ثقافة الائتلاف وآداب الاختلاف
يظل الحديث عن الائتلاف والاختلاف وأديباته حديثًا نظريًا مُنمّقًا، لكن التجربة بممارسته على أرض الواقع هي التي تكشف عن قدرتنا على توظيف الاختلاف للمصلحة العامة، كما تكشف عن قدر حاجتنا للحديث عن ثقافة الائتلاف وآداب الاختلاف.
وما أحوجنا في هذه المرحلة من حياة أمتنا التي تتجاذبها كل الملل، ويتقاذفها أعداؤها في كل مكان، أن تتوحد كلمتنا وأن نتعلم ثقافة الائتلاف والتقارب فيما بيننا، فبقدر قوة وحدتنا وتماسكنا، يكون ذلك بأسًا على أعدائنا، ووعينا بآداب الاختلاف، ينجينا جميعًا من الصراع المذموم الذي يفرق كلمتنا ويشتت صفّنا.
لقد أتقنا فن الاختلاف، للأسف، وافتقدنا آدابه والالتزام بأخلاقياته، فكان أن سقطنا فريسة التآكل الداخلي والتنازع الذي أورثنا هذه الحياة الفاشلة، أو أدّي إلى ذهاب الريح، قال تعالى: (ولا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الأنفال: 46]
ومصطلح (الائتلاف) مصطلح جميل له ما بعده، وتبتهج به النفس، وتهشّ له القلوب، لا سيما في زمن نحتاج فيه للتقارب والتآلف وتوحيد الكلمة وجمع القوى. أما (الاختلاف) فيرى بعض العلماء أنه لا فرق بينه وبين الخلاف، بل هما مترادفان، ومن العلماء من يُفرّق بينهما. قال أبو البقاء الكفوي في كلياته: الاختلاف: هو أن يكون الطريق مختلفًا والمقصود واحدًا، والخلاف أن يكون كلاهما مختلفًا. والاختلاف من آثار الرحمة والخلاف من آثار البدعة، والاختلاف ما يستند إلى دليل والخلاف ما لا يستند للدليل.
ولذلك قال الله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗ) [هود: 118-119]، فالاختلاف بين البشر هو سنة كونية لمن استثمره وتفاعل معه وتقبّله وجعله أداة بناء للعلاقات الإنسانية لا هدمها، كما يتصور البعض، وقد أراده الله سبحانه وتعالى لخير البشرية لا لشقائها. ويجب أن ننظر إليه من منظور إيجابي ونستخدمه لرقينا وتقدمنا لا العكس، فلو تحلينا بأدب الحوار وضوابط الاختلاف، لوجدنا أن الاختلاف نعمة كبرى وليس نقمة كما يعتقد البعض، هذا شريطة أن يكون هذا الاختلاف اختلافًا منهجيًا وليس اختلاف مصالح. فالاختلاف المنهجي يُثري الحوار ويُصقل ويُثقّف المختلفين في الرأي، إذا ما التزموا بأدب الحوار وضوابط الاختلاف، أما اختلاف المصالح، فهو اختلاف أعمى يؤدّي بأطرافه إلى الهلاك.
أسباب الاختلاف بين الناس:
الاختلافات من حيث أسبابها وجذورها نوعان، كما ذكرها محمد أبو زهرة في كتابه تاريخ الجدل: خلقية، وفكرية.
أولًا: الأسباب الخُلُقيّة :
1-الغرور بالنفس، والإعجاب بالرأي.
2-سوء الظن بالغير، والمسارعة إلى اتهامه بغير بيّنة.
3-حب الذات واتباع الهوى، ومن آثاره: الحرص على الزعامة أو الصدارة أو المنصب.
4-التعصب لأقوال الأشخاص والمذاهب والطوائف.
5-العصبية لبلد أو إقليم أو حزب أو جماعة أو قائد.
وهذه كلها رذائل أخلاقية عُدّت من المهلكات في نظر علماء القلوب، والاختلاف الذي ينشأ عن هذه الرذائل أو المهلكات، اختلاف غير محمود، بل هو داخل في التفرق المذموم .
ثانيًا: الأسباب الفكرية:
وأما الاختلافات التي سببها فكري، فمردها إلى اختلاف وجهات النظر في الأمر الواحد، سواء كان أمرًا علميًا، كالخلاف في فروع الشريعة، وبعض مسائل العقيدة التي لا تمس الأصول القطعية، أو كان أمرًا عمليًا، كالخلاف في المواقف السياسية واتخاذ القرارات بشأنها، نتيجة الاختلاف في زوايا الرؤية، وفي تقدير النتائج وتبعًا لتوافر المعلومات عند طرف، ونقصها عند طرف آخر، وتبعًا للاتجاهات المزاجية والعقلية للأطراف المتباينة، وتأثيرات البيئة والزمن عليها سلبًا وإيجابًا.
ومن أبرز الأمثلة لذلك: الاختلاف حول المشاركة في الحكم في دولة لا تلتزم بتطبيق الإسلام كله، والتحالف مع بعض القوى السياسية غير الإسلامية أو غير المسلمة، لإسقاط قوة الطاغية التي تخنق كل رأي حر، وتخرس كل صوت حر، إسلاميًا أو غير إسلاميًا، مسلمًا أو غير مسلم.
وبعض الخلاف هنا سياسي محض، أي يتعلق بالموازنة بين المصالح والمفاسد وبين المكاسب والخسائر، في الحال، وفي المآل، وبعضها فقهي خالص، أي يرجع إلى الاختلاف في الحكم الشرعي في الموضوع: أهو الجواز أم المنع؟ وبعضها اختلط فيه النظر الفقهي بالنظر المصلحي والسياسي.
كيف نصل إلى الائتلاف مع اختلافنا في وجهات النظر؟
الائتلاف في هذه المرحلة من أوجب الواجبات، التي يجب على كل العاملين في العمل السياسي، والعمل الدعوي، أو أي عمل بشري، يُراد منه نفع الناس، مراعاة ذلك، دون الإخلال بالثوابت المتعارف عليها في كل فن. ومن الأمور التي تساهم في التقارب بين الناس والتفاهم، وتساعد على الائتلاف بعيدًا عن التنابز بالألقاب:
أولا: الرفق في التعامل: فالرفق مبدأ من المبادئ العامة للشريعة الإسلامية، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “الرفق ما كان في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه”، “إن الله رفيق يحب الرفق، وإن الله يعطي على الرفق مالا يعطي على العنف”، فالمتأني الذي يأتي الأمور برفق وسكينة، اتباعًا لسنن الله في الكون، واقتداء بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، تتيسر له الأمور، وتُذلل له الصعاب، لا سيما إذا كان ممن يتصدى لدعوة الناس إلى الحق فإنه مضطر إلى استشعار اللين والرفق كما قال تعالى: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) [فصلت: 34]
ثانيًا: ألّا نتكلم بغير علم: قال تعالى (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)[الإسراء: 36]، فلا بد من الإحاطة بما في المسألة التي تريد أن تتحدث فيها قبل أن تختلف مع غيرك، وكما قال الشاعر:
قل للذي يدّعي علمـــــا ومــعــرفة علمت شيئـــا وغـابت عنك أشـيــــاء
فالعلم ذو كثــرة في الصحف منتشر وأنت يا خل لم تستكمـــل الصحفـــا
ثالثًا: الاستماع والإنصات الجيد للآخرين: فنحن حينما نتحدث، نحب أن يستمع إلينا الآخرون، لأن الاستماع يشعرنا بالثقة والاحترام، وأهميتنا لدى الطرف المستمع، وقد أثبت علماء النفس الاجتماعي أن الاستماع الجيد إلى الآخرين ليس بالضرورة ينتهي إلى التأثير الكامل عليهم إلا أنه يزيد من أواصر المحبة والتقارب الروحي والعاطفي بين الناس.. كما أن من أبرز سمات العظماء وأصحاب النفوذ والتأثير في المجتمعات هي الاستماع والإصغاء إلى كلام الآخرين، فليس كثرة الكلام دليلاً على قوة الشخصية ولا قوة التأثير بل ربما – أو في الغالب – ينتهي كثرة الكلام إلى ما لا يحمد عقباه من النتائج.
آداب الاختلاف في الرأي وضوابطه:
إن الاختلاف في الرأي من مصادر الإثراء الفكري ووسيلة للوصول إلى القرار الصائب، وما مبدأ الشورى الذي قرّره الإسلام إلا تشريعًا لهذا الاختلاف الحميد (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) [آل عمران: 159]، وهذه كانت طبيعة النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، فيما لم ينزل به وحي.
ويمكن أن نجمل آداب الاختلاف في النقاط التالية:
أولاً: التسامح: وهو من معاني قولهم: “الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية”، وهو شأن العلماء، فلقد قيل للإمام أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري صاحب الإمام أبى حنيفة رضي الله عنهما: “وجدنا فأرة في مرجل الحمام”، وذلك بعد أن أغتسل فقال: “هو طاهر عند أخينا الشافعي، لأنه بلغ أكثر من قلتين فلا يحمل الخبث”، وصلي الإمام الشافعي بمسجد الأعظمية في بغداد، فلم يقنت لصلاة الفجر، فلما قيل له في ذلك قال: “استحييت من صاحب هذا القبر أن أخالف مذهبه”، أي أبا حنيفة رضي الله عنهما.
ثانيًا: التحلي بمكارم الأخلاق ومحاسن العادات: فالمنافق إذا خاصم فجر والمؤمن يخالف غيره، لكنه يوقّر الكبير ويرحم الصغير، ويعرف للعالم حرمته ويحفظ حقوق الأشياخ، ويعرف مقامات الناس، وأوزان الرجال، وقيمتهم. قال الله تعالى: (لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء: 114]
ثالثًا: الحلم على المخالف في الرأي ومحبة الخير له: وهو مدعاة للوصول إلى الحقيقة التي هي هدف الجميع فالغضب لا يأتي بخير ولا يحل مُشكلًا بل يُعقّد الأمور، وأن الإنسان يخالف في الرأي غيره، وليس من مقتضى ذلك أن يخاصمه ويشاجره، بل أن يأخذ بيده برفق إلى درجة يرى بها نور الحق فيسير خلفه، فالحكيم من أنقذ غيره بالحلم، وفي الحديث: “لا تغضب ولك الجنة”.
رابعًا: الاحترام المتبادل للأشخاص والأفكار: إن أهم ما يمّيز الخلاف العلمي، أنه خلاف بين الأفكار لا بين الأشخاص، فالأشخاص المختلفون لهم حرمتهم ومكانتهم، وهم بلا ريب من أهل العلم والفضل، ولا يجوز تجاهلهم لمجرد خلاف شجر بيننا وبينهم، أو النيل من كرامتهم، فلا خلاف مطلقًا بين أشخاصنا وأشخاصهم، بل بين أفكارنا وأفكارهم، فنحن في نظر أنفسنا رأينا صواب يحتمل الخطأ ورأيهم خطأ يحتمل الصواب ما دام الخلاف في الفروع، وقد عظّم الأئمة الأربعة بعضهم بعضًا في حياتهم وبعد الوفاة، وكانوا القدوة المثلى في هذا الأدب الجم، وإن وُجد فليس القاعدة ولا الأصل، بل الاستثناء والشذوذ.
خامسًا: الرجوع إلي الحق ولو مع الخصم: وهذه من سمات الصالحين، وإلا كانت مهاترات وجدلًا فارغًا لا طائل منه، فبهذا الإخلاص للعلم وللحقيقة المجردة عاشوا للحق وللحق وحده، فقد رُوي أن الإمام أبا حنيفة رضي الله عنه وعن سائر الأئمة الأعلام – وكان في بدء أمره مُتكلمًا نظارًا – رأى ولده حمادًا يناظر في المسجد فنهاه، فقال له ولده: أما كنت تناظر؟! قال: “بلى، ولكن كُنّا كأن على رؤوسنا الطير من أن يخرج الباطل على لسان الخصم، بل كُنّا نود أن يخرج الحق على لسانه فنتبعه، فإذا كنتم كذلك فنعم”، وقال الإمام الشافعي، رحمه الله: “والله لوددت أن يظهر الله الحق ولو على لسان خصمي”.
خلاصة:
إذن من حق الجميع أن يطرح وجهة نظره، ومن حق الجميع أن يرفض وجهة النظر الأخرى جملة وتفصيلا، طالما هناك أسباب مُقنعة وأدلة دامغة، دون سِباب أو تخوين، أو اتهام بالعمالة، أو غير ذلك من الاتهامات الجاهزة والمُعلبة، بناء على سوء الظن، فإن الله يبغض الفاحش البذيء، وكل ذلك يُدمِّر الأشخاص، والكيانات القائمة، فمن الأهمية بمكان الالتزام بآداب الحوار مع المخالفين، دون التقليل من شأنهم (1).
————————-
الهامش