شخصية المصريين: مداخل التحليل
تجمع الشخصية المصرية العديد من الصفات التي تبدو في كثير من الأحيان متناقضة، فقد تأرجحت شخصية الإنسان المصري عبر العصور بين الاستقرار والثورة والهدوء والغضب والإقدام والإحجام، ولذلك حاولت العديد من الدراسات السابقة التوصل إلى السمات الأساسية التي تشكل الشخصية المصرية عبر العصور التاريخية المختلفة، وهناك الدراسات التي اهتمت فقط بدراسة الشخصية المصرية في عصور بعينها مثل العصر الفرعوني أو القبطي أو الإسلامي أو الحديث أو المعاصر.
وإذا كنا في هذا المجال بصدد الحديث عن التغيرات الاجتماعية والنفسية التي حدثت في الشخصية المصرية المعاصرة فيجب علينا أولا التعرض للسمات الأصلية للشخصية المصرية وذلك لمحاولة التوصل إلى أهم وأبرز التغيرات التي طرأت عليها، وقبل ذلك يجب أن نتناول مقدمة نظرية حول مفهوم الشخصية المصرية ذاتها للإجابة على السؤال التالي: هل هناك بالفعل خصوصية لشخصية الإنسان المصري؟؟
مما لا شك فيه أن هناك خصائص وسمات يختص بها الإنسان المصري دون سواه، وهذا ينطبق على كل شعوب الأرض، ويجب الإشارة هنا إلى أن التعميم بشكل مطلق غير علمي، ولكن تحديد السمات والصفات الغالبة ضرورة لابد منها.
لقد استخدم اصطلاح الشخصية Personality في اللغات الأوروبية المنحدرة من أصول لاتينية هذه الكلمة Personality هي لفظة مشتقة من لفظة برسونا Persona، ومعناها القناع، وهذه الكلمة بدورها مركبة من لفظتين بير، وسوناري Per-sonare،ومعناها عبر أو عن طريق الصوت، واللفظة بكاملها، يعود استعمالها إلى الزمن الذي راح فيه الممثل على المسرح الإغريقي حينما يريد أداء دوراً فيه على خشبة المسرح، يضع القناع على وجهه لغرض أداء الدور وإيضاح الصفات المميزة التي يتطلبها الدور في هذه الشخصية، هذه الشخصية هي البطل على المسرح أو الشرير أو الأناني أو البخيل أو الوفي أو الصادق أو الكئيب أو المنحرف، وهو الحال ذاته عند المرأة ويقال أيضا بأن استعمال القناع، جاء بناء على الضرورة التي شعر بها أحد الممثلين لإخفاء تشويه في وجهه فليس استخدام القناع لأول مرة تجنباً للخجل أو العيب أو الإحراج، ومن هذه اللحظة والبداية بدأ استخدام الكلمة حتى تم تطويرها إلى ما تعنيه الآن من مفاهيم حديثة.
وعن مفهوم الشخصية بشكل عام يشير قاموس علم الاجتماع إلى أن الشخصية هي صيغة منظمة نسبيا لنماذج السلوك والاتجاهات والمعتقدات والقيم النمطية المميزة لشخص معين، والتي يعترف بها هو والآخرين، وتعتبر الشخصية محصلة الخبرات الفردية في بيئة ثقافية معينة ومن خلال تفاعل متميز يحدد بناء شخصية الفرد عن طريق ملاحظة سلوكه العام وطريقة تفكيره ومشاعره على أن الشخصيات الفردية تعكس بناء مجتمع الشخص وثقافته والعمليات الكامنة في ذلك البناء، ويمكن النظر للشخصية كمظهر ذاتي للثقافة ولكن الحياة الاجتماعية تتميز بالتعقيد الشديد والتغير المستمر وعدم الاستقرار لدرجة أن الشخصيات تتمايز إلى حد بعيد على الرغم من امتثالها للتعريفات الثقافية وللأدوار، ويثير المصطلح مجموعة العناصر البيئية في سلوك الفرد وذلك دون الإشارة إلى عمليات سلوكية معينة مع الاهتمام بالهوية والكيان المستمر للفرد في مجرى النمو والتطور.
المداخل النظرية لدراسة الشخصية:
حاولت العديد من الدراسات في العلوم الإنسانية المختلفة دراسة أبعاد الشخصية ومكوناتها وسماتها، وقد تبنت عدة مداخل مختلفة لدراسة الشخصية ومنها المدخل النفسي، والمدخل الأنثروبولوجي، والمدخل النفسي الاجتماعي. وسنحاول التعرض لهم بإيجاز شديد لأن ما يهمنا في هذا المبحث هو الحديث عن الشخصية المصرية أي الشخصية المصرية بطابعها القومي الذي يميزها عن غيرها من الشخصيات الأخرى.
أولاً: المدخل النفسي:
يركز هذا المدخل على محاولة فهم ودراسة الشخصية الفردية من حيث مكوناتها ودوافعها وغرائزها وسماتها الخاصة سواء الموروثة أو المكتسبة، فعلى سبيل المثال ترى نظرية التحليل النفسي في علم النفس أن مفهوم الشخصية يقترن بوجود صفات وسمات تستمر على مر الزمن وتميز الفرد عن غيره حتى تجعل له هوية مميزة، وإزاء ذلك فإن هذه السمات والشخصية لا تتضح ملامحها تماما إلا بعد سن المراهقة والبلوغ.
وقد تنوعت التوجهات النظرية التي اهتمت بدراسة الشخصية في علم النفس، وحاول الدكتور رفيق حبيب في دراسته عن التطور النفسي للشخصية المصرية عبر عدة قرون من خلال الفنون المستخدمة في كل عصر، أن يوضح أهم هذه التوجهات النظرية في مقدمة بحثه الأكاديمي، حيث أوضح أنها كالتالي:
1ـ منحى التحليل النفسي بمدارسه المختلفة: حيث الاهتمام بالعمليات و الديناميات النفسية، وهنا نجد الاهتمام منصبا على الحالة الفردية بكل خصوصياتها، ومن خلال هذا الاهتمام يحاول الباحث الوصول إلى السمات أو العناصر المركزية في تكوين الإنسان عامة.
2ـ منحى علم النفس الإنساني: وهو يماثل التحليل النفسي من حيث الاهتمام الواضح بالفرد، والحالة الفردية، ثم محاولة الوصول إلى سمات أو مكونات أو عمليات عامة تميز الإنسان عامة.
3ـ المنحى التجريبي القياسي: وهو لا يهتم بالحالة الفردية، بل يأخذ منحى جمعيا، فيركز في دراساته على أعداد كبيرة من العينات بحثا عن الخصائص والسمات النفسية العامة والأساسية.
4ـ المنحى التجريبي الاجتماعي: وهو لا يركز على سمات شخصية الفرد سواء ما هو خاص بفرد واحد أو ما هو عام بالنسبة لجماعة أو للإنسان عامة، ولكنه يركز على خصائص وسمات الموقف المحيط بالإنسان، أي سياق سلوك الإنسان، وهذا المنحى يحاول الوصول إلى العوامل الموقفية التي تؤدى إلى ظهور سلوك ما.
ثانياً: المدخل الأنثروبولوجي:
اهتمت المداخل الأنثروبولوجية لدراسة الشخصية بدراسة الثقافات البدائية وكانوا يستخدمون المنهج المقارن فى دراساتهم هذه وتميز مدخلهم بالجمع بين الأساليب السيكولوجية والأنثروبولوجية في البحث ( الملاحظة بالمشاركة والمقابلات الشخصية والاختبارات النفسية )، وتم التركيز في دراساتهم على مجال الاتصال بين الثقافة والتنظيم العقلي للفرد والتركيز على أساسين وهما الأساس التطوري والمقارن، وذلك يعنى ضمنيا إجراء بحث منظم لعملية التنشئة الاجتماعية مع الإشارة لعملية الإستدماج التي يقوم بها الفرد للمعايير الثقافية والقيم السائدة في مجتمعه.
ويعتبر مفهوم الشخصية عند ” بندكت ” بمثابة النظير أو القرين السيكولوجي بالمعنى السلوكي أساسا لمفهوم الثقافة، وعامة فان شخصية الفرد تعد نتاجا لمجتمعه ويشير ذلك إلى عملية التنشئة الاجتماعية التي تشتد في مرحلة الطفولة وتستمر إلى ما لانهاية، فمن خلال التنشئة الاجتماعية يتم تشكيل الشخصية الإنسانية ومن خلال الصيغ الثقافية التي تسود في البيئة يحدث ذلك التجانس بين المجتمع والشخصية.
ثالثاً: المدخل النفسي الاجتماعي:
يتناول بعض العلماء الشخصية باعتبارها بناء دافعيا وينظر للشخصية طبقا لهذا المدخل على أنها عملية عقلية مستقلة. وقد استند هذا التصور إلى عدة افتراضات ومسلمات، إذ يفترض جدلا أن مصادر سلوك الفرد تتركز داخل نفسه، أو نوازع ثابتة أو غرائز وتكتسب هذه الأنماط بواسطة مجموعة من الخبرات المبكرة التي تزخر بها مواقف طفولة الفرد، وهكذا فان فهم وتفسير السلوك الإنساني يعنى من الناحية النظرية الاهتمام برد الاستجابات المحددة المظاهر مثل الإدراك والانفعالات والمشاعر والأحكام والآراء والاتجاهات وغيرها إلى نوازع موجودة من قبل وإلى بناء من الخبرات.
ويتناول علم النفس الاجتماعي موضوع الدافعية في إطار التفاعل بين الفرد والبيئة أو بين الفرد والجماعة، ويتضح أن الذي يدفع البعض نحو السلوك الاجتماعي أن السلوك البشرى يتحدد في ضوء عوامل اجتماعية إلى جانب الخصائص الوراثية والمثيرات الجسمية المباشرة وتعتبر الدافعية هي القوى الدافعة للسلوك الاجتماعي لأن دوافع السلوك بطبيعة الحال تفسره.
ويشير ماكدوجال وهو الذي اهتم بمجال علم النفس الاجتماعي إلى انه لفهم أي جانب من جوانب السلوك لابد من اعتباره عملا هادفا يسير في اتجاه إشباع غريزة أساسية مثل حب القتال أو حب الاجتماع وان الغريزة استعداد فطري يحمل الكائن الحي على الانتباه إلى مثيرات معينة يدركها إدراكا حسيا، ويشعر بانفعال خاص عند إدراكها، وللغريزة ثلاثة مظاهر: مظهر معرفي ومظهر انفعالي ومظهر عملي نزوعي، أما تصنيف الغرائز فيصنفها ماكدوجال إلى غرائز فردية وغرائز اجتماعية.
وعن العلاقة المتبادلة بين الشخصية والنسق الثقافي أشار بارسونز إلى أن العناصر الثقافية تقوم بدور الضوابط التي تتحكم في الشخصية أي مثل الجزاءات في التبادل بين الشخصية والنسق الاجتماعي، ومعنى ذلك أن للثقافة وظيفة رئيسية وهي تغذية الشخصية بالقيم والمعايير التي تساهم في تنمية التكامل السيكولوجي الداخلي وتلك القيم والمعايير توجه السلوك الشخصي للإنسان، وتكتسب الهوية كما أنها مع الوقت يصبح لها طابع معين.
وقد قسم بارسونز موضوع علم النفس إلى قسمين رئيسيين هما الأداء والتعلم، وأشار بارسونز إلى أن التعليم يعتبر المقولة الأكثر أهمية بالنسبة لنظرية علم النفس فالتعلم هو الرابطة الهامة بين الشخصية والبيئة الاجتماعية والثقافية.
وعند التعرض لنظرية تالكوت بارسونز في الشخصية يتضح أنه ميز الشخصية عن الأنساق الفرعية الأخرى ولكنه اعتبرها مرتبطة بهذه الأنساق ارتباطا وظيفيا وديناميا، وعرف نسق الشخصية بأنها المنطقة التي تتجمع فيها العلاقات بين الكائن العضوي والموضوعات في البيئة الخارجية خاصة الموضوعات الثقافية والاجتماعية، وانه يتجسد في سلوك أو تصرف تحدده الدوافع والاتجاهات وعناصر الإدراك، بطريقة أكثر تحديدا فان الوحدات التنظيمية الأساسية لعملية السلوك هي ما أطلق عليه بارسونز استعدادات الحاجة، ومن وجهة نظره فان استعدادات الحاجات يتم اكتسابها بالتعلم وليست وراثية أو غريزية، وهذا ما يميزها عن الدوافع التي تعتبر ذات أصل بيولوجي، واستخدم كلمة الحاجة وكلمة الاستعداد ليوضح أن المفهوم يتضمن تلقائيا إشباع بعض حاجات نسق الشخصية، وفى نفس الوقت الميل نحو السلوك والتفاعل بطريقة معينة وبمعنى آخر فان بارسونز نظر إلى نسق الشخصية على انه نسق للفعل، ويعنى ذلك انه نسق من الطاقة والميكانزيمات التكاملية التي تقوم على الفعل وتوجهه.
وهناك جانبان للشخصية كنسق للفعل هما الأداء أو السلوك والتعلم ويكمل كلا هذين الجانبين الآخر، فأي أداء يشتمل على التعلم والتعلم لا يتم إلا من خلال الأداء، ولكن من المفيد التمييز بين هذين الجانبين للشخصية، واضعين في الاعتبار أن الأداء هو محصلة تنظيم الشخصية والتعلم هو العملية التي يتطور من خلالها تنظيم الشخصية.