تحديات ما بعد جولة ترامب الآسيويّة
أكثر ما يُميّز الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب، هو ثقته المفرطة بالنفس، ففي جولته الآسيوية قدم اقتراحاً طريفاً عند زيارته لهانوي ، فبعد أن قدّم نفسه كوسيط للرئيس الفيتنامي تران داي قوانغ بين الصين وفيتنام، في مجال تسوية نزاع البلدين في بحر الصيني الجنوبي خاطبه قائلاً له:” إذا كان بإمكاني التوسط أو التحكيم أعلمني بذلك فأنا وسيط جيد.” وسرّ الطرافة في هذا العرض أنّ الأمريكيين، فيما يبدو، يرون أنفسهم كقوة خير وإحسان في المنطقة، بينما يراهم كثير من الآسيويين كقوة احتلال ورثت الاستعمار وأقامت فيها قواعد عسكرية عالية التسليح، وهي تبرر وجودها في المنطقة تحت عنوان حفظ أمن الملاحة البحرية وحقوق الدول الضعيفة، ما يشكل إمّا انفصالاً عن الواقع أو محاولة تزويره بالقوة حيناً وبأساليب زلقة أحياناً.
الصينيون، وإن كانت علاقتهم بفيتنام قد تسمّمت ووصلت إلى أدنى مستوى لها في فترة السبعينيات من القرن الماضي إثر حصول حرب بين البلدين احتلت الصين خلالها مساحات واسعة من فيتنام ثم انسحبت، يدركون أن المشترك بين البلدين كبير جداً، ففضلاً عن الجوار هناك اشتراك بالأيدولوجيا الشيوعية بين الحزبين الحاكمين في البلدين. أمّا الفيتناميون وإن كانوا يستفيدون من الاستثمارات الخارجية الأمريكية ولكن بلادهم كانت تحت احتلال أمريكي مباشر، فكيف ينسون ذلك ويقبلون بالأمريكيين وسيطاً مع جيرانهم.
الآن وبعد عقود من المحاولات الصينية لتحجيم الدور الأمريكي في المنطقة والتأكيد في كل مناسبة أن الخلافات الإقليمية يمكن حلها بمفاوضات مباشرة بين دولها، يأتي هذا الاقتراح الترامبي الغريب. والتقط الصينيون الرسالة على الفور، ففي يوم الأحد الذي يليه كان الرئيس الصيني تشي جنبينغ يزور فيتنام ويلتقي برئيس الحزب الشيوعي ناغويان بهو ترونغ، ويوقعان على اتفاقية لحل المشاكل العالقة بين البلدين منذ عقود.
لعل لسان حال ترامب ومقاله يعلن أنّه قادر على تحقيق ما لم يحققه من سبقه من الرؤساء والإدارات الأمريكية، ولذا فإنّه عمليّاً، يلغي كل الاتفاقيات الجماعيّة مع القارة ويعيد التفاوض على الاتفاقيات الثنائية بين بلده وسائر البلدان الآسيوية معيداً رسم علاقة أمريكا بالقارة من جديد، ولكن هذه المرة ساحباً بقيّة الجزرة التي كانت بلاده تقدمها كمكافأة للآسيويين لاستقطابهم بعيداً عن الصين، ومحرّضاً بعضهم على بعض، كي ينخرطوا في مواجهات عسكرية هم بغنى عنها ولا يرغبون بها.
أمّا اللغة التي استخدمها ترامب في جولته الآسيوية فهي لا تخفي النوايا الأمريكية للقارة، فخلافاً للإصطلاح الشائع في مجال وصف الجزء الجنوبي الشرقي من آسيا وهو آسيا باسيفيك والذي استخدمه الرؤساء الأمريكيين السابقين، عمد ترامب لتسمية المنطقة (Indo-pacific) هندوباسيفيك، مقحماً الهند، العدو اللدود للصين، في معادلته الآسيوية في رغبة منه لصنع “تحالف ديمقراطي” يضم كل من الولايات المتحدة واستراليا واليابان والهند وهي تصنف وفقاً للمنظور الأمريكي كدول ديمقراطية تؤمن بالانتخابات وفكرة تداول السلطة، ما يمكن تصنيفه أيضاً من زاوية الأنظمة الآسيوية التي تأتي من خلفيات يسارية بتحالف اليمين فهو يضم حكومات يمينية محافظة في كل البلدان المذكورة، وربما شكلاً آخر للحرب البادرة، التي كانت سائدة في أواسط القرن العشرين بين الغرب تحت زعامة أمريكا، والدول اليسارية تحت زعامة الإتحاد السوفياتي.
وفي ظل تعثر الاستراتيجية الأمريكية في قارة آسيا، يبدو أنّ الصين تكسب جولات متعددة وإن كانت صغيرة، على حساب التراجع الأمريكي، ففي مكان آخر من القارة كانت المبادرة الصينية المعروفة باسم “مبادرة الحزام والطريق”، والتي ترمي إلى تعزيز شبكة الصين التجارية مع العالم عبر ما كان يعرف باسم طريق الحرير، تسير قدماً على أكمل وجه، فقبيل أيام من جولة الرئيس الأمريكي الآسيوية، وبالتحديد في الثلاثين من تشرين ثاني/ أكتوبر 2017، دشن رؤساء كل من تركيا رجب طيب أردوغان، وأذربيجان إلهام علييف، وجورجيا جورجي كافيشفيلي، خط باكو-تبليسي- قارص للسكة الحديد، وطوله 826 كيلومتر منها 105 كيلومتر جديدة، ويتوقع أن ينقل مليون راكب سنويا وخمسة مليون طن من البضائع، تصل الصين عبر كازاخستان فجورجيا فأذربيجان فتركيا بأوروبا بدون المرور في روسيا، وهو خط من شأنه أن يقدّم دفعة للنمو الاقتصادي لهذه البلدان وللتجارة الصينية مع أوروبا، في وقت كان الرئيس الأمريكي يلغي اتفاقية التجارة العابرة للمحيط الهادي التي كانت تربط بلاده ببلدان شرق آسيا، دافعاً هذه البلدان بعيداً عن أمريكا إلى أحضان الصين.
خريطة: خط باكو – تبليسي – قارص للسكة الحديد
وخلافاً لرغبة ترامب الذي يستخدم لهجة تصعيدية مع كوريا الشمالية مهدّداً بإطلاق حرباً مدمرة، لن تكون كوريا الشمالية ضحيتها الوحيدة، فإنّ المنطقة ترى في هذه الحرب حرباً عبثيّة هي بغنى عنها، وتفضل الخيار الدبلوماسي والتأثير على السلوك الكوري الشمالي من خلال وسائل سلميّة، ولا أحد اليوم أقدر من الصين على فعل ذلك، فالحل إذن لهذا الوضع بالغ الصعوبة، يكمن في اليد الصين والتي يمكن أن تحدد مصير المنطقة عن طريق حليفتها كوريا الشمالية، ما يعني أنّ على دول المنطقة طلب الرضى الصيني واقناعه دائماً بضرورة ضبط سلوك حليفه الذي يبدو غير آبه بالتهديدات الأمريكية على الإطلاق، بل أنّه يرى في تسلحه أمان له من مصير شبيه بمصير القذافي وصدام حسين اللذين لقيا حتفهما إثر التدخل العسكري الأمريكي في بلديهما.
وها هي الصين تظهر مناعة لاستراتيجية الاستنزاف الأمريكية مع مرور الأيام، حتى وإن اعتمدت أمريكا في ذلك على تايوان واليابان وكوريا الجنوبية والجيران الآخرين للصين كفيتنام والفلبين، لمحاولة توريط الصين بخلافات مع جيرانها لتعويق نموها الاقتصادي وتبريراً لحضورها العسكري الدائم في المنطقة بزعم حماية دول المنطقة من المد الشيوعي والخطر الصيني، ولكن الأيام حملت لأمريكا ما لم يكن بالحسبان، إذ ها هي الفلبين تنتخب رئيساً يساريّاً يتجه نحو الصين ويسوّي خلافاته معها فيما يختص ببحر الصين الجنوبي ضارباً بحكم محكمة التحكيم الدوليّة والتي حكمت للفلبين بالأحقية في نزاعها مع الصين، مفضلاً المساعدات الصينية خصوصاً في مجال البنية التحتية، على حكم لا قيمة له على أرض الواقع.
أمّا تايوان فقد توارت منذ زمن بعيد عن نشرات الأخبار ولم يعد يُسمع لها صوت مخافة إغضاب الصين التي أصبح بيدها الكثير من الأوراق التي تلعبها في حال تم استخدام تايوان التي تعتبرها جزءاً لا يتجزء من التراب الصيني، ضدها. وإذا نظرنا إلى كوريا الجنوبيّة فآخر ما تحتاجه هو حرب مع جارتها الشمالية وهب بأمس الحاجة إلى علاقة طيبة دائمة مع الصين كي تأمن على نفسها من شقيقتها الشمالية، والتي تعتبر الجهة الوحيدة التي لديها القدرة على كبح جماح الطوفان الكوري الشمالي، وهو ما ينطبق على اليابان أيضاً، أما فيتنام الأخ العدو للصين فقد أشرنا مسبقاً أنّ العلاقات بين البلدين آخذة بالتحسن بسرعة إثر الزيارة التي قام بها الرئيس الصيني إلى فيتنام ووقّع فيها اتفاقية لحل النزاع على بحر الصين الجنوبي.
في ظل هذه المعادلة المعقدة، هناك الجار الشمالي للصين والذي لا يريد أن يغيب عن هذا المهرجان ويأمل أن يحصل على حصته غير منقوصة، وهو روسيا الاتحادية، أكبر بلد مساحة على هذا الكوكب ووريثة إمبراطورية الاتحاد السوفياتي السابق. روسيا تستشعر أهمية المنطقة المتنامية، فالروس يلمسون أنّ الحيوية الاقتصادية بدأت بالانتقال من أوروبا الغربية إلى منطقة آسيا باسيفيك وهم يريدون حصتهم من الكعكة كما أسلفنا، كما أنّهم معنيون كثيراً بتمنية نفوذهم في المنطقة بغية تطوير سيبيريا والتي تعاني من مشكلة روسيا المزمنة وهي غياب الموانئ الدافئة التي تمكنها من التواصل مع العالم بيسر.
وتتمتع روسيا اليوم بعلاقة طيبة مع الصين فهما يشتركان في منظمة شنغهاي للتعاون الاقتصادي، وتشكل قطعة أساسية في مبادرة الحزام والطريق الصينية، كما أنّ علاقتها المميزة مع كوريا الشمالية يمكن أن تتيح لها مد خط غاز وسكة حديد إلى كوريا الجنوبية في حال استطاعت أن تقنع الكوريتيين بحل مرضٍ لمشاكلهما، ما يمكنها من الوصول إلى الموانئ الدافئة في جنوب شبه الجزيرة الكورية.
إذن الاستراتيجية الصينية تسير بثبات وهدوء في المنطقة، بينما الولايات المتحدة تعوّل باستراتيجيتها على الحكومات اليمينية في الهند واليابان، ولكن ما الجديد في هذه المعادلة، فاليابان حليف قديم لأمريكا؟ الجواب هو في الدور الهندي، إذ تسعى أمريكا لتقوية الهند وزيادة حضورها في قضايا المنطقة أمام تزايد النفوذ الصيني، وبذا يمكن فهم التقارب المتزايد بين حكومتي الهند واليابان وسعيهما إلى إنشاء خطوط نقل وتجارة لمواجهة “مبادرة الحزام والطريق” الصينية، فعقب إعلان الرئيس الصيني شي جنبينغ، عن مبادرته الطموحة في عام 2013م، قام رئيس الوزراء الهندي مودي، بإعلان رؤيته لمشروع مقابل، في اجتماع بنك التنمية الإفريقية (AfDB) المنعقد حينها في ولاية كجرات الهندية، وفي عام 2016م استطاع مودي ورئيس وزراء اليابان آبي، التوصل إلى اتفاق مشترك لمشروع تم تسميته بممر التنمية الآسيوية الإفريقية، Asia-Africa Growth Corridor (AAGC) ، وهو مشروع ضمن مشاريع أخرى على طاولة صانع القرار الهندي.
السؤال الذي يبقى معلّقاً في الوقت الحالي، هو هل سيخرج الأمريكيون من جعبتهم ما يغيّر هذا الوضع المعقد في القارة الآسيوية، أم ستبقى الاستراتيجية الأمريكية رهينة لعقدة التردد والأساليب القديمة؟ (1).
———————-
الهامش
( 1 ) الآراء الواردة تعبر عن كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المعهد المصري للدراسات