على رموزها ومسبباتها. وإن عبد المهدي يؤمن بالفيدرالية المقررة في الدستور ولكن الدوائر المتنفذة في بغداد لا تؤمن بذلك وتصر على المركزية. وقال إن العراق بحاجة إلى مصالحة وطنية حقيقية وهذا ما لا يقدّره أصحاب الشأن في بغداد. وأبدى عبد المهدي نيته في ضبط المليشيات ضمن القوات المسلحة الرسمية. كما قال إنه يريد إصلاح العلاقة مع حكومة إقليم كردستان بفضل العلاقة التاريخية التي تربطه بقادته 32 .
هذه التحديات أكبر من عبد المهدي غير المدعوم من كتلة حزبية قوية تملك الأغلبية في البرلمان، باستثناء كتلة السائرون. ولكن أصحاب القرار في هذه الكتلة لهم شروطهم وأن السيد مقتدى الصدر له مزاجية متقلبة وقد أعطى لعبد المهدي سنه واحدة فقط لتحقيق هذه الإصلاحات الصعبة والتي تحتاج عقد من السنين.
وأن مزاج الشارع العراقي لن يقبل بأي تنازل مع حكومة الإقليم بصدد المناطق المتنازعة عليها. فحكومة المالكي والعبادي والاستفتاء في الإقليم خلقت مزاج معادي للكرد والفيدرالية التي تطالب بها السنة أيضا. وكما أن إيران هي التي تمول المليشيات وتسخرها لأجندتها الخارجية ولن تخضع لسياسة عبد المهدي المعلنة بالنأي بالنفس عن الصراعات الإقليمية. علما أن هادي العامري رئيس كتلة مليشيا البدر القوية والممولة إيرانيا هو أحد الاطراف الرئيسية التي مكنّت عبد المهدي من الوصول إلى الحكم.
وفي هذا الصدد يقول الباحث العراقي الدكتور حارث حسن: إن تغيير البنية السياسية – الاقتصادية في العراق يظل تحدياً صعباً خصوصاً مع رئيس وزراء توافقي، نتاج صفقة قد لا تدوم، بدعم مؤقت من كتلتين تدعيان أنهما الأكبر، لكن بعد أشهر قليلة قد يبقى وحيداً من دون أي كتلة. فكيف سيكون بمستطاعه إدامة الدعم النيابي له وفي الوقت نفسه إجراء إصلاحات رئيسية، والحد من سخط الشارع واندفاعاته؟»33 .
ومن الجدير بالذكر أن الحكومة الامريكية أشادت بالحكومة التي أسسها عادل عبد المهدي، ويتهم بعض الاطراف العراقية بكون الحكومة غير تكنوقراطية وكانت كسابقتها حكومة محاصصة طائفية وقومية وحزبية. واتهم البعض التشكيلة الوزارية التي نالت ثقة البرلمان العراقي بكونها من المرتبطين بإدارة بول بريمر، الحاكم الامريكي السابق في العراق، وكانت الإدارة الامريكية هي الطرف الاول التي عبرت عن ثقتها بالحكومة الجديدة التي ألفها عبد المهدي34 .
وأشار المراقبون، إلى أن عادل عبد المهدي سيركز على نزع فتائل التوتر السياسي الداخلية والإقليمية؛ ذلك أنه رجل حوار وليس شخصية صدامية. وسيقارب ما يمكن حله من الملفات الساخنة، ويدير ما يُختلف عليه بطريقة مختلفة، ما يخلق ثقة بين الشركاء وينزع الشكوك. وعلى المستوى الإقليمي، يحتاج إلى مقاربة هادئة للأزمات التي تعصف بالمنطقة، والعلاقات المتشنجة مع بعض الدول، مثل تركيا. وأن رئيس الوزراء المكلف يحتاج إلى تطوير هذا الانسجام الحاصل بين الرئاسات الثلاث، كل من موقعه، ودون الإخلال بدور كل منهم 35 .

خلاصة:

هناك فرصة ضعيفة -وقد تكون أخيرة – أمام العراق للتعافي بفضل السياسة الإصلاحية التي وعد عبد المهدي بتطبيقها وهذا يحتاج قبل كل شيء ضرب اخطبوط الفساد بكل صرامة ولكن بحكمة وتدرج. وأن نجاح حكومة عبد المهدي يرتبط بعدة أمور جوهرية، منها: سماح إدارة ترامب بإعفاء العراق من الحصار المفروض على إيران أسوة بسياسة استثناء الأردن من حصار الأمم المتحدة على العراق أثناء حرب الخليج، وهجرة الطائفية السياسية الضيقة التي ميزت سياسات الحكومات السابقة، وتحقيق المصالحة الحقيقية مع السنة العرب وحل المشاكل العالقة مع الإقليم بروح بعيدة عن الانتقام والاستفادة من التاريخ وواقعية بعيدة النظر. ولكننا نعود ونقول هذه أمور فوق طاقة عبد المهدي والعراق غير مهيئ لها إذا استمرت الظروف الحالية.
ولكن إذا فشلت حكومة عبد المهدي في تحقيق الرزمة الاصلاحية التي وعدت المواطنين بها، فستنفجر الأوضاع بصورة جذرية، وتكون العراق مجزأ وقد يسيطر الامريكيون والايرانيون على اجزاء متنافرة منه. وسيكون الوضع أقرب إلى اليمن، ولكن الوضع العراقي أكثر حساسية للقوى العظمى والقوى الإقليمية، وستحاول الدول المعنية حسم الفوضى باتجاه تخدم مصالحها (36 ).


الهامش

1 How the tea party paved the way for Donald Trump – Washington Post, Sep 7, 2018 .

2 Putin clarifies Trump comment and says America is the world’s ‘only, the guardian, Jun 18, 2016 ..

3 The Knowns and Unknowns of Donald Trump’s Foreign Policy – The …link Nov 19, 2016

4 srael and Evangelicals: New U.S. Embassy Signals a Growing … link May 19, 2018

5 The Knowns and Unknowns of Donald Trump’s Foreign Policy – The … link Nov 19, 2016 … .

6 DONALD TRUMP AND THE NEW JACKSONIANS link

7 There’s Trump’s Foreign Policy and Then There’s His Administration’s … link Aug 3, 2018

8 Naftali Bennett interview: ‘There won’t be a Palestinian state within Israel ‘ link Jan 7, 2013

9 Donald Trump’s Israel ambassador is hardline pro-settler lawyer | US … link Dec 15, 2016

10 The White House and the Strongman – The New York Times link Jul 27, 2018 .

11 Obama’s ISIS policy is working for Trump – The Washington Post link Jan 25, 2018

12 Thanks to Trump, Turkey and Europe get closer – Hürriyet Daily News link Aug 17, 2018

13 Trump threatens sanctions against Turkey over American pastor … link Jul 26, 2018 …

14 Is Trump handing Putin a victory in Syria? – The Washington Post link Jun 28, 2018 …

15 Donald Trump, Pirate-in-Chief | The New Yorker link Jan 30, 2017

16 Trump Called Iraqi Officials ‘Thieves’ After Oval Office Visit – Newsweek link Feb 9, 2018

17 Greg Walters Feb 14, 2018

18 link

19 Iraq protests could topple Prime Minister Haider al-Abadi – The … link Aug 6, 2018

20 Iraqi voters undermine Trump’s Iran strategy | Asia Times link May 24, 2018

21 Iraqi voters undermine Trump’s Iran strategy | Asia Times link May 24, 2018 …

22 Iraqi voters undermine Trump’s Iran strategy | Asia Times link May 24, 2018 …

23 مفاوضات الكتلة الأكبر تعيد لأكراد العراق توازنهم بعد … – صحيفة العرب.

24 Trump’s “America First” foreign policy just dealt a blow to Iraq’s future … link Feb 14, 2018

25 After the Deal: A New Iran Strategy – US Department of State link May 21, 2018

26 Iraqi voters undermine Trump’s Iran strategy | Asia Times link May 24, 2018 … ; U.S. Warns Iran Over Rocket Attacks by Shia Militia – The Atlantic link Sep 12, 2018

27 Exclusive: Iraq to ask U.S. for exemptions on some Iran sanctions … link Aug 21, 2018 …

28 What does the Iran nuclear deal mean for Iraq? | World news | The …
https://www.theguardian.com/world/iran-blog/2015/jul/28/iraqis-fear-iran-after-nuclear-deal
Jul 28, 2015 …

29 Trump’s Iran Sanctions Are Backfiring in Iraq – POLITICO Magazine link Aug 14, 2018

30 U.S. to Close Consulate in Iraq, Citing Threats From Iran – WSJ link Sep 29, 2018 .

31 Trump’s Iran Sanctions Are Backfiring in Iraq – POLITICO Magazine link Aug 14, 2018

32 link 28 Oct 2018

33 https://aawsat.com/home/article/1421396

34 link

35 link

36 الآراء الواردة تعبر عن كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المعهد المصري للدراسات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى