تداعيات سقوط ترامب على بلاد العرب
حالة الانزعاج التي يعاني منها بعض حكام العرب بعد سقوط الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الانتخابات الامريكية أمام المرشح الديمقراطي جو بايدن رد فعل متوقع على غياب الداعم الأمريكي، الذي وفر لهم الحماية طوال السنوات الأربع الماضية ضد شعوبهم وضد أي مساءلة دولية بسبب الاستبداد والقمع.
قوبل فوز بايدن بارتياح في بلاد العرب، ليس لأنه سيأتي بالحرية للشعوب، ولكن لنهاية حكم ترامب الذي نجح في تشكيل شبكة من الحكام المفرّطين في حقوق بلادهم وأمتهم والمحاربين لدينهم وثوابتهم، واستغل ضعفهم وافتقادهم للتأييد الداخلي في تنفيذ أجندة اليمين الأمريكي المتطرف لضرب الإسلام من الداخل، بوتيرة متسارعة غير مسبوقة.
لا خلاف كبير بين الديمقراطيين والجمهوريين في التعامل مع قضايا العالم العربي، ولكن ترامب كان طفرة خارج السياق، وتجاوز كل الأعراف والاتفاقات الدولية، بل والسياسة الأمريكية نفسها، فاستغل القوة الأمريكية في الإجهاز على ما تبقى من فلسطين، وأطلق شرارة الحرب على الإسلام قبل ماكرون.
سقوط صفقة القرن
من أهم المكاسب المترتبة على غياب ترامب من المشهد نهاية مشروع الإجهاز على فلسطين، الذي كان يشرف عليه صهره جاريد كوشنر، والذي أطلق عليه اسم “صفقة القرن”، والذي بدأ بالاعتراف بالقدس عاصمة لـ “إسرائيل” ويقضي بتسليم المناطق الرئيسية من الضفة للاحتلال وضم ما تبقى للأردن، وطرد فلسطينيي غزة إلى سيناء.
لم يكن ما طرحه ترامب منطقيا ولا صلة له بالاتفاقات الدولية ومواثيق الأمم المتحدة، ولم توافقه دول العالم وحتى أوروبا على تطرفه، وإنما كان يعتمد على فرض الأمر بالقوة الأمريكية بعد خضوع حكام الدول العربية الرئيسية وموافقتها المخزية على بيع فلسطين، بل وهرولة بعض هؤلاء الحكام للتطبيع الكامل مع “إسرائيل”.
وظل ترامب حتى قبيل الانتخابات يضغط على الدول العربية للتطبيع الكامل والمعلن مع الكيان الصهيوني، لكسر ما تبقى من مقاطعة، وتسليم الدول لـ “إسرائيل” ونجح جزئيا في سعيه مع بعض الدول ولكن خروجه من البيت الأبيض يوقف هذا الضغط الذي كان سينجح بشكل كارثي بسبب حالة الانهيار العربي.
رحيل ترامب يعني سقوط صفقة القرن وتوابعها، والعودة إلى ما قبل ترامب، وهذا التغيير الهام يحرج الحكام العرب الذين تورطوا، ويجعلهم في حالة من الارتباك والحيرة، خاصة أن بعضهم ارتكب ما هو أبعد، مثل مشروع نيوم في السعودية الذي يعد مستوطنة إسرائيلية مقتطعة من أرض المملكة لها مجلس إدارة دولي، وسيناء التي تم إخلاء معظم الجزء الشرقي منها لصالح “إسرائيل”.
وقف الدعم للشبكة التابعة لليمين الأمريكي
من أهم النتائج الايجابية لاختفاء ترامب من البيت الأبيض وقف الدعم الرسمي للشبكة السرية التي أنشأها في العالم العربي، لتبني أفكار اليمين الأمريكي المتطرف لتدمير الإسلام بأيدي موظفين من داخله بمزاعم التجديد وتطوير الخطاب الديني، وتشويه الرموز الدينية والسياسية التاريخية والمعاصرة، وشيطنة كل ما يتعلق بالمظاهر الإسلامية.
هذه الأجندة المتطرفة طرحتها مؤسسة راند الأمريكية في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش عام 2007 في تقرير بعنوان “بناء شبكات الاعتدال الإسلامي” وتقرير آخر سبقه في 2003 أكد نفس النهج المعادي بعنوان “الإسلام الديمقراطي المدني” ولكن انتخاب باراك أوباما أوقف تنفيذ هذه الأفكار غير المنصفة والمتطرفة، حتى جاء ترامب وتبناها وفرضها بقوة الدولة الأمريكية، وبقبول ودعم علني من حكام الإمارات والسعودية والبحرين ومصر ( انظر ترجمة تقرير 2007 للدكتور إبراهيم عوض و ترجمة تقرير 2003)
تهدف الخطة إلى التعامل مع الإسلام كأيديولوجية وليس دينا، والعمل على تدميره من الداخل كما فعلت أمريكا مع الشيوعية، عبر تشكيل شبكات سرية من السياسيين والمفكرين والنشطاء والأكاديميين والإعلاميين، كما تم في الحرب الباردة ضد الشيوعية وتفكيك الاتحاد السوفيتي.
تضمنت خطة راند معلومات تفصيلية حول هذه الشبكات العاملة في العالم العربي، وكيفية عملها وفق التخطيط المرسوم، وطرق الدعم الرسمي من الوكالات الأمريكية المختلفة، والردود على كل الانتقادات الموجهة للخطة وأساليب إقناع المعترضين في المؤسسات الأمريكية.
خلاصة الخطة هو أن كل المسلمين عدو، ولا تفريق بين المعتدلين والمتطرفين، ولا فرق بين الجماعات التي تمارس العنف وبين الجماعات والأحزاب السياسية التي تريد التغيير عبر الوسائل الديمقراطية، واعتبر التقرير أن المنخرطين في هذه الشبكات هم فقط العلمانيون الرافضون للتفسيرات الإسلامية والمؤمنون بما يسمى القيم الغربية والعالمية.
بمجيء ترامب تم التنفيذ، وحققت الخطة قفزة كبرى من خلال الشبكة الأكثر أهمية التي صنعها الرئيس الأمريكي وضمت بن سلمان وبن زايد والسيسي وحمد بن عيسى، والتي أعطت دفعة قوية للشبكات التي تم تأسيسها من الطاعنين في الإسلام وجعلها تحظي برعاية رسمية، وتم تسخير وسائل الإعلام الرسمي للتخديم على أجندة الطعن في الدين لأول مرة في تاريخ العرب منذ ظهور الإسلام.
ويظهر الجهد الرئيسي لهذه الشبكات السرية المتشابكة في شيطنة الكيانات الإسلامية الشعبية ودق طبول الحرب “الأبدية” ضدها لتحويلها إلى عدو يحل دمه وماله (ما يحدث مع الإخوان المسلمون نموذجا) والسعي لهدم المؤسسات الدينية الرسمية التي تدافع عن الدين مثل الأزهر الشريف الذي يتعرض لهجوم سياسي وإعلامي متكرر، ومحاولات هدمه بمشروعات قوانين في البرلمان.
وقد نجح عملاء الشبكات السرية التابعة لليمين الأمريكي في السيطرة على بعض المؤسسات الدينية، وتحويل دورها من الاهتمام بالشئون الدينية إلى الهجوم الدائم على الرموز والكيانات الإسلامية، وترديد الاتهامات الغربية المعلبة، لإظهار أن الأزمة داخل الإسلام وأن المسلمين هم المشكلة، وترديد المزاعم بتجريم ما يسمى الإسلام السياسي، والتحالف مع خصوم الأمة في كل الملفات والقضايا، وظهر هذا بوضوح في معركة الإساءة للنبي صلى الله عليه وسلم (هيئة كبار العلماء في السعودية ودار الافتاء في مصر).
مستقبل شبكة ترامب
لم يعد أمام الشبكة التي أسسها ترامب من الرؤساء والحكام والأمراء مساحة واسعة للتحرك كما كان في السابق، بعد غياب المحرك والداعم الدولي الرئيسي، والوضع مقلق بشكل خاص لمحمد بن سلمان وعبد الفتاح السيسي، فالأول ارتكب الكثير من الخطايا لتخلية الطريق للوصول إلى كرسي الحكم، فقطع رحمه واعتقل أبناء عمومته واستولى على أموالهم، وأنهى حكم آل سعود ليبدأ حكم آل سلمان، لكن تظل قضية قتل جمال خاشقجي هي اللعنة التي تعيق مشروعه، وقضت على سمعته، ولم يستطع الفكاك منها حتى بعد المحكمة السعودية الصورية التي برأت المتهمين وأبعدته عن الاتهام.
لقد كان ترامب هو الذي يتستر على بن سلمان ويحميه من العقوبات الأمريكية والدولية، ومقابل هذا الدور ابتز السعودية واستولى على ثروة المملكة، فانتشر الفقر بين السعوديين والوافدين العاملين بها، وعجزت الشركات والحكومة عن دفع الرواتب، وتم تسريح أعداد كبيرة من العمالة والامتناع عن سداد حقوقهم وإنهاء التعاقدات.
وبالنسبة لعبد الفتاح السيسي فإن الخسائر أكبر، فهو قد بنى وجوده في الحكم كديكتاتور محميا من ترامب والخارج، ورفض أي إصلاح داخلي، وتبنى أجندة اليمين الأمريكي المتطرف كاملة وزاد عليها، بعداوة جواره العربي والمسلم والتحالف مع الخصوم والأعداء التاريخيين لمصر، وفرط في نهر النيل وثوابت الأمن القومي معتمدا على مساندة ترامب، لكن هاهو الجدار قد انهار فجأة ليجد السيسي نفسه يواجه نتائج سياساته المعادية لمصالح مصر والوقوف أمام الشعب وجها لوجه.
من الواضح أن برنامج جو بايدن المعلن أن الإدارة الجديدة لن تحافظ على تركة ترامب ولن تدافع عنها، بل ولن تكون ودية مع أعوانه وصبيانه الذين ساندوا الرئيس الساقط بالمال والإعلام حتى يوم الانتخابات، وسيكون لهذا التغيير تأثيره الإيجابي خاصة مع الأوضاع غير المستقرة والغضب الشعبي المتصاعد نتيجة السياسات الاستبدادية والفاشلة التي دمرت الاقتصاد وأدخلت البلاد في أنفاق مظلمة ميئوس منها.
خلاصة
الترحيب بسقوط ترامب لا يعني أن بايدن سيحرر العالم العربي ويسقط الحكام المستبدين، ولكن في عالم اليوم المتشابك تتأثر مصالح الدول بالتغييرات الدولية، وستظل الشعوب هي الطرف الأقوى من أي تدخل خارجي؛ إذا اتفقت القوى الحية واجتمعت على انتزاع الحق في التغيير واختيار الحكام لتحقيق الاستقلال والخلاص من الهيمنة الأجنبية.