صِدامُ الإرادات التقاطعات المحليّة والدولية في حِراك الجزائر
عواملُ العجز وآمالُ التغيير
مُلخّص:
تحاول هذه الورقة أن ترسم “صورةً شاملةً” تُمكّن القارئ في النهاية من فهم ما حدث ويحدث في الجزائر الآن ضمن إطارٍ أشملٍ يربط العوامل الداخلية والخارجية الفاعلة في هذا الحِراك بين الماضي والحاضر، أي أنّها سوف ترسمُ فكرةً عن المنطق الذّي يُحرّك القوى الفاعلة داخل النظام السياسي الجزائري أو ما يصطلح عليه دافييد إيستون تسمية “العلبة السوداء”، وتقاطعات هذا المنطق مع المنطق الذّي يُحرّك القوى الكبرى المتنافسة في بنية النظام الدولي المعنية بالوضع القائم في الجزائر ويُحدّد مصالحها تجاه البلاد، فضلاً عن محاولة فهم الأسباب المجتمعية التّي تقف وراء العجز الديمقراطي في الجزائر والذّي دام لعقودٍ والأسباب التّي جعلت الشارع يتحرّك بهذا الشكل الهائل السلمي والمفاجئ للجيران والعالم أجمع، على الأقل إلى غاية كتابة هذه الورقة.
لهذا تتساءل هذه الورقة بشكلٍ أساسيٍ عن العوامل (البنيوية وغير البنيوية) التّي تقف وراء ما يحدث الآن في الجزائر وأيّ العوامل يُعدّ أكثر أهميّةً ومركزيةً في تحديد مسار هذا الحِراك ومستقبل البلاد؟
مدخل:
“في هذه اللحظة الفارقة من تاريخ الجزائر المعاصر، على الشعب الجزائري ألا يُخطئ أبداً في تحديد من هو “الصديق” ومن هو “العدو” سواءً كان ذلك في الداخل، داخل النظام السياسي أو ما يُسميه “بالعلبة السوداء”، أو في الخارج أيضاً بين المتنافسين الكبار. العاطفة الجيّاشة والغضب الناتجين عن المأساة والظلم المُمارس على الشعب الجزائري لسنواتٍ طويلةٍ يجب أن يُفرّغ في المظاهرات المليونية وبشكلٍ سلميٍ حضاريٍ وفقط، ينبغي أن تنحصر مهمّة “العواطف” في إفشال مساعي العهدة الخامسة وفقط، بعدها فإنّ كلّ المسؤولية الأخلاقية والتاريخية والعِلمية مُلقاة على “أهل العِلم والحكمة”، أولئك الذّين سيساعدون الشعب على معرفة “الصديق من العدو” بتكوينهم العلمي والمعرفي وفقط، لا بانتماءاتهم الإيديولوجية والحزبية أو بولاءاتهم الخارجية المبيّتة لأيّ طرفٍ كان، اطمئنوا فلن يختارَ مكان الشعب أحدٌ ولا يحقّ له ذلك، مادام الشعب “لوحده” يصنع التاريخ اليوم، لكن على شعبنا العظيم أن يُحيّد لاحقاً صوت العاطفة ليُركّز مع صوت العقل والعِلم والمنطق والحجج القويّة، أمّا الآن فهَمُّنا جميعاً يجب أن يُركَّزَ على إسقاط “حَمَلة عرش الكادر” لا على شعارات “إسقاط النظام” أو مواجهة مؤسّسات الدولة، فهي شعاراتٌ بالغةُ الخطورة مُهلكةٌ للبلاد والعباد، تخدم الظالمين وتُكرّس بقاءهم على صدور المظلومين، أرى (ولا أدعّي الصحّة المطلقة فيما أرى) أن نُكثّف الجهود في هذه اللحظة على إبعاد هؤلاء الفاسدين عن الساحة وفقط حتّى نحافظ على أمن وسلامة البلاد، لا تنجروا وراء الشعارات اللاعقلانية القائلة بأنّ اللحظة هي لحظةٌ لن تتكرّر في التاريخ إذا لم نستغلها في “إسقاط النظام” (C’est le moment ou jamais) هي شعاراتٌ لا تُحسن حتّى تمييز مصطلح النظام عن ما يُشابهه من مصطلحات، فضلاً عن تحديد “الصديق من العدو” داخل هذا النظام، بل إنّها شعاراتٌ لا تُحسن الاستفادة من التاريخ أبداً، فالتاريخ يهب للشعوب فرصاً وفرصاً كثيرة، لكنّه لا يرحم أبداً تلك الشعوب المتسرّعة المنقادة بعواطف الجماهير أو المندسّين الفوضويين.
المرحلِيَةُ هي عين الحكمة في نظري، المرحلية الحكيمة هي من تطرد لوحدها كلّ أوجه الفساد التّي تنخر هذا الوطن العزيز باسم الدين أو الوطنية أو الأمن أو أيّا من تلك الشعارات المُغلّفة بهالة القداسة أو الخوف، أقول ذلك حرصاً منّي على الحرّية والأمن معاً، فقد انتهى الزمن الذّي كنّا نضطر فيه اضطرارا إلى الاختيار بين إحداهما والبُكاء على الآخر، كلّ ذلك حرصاً منّي على الجزائر.. فحينما تتعاظم ثقة شعب بنفسه وتغمر نشوة الانتصار عواطف الجماهير، وجبَ على “صوت العقل” ترشيد الحِراك وشقّ طريقٍ ثالثٍ بين “خبث النظام وعواطف الجماهير”، هنالك بالضبط أرى مصلحة الجزائر دولةً وشعباً.. الثنائيات المانوية (خير/شر، حق/باطل، ظالم/مظلوم، “كاشير” فاسد/شعب حرّ) لا يأتي، لم يأتي ولن يأتي من وراءها خيرٌ قط”.
كانت هذه إحدى النصوص التّي شاركها كاتب هذه الورقة يوم الفاتح من مارس الفارط، حينما كانت الجزائر على موعدٍ مع إحدى أكبر مظاهراتها المليونية التّي شكلّت بحقّ منعرجاً في تاريخ البلاد المعاصر، ستنتهي المظاهرات وستخفّ معها قليلاً لغة العواطف، وقد آن الأوان ليُنصت الشعب إلى لغة العِلم والعقل والتحليل.
سوف تحاول هذه الورقة أن ترسم “صورةً شاملةً” تُمكّن القارئ في النهاية من فهم ما حدث ويحدث في الجزائر الآن ضمن إطارٍ أشملٍ يربط العوامل الداخلية والخارجية الفاعلة في هذا الحِراك بين الماضي والحاضر، أي أنّها سوف ترسمُ فكرةً عن المنطق الذّي يُحرّك القوى الفاعلة داخل النظام السياسي الجزائري أو ما يصطلح عليه دافييد إيستون تسمية “العلبة السوداء”، وتقاطعات هذا المنطق مع المنطق الذّي يُحرّك القوى الكبرى المتنافسة في بنية النظام الدولي المعنية بالوضع القائم في الجزائر ويُحدّد مصالحها تجاه البلاد، فضلاً عن محاولة فهم الأسباب المجتمعية التّي تقف وراء العجز الديمقراطي في الجزائر والذّي دام لعقودٍ والأسباب التّي جعلت الشارع يتحرّك بهذا الشكل الهائل السلمي والمفاجئ للجيران والعالم أجمع، على الأقل إلى غاية كتابة هذه الورقة.
لهذا تتساءل هذه الورقة بشكلٍ أساسيٍ عن العوامل (البنيوية وغير البنيوية) التّي تقف وراء ما يحدث الآن في الجزائر وأيّ العوامل يُعدّ أكثر أهميّةً ومركزيةً في تحديد مسار هذا الحِراك ومستقبل البلاد؟
تنقسم الورقة إلى أربعة أقسام متكاملة الوظيفة، سوف يُقدّم القسم الأوّل منها سرداً تاريخياً مختصراً لقصّة الديمقراطية في الجزائر منذ الاستقلال، أمّا القسم الثاني فسوف يُحدّد أهمّ العوامل المسبّبة للعجز الديمقراطي في الجزائر والمتربطة بمتغيّر الشعب أساساً. أمّا القسم الثالث، فسوف يستنتج معه القارئ في النهاية كيف ولماذا بلغ صراع الأجنحة داخل النظام السياسي الجزائري ذروته مع حلول زمن العهدة الخامسة، وهو قسمٌ يعزِلُ دور العامل الخارجي لغاية تسهيل الفهم، نصل معه في النهاية إلى تحديد الفواعل الأساسية داخل “العلبة السوداء”، ونضع تصوّراً مفترضاً لحدود قوّة كلّ فاعلٍ من هذه الفواعل المُشكّلة للنظام السياسي الجزائري، بعدها سوف تنتقل الورقة في قسمها الرابع إلى تحديد أبرز القوى الدولية (والإقليمية) المتداخلة برؤاها الجيوبوليتيكية ومصالحها المركزية “بلعبة العرش الحديدي” في الجزائر، فتربط بالتحليل هذه الرؤى والمصالح بطبيعة ومصالح كلّ فاعلٍ من الفواعل المحليّة في هذه اللعبة.
1. مختصر التجربة الديمقراطية في الجزائر:
بعد حصولها على الاستقلال من المحتّل الفرنسي سنة 1962، سلكت الجزائر الفتيّة النهج الاشتراكي في الاقتصاد وسياسة الدولة، تحت قيادة الزعيم الثوري الراحل هواري بومدين الذّي وصل إلى الحكم بعد انقلاب عسكريٍ على رفيق دربه أيّام الثورة التحريرية الراحل أحمد بن بلاّ سنة 1965 سُميّ آنذاك “بالتصحيح الثوري” ليحكم الجزائر إلى غاية وفاته شهر ديسمبر 1978.
عرفت الجزائر أيّام حكمه صيتاً دوليّاً حسناً، فقد كانت الجزائر صوتاً قائداً لحركات التحرّر الوطنية وزعيماً مُؤثّراً في حركة عدم الانحياز بالعالم الثالث، كما عرفت دبلوماسيتها نشاطاً غير مسبوقٍ مع نجاحها المتكرّر في ممارسة الوساطة الدولية بين الفرقاء. أمّا على المستوى الداخلي، فقد كرّس بومدين إصلاحاتٍ وطنيةٍ ذات صبغةٍ اشتراكية على غرار تأميم المحروقات، الثورة الزراعية التّي نجحت إلى حدٍّ ما في الدفع بالاقتصاد الوطني لهذه الدولة الفتيّة نحو الأمام، إلاّ أنّ سياساته فشلت فشلاً ذريعاً في بناء دولةٍ ذات مؤسّساتٍ لا تزول بزوال الرجال مثلما كان يحلم ويُردّد. يُحسبُ على بومدين أيضاً إدماجه ضبّاطاً جزائريين في المؤسّسة العسكرية كانوا قد حاربوا ضدّ الثورة التحريرية الجزائرية إلى جانب فرنسا ثمّ التحقوا بالثورة بشكلٍ متأخرٍ أو كما تُسمّى “بدفعة لاكوست”، ولم يكن يعلم آنذاك بأنّ هذه الدفعة العسكرية هي التّي سترسم مستقبل الجزائر بعده إلى الآن.
بعد وفاة الرئيس بومدين سنة 1978، تنامى النفوذ السياسي للمؤسّسة العسكرية التّي أوصلت الراحل الشاذلي بن جديد رئيساً للجزائر، مُهمشّةً شخصياتٍ سياسيةٍ أكثر استقلالا وخبرةً على غرار السيد عبد العزيز بوتفليقة الذّي كان وزيراً لخارجية الجزائرية أيّام بومدين ومقرّباً منه أو السيد محمد الصالح يحياوي الذّي كان شخصيةً كاريزمية من الثورة أو محمد الصديق بن يحيى أحد أكثر الشخصيات الدبلوماسية الجزائرية حنكةً آنذاك.
عرفت أيّام الشاذلي بن جديد (1979-1992) اضطرابات سياسيةٍ واجتماعية عديدةٍ كان أهمّها أحداث الربيع الأمازيغي سنة 1980، التّي طالب فيها الأمازيغ بحقوقٍ سياسيةٍ واجتماعية حُرموا منها طيلة أيّام بومدين، كما عرفت البلاد صعوداً متنامياً للتيارات الإسلامية التّي تتغذّى بأفكارٍ ومرجعياتٍ قادمةٍ من الخارج (أفكار الإخوان المسلمين من مصر، أفكار الثورة الإسلامية من إيران، التيّار الوهابي من السعودية، الأفكار الجهادية من أفغانستان وغيرها)، كما عرف الاقتصاد الجزائري تدهوراً شديداً بسبب تهاوي أسعار النفط وبلوغها حدّ 8 دولار للبرميل. ومع سقوط الاتحاد السوفياتي وانتصار الليبرالية الغربية، لم يعد هناك أيّ مبرّرٍ لاستمرار النخبة الحاكمة في تبنّي المنظومة الاشتراكية في الاقتصاد والحكم، فقد دفعت الظروف الدولية بالجزائر إلى الاتجاه نحو ليبرالية السوق والانفتاح الديمقراطي أيضاً، وبالرغم من كلّ المشكلات السياسية والاجتماعية التّي كانت تعشيها البلاد آنذاك، إلاّ أنّها لم تزعزع ثقة الحزب الحاكم في نفسه (حزب جبهة التحرير الوطني FLN) ولا ثقة جنيرالات الجزائر الحاكمين في فتح البلاد على التعدّدية السياسية والسماح لأحزابٍ أخرى متشكلّة لمنافسته على الحكم، فكانت انتخابات سنة 1991 المحليّة ثمّ انتخابات سنة 1992 التشريعية منعطفاً حاسماً في تاريخ الجزائر الحديث.
في سنة 1992، تمكّنت جبهةٌ سياسيةٌ ذات توجهٍ إسلاميٍ أُطلِق عليها اختصاراً (الفيس FIS) من إلحاق هزيمةٍ ساحقةٍ بالحزب الحاكم في انتخابات تشريعية شهد الجميع بنزاهتها. أعلن الرئيس الشاذلي آنذاك قبوله باحترام نتائج الصندوق، إلاّ أنّ هذا الأمر لم يستصغه “المُقرّرون” (Les décideurs) في الجزائر (أي الجنرالات) كما تمّ تسميتهم، فدفعوا بالشاذلي إلى الاستقالة ونزلت الدبابة إلى الشارع لتعيد الوضع إلى ما كان عليه، وتتسبّب في فشل أوّل تجربة ديمقراطية بالجزائر، لتدخل البلاد في دوامة عنفٍ رهيب. لجأ جنرالات الجزائر آنذاك إلى الاستنجاد بالقيادي الثوري التاريخي السيد محمد بوضياف الذّي كان يتمتّع بصفة الشرعية الثورية ويحظى بقبولٍ جيّدٍ بين الأوساط السياسية الجزائرية، فتمّ الدفع به إلى سدّة الحكم، إلاّ أنّ بوضياف لم يتوّل الحكم أكثر من خمسة أشهر (يناير-يونيو 1992)، ليتّم اغتياله وهو يخاطب الشعب الجزائري على المباشر، ولا تزال إلى الآن ملابسات اغتياله غامضة.
ويذكر كثيرٌ من المحلّلين بأنّ الرجل راح ضحيّةً لمحاولاته إرجاع السلطة إلى يدِّ المدنيين وسحبها بالتالي من العسكر. بعد عملية الاغتيال هذه دخلت الجزائر سنواتٍ رهيبةٍ من العنف العشوائي والإرهاب طيلة سنوات التسعينيات أو ما يعرفه الجزائريون بحقبة “بالعشرية السوداء”. حكم الجزائر آنذاك رئيسيْن على التوالي وهما السيد علي كافي (1992-1994) والسيد اليمين زروال (1994-1999)، وكلاهما كانا مرشحيْ الجيش، أدرك الأوّل عدم قدرته على تحدّي الجيش، بينما حاول زروال بقوّة منازعة الجيش واسترجاع قوة المؤسّسة الرئاسية، إلاّ أنّه فشل في النهاية ولم يكمل عهدته الرئاسية حتّى، واضطر إلى الانسحاب تحت ضغوط الجيش عليه وعلى رفقاءه في السلطة وذلك سنة 1999، وهي نفس السنة التّي عاد فيها بوتفليقة إلى الساحة السياسية الجزائرية من بابها الواسع كمرشّحٍ للجيش أيضاً لتبدأ حقبةٌ جديدةٌ في تاريخ الجزائر السياسي المعاصر.
افتتح الرئيس بوتفليقة حقبته بمشروع الوئام المدني ثمّ المصالحة الوطنية، ليُنهي بذلك عقداً من المذابح والإجرام راح ضحيّته أكثر 200 ألف جزائريٍ حسب إحصاءاتٍ رسمية. وبالرغم من وقوف المؤسّسة العسكرية وراء وصول بوتفليقة إلى الحكم في الجزائر سنة 1999، إلاّ أنّ الرجل اتبع استراتيجية طويلة النَفَس لاسترجاع قوّة الرئاسة وتحديد قوّة المؤسّسة العسكرية ما أمكن، وعندما نتحدّث عن المؤسسة العسكرية فإنّنا نتحدّث في الحقيقة عن طرفين، صنع توازن القوة والمصلحة بينهما رؤساء الجزائر منذ وفاة الرئيس بومدين سنة 1978، وهما هيئة قيادة أركان الجيش التّي يقودها الآن الجنيرال الفريق القايد صالح، وهيئة المخابرات التّي وقف الفريق محمد مدين المدعو الجنيرال توفيق على رأسها لحوالي 25 سنة كاملة.
يمكن القول بأنّ بوتفليقة نجح إلى حدٍّ ما في استغلال هذا التنافس بين طرفيْ المؤسّسة العسكرية حتّى زاد من قوة ونفوذ مؤسّسة الرئاسة، وبعدما استفاد من دعمها معاً خلال فترتي حكمه من 1999 إلى 2009، أراد الرجل بعد انتهاء عهدته الثانية أن يُعدّل الدستور الجزائري ليصير أكثر من عُهدتين، رفضت المخابرات ذلك، ودعمته قيادة أركان الجيش، ومنذ تلك الفترة بدأ صراع “آل بوتفليقة” مع المخابرات مدعوماً من قيادة أركان الجيش، إلى أن تمكّنوا من إقالة جنيرالاتٍ كثيرين بما فيهم مدير المخابرات نفسه الجنيرال توفيق سنة 2015، وتعيين آخراً مقرّباً إليهم، مستفيدين بذلك من دعم هذا الجهاز أيضاً، كما قرّب “بوتفليقة” بعضاً من الجنيرالات إليه وقام بترقية قياداتٍ عسكريةٍ كثيرةٍ إلى رتبة جنيرال حتّى يُميّع هذه الرتبة ويُفقدها وزنها ويكسر احتكار جنرالاتٍ معارضين له صلاحياتٍ عديدةٍ تمتّعوا بها بمفردهم.
أنهى بوتفليقة عهدته الثالثة سنة 2014، “ليترشّح مجدّداً” لعهدةٍ رابعةٍ ويفوز بها رغم مرضه الشديد، ومنذ ذلك الوقت اختفت خطاباته البليغة وحضوره الإعلامي بسبب المرض، ليفسح المجال لشخصية قديمة- جديدة تدير الحكم من خلف الستار أي شقيقه السعيد بوتفليقة الذّي يُرجّح العالمون “ببعض خبايا العلبة السوداء” أنّه كان سبباً مباشراً في تعرّض الرئيس إلى جلطةٍ دماغيةٍ آنذاك، بعدها ظلّ يستخدم اسم أخيه ومنصبه فيتولّى زمام الأمور في البلاد.
ويذهب أغلبُ المتابعين إلى المحاججة بأنّ السعيد بوتفليقة يُعتبر الطرف الأقوى في مؤسّسة الرئاسة اليوم، ويدير مهام أخيه بشكلٍ غير رسميٍ وفعّال، معتمداً في ذلك على دعم قيادة أركان الجيش من جهة، قيادة المخابرات الجديدة من جهة أخرى، وأيضاً ثلّة من رجال الأعمال الجزائيين خصوصاً أولئك المنضوين تحت مظلّة “منتدى رؤساء المؤسّسات الجزائريين” بقيادة رجل الأعمال الجزائري علي حدّاد أكبر داعمي شقيقي بوتفليقة “المعلومين”.
إذا أردنا أن نختصر طبيعة النظام السياسي الجزائري في مصطلحٍ واحد، سوف يبدو لنا مصطلح الأوليغارشية هم المصطلح الأقرب للمضمون، فلا تُسيّرُ البلاد من طرف قوةٍ واحدةٍ وإنّما من طرف مجموعةِ قوى أو توازناتٍ أو أجنحةٍ إن صحّ التعبير، والقرار السياسي ما هو في النهاية إلاّ مخرجٌ لهذه التوازنات المصلحية، التّي يستند كلّ طرفٍ فيها إلى داعمٍ خارجيٍ أساسيٍ، تقف فرنسا والولايات المتحدة على رأس هؤلاء الداعمين.
2. العوامل السوسيولوجية للعجز الديموقراطي في الجزائر، لماذا تأخّرت موجات التغيير الشعبية إلى الآن؟
في سنة 2011، انفجرت أولى موجات ما يُسمى “بالربيع العربي” في تونس، تلتها أزمةٌ كبيرة في ليبيا سقط على إثرها النظام الحاكم، لتتحوّل ليبيا إلى دولةٍ فاشلةٍ مُصدّرةٍ لمشكلاتٍ أمنيةٍ كثيرةٍ لمحيطها الإقليمي، وبذلك صارت حدود الجزائر مُحاطةٌ بسياجٍ من الأزمات (الثورة في تونس، دولة فاشلة في ليبيا، مشاكل أمنية قادمة من مالي، ثمّ الأزمة السياسية مع المغرب الأقصى بسبب معضلة الصحراء الغربية).
لكن، وبالرغم من كلّ هذا المحيط المتأزم أمنياً، فقد تمكنّ النظام الجزائري من تجاوز “فوضى الربيع العربي”، والمحافظة بالتالي على نفسه قائماً متكيّفاً مع الوضع القائم، متمكّناً أيضاً من إسكات المطالب الشعبية السياسية والاجتماعية على حدٍّ سواء. لقد طرح العديدون السؤال نفسه: لماذا توقفّت “موجات الربيع العربي” عند حدود الجزائر؟ ولماذا لا تزال الجزائر تعيش استعصاءً ديمقراطياً رغم كلّ الإمكانيات البشرية والمادية التّي تحظى بها كدولةٍ غنيّة.
نُحاجج هنا قبل كلّ شيء، بأنّ عوامل وأسباب العجز الديمقراطي في البلاد تُعتبر عواملاً وأسباباً مُركّبةً، منها ما يتعلّق بالشعب ومنها ما يرتبط بطبيعة النظام السياسي ومنها ما يعود لعواملٍ خارجية، سوف يكتفي هذا العنصر بتغطية العوامل السوسيولوجية المرتبطة بمتغيّر الشعب أساساً، بينما سوف تبدو العوامل الأخرى المتعلّقة بطبيعة النظام السياسي ودور العامل الخارجي واضحةً من التحليل في الأقسام الأخرى المتبقيّة من الورقة. نرى هنا بوجود أربعة عواملٍ بنيويةٍ أساسيةٍ مرتبطةٍ بمتغيّر الشعب والتّي ساهمت في عجزه الديمقراطي ولا تزال تقف أمامه عائقاً في سعيه نحو تأطير نفسه (بعد الحِراك) والمساهمة في عملية الانتقال الديمقراطي ومساعي بناء الدولة الجزائرية المعاصرة.
أ. الثقافة السياسية للشعب الجزائري:
نقصد بالثقافة السياسية للشعب هنا جملة القيم، التصورّات، المشاعر والأفكار المتراكمة عبر التاريخ التّي يعتقدها أفراد شعبٍ ما تجاه المفاهيم السياسية السائدة، مثل تصوّره للدولة، النظام السياسي، الحاكم، الأحزاب السياسية وما شابه، فتصير هذه التصورّات والأفكار تحكم سلوكه السياسي وتوجّهه لاسيما في المناسبات السياسية الكبرى للبلاد.
أمّا عن الثقافة السياسية الديمقراطية للشعب الجزائري فهي ثقافةٌ حديثةٌ جدّاً، فلم تشهد هذه البلاد موجة الديمقراطية إلاّ نهاية القرن المنصرم، فثقافة التداول على السلطة ثقافةٌ غير متأصّلةٍ في عامة الشعب، إذ لا تزال الجماهير عموماً تُؤمن بفكرة الرجل المناسب في المكان المناسب ولو قضى به عمراً كاملاً، كما لا تزال فئةٌ كبيرةٌ من الجزائريين يحنّون إلى أيّام الرئيس الراحل هواري بومدين كونه “رجلاً وطنياً صرفاً، توفي ولم يكن في حسابه شيئاً من أموال الشعب بخلاف من جاءوا بعده مثلما يقولون”.
لا يزال الشعب الجزائري عموماً يؤمن بفكرة الرجل المُخلّص ولم يتكوّن لديه بعد حِسٌ بأهميّة المؤسّسات، ولا نتحدّث هنا طبعاً عن النخب السياسية المؤمنة بالديمقراطية أصلاً، وقد لاحظ جميع المراقبون كيف كانت الجماهير تلتف قبيل بداية الحراك الشعبي الأخير حول الشخصيات -الراغبة في الترشّح للرئاسيات القادمة- ذات الخطابات الشعبوية والكاريكاتورية حتّى، أو حول الشخصيات التّي أبدت في خطاباتها حسماً وقوّةً وتحدّي للنظام بغضّ النظر عن البرامج السياسية التّي لمحّت لها هذه الشخصيات أو صرّحت بشيء من مضمونها هنا أو هناك، مع ذلك فلربّما خلق الحِراك الشعبي الأخير أو سيخلق مع الزمن شيئاً فشيئاً هذا الحِسّ بأهمية المؤسّسات إذا ما تمكّنت النخب الثقافية والسياسية من تأطير الوعي الجماهيري وتوجيه نحو هذا المنحى.
ب. المُخيّلة الجَمْعِيَة للعشرية السوداء:
لا تزال الذاكرة الأليمة لسنوات العشرية السوداء حاضرةً في المُخيّلة الجمعية للشعب الجزائري، فقد سجلّت وكالات حقوق الإنسان أكثر من 200 ألف وفاةٍ حسب إحصاءاتٍ رسميةٍ، وحوالي 500 ألف وفاةٍ حسب إحصاءاتٍ غير رسمية. هناك قصصٌ مُروّعةٌ كثيرةٌ تحكي ليالي دامية في قرى عديدةٍ عبر ربوع الجزائر، على غرار ما حدث في منطقة بن طلحة، حيث أباد مسلحون مجهولون قريةً بأكملها في سويعات قليلة، مخلّفين حوالي 400 حالة وفاة. ومع انطلاق “انتفاضات الربيع العربي” سنة 2011، تعمّدت السلطة السياسية عرض مشاهدٍ مروّعةٍ عن تلك الحقبة على التلفزيون العمومي أثارت سخط جمهورٍ واسعٍ من الجزائريين، الذّين اتهموا أطرافاً داخل النظام تحاول بثّ الرعب في نفوس الجزائريين حتّى لا يتجرأ أحدٌ على “التمرّد” مجدّداً على السلطة، فضلاً عن دعم “حركة الفوضى” هذه التّي تُسمّى “ربيعاً عربيا”. كأنّ السلطة السياسية صارت تُخاطب الشعب قائلةً: إمّا نحن وإمّا الفوضى الدامية.
لقد تكرّر أسلوب السلطة هذا مرّةً أخرى شهر فبراير الماضي قبيل موعد الترشيحات للرئاسيات القادمة بل وصار خطاباً سياسياً تبني عليه السلطة حظوظها في البقاء في مواجهة الجماهير المنتفضة سلمياً في الشوارع، إذ راهنت السلطة والمدافعين عن مسألة ترشّح السيد عبد العزيز بوتفليقة مُجدّداً لعهدةٍ خامسةٍ على الخوف المزروع في الذاكرة الجمعية للشعب الجزائري من تكرّر سيناريو العنف، الفوضى والإرهاب الدامي الذّي عاشته البلاد خلال عقدٍ كاملٍ من تاريخها الحديث، فهذا الشعب في نظرهم محكومٌ نفسياً بعقدة الخوف تجعله يُفضّل استتباب الأمن على حريّته وكرامته، خاصّة وأنّ هذا الشعب يرى اليوم تلك الآثار الناجمة عن الفوضى عند جيرانه العرب الذّين فضلّوا الحريّة والكرامة على الأمن، وهذا في نظرنا طبعاً رهانٌ خاسرٌ جدّاً لأسباب عديدة، على غرار السبب السوسيولوجي الوجيه المتعلّق بمدى الارتباط الفعلي للوعي الجمعي لجماهير اليوم بذاكرة الأمس.
لقد ذكر أبو السوسيولوجيا عبد الرحمان ابن خلدون أنّ عمرُ الجيل الواحد يُقارب الثلاثين سنة أو يزيد قليلاً، كان ذلك في القرن الثالث عشر، ولو كان ابن خلدون بيننا اليوم لجعل عمر الجيل الواحد أقلّ من نصف هذه المدّة نظراً للدور الفاعل لعامل التكنولوجيا والعولمة في تغيير مفاهيم الزمان والمكان، والتّي تسبّبت في نظرنا في توسيع الهوّة بين الأجيال بدلاً من تقريبها كما قد يظنّ البعض (هذه مسألةٌ حِجاجية).
بناءً على ذلك، فإنّ مواليد سنة 1999 (عام مجيء بوتفليقة للحكم وانتهاء حقبة الإرهاب) هم اليوم أبناء العشرين، وهم الذّين لم يشهدوا قطّ سنوات الجمر والإرهاب، وبقيت عندهم مرويات قديمةً غامضةً في الأذهان، خاصّة مع التدهور العميق للمدرسة الجزائرية (صانعة الوعي) منذ تلك الحقبة بالضبط، ما نريد المُحاججة به هنا هو ذلك “الاختفاء التدريجي لأثر تلك الحقبة السوداء في أذهان شباب الجزائر ووعيهم الجمعي” (أكثر الفئات العمرية عدداً اليوم والتّي بدأت في خَرجات الاحتجاج والتظاهر فعلاً)، والتّي تكاد تكون مقطوعةَ الصلة بتلك الذاكرة السلبية للحقبة السوداء التّي تراهن عليها السلطة، إنّه لرهان خاسرٌ في نظرنا بحكم قوانين السوسيولوجيا، خاصةً في بلد لم تُحسن السلطة القائمة استخدام التاريخ في مدارسته، إعلامه ومؤسساته الأخرى لبناء الوعي، فضلاً عن بناء مسائل أخرى.
ج. ضعف المجتمع المدني واحتوائه من طرف السلطة:
يُعتبر المجتمع المدني عنصراً مُهمّاً في أيّ عملية انتقال ديموقراطي، إذ يلعب المجتمع المدني دور الوسيط بين الشعب والسلطة، ويتشكّل من مجموعةٍ من التنظيمات التطوعيّة مستقلة الإرادة عن مؤسّسات الدولة، كالاتحادات الطلاّبية والنقابات العمّالية والهيئات الاقتصادية الحرّة وغيرها. القسم الأكبر من هذه التنظيمات في الجزائر أنشئ ليعبّر عن صوت السلطة، فهي تُمَوّلُ من السلطة أصلاً، ومن الصعب في الجزائر إنشاء تنظيمٍ مدنيٍ ما مستقل الإرادة والتمويل.
فمع اقتراب أيّ موعدٍ انتخابي تُدعّم هذه التنظيمات مرشّح السلطة، يكفي أن نشير إلى مواقف عبد المجيد سيدي السعيد، رئيس الاتحاد العام للعمّال الجزائريين المتماهية بشكلٍ كلّيٍ مع رغبات مؤسّسة الرئاسة، فهو اليوم مساندٌ قوي لشقيق الرئيس، ولطالما عبّر عن ذلك بخرجاته الإعلامية إلى جانب السعيد، نفس الأمر متعلّق بالسيد علي حدّاد المدير العام لمنتدى رؤساء المؤسسات الجزائريين، الذّي يُعتبر أكبر تجمّع لرجال الأعمال الجزائريين في البلاد، يُساند الرجل بقوّة جناح الرئاسة الذّي أوجده أصلاً، ولا أحد يجهل في الجزائر علاقته الشخصية الوطيدة مع شقيق الرئيس السعيد بوتفليقة.
يأتي هذا في وقت تُبعد فيه السلطة رجالات أعمالٍ آخرين فقط لأنّهم ذوي أصواتٍ معارضة لها على غرار السيد يسعد ربراب أحد أغنى رجال الأعمال في العالم العربي، وهو رئيس مجموعة سيفيتال الصناعية التّي تُعتبر أحد أكبر معامل تكرير السكر في العالم.
إذن، فعدم قدرة المجتمع على إنشاء تنظيمات مجتمعٍ مدنيٍ حرّة غير محتواه من طرف السلطة لهو عاملٌ إضافيٌ لظاهرة العجز الديمقراطي الذّي تشهده البلاد منذ عقود، وهو علامةٌ أيضاً على استحالة حدوث تغييرٍ ديمقراطيٍ تقوده شخصيات المجتمع المدني المعروفة في الجزائر في الغالب، وقد أظهر الحِراك الشعبي الأخير مدى صحّة هذه المُحاججة.
د. الأثر السلبي للدولة الريعية على سيكولوجية الجماهير كعامل معيق:
في سنة 2012، كتب الباحث الأمريكي مايكل روس كتابه الأشهر، “لعنة الموارد، كيف تُشكّل الثروة النفطية نقمة على نمو الأمم”، يُعتبر هذا الكتاب أبرز إسهامٍ نظريٍ يربط مشكلة العجز الديمقراطي بالثروة النفطية، فكلّما كانت الدولة –في العالم الثالث- تتمتّع بثروةٍ نفطيةٍ كبيرةٍ كلّما أصيبت بعجرٍ في انتقالها نحو الديمقراطية. يبدو بأنّ هذه النظرية ذاتُ قوةٍ تفسيريةٍ هائلةٍ فيما يتعلّق بحالة الديمقراطية في الجزائر، إذ تُعتبر الجزائر أحد أكثر البلدان ثراءً بمواردها الطبيعية لاسيما البترول والغاز الطبيعي.
فمنذ مجيء الرئيس بوتفليقة إلى الحكم سنة 1999، ظلّت أسعار النفط في حالة ارتفاع مستمر، فقد عرف العالم منذ سنة 2001، حربيْن كبيرتيْن في كلٍّ من أفغانستان والعراق، تسبّبت في ارتفاع أسعار النفط، كما شهد أيضاً أزماتٍ دوليةٍ على غرار الأزمة السورية، الجورجية، الأوكرانية، حرب اليمن، وغيرها. كانت هذه الحروب والأزمات في صالح الدول الريعية كالجزائر، إذ يُمثّل النفط حوالي 97% من الدخل القومي للجزائر والتّي تمكّنت من بيع كمياتٍ ضخمةٍ من النفط، لذا فقد استفادت السلطة السياسية من دخل الريع لتُوظّفه فيما سُمي لاحقاً بسياسة “شراء السِلم الاجتماعي”.
بالإضافة إلى سياسة خفض الضرائب على الشعب، فقد أنفقت الحكومة الجزائرية مبالغاً طائلةً لأجل احتواء الغضب المتنامي للشعب بسبب المشكلات الاجتماعية التّي يعانيها، فضلاً عن انسداد أفق الديمقراطية والحريات في البلاد. وقد تجسدّت هذه النفقات مثلاً في تسهيل عملية استخراج قروضٍ بنكيةٍ بالنسبة للشباب لأجل افتتاح مشاريعٍ ربحيةٍ أو مؤسّساتٍ اقتصادية صغرى، أو ما شابه. لقد أثبتت هذه السياسة نجاحها النسبي لاسيما مع اشتداد موجات “الربيع العربي” في تونس ومصر، ثمّ الحرب في سوريا، إلاّ أنّها كانت سياسةً فاشلةً على المدى الطويل لم تتمكّن من استيعاب سخط الشعب في كلّ القطاعات، وها قد أعلنت الحكومة قبل سنة تقريبا دخولها مرحلة تقشّفٍ وهميٍ لم يكن في صالحها على الإطلاق.
إنّ المشكلة القائمة في علاقة الدولة الريعية الجزائرية بسيكولوجية الجماهير أعمق بكثيرٍ وهي متأصّلةٌ بنيوياً في وعي هذه الجماهير منذ أيّام الحِقبة الاشتراكية حينما فرض النظام الجزائري النمط الاشتراكي بعد الاستقلال، والذّي استمر مفعوله الاجتماعي سائراً ومؤثّراً في “الثقافة السياسية” للجماهير إلى الآن رغم كلّ التغيّرات السياسية التّي عرفتها البلاد منذ تلك الحقبة والتّي مسّت شكل الحياة السياسية أكثر ممّا مسّت ذهنية الفرد الجزائري، فالنمط الاشتراكي صار منذ تلك الفترة نمط حياةٍ وتفكير، على سبيل المثال فإنّه كرّس اتكالية الشعب على الدولة التّي صارت تُوفّر له “غذاء بطنه وعقله”، ليُفوّضها بذلك مهمّة التفكير بدلاً عنه، الأمر الذّي قتل روح التنافس والفردانية والتفكير والإبداع والحرّيات لدى الجماهير، بل وخلق تباعداً بين المجتمع والسلطة، مجتمعٌ يزداد فقراً وجهلاً ووهماً بالثراء والعظمة، وسلطةٌ تزداد ثراءً وتمسّكاً بدواليب الحكم، مستخدمةً الريع والخطابات الشعبوية القديمة لأجل تكريس وهم الشعب بثرائه وعظمته الاستثنائية تلك مقارنةً ببقية الشعوب المجاورة على الأقل، الأكثر من ذلك فقد امتد التأثير السلبي لممارسات السلطة تلك وتنشئتها السياسية والاجتماعية لعقودٍ طويلةٍ إلى وعي بعض النخب المثقفة في الجزائر التّي وقعت ضحيةً “لعمى معرفي” كرّست له السلطة، فأهملت في تحليلاتها للوضع القائم ومساراته بشكلٍ كبير عامل الشعب كمتغير أساسي فاعل في التحليل، وظلّ الشعب في نظرها عاملاً غير مهمٍّ حينما تُفكِّر بنفس الطريقة التّي ظلّ فيها متغيّراً تابعاً في نظر السلطة حينما تُقرِّر.
مع ذلك، لم تستطع السلطة أن تتحدّى مُخرجات العولمة والحفاظ على المجتمع (نُخباً وافراداً) مُغلقاً على المفاهيم التّي حاولت تكريسها منذ زمن في المدرسة والجامعة والإعلام وكلّ المؤسّسات التّي تصنع وعي الجماهير أو توجّهها، ولعلّ أيّ ملاحظٍ للحراك الشعبي الأخير سوف يُدرك لوحده الدور الفاعل لوسائل الإعلام البديلة (السوشيال ميديا) في كسر “أحادية الحقيقة” التّي حاولت الدولة الريعية الاشتراكية فرضها على وعي الجماهير، فضلاً أنّ الأجيال تتغيّر ويتلاشى مع الزمن -كما أشرنا سابقاً- في وعيها الجمعي تلك الصور الذهنية الماضوية التّي صارت تُشبه المرويات القديمة باهتة الصورة والمضمون في الأذهان.
خلاصة القول، فقد تسبّبت العوامل سابقة الذكر في تأجيل حِراك الشعب ولم تمنع حدوثه في أيّ لحظة “بحكم قوانين السوسيولوجيا”، كما ظلّت المأساة تحفر في وعي الجماهير بعدما كسرت مُخرجات العولمة “أحادية الحقيقة” التّي تحميها السلطة وتُكرّسها بالرهبة أو الإغراء، لتفرض الجماهير إرادتها كفاعلٍ قديم-جديد في الميادين الحاشدة تُنافس بها إرادات الفواعل الأخرى في هذا الحِراك.
3. معركة الإرادات الداخلية: الفواعل المركزية “لعُلبة إيستون السوداء” وبداية الحِراك الشعبي:
في صيف عام 2018، خرج صراع الإرادات بين أجنحة النظام السياسي الجزائري إلى العلن بسبب قضية الكوكايين الشهيرة، إذ قامت سلطات شرطة الحدود الإسبانية بتبليغ المخابرات الجزائرية (وليس الشرطة) بأنّ كميّةً ضخمةً من الكوكايين (701 كلغ) سوف تدخل الجزائر عبر البحر قادمةً من البرازيل، فتحرّكت قوات الجيش لمُصادرتها وإعاقة العملية، لقد كشفت هذه القضية لاحقاً تورّط العديد من القيادات السياسية والعسكرية وقيادات في سلك الشرطة أيضاً، وكانت مُحصّلة هذه القصّة استقواء المؤسّسة العسكرية بقيادة الجنيرال القايد صالح أكثر، والذّي استغل القضية ليضرب بقوّة بعض الشخصيات النافذة في النظام صاحبة الطموح في الترشّح لخلافة بوتفليقة المريض فأبعدها عن اللعبة السياسية، وقد كانت هذه التحرّكات من قيادة أركان الجيش تصبّ إلى حدٍّ ما في صالح مؤسّسة الرئاسة وتُعبّد الطريق أمام استمرار نفوذ شخصيّة السعيد بوتفليقة مهيمنةً على جناح الرئاسة الساعي إلى أن يظلّ جزءاً من “العلبة السوداء” بعد انتهاء حقبة العهدة الرابعة شهر أبريل 2019، وقد عزّزت تحرّكات الجنيرال القايد صالح تلك من علاقات الثقة بينه وبين جناح الرئاسة الذّي يمتلك كما يعرف الجميع “صلاحياتٍ إمبراطورية” قد تُنهي مهام أيّ شخصيةٍ سياسيةٍ أو عسكريةٍ بسهولة بما فيها قائد الأركان ذاته.
في شهر أكتوبر 2018، أظهرت أزمة البرلمان ذلك الصراع الخفيّ بين بعض أجنحة النظام، كما كشفت أيضاً عن وجود أزمة ثقةٍ بين بعض الشخصيات المحسوبة أصلاً على حزبٍ واحدٍ وجناحٍ واحدٍ، ونعني بذلك حزب جبهة التحرير الحاكم ومؤسّسة الرئاسة الذّيْن يُفترض بكلايهما التموضع ضمن جناحٍ واحد، أسفرت أزمة البرلمان هذه عن إقالة رئيسه السعيد بوحجّة (الذّي كان مُقرّبا في الأصل من الرئيس بوتفليقة) و”انتخاب” آخر أكثر ولاءً للرئاسة المهيمن عليها كما قلنا شقيق الرئيس السعيد بوتفليقة وإخوته، وفُهمت المسألة بأنّها سعيٌ من جناح الرئاسة بقيادة السعيد بوتفليقة إلى إنهاء كلّ الشكوك بخصوص مدى ولاء رؤوس البرلمان ومخرجاته لما سيأتي لاحقاً، أي أنّ الأمر كان متعلّقاً بالأساس بإرادة جناح الرئاسة في الفوز بعهدةٍ خامسةٍ مهما كلّف الأمر ولو بترشيح صورة “كادر” للرئيس عبد العزيز بوتفليقة الغائب عن الوعي أصلاً، وهذا ما تمّ بالفعل شهر فبراير 2019 حينما اقتربت البلاد من موعد الترشيحات لرئاسة الجمهورية، وهنا بدأت لعبة النظام تتعقّد، وبدأت أجنحته تتموضع أو تُثّبت موضعها القائم أو تبحث عن تموضعٍ داخل العلبة السوداء لما بعد أبريل 2019، أمّا الفاعل الذّي تزايدت أهميّته في هذه اللعبة وأثبت قدرته على العودة فعلاً فكان في تقدير التحليل الذّي تصل إليه هذه الورقة ما نُسمّيه هنا “بالمخابرات القديمة” التّي يتزّعم شبكتها الواسعة الجنيرال توفيق، لتصير العلبة السوداء/النظام السياسي القائم مكونّا في نظرنا من التوليفة التالية:
الجناح رقم 1: مُتمثّلاً بالرئاسة صاحبة “الصلاحيات الإمبراطورية” بحكم الدستور بمرشّحها الرمزي السيد عبد العزيز بوتفليقة، ورأسها الفعلي شقيقه السعيد بوتفليقة مدعوماً بحزب جبهة التحرير الوطني الحاكم وبعض الأحزاب الأخرى الموالية، رئيس البرلمان، ثمّ رئيس المجلس الدستوري الجديد بعد الوفاة المفاجئة لرئيسه السابق في هذه الفترة بالضبط، بالإضافة إلى شبكةٍ من رجال الأعمال وأصحاب المال الجزائريين سواء المعروفين منهم إعلامياً والغير معروفين لدى الشعب الجزائري.
الجناح رقم 2: مُتمثّلاً بهيئة أركان الجيش، وقائدها الجنيرال القايد صالح، وهي أكثر المؤسّسات قوّةً وهيراركيةً وثباتاً، تتحدّث دستورياً عن ضرورة محافظتها على الحياد، إلاّ أنّها تُدّعم “فيما هو ظاهرٌ” الخيارات السياسية لجناح الرئاسة صاحب صلاحيات التعيين والعزل، لكنّها تشهد “فيما هو مُقدّرٌ بالتحليل” غلياناً داخلياً بين ضباطها المتوجسّين من تهوّر سياسيي جناح الرئاسة واستمرارهم في تحدّي إرادة الشعب الغاضب بشكلٍ يجعل القيادة العسكرية والجيش في حالة تخوفٍ دائمٍ من أن يقود تهوّر قيادات الرئاسة إلى حدوث انفلات أمنيٍ ودفع البلاد إلى حالة من الفوضى يجد فيها الجيش نفسه في مواجهة الشعب كما حدث أيّام التسعينيات من القرن المنصرم وهو ما لا تريده قيادة الأركان، فضلاً عن تخوّف الجيش من تحييد الرئاسة بحكم صلاحياتها الواسعة لمصادر قوتّه المستمدّة من الخارج أي المساس بعقيدته الأمنية روسية التوجّه (نُفصّل فيها في آخر محور).
الجناح رقم 3، وهو الجناح الأهّم في هذا الحِراك في تقديرنا، ما نُسمّيه تسهيلاً للفهم فقط “بالمخابرات الجديدة”، بقيادة الجنيرال البشير طرطاق الذّي جلبته الرئاسة و”ضمنت ولائه فيما هو معلوم”، بعدما عزلت من كان قبله أي الجنيرال توفيق الذّي كان على خلافٍ كبيرٍ معها ومع قيادة أركان الجيش أيضاً، الأمر الذّي عزّز قوّة مؤسّسة الرئاسة أكثر “فيما هو معلوم”، أمّا “غير المعلوم في هذه المسألة” فهو حدود الثقة وطبيعة العلاقة بين قيادة “المخابرات الجديدة” وقيادة “المخابرات القديمة” من جهة، وبين قيادة المخبارات الجديدة وجناح الرئاسة من جهة أخرى، وهي مسألةٌ مهمّة جدّاً في نظرنا، “وما نُقدّرها بالتحليل هنا” أنّها علاقات مضطربة جدّاً على الأقل قبيل بداية حراك فبراير الفارط، وقد تجلّى هذا الاضطراب في العلاقات على الميدان قبيل وأثناء الحِراك.
الجناح رقم 4: ما نُسمّيه تسهيلاً للفهم فقط “بالمخابرات القديمة”، بقيادة الجنيرال توفيق، الذّي عُزل قبل بضع سنواتٍ بعدما ظلّ على رأس هذا الجهاز القويّ لمدّة ربع قرنٍ تقريباً الأمر الذّي مكّنه من تكوين شبكةٍ واسعةٍ من الموالين له ولخطّه السياسي، أمّا مصدرُ قوتّه الداخلية فيكمن في حجم المعلومات والملّفات التّي يمتلكها بالإضافة إلى شبكة العلاقات والولاءات الداخلية المنسوجة في العديد من مؤسّسات الدولة والمجتمع، والتّي اعتبرها كثيرون مجرّد وهم، وأنّ الرجل ليس بالأسطورة الخيالية كما يُروّج له وأنّ ظلّه قد انتهى إلى غير رجعة منذ أن تمّ عزله سنة 2015.
إلاّ أنّ بعض الأحداث التّي أظهرها حِراك الشعب منذ شهر فبراير 2019 تشير في نظرنا إلى العكس تماماً، وإلى أنّ “لمسة” الرجل موجودة، وأنّ هدفه صار واضحاً وهو العودة إلى “العلبة السوداء/النظام السياسي” من جديد بعدما أُبعد عنه، أمّا غايات هذه العودة أهي لخدمةُ الوطن وإنقاذه بطريقته الخاصّة أم لمجرّد التموضع من جديد داخل العلبة السوداء أم لأغراضٍ سلطوية أخرى أو حتّى خارجية، فهذه مسألة تخضع للمُحاججة بين المحلّلين وتغيب عنها المعلومة الموثوقة، ولا تُظهر سوى الأيام القادمة نويا هذا الجناح وقياداته فضلاً عن مسألة تأثيره ووجوده من الأساس.
هذه باختصار تركيبة النظام السياسي الجزائري القائم، منقسمٌ إلى أجنحة تتصارع القرار السيادي بعيداً عن إرادة الشعب الذّي ظلّ بعيداً عن السياسة لا يملك إرادته إلى أن حلّ شهر فبراير 2019 حينما بدأت بعض “الجِهات المجهولة” تُروّج لمسألة الخروج الشعبي في مظاهراتٍ عارمةٍ بعدما اتضّحت نيّة جناح الرئاسة في ترشيح السيد عبد العزيز بوتفليقة لعهدةٍ خامسةٍ وبطريقةٍ أقلّ ما يُقال أنّها كانت مُهينةً لكرامة هذا الشعب، حينما رشّحت صورةً للرئيس لا الرئيس ذاته الغائب عن الوعي.
لقد خرج الشعب الجزائري بالآلاف ثمّ الملايين في كلّ أنحاء الوطن في مظاهراتٍ مليونيةٍ رافضين العهدة الخامسة ومطالبين برحيل كلّ الأوجه التّي تسبّبت في بلوغ الجزائر هذا الحدّ من الترهّل وذلك بالرغم من كلّ حملات التخويف والترهيب التّي تعرّض لها الشعب من نتائج هذه المظاهرات، مُذكرّين إيّاه بالحقبة السوداء التّي عاشها في التسعينيات وبأمثلة الفوضى والحروب التّي تعيشها بعض الدول العربية المجاورة، وقد دفعت هذه المظاهرات المليونية بكثيرٍ من المتابعين للشأن الجزائري إلى إضافة الشعب كعامل أساسي ومهمّ (إلى جانب تلك الأجنحة المتصارعة) في عملية صنع القرار وتحديد شكل المستقبل الذّي ستكون عليه البلاد.
لكن مع ذلك سوف نطرح مجموعة من الأسئلة التّي ستساعدنا على فهم ما الذّي حدث بالضبط قبيل وأثناء مظاهرات فبراير والفاتح من مارس 2019، لعلّ أهمّها ذلك السؤال المتعلّق بخروج الشعب ذاته وتحوّله المفاجئ من طرفٍ غير معنيٍ بالسياسية إطلاقاً، إلى طرفٍ معنيٍ وفاعل، وعن توقيت خروجه المليوني المفاجئ هذا، بالإضافة إلى السؤال الأهمّ المتعلّق بتلك الدعاوي “مجهولة المصدر” المُشجّعة على ضرورة خروج الشعب، بشكلٍ يجعلنا نتساءل قائلين: هل خرج الشعب لوحده أم أنّه “أُخرج” بطريقةً ما إلى الشارع، وأيّ طرفٍ ساعد على إخراجه؟ إنّ القول بخروج الشعب طواعيةً يقودنا إلى بناء تحليلٍ مخالفٍ في نتائجه للتحليل الذّي ينطلق من مُقدّمةً تفترض بأنّ الشعب أُخرج ودُفع دفعاً للخروج إلى الشارع ولم يخرج طواعيةً؟
بمعنى أنّه جُرّ إلى الشارع ليكون ورقةً ضغطٍ قويّةٍ جدّاً في “لعبة العروش هذه” لصالح الطرف المُشجّع على خروجه، ولربّما مستوى السلمية التّي عرفتها مظاهرات الشعب المليونية وكذا طريقة تعامل أجهزة الأمن معها لدليلٌ يؤشّر فعلاً أنّ الشعب قد جُرّ فعلاً إلى الشارع بقوّة، ليكون ورقة ضغطٍ ثقيلةٍ في هذه اللعبة الخطرة بعدما تمكّن الطرف المُشجّع على خروج الشعب من فرض نفسه داخل العلبة السوداء وإحداث شيءٍ من توازن القوى فرض على الأجنحة الأخرى ضرورة التعامل السلمي مع الشعب في الشارع، ونقصد به في تقديرنا ما سميّناه هنا “بالمخابرات الجديدة” أساساً.
أمّا الأسباب العميقة التّي تجعل قيادات هذا الجناح يدخلون في “صراعٍ وجودي” مع جناح الرئاسة أساساً ثمّ جناح المخابرات القديمة مُستخدمين ورقة الشعب فهي أسباب لها جذورها في ماضي هؤلاء جميعاً وعلاقاتهم البينية المُضطربة، كما تجد جواباً في مخرجات التنافس بين الفواعل الخارجية (فرنسا، الولايات المتحدة ثمّ روسيا) ودور هذا التنافس في رسم حدود قوّة كلّ جناحٍ لاسيما منذ مجيء الرئيس بوتفليقة إلى الحكم سنة 1999.
وقبل مجرّد التفكير في مدى منطقية أو دقّة هذا التحليل، نشير أولاًّ إلى ضرورة الانتباه إلى أنّ مجرّد الانطلاق من فرضياتٍ جاهزةٍ أثناء التحليل قد يكون أمراً معيقاً لنا حتّى نفهم أو نُخمّن ما يجري بالضبط داخل العلبة السوداء، فمكمن الخطأ حقّا الذّي يقع فيه كثيرٌ من المحلّلين لما يحدث داخل النظام السياسي الجزائري والذّي يجعلهم في الغالب يتخيّلون تحلّي رجالات هذا النظام و”أجنحته” بقدرةٍ خارقةٍ على اللعب بذكاء متناهي بينهم تنسيقاً أو صراعاً بعيداً عن بقيّة الفواعل المُمكنة كالشعب مثلاً ومن دون أخطاءٍ كارثيةٍ قد تُهدّد مصير البلاد يتمثّلُ في الانطلاق من:
أولاًّ، الافتراض الخاطئ بمبدأ عقلانية النظام المُطلقة أو بالأحرى عقلانية رجالاته أصحاب الثقل والموازين، وهذا افتراضٌ واهمٌ ولو كان مستمداً من سوابقٍ عمليةٍ في تاريخ هذا النظام والمنطق الذي يُحرّك رجالاته، كالقول بأنّه من العقلانية أن تتّفق جميع أجنحة النظام بأن الفوضى خطٌّ أحمر أو أنّ وحدة البلاد الترابية خطٌّ أحمر متفّقٌ عليه بين الجميع، أو القول بأنّه من العقلانية بمكان أن يتصرّف هذا الطرف بهذه الطريقة مع ذاك الطرف بدلاً من إتّباع تلك الطريقة التّي تبدو لا عقلانية، فهامش اللاعقلانية يجب أن يبقى مطروحاً لدى المحلّل لطريقة تفاعل هذا النظام أو على الأقل لدى إحدى أجنحته، لاسيما جناح الرئاسة.
ثانياً، الافتراض الخاطئ بوضوح النوايا بين الأطراف المتحالفة أو المتنافسة والناتج أساساً عن الانطلاق من مبدأ العقلانية السابق كافتراض يُبني عليه التحليل، ومسألة النوايا هذه هي أصعب القضايا على الإطلاق في هذا الصدد، لقد أنتجت هذه المسألة حالةً من الشكّ المُميت بين أطراف النظام وصعوبة بناء علاقات الثقة بينهم، وهذا بالضبط مكمن تخوفاتنا الشخصية بخصوص المصير الذّي قد تذهب إليه البلاد، فهذا المصير يُصنع بالدرجة الأولى هناك لا في الميادين ذات المظاهرات المليونية على الإطلاق وإن ساهمت تلك المظاهرات في خدمة طرفٍ على حساب آخر بطريقة أو بأخرى على الأقل إلى هذه اللحظة التّي تُكتب فيها الورقة. الشاهد من القول أنّ الانطلاق في التحليل من مقدّماتٍ وفرضياتٍ مغلوطةٍ سوف يؤدّي لا محالة إلى نتائجٍ لا علاقة لها بما يحدث هناك لا من قريب ولا من بعيد.
لذا، نُشدّد هنا على أهميّة بناء “طريقةٍ للتفكير” لتحليل المعلومات/الأحداث الواردة ثمّ توظيف هذه المعلومات/الأحداث ضمن هذه الطريقة أو البناء النظري المُكوّن، لا الانطلاق من هذه المعلومات/الأحداث الجزئية لصياغة تحليلٍ أو بناءٍ نظري، والفارق بين الأمرين شاسعٌ من شأنه أن يقود حتماً إلى تحليلاتٍ متباينة النتائج.
كأمثلةٍ عملية عن هذه المسألة، فإنّ الانطلاق من الافتراض القائل بأنّ جماعة الرئاسة صاروا مُلزمين بحكم رجحان ميزان القوة ضدّهم في الآونة الأخيرة سواء بسبب ضغط الشعب أو تفوّق جناح ما داخل العلبة السوداء عليهم سوف يجعلهم الآن يفكرّون فقط في كيفية المحافظة على ما حقّقوه من “مكاسبٍ ماديةٍ” كشركات، مشاريع اقتصادية قائمة، أراضي وعقارات، أموال بحسابات بنكية، بدلاً من مواصلة السعي لأن يكونوا جزءاً من العلبة السوداء لمرحلة ما بعد انتخابات أبريل 2019، سوف يقودك إلى نتيجةٍ مفادها أنّ هؤلاء لن يُرشّحو شخصاً آخر الآن خاصة مع المرض الشديد للرئيس بوتفليقة (مُرشّحهم الوحيد) وعدم قدرتهم على تقديم مرشحٍ بديلٍ (تابع لهم) منذ نهاية العام الماضي (بسبب أزمة الشكّ واللايقين داخل جناحهم).
هذه النتيجة سوف تصطدم بحدثٍ جديدٍ على غرار تغييرهم لمدير حملة مرشحهم بوتفليقة أو ترشيحهم فعلا للسيد بوتفليقة بالوكالة (من قبل) وهو حدثٌ يدلّ على أنّ الجماعة إمّا مصرّين على أن يكونوا جزءاً من العلبة السوداء لمرحلة ما بعد الانتخابات، أو أنّهم يبحثون عن مكسبٍ آخر غير محافظتهم مكاسبهم القائمة قد يرتبط مثلاً بعامل خارجي، أم أنّهم لا عقلانيون بالأساس مستعدّين لدفع البلاد إلى الفوضى إن لم يكن هذا مقصدهم أصلاً، لذا صار لزاماً على المُحلّل للحدث هنا بأن يُعيد اختبار فرضيته التّي انطلق منها أساساً والقائلة بأنّ جماعة الرئاسة سوف يسعون بحكم رجحان كفّة ميزان القوة لغير صالحهم إلى التفكير فقط في كيفية الحفاظ على مكاسبهم المادية عن طريق الضغط وما شابه.
مثال آخر قد يقلب كلّ التحليلات رأساً على عقب كما يُقال، وهو الافتراض الأولّي القائل بأنّ هناك صراعٌ وتنافسٌ بين أجنحة العلبة السوداء بدلاً من وجود تنسيقٍ وتعاون، والانطلاق من أيّ من الافتراضيْن سوف يقودنا حتماً إلى تحليلاتٍ متباينة النتائج. هذا فضلاً عن محاولة الإجابة عن سؤال غايات التنافس/التعاون بين الأجنحة أو حدود عقلانية هذا التنافس/التعاون وطبيعته.
مثال أخير، وهو ذلك المتعلّق بمسألة خروج الشعب إلى الشارع بذلك الحجم المهول وبتلك الطريقة الغامضة المفاجئة حقّا لاسيما في سلميتها، فالانطلاق من إفتراض مُحاججٍ بأنّ الشعب خرج طواعيةً تحت ضغوط الظلم والمعاناة أو الوعي بالوضع القائم سوف يقودنا إلى جعل الشعب عاملاً مستقلاً ومحورياً جدّاً في تفسيرنا لما يحدث الآن أو التنبؤ بمساراته، كما أنّ بناء التحليل على المحاججة بأنّ الشعب قد جُرّ على الشارع بفعل فاعلٍ (سواءً أكان فاعلاً محليّا أو خارجياً) سوف يؤدّي إلى تفسير آخر ونتائج قد تكون متباينةً تماماً.
في هذه الورقة نُحاجج ابتداءً كافتراض أوليّ بوجود تنافسٍ حادٍ بين أجنحة النظام المذكورة آنفاً، الحجج التّي يُبنى عليه هذا الافتراض موجودةٌ في تاريخ هذا النظام منذ وفاة الرئيس بومدين إن لم يكن قبل، ففي كلّ مرّة كنّا نرى قدرة هذا النظام على التكيّف مع الأزمات القائمة رغم علامات الاختلاف البيّن بين بعض أو كلّ مؤسّساته، مع ذلك ورغم هذا الاختلاف فقد كان رجالات النظام دوماً متّفقون على وجود خطوطٍ حمراء لا ينبغي لهذه المؤسّسات ورموزها أن تتعدّها على غرار مسألة الوحدة الترابية أو انهيار مؤسّسات الدولة أو ما شابه، وهذا ما يُسمّى بالضبط بمنطق الدولة في التفكير والفعل.
إنّ حالة الاختلاف والتنافس بين مؤسّسات الدولة أو أجنحة النظام إن صحّ التعبير هي حالة عاديةٌ جدّاً موجودةٌ في كلّ الدول والنظم السياسية، حتّى أنّ النماذج التفسيرية العلمية في حقل النظم السياسية أوضحت هذه المسألة بشكلٍ واضحٍ على غرار “نموذج سلوك المؤسّسات المتنافسة” للباحث الأمريكي غراهم أليسون الذّي قدّم أمثلةً جيّدةً عن هذه المسألة بالتنافس الحاصل بين مؤسّسات صنع القرار في الولايات المتحدة في كتابه الشهير: “جوهر عملية صنع القرار: تفسير أزمة صواريخ كوبا”، إذ يكون القرار المتّخذ في نهاية المطاف مُخرجاً حتمياً للتنافس القائم بين مؤسّسات الدولة والذّي يأخذ أشكالاً عديدةً على غرار حجب المعلومات، تمرير معلومات مغلوطة أو ناقصة إلى مُتّخذ القرار، تغليف المصالح الشخصية لقيادات هذه المؤسّسات أو القيم التّي يؤمنون بها بغطاء المصالح العليا للبلاد وما شابه.
ولعلّ مثال السلوك الذّي ميزّ مؤسسات صنع القرار بالولايات المتحدة أيّام الحرب على العراق سنة 2003 يُعتبرُ أحسن مثالٍ حديثٍ تتذكّره الجماهير عن هذه المسألة. لكنّ الأمر المتخوّف منه الآن في الجزائر هو خروج التنافس بين مؤسّسات الدولة ورموز أجنحة النظام عن حدود العقلانية أو ما أشرنا إليه هنا بالخطوط الحمراء، والأمر متعلّق هنا أساساً بالنافذين أصحاب القرار في مؤسّسة الرئاسة الذّين يصرّون على تحدّي الجماهير المليونية محاولين المحافظة على مكانةٍ ما تضمن لهم التأثير داخل العلبة السوداء في مرحلة ما بعد انتخابات أبريل 2019 ولو لمدّة سنة واحدة كما لمّح هؤلاء، ينقلون بعدها البلاد إلى القيادة الجديدة حسبما يدّعون، إلاّ أنّ رفض الشارع المطلق لهذه المسألة والمعارضة الضمنية أو العلنية لكثير من رموز الأجنحة الأخرى قد يدفع بهؤلاء النافذين في مؤسسة الرئاسة أن يجروا البلاد إلى الفوضى وإعلان حالة طوارئ كوسيلة من وسائل الضغط الأخيرة التّي يمتلكونها حفاظاً على مكانتهم داخل النظام.
أمّا الأمر الذّي قد يمنعهم من الاتجاه إلى هذا الخيار الراديكالي في نظرنا فمتعلّق بمدى حصولهم على “الضوء الأخضر” لفعل ذلك من طرف الجهات الأجنبية الداعمة لهم التّي يرعون مصالحها في البلاد (ولا تريد هذه الجهات الأجنبية تعريض مصالحها للتهديد أو الخطر) أكثر من تعلّقه برغبة هؤلاء في الحفاظ على السلطة بين أيديهم أو رغبتهم في المحافظة على ممتلكاتهم المادية لاحقاً أو حتّى وجود توازن قوى سلبي في غير صالحهم داخل النظام السياسي بسبب تغلّب أحد رموز أجنحة هذا النظام عليهم.
كما نتساءل أيضا وبشكلٍ أساسيٍ عن حدود مبدأ العقلانية في قرارات قيادة أركان الجيش، خاصّة إذا ما تأكدّ لدى هذه القيادة بأنّها ستكون محلّ إقصاء من طرف رموز الرئاسة (أصحاب الصلاحيات الكبرى الآن) في المرحلة القادمة، إنّ أيّ قرار كهذا من الرئاسة سيكون كارثيا على البلاد، وسوف يعزّز “علاقات الصداقة” بين رموز المخابرات الجديدة وقيادة أركان الجيش ضدّ رموز الرئاسة والمخابرات القديمة، من شأن ذلك إذا حدث أن يُخرج رموز العلبة السوداء عن حدود مبدأ العقلانية ويُدخل الطرفين في صراعٍ صفري ذي أبعاد دولية، سوف تقف روسيا مع المؤسسة العسكرية كداعم أساسي بينما تتموضع فرنسا والولايات المتحدة مع الرئاسة (أو جناح المخابرات القديمة) باعتبارها المؤسّسة التّي عملت الولايات المتحدة ثمّ فرنسا على تعزيز مكانتها وصلاحياتها بشكلٍ كبير ليبقى تأثير الجيش (ومخابراته) ذي العقيدة، الذهنية والتسليح الروسي دوما تحت يد قرارات الرئاسة المدنية، الحليف المدعوم من طرف الولايات المتحدة وفرنسا على حدٍّ سواء. أمّا إذا تمّ تغليب مبدأ العقلانية وضمنت الرئاسة لقيادة أركان الجيش مكاناً مناسباً لها في المرحلة القادمة فسوف تتّجه قيادة أركان الجيش إلى ترويج خطابها الكلاسيكي الدستوري بأنّ الجيش يجب أن يبقى على الحياد بعيداً عن صراعات السياسة.
هذا التحليل المبني على وجود خلافات بين رموز الرئاسة (السعيد بوتفليقة) ورموز الجيش (القايد صالح) يعود إلى ماضي العلاقات بين مؤسّسة الرئاسة والجيش حينما كان الرئيس عبد العزيز بوتفليقة معافى في صحّته، فالأخير هو من جلب الجنيرال القايد صالح إلى سدّة الجيش، بعدما “أنقذه” من جنيرالاتٍ آخرين كانوا يريدون إبعاده عن المؤسّسة العسكرية، فضمن ولاءه السياسي منذ تلك اللحظة، لذا فغياب الرئيس عبد العزيز بوتفليقة عن المشهد السياسي للبلاد سوف يجعل الجنيرال القايد من دون سندٍ سياسي في الرئاسة خاصّة إذا أكدّنا على علاقات الشكّ واللايقين التّي زرعها وجود شقيق الرئيس بدلاً عن الرئيس في قصر الرئاسة مع جميع الأطراف. أيضاً، فإنّ مرض بوتفليقة وتولّي شقيقه زمام الأمور منذ نهاية 2013 تقريباً هو ما جعل الأخير يُغيّر قيادة المخابرات آنذاك ويُبعد الجنيرال توفيق عن المشهد نظراً لوجود خلافات قويّة بينهما، ويجلب جنيرالاً آخراً كان على خلاف مع الجنيرال توفيق ويضعه على رئاسة المخابرات أي الجنيرال بشير طرطاق، ما يجعلنا نستنتجُ بأنّ شقيق الرئيس وباسم مؤسّسة الرئاسة أراد الاستثمار في خلافاتٍ سابقةٍ بين جنيرالاتٍ في المخابرات الجزائرية ليضرب هذا بذاك ويضمن ولاء آخر له ليكون سنداً له في وقتٍ آخر عند الحاجة، أي بعد سنة 2014، أو بالأخرى حينما تنتهي ولاية الرئيس الرابعة، لكن يبدو بأنّ قيادة المخابرات الجديدة كانت مُدركةً جيّداً لهذه اللعبة السياسية التّي تجعل منها مجرّد أداة، فبدأت العمل من أجل تعزيز وجودها وقوتّها منذ ذلك الوقت مُظهرةً ولاءها السياسي المطلق للرئاسة (عامل النوايا) التّي يقودها شقيق الرئيس إلى أن يحين الوقت المناسب، وقد جاء هذا الوقت المناسب في نظرنا مع بداية موسم الانتخابات الرئاسية مطلع العام الجديد 2019.
قبل الانتقال إلى العنصر الموالي، نوّد الإشارة باختصار إلى خارطة الأحزاب أو الوجوه السياسية التّي ملئت المشهد السياسي الجزائري في الآونة الأخيرة، وإلى طبيعة علاقاتها مع أجنحة النظام المُشار إليها وما طُرح بشأنها من أسئلةٍ وتخوفاتٍ وربّما آمال، ربّما أبرزها على الإطلاق كان: المترشّح علي لغديري، المترشّح غاني مهدي، المترشّح رشيد نكّاز، المترشّح عبد الرزّاق مقري والمترشّح علي بن فليس.
وبالرغم من الشكوك والأسئلة التّي لا تزال في حاجة إلى إجابةٍ واضحةٍ حول أغلب هؤلاء إلاّ أنّنا نُؤكّد هنا أنّ ما قيل أو يُقال عن أحد هؤلاء يبقى إمّا مجرّد تحليلٍ متخصّصٍ أو رأي مثقفٍ متابعٍ أو تخوّف وأمل مواطنٍ عاديٍ، نظراً لاستحالة معرفة النوايا فضلاً عن غياب المعلومة الموثوقة المعتمِدة على الأدلّة.
فالسيد علي الغديري مثلاً ظلّ يُردّد (وهو الجنيرال السابق القادم من جهاز المخابرات) في خطاباته المقتضبة بأنّه لا علاقة له بأيٍّ من أجنحة النظام القائم أو رموزه القديمة أو الحديثة خصوصاً ما يُذكر عن علاقته بالجنيرال توفيق رئيس جهاز المخابرات السابق، إلاّ أنّ خصومه يؤكّدون وجود علاقة كهذه مستدلّين بالطريقة المفاجئة التّي اقتحم بها الساحة السياسية وبقوة، فضلاً عن تمكّنه من جمع العدد الكافي من استمارات الترشّح من دون عناء يُذكر أو اختلاط بالجماهير عبر ولايات الوطن كما يفعل أيّ راغبٍ في الترشّح، فضلاً عن الدعم الذّي يتلقّاه من رجل الأعمال الشهير يسعد ربراب المحسوب كما يعرف الجميع على الجنيرال توفيق، كما حصل السيد الغديري أيضاً على دعمٍ من كثيرٍ من الأوجه السياسية المعروفة “بحركة مواطنة” التّي عبّرت عن رفضها للفساد منذ زمن بل ووقفت من قبل ضدّ العهدة الرابعة، كحركة سياسية تضمّ عدداً من المثقفين المعروفين بالجزائر لاسيما أصحاب الطروحات الداعية إلى إقامة الدولة المدنية التّي تؤمن بفكرة المواطنة، الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة أو ما يُسميهم خصوصهم “بالعلمانيين”.
ولعلّ أبرزهم القاضية السيدة زبيدة عسّول التّي أبدت موقفاً مسانداً للغديري إلى غاية اقتراب موعد مظاهرات جمعة الثامن من مارس حينما “قرّرت أن تسحب دعمها العلني هذا” وتقف إلى جانب الشارع الذّي صار رافضاً لأيّ وجهٍ ذي علاقةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرةٍ بالنظام القائم دون تمييز وفي أغلب الأحيان دون فهمٍ أو إجماعٍ لما يريده بالضبط (إسقاط النظام بأكمله أو إنهاء العهدة الخامسة ومساندوها أو طرد رموز الفساد الموجودة في كلّ جناح من دون وجود إجماع واضح حول هؤلاء الرموز، فضلاً عن جدّية قياسه لحدود عقلانية كلّ خيار ومدى قدرة الشعب على مباشرته أو تقديم بديل عنه).
لقد بدا لنا بأنّ “اللحظة الجماهيرية الراهنة المنتشية بمشاعر الانتصار” قد ابتلعت السيدة زبيدة عسّول (وأمثالها من حركة مواطنة) وتغلّبت على حسّها ونظرتها السياسية العقلانية للوضع القائم ففضّلت إنقاذ سمعتها النضالية وشرعيتها لدى الشعب في قادم الأيام على اتّباع حسّها السياسي ونظرتها العقلانية للتموضع الأنسب الذي قد يتخّذه القارئ العقلاني الجيّد لموازين القوى داخل النظام السياسي.
إنّ مثل هذا الغرق في اللحظة الجماهيرية العاطفية الراهنة قد يشعر المرء حقّاً بأنّ الكفّة في صالح الجماهير المليونية وفقط وأنّ الجماهير الغفيرة لوحدها قادرةٌ على إحداث تحوّلٍ في النظام السياسي القائم بشكلٍ جذري، وأنّ كلّ من يدّعي خلاف ذلك سيقذفُ حتماً بملصقاتٍ جاهزةٍ من الخيانة والعمالة أو التثبيط وما شابه وتجاوز، إنّه لمن الصعب في هذه اللحظات التاريخية الجماهيرية الكبرى أن تقنع الناس نخباً وجماهيراً بأنّ صوت العقل والحكمة قد يكون بعيداً عن أحضان الشارع المنتشي بمظاهرات النصر، فضلاً أن تقنعهم بإمكانية التفكير في “مرحليَة التغيير” والتفكير الجدّي في عباراتٍ على غرار (C’est Le moment ou jamais) (هي اللحظة المناسبة وإلاّ لن تتكرّر) بل قد يُذّكرك أحدهم بلحظة الثورة الجزائرية حينما قرّر الشعب لوحده طرد فرنسا، ثم يقذفك بالخيانة العظمى لأنّك تفكّر بخلاف ما تفكر به الجماهير.
لذلك سوف تنحاز إلى صوت الجماهير حتماً وتتوقّف عن التفكير السياسي خارج حضن الجماهير، وهذا ما فعلته السيدة عسّول تماماً، وما قد يفعله السيد لغديري أيضاً كتكتيك يتكيّف به الداعمون له من الخلف مع صوت الجماهير التّي فرضت شرعية الميدان، ويُخرجون مرشّحا آخر من رحم الجماهير أو يحظى بشرعيتها، أمّا عن الكيفية التّي سيتّم بها ذلك فالأيّام وحدها ستُظهر لنا ذلك.
أمّا السيد غاني مهدي، فهو كاتب وإعلامي جزائري معارض مقيم في بريطانيا منذ زمن، معروف بمواقفه الساخرة والمعارضة لكثيرٍ من أوجه السلطة والنظام من خلال برامجٍ تلفزيونيةٍ سياسيةٍ ساخرةٍ يتابعها الآلاف من الجزائريين، إلاّ أنّه رجع إلى الجزائر ليُرشّح نفسه للرئاسيات القادمة رغم أنّه يُدرك تماماً بأنّ القانون الجزائري سوف يحول بينه وبين الترشّح لسباق الرئاسيات نظراً لعدم استيفائه شرط الإقامة 10 سنوات الأخيرة في الجزائر أو لتجنّسه بجنسيةٍ أخرى غير الجنسية الجزائرية كما ينّص الدستور. لذلك، فقد أثيرت حوله العديد من الأسئلة وعن غاياته الحقيقية من الترشّح وحشد المناصرين وتوجيه خطاباتٍ سياسيةٍ ناقدةٍ تُركّز أكثر على جناح مؤسّسة الرئاسة، الأمر الذّي يجعلنا نُقدّرُ بالتحليل بأنّه إمّا امتداد ما للجناح الذّي يُمثّله الجنيرال لغديري (المخابرات القديمة)، أو أنّه استقدم من طرف “جناح المخابرات الجديدة” ليُساهم في إخراج الجماهير وتأطيرها والحفاظ على سلمية حِراكها وضغطها الميداني على جناح الرئاسة.
أمّا السيد رشيد نكّاز فوضعه القانوني مشابهٌ إلى حدٍّ ما بوضع السيد غاني مهدي، إلاّ أنّه أكثر الظواهر الشعبية إثارةً للجدل، الشكّ، الإعجاب والخيبة في آن.
اشتهر السيد نكّاز بين الجماهير بكونه “مُثقّفاً ثريّاً جزائرياً-فرنسي الجنسية” مقيماً بفرنسا حينما ظهر إلى العلن يتحدّى بعض القوانين الفرنسية والأوروبية التّي تفرض عقوباتٍ ماليةٍ على النساء المسلمات مرتديات البرقع أو الحجاب، معتبراً ذلك انتهاكاً لحريّة الأفراد، مُشجّعاً المسلمات هناك على ارتدائه ورفض مثل هذه القوانين وبأنّه مستعدٌ لدفع الغرامات المالية بدلاً عنهن. خاض السيد نكّاز تجربةً سياسيةً في فرنسا قبل أعوام طامحاً بأن يصير رئيساً للجمهورية الفرنسية إلاّ أنّه فشل في ذلك، بعدها اتجهت أنظاره إلى الجزائر (كونه يحمل الجنسية الجزائرية أيضاً) ولا أحد يدري بالضبط سبب هذا التحوّل إلاّ تخمينا، أراد السيد نكّاز خوض معركة الرئاسيات الجزائرية سنة 2014، ونزل إلى الشارع واحتك بالناس مُتحدّياً السلطة، وفعل ما لم يفعله كثيرٌ من المترشحّين والأحزاب التقليدية من زياراتٍ مكثّفةٍ للعديد من ولايات الوطن والاحتكاك بالناس والشباب ومخاطبة الجماهير باللغة البسيطة التّي يفهمونها، وهذا ما صنع له شعبيةً بين الأوساط زاد منها تهجّم السلطة وبعض أفرادها عليه وتعرّضه حتّى للضرب و”الحُقرة” من بعضهم نظراً للشجاعة التّي أبداها حدّ التهور وبطريقةٍ كاريكاتوريةٍ في فضح المسؤولين في السلطة والاستخدام المثالي لوسائل التواصل الاجتماعي، وبعدما تمكّن من جمع التوقيعات التّي تُخوّله الترشّح لرئاسيات 2014، تعرّضت سيّارته الحاملة لهذه التوقيعات إلى السرقة قبل موعد إيداعها بقليل، ودخل نكّاز بذلك الساحة السياسية الجزائرية من بابها الواسع. وحينما اقتربت فترة الترشّح لرئاسيات 2019، عادت شخصية نكّاز من جديد بقوةٍ أكبر إلى الساحة السياسية وملئت فراغاً سياسياً ملحوظاً بين أوساط الشباب والجماهير، زاد من شعبية هذه الشخصية حركاتها العفوية المثيرة للإعجاب والسخرية والضحك في آن، فضلاً عن تعرضّها للتضييق الأمني والسياسي من طرف السلطة، كلّ ذلك فيما بدا ويبدو للناس والجماهير، ولكلٍّ من المتابعين رؤيته الخاصّة لخلفية هذا الرجل، نواياه، طبيعة تعامل السلطة معه وغيرها من الأسئلة الكثيرة التّي تحتاج إلى إجابات مقنعة بالأدلّة.
مع بدايات شهر مارس 2019 حلّ اليوم الذّي يُودع فيه المترشّحون أسماءهم واستماراتهم لدى المجلس الدستوري للترشّح الرسمي لمعركة الرئاسيات، يومها صدم نكّاز الجميع بحركةٍ أقلّ ما يُقال أنّها هوليودية رآها مُحبوه ذكاءاً ورآها المشكّكون فيه وغيرهم مسخرةً كبيرةً يتعرّض لها هذا الوطن، حينما اختفى فجأة مُدعيّاً بأنّه تعرّض لاختطاف ثمّ ظهر مكانه حسبما يقول ابن عمٍّ له يحمل اسما مشابهاً لاسمه تماماً مُحاطاً بوسائل الإعلام يدّعي أنّه السيد رشيد نكّاز الحقيقي الذّي ينبغي أن ينتخبه الشعب، صُدم الكثيرون ليلتها، ليظهر السيد نكّاز المعروف ويُخبر معجبيه أنّها خطّة بديلة منه يضمن بها تواجده كمرشّحٍ عبر ابن عمّه ذاك، نظراً لأنّ الدستور يحول بينه وبين ترشّحه حسبما ذكرنا آنفاً كونه قد حمل من قبل جنسيةً غير الجنسية الجزائرية، داعياً مؤيّديه إلى انتخاب ابن عمّه الذّي يحمل ذات اسمه بعدما ادعى أنّ الاستمارات مُلئت أصلاً لابن عمّه ذاك الذّي تتوفّر فيه الشروط المعروفة التّي ينصّ عليها الدستور، كمجرّد خطوةٍ أوليّة توصله للحكم فيبتعد له ابن عمّه بعدما يُعدّل الدستور ويختاره نائبا للرئيس، ثمّ يصير هو رئيسا للجمهورية.
كانت قصّةً لا يقبلها العقل فعلاً أثارت موجةً من السخرية والإعجاب والخيبة في آن، ولا يزال السيد نكّاز يُبشّر معجبيه بأنّ له خطّةً بديلةً ثانيةً في حال فشلت خططه الأخرى، كما لا يزال الغموض يلفّ هذا الرجل إلى الآن. أمّا أبرز ملاحظةٍ مفتاحية لنا في خطاباته الساخطة أنّها كانت على الدوام موجّهةً للسلطة الحاكمة أي لجناح الرئاسة ورموزه الذّين يصفهم “بالأربعين حرامي وسرّاق”، ولا نذكر له يوماً انتقاداً جدّياً للأجنحة الأخرى المذكورة آنفاً ورموزها المعروفة فضلاً على دعوة الجماهير للثورة ضدّ النظام برمّته، لذا من الصعب جدّا (في غياب الأدلة) معرفة لصالح من يعمل بالضبط، لنفسه، أم لجناح الرئاسة الذّي ينتقده حتّى يزيد من شرعية نضاله، تمهيداً للعمل مع رموز جناح الرئاسة الجدد بعدما يتّم تغيير واجهتها فقط احتواءً لغضب الجماهير وترسيخا لشرعية النظام الذّي لن يتغيّر إلاّ شكلاً، أم لصالح طرف آخر.
بقي هنا أن نشير إلى مترشحيْن آخرين كان لهما وزنٌ محدود في هذه الرئاسيات، وهما السيد عبد الرزاق مقري رئيس حركة مجتمع السلم (إخوانية المنشأ والخطاب) والسيد علي بن فليس رئيس حزب طلائع الحرّيات (حزب جديد وطني التوجّه تقليدي الخطاب يُركّز على النخب)، ينتسبُ كلا المترشحيْن إلى الوجوه السياسية القديمة التّي تعرفها الساحة السياسية للبلاد، وكلاهما انتقل بين السلطة والمعارضة في مسيرته السياسية تلك، ولكليهما حُججه التّي أبقته إلى جانب السلطة أو نقلته إلى المعارضة، ربّما يمتلكُ السيد مقري قاعدةً جماهيريةً أكثر من السيد بن فليس باعتباره يرأس حركةً إصلاحيةً ذاتُ جذورٍ مجتمعيةٍ دعويةٍ لا حزباً سياسياً صرفاً بالمعنى الأكاديمي الدقيق.
إلاّ أنّ السيد بن فليس وحزبه أكثرُ تحرّراً من الإيديولوجيا (الملازمة لحزب السيد مقري) التّي صارت بمثابة “الموضة القديمة” التّي لا يُسايرها الجيل الراهن كثيراً، إذ تشهد الجزائر ما نراهُ توجّهاً نحو مرحلةٍ جديدةٍ متحرّرةً نسبياً من الخطاب الإيديولوجي مقارنةً بما سبق على الأقل، فهذا الجيل الجديد فضلاً أنّه صار فاقداً للثقة بمعظم أو كلّ الوجوه السياسية القديمة التّي تفاعلت مع السلطة، يُعتبر أيضاً “جيل ما بعد الإيديولوجيا بامتياز”.
مع حلول موعد الترشّح قرّر الحزبان عدم خوض معركة رئاسيات أبريل 2019 بحجّة ترشيح السلطة للسيد عبد العزيز بوتفليقة مرشّحها الغائب عن الوعي التّي تحشد له بكلّ الوسائل، باعتبارها معركةً خاسرةً لا تحظى بالشرعية ولا المشروعية بالأساس، وقد نُظر إلى حُججهما تلك بطرقٍ مختلفةٍ أيضاً، أمّا نحن فنرى بأنّ السيد بن فليس يُدرك تماماً بأنّه سيكون مجرّد “أرنب سباق” كما يُقال، لن تكون له حظوظٌ في هذه الانتخابات نظراً لتعقّد المعطيات في العلبة السوداء فضلاً أنّ قاعدته الشعبية لا تسعفه لذلك خاصّة مع خروج الملايين إلى الشارع مطالبين برحيل كلّ الأوجه القديمة، فمالَ إلى الشارع طبعاً مصدر الشرعية النقيْ والوحيد القائم الآن بحكم الميادين.
أمّا حركة حمس فسلوكها هذا لا يشذ في نظرنا عن مسارها السابق، فهي دوماً تحرص على البقاء في المنتصف بين النظام فتستفيد منه مكاسب سياسية تحت خطاب التغيير من الداخل مع النظام (إذا انتصر) وبين الشعب فتُحافظ على ما تبقى لها من شرعيةٍ لدى الجماهير وتُعزّزها خاصّة وأنّ الجماهير صارت غير متقبلّةٍ لكلّ الوجوه التّي تقترب من السلطة أو تُحابيها.
أمّا الأمر الذّي يجعلنا نُحاجج بذلك فهو عدم تقديم السيد مقري لملف الترشّح أصلاً واكتفاءه بالحديث عن ترشّح بوتفليقة كحجّة تمنعه هو من الترشّح، فلو كان الأمر متعلّقاً بترشّح بوتفليقة لوحده، لقدّم السيد مقري ملّفه وانتظر قرار المجلس الدستوري، بعد القرار بإمكانه الاستمرار إذا رفض المجلس ملّف بوتفليقة (أو أبعدته الجماعة التّي رشحّته) أو الانسحاب إذا قبل المجلس ملّف بوتفليقة ليُقيم الحجّة، وهذا ما يُثير في نظرنا أسئلةً عن طبيعة الحُجّة التّي تقدّمت بها حركة حمس لتُبرّر مقاطعتها للانتخابات.
طبعاً فالأمر ليس بهذه البساطة، فهناك معطياتٌ أخرى جرت بعيداً عن نظر الجماهير من قبل بين بعض رموز العلبة السوداء وبعض رؤساء الأحزاب السياسية على رأسها حركة حمس تضاربت قراءات المحلّلين لها، على غرار لقاء رئيس الأركان القايد صالح مع السيد عبد الرزاق مقري وغيرها، سوف يتضّح لدى الرأي العام بعد الحِراك ما الهدف الذّي كان وراءها بالضبط.
قبل أن يصدر قرار المجلس الدستوري يوم 13 مارس سحبت الرئاسة مرشّحها السيد عبد العزيز بوتفليقة بحجّة المرض، ألغيت الانتخابات وباشر النظام إجراءاتٍ ترقيعيةٍ جديدةٍ عبّرت عن وجود اتفاق مبدئي بين أغلب رموز العلبة السوداء، وقد جاء ذلك بعد لقاءٍ جمعهم في قصر المرادية يوم التاسع من مارس الفارط، بشكلٍ وضع الحِراك الشعبي أمام مرحلة ثانية من مراحله ستتضّح ملامحها في الأيام القليلة القادمة.
4. معركة الإرادات الخارجية: أيّ دورٍ قائمٍ أو محتملٍ للفواعل الدولية في حِراك الجزائر؟
لا يُمكن للجزائر طبعاً أن تكون إستثناءً عن أيّ دولةٍ أخرى تشهد حِراكاً سياسياً ومجتمعياً كهذا، فمن الطبيعي جدّاً أن تتزايد وتيرة تفاعل معطيات وأطراف البيئة الداخلية بمعطيات وأطراف البيئة الخارجية في مراحلٍ مفصليةٍ كهذه من تاريخ الدول، لاسيما في مناطقٍ جيوستراتيجيةٍ بالغة الأهميّة على غرار الجزائر.
في هذا الحِراك هناك فواعلٌ خارجيةٌ نعتبرها فواعلاً متأصّلةً ذاتُ علاقةٍ مباشرةٍ بأسباب الحِراك وأطرافه الداخلية، تأثيرها كان متواجداً سلفاً قبل عقودٍ أو سنواتٍ من موعد هذا الحِراك على غرار فرنسا والولايات المتحدّة مع تباين مستوى هذا التأثير طبعاً، وهناك فواعلٌ خارجيةٌ أخرى غير متأصّلة الأسباب إن صحّ التعبير، لكن يهمّها المسار الذّي سوف يأخذه هذا الحِراك ومن مصلحتها أن ينتصر فيه هذا الطرف أو ذاك، على غرار روسيا والصين، وهناك فواعلٌ أخرى غير متأصّلة العلاقة كما قلنا لكنّ من مصلحتها أن يتّجه هذا الحِراك إلى الفوضى وينتهي بانهيار الدولة على غرار “إسرائيل” المتوغلّة في إفريقيا بقوة.
سوف نحاول هنا أن نُحدّد باختصار طبيعة العلاقة القائمة بين كلّ فاعلٍ مهّمٍ من هذه الفواعل الخارجية بمعطيات وأطراف الفواعل المحلية القائمة، مُحاججين أساساً بوجود معركة إراداتٍ خارجية ذات تأثير قويّ على مصير البلاد.
بدايةً وإذا انطلقنا من مفهوم الفوضى الدولية على حدّ تعبير كنيث والتز، والتّي تقودنا بدورها إلى الانطلاق من بنية النظام الدولي كمستوى للتحليل في تفسير سلوكيات الدول لاسيما الكبرى منها، فإنّ النظام الدولي الراهن يشهد تنافساً حاداً بين نمطيْن أساسيين من القوى:
- القوى المهيمنة أو القوى التقليدية الهادفة إلى المحافظة على الوضع القائم، تُعدُّ الولايات المتحدّة خصوصاً أبرز هذه القوى إلى جانب فرنسا وبعض دول الاتحاد الأوروبي ذات العلاقة بموضوع ورقتنا هذه.
- القوى التعديلية في بنية النظام الدولي، وهي تلك الرافضة لقواعد هذا النظام، غير الراضية بها والراغبة بتغييرها في كلّ فرصةٍ تراها مناسبةً وفقاً لحسابات المكاسب والخسائر (مبدأ العقلانية في السياسة الدولية)، تُعدّ روسيا والصين أبرز هذه القوى، مع ضرورة تسجيل ملاحظةٍ مهمّةٍ هنا وهي تلك المرتبطة بوجود تنافسٍ داخليٍ بين أطراف كلّ نمط حول مصالحٍ نسبيةٍ لا تتضارب مع التصوّر العام لهذا النمط وتموضعه على “رقعة الشطرنج الكبرى” على حدّ تعبير بريجانسكي، بين فرنسا والولايات المتحدة وإيطاليا وإسبانيا من جهة، وبين روسيا والصين في الجهة الأخرى على سبيل المثال.
يجري التنافس بين هذه القوى بوسائلٍ متنوعّة وفي أقاليمٍ عديدةٍ، منها منطقة شمال إفريقيا باعتبارها منطقةً مفتاحيةً بالنسبة لجميع القوى الدولية المتنافسة، لذا نرى في هذه الورقة بأنّ الجزائر ما هي في النهاية إلاّ ساحةُ معركةٍ “لحربٍ كبرى” بين هذه القوى الدولية المحكومة برؤى جيوبوليتيكيةٍ متضاربةٍ “صفرية المُخرجات” بشكلٍ نسبي، يسعى في خضّمها هذا البلد المفتاحي ذي الأهميّة الجيوستراتيجية البالغة -كغيره من البلدان المفتاحية- إلى البحث عن إرادته الحرّة والمستقلة في بيئةٍ يحكمها منطق الفوضى الدولية بمفهوم كنيث والتز، الأمر الذّي يجعلنا نتساءل في هذا المحور عن حدود الدور الذّي يلعبه توزيع القوة داخل بنية النظام الدولي أي التنافس القائم بين هذه القوى في تحديد طبيعة ومسار صراع الأجنحة داخل النظام السياسي الجزائري؟ وإلى أيّ مدى يُمكن لصراع الأجنحة هذا أن يكون مستقل الإرادة والفعل عن الإرادات الدولية المتنافسة؟
أ. القوى التقليدية وحِراك الجزائر:
يأتي على رأسها كلٌّ من فرنسا، الولايات المتحدّة وإلى حدّ ما إيطاليا وإسبانيا. تُعتبر فرنسا أكثر الفواعل الدولية ذات الصِلة العضوية بما يحدث اليوم في الجزائر، فالجزائر بالنسبة لها لا تزال بمثابة “المستعمرة القديمة”، منطقة النفوذ الفرنكوفوني الدائم وبوابتها الواسعة نحو إفريقيا، لذا تجتهد فرنسا بأن لا يتسبّب أيّ تعاون أو تنافس بينها وبين القوى الدولية الأخرى من جهة وبين أجنحة النظام الجزائري المتنافسة من جهة أخرى في إبعاد الجزائر عن دائرة نفوذها التقليدية.
لقد وجدت فرنسا منذ رحيل الرئيس هواري بومدين سنة 1978 (الذّي كان يحتوي بشخصيته كلّ الاختلافات ويمنع ظهور أجنحةٍ متنافسةٍ داخل النظام كما يحدث اليوم) رعايةً لمصالحها في دعم مجموعة من الضبّاط والجنيرالات النافذين داخل الجيش والمخابرات معاً، لاسيما المخابرات الطرف الأقوى في تقديرنا آنذاك، الأمر الذّي أبقى على نفوذها في الجزائر ذا وتيرةٍ مستقرة، لكن ومنذ مجيئ الرئيس بوتفليقة بدأت لعبة الأجنحة المتنافسة تظهر إلى العلن.
فكما أشرنا في أول محورٍ، فقد دخل بوتفليقة الذّي جاء بتوافقٍ بين المخابرات والجيش في “لعبةٍ طويلةِ النَفَس” بهدف استرجاع قوّة وصلاحيات المدني على العسكري، محاولاً الاستفادة من الخلافات البينية بين رموز الجيش والمخابرات، فضلاً عن دعم الولايات المتحدّة له التّي رأت في بوتفليقة ومؤسّسة الرئاسة فرصةً مناسبة لبناء علاقاتٍ واعدةٍ مع هذا البلد-القارة منذ مطلع الألفية الجديدة، خاصّة وأنّ هذه الألفية بدأت بحرب الولايات المتحدة على ما كانت تُسمّيه “بالإرهاب الدولي”، والجزائر صاحبة الموقع الجيوستراتيجي الممتاز كانت من أكثر البلدان خبرةً في محاربة الإرهاب في ذلك الوقت.
وهنا بالضبط بدأت فرنسا تشعر بالقلق بخصوص نفوذها التقليدي الذّي صار مُهدّداً من قِبلِ حليفٍ قويّ كالولايات المتحدة، لذا ولأسبابٍ كهذه بدأت فرنسا تُولي أهميّةً جديدةً للفاعل المدني في الرئاسة بشكلٍ يضمن لتأثيرها بقاءً داخل “العلبة السوداء” من دون أن تكون مضطرةً إلى مواجهة حليفٍ قويٍّ لها في الجزائر كالولايات المتحدة، خاصّة وأنّ القوّتان تواجهان معاً تحدّياً مشتركاً متزايداً في إفريقيا عموماً والجزائر على وجهٍ أخصّ قادماً من الشرق، أي روسيا والصين.
هناك تفاصيلٌ كثيرة (لا تسعها هذه الورقة) تُوضّح الطريقة التّي عملت بها كلّ من فرنسا والولايات المتحدة على زيادة نفوذهما داخل “العلبة السوداء” في مقابل تحييدهما لأيّ نفوذٍ روسي -بالأخصّ- في المستقبل المنظور، تَمَثّل أبرزها في دعم صلاحيات الفاعل المدني المنفتح على الغرب (مؤسّسة الرئاسة) على حساب الفاعل العسكري (الجيش والمخابرات) روسي البُنية والتسليح والذهنية العسكرية إلى أن تمكّنت مؤسّسة الرئاسة من توسعة صلاحياتها بشكلٍ غير مسبوقٍ على حساب الجيش والمخابرات الذيْن تعرّضا إلى “تقليمٍ مُمنهجٍ للأظافر” وبقيا بحكم الصلاحيات تحت يدّ قرارات الرئيس، خاصّةً جهاز المخابرات.
وقد كانت في نظرنا طريقةً ذكيةً من فرنسا والولايات المتحدة خصوصاً في إبقاء أيّ تنامي لنفوذٍ روسيٍ محتملٍ في المستقبل على القرار السيادي الجزائري تحت السيطرة والتحييد، وقد بدت ملامح نجاح هذا التكتيك منذ سنة 2013، حينما مرض الرئيس ونجح شقيقه في الهيمنة على قصر الرئاسة بدعم أمريكي-فرنسي مكّنه من تمرير عهدةٍ رابعةٍ سنة 2014، ثمّ إبعاد خصمه اللدود في المخابرات الجنيرال توفيق وتغييره بآخر اعتقد بأنّه سيضمن ولاءه وطاعته العمياء يوم الحاجة، أي الجنيرال بشير طرطاق، وبمباركةٍ فرنسية أساساً، في وقتٍ كان الرئيس بوتفليقة قد وضع على رأس قيادة الأركان جنيرالاً أنقذ حياته المهنية من جنيرالاتٍ آخرين نافذين كانوا يريدون إبعاده من المؤسّسة العسكرية ونعني بذلك الجنيرال القايد صالح، وكهذا صارت الرئاسة (بسيطرة شقيق الرئيس وبالوجود الرمزي للأخير) مهيمنةً على القرار في الجزائر بدعمٍ فرنسي-أمريكي، وصار الجيش والمخابرات (روسي النَزعة والذهنية والتسليح) تحت سيطرة الرئاسة.
إلى جانب دعم الرموز المدنية في مؤسسة الرئاسة لأجل توسعة نفوذها، علمت فرنسا والولايات المتحدة على وجهٍ أخصّ على المساعدة في خلق أذرعٍ ماليةٍ داعمة للرموز المدنية في الرئاسة، أي ما صار يُعرف في الجزائر بتزايد نفوذ رجال الأعمال الذّين صاروا بمثابة السند المالي لمشاريع الرئاسة في تثبيت سلطتها في الجزائر في مقابل استفادتهم المادية من الوضع القائم، وقد قامت السلطة بتأطير هؤلاء ضمن ما صار يُعرف بمنتدى رؤساء المؤسّسات الجزائريين بقيادة السيد علي حدّاد.
وقد سبق وأن أشرنا إليهم في المحور الثاني، مع ذلك فإنّنا نريد أن نتوقّف قليلاً عند هذه النقطة، فهي تعكس في نظرنا الدور المهمّ الذّي صار يلعبه هؤلاء لصالح الولايات المتحدّة خصوصاً (وفرنسا بدرجة أقلّ) حتّى صار من شبه المستحيل الاقتراب من نفوذهم المحمي من طرف الرئاسة، أو ما صار يُسمّى اليوم “بجناح أمريكا” في الجزائر.
على سبيل المثال، فقد اتضح للعيان مؤخّراً طبيعة العلاقة المتينة التّي تربط الطرفين حينما عُزل رئيس الوزراء الأسبق عبد المجيد تبّون (المحسوب على الجيش وقائد أركانه) بطريقةٍ كوميديةٍ بعدما بلغه “تهديدٌ واضحٌ من الأعلى” بأن يتوقّف عن “التحرّش برجال الأعمال”، وذلك بعدما شرع الوزير تبّون في إجراءاتٍ صارمةٍ تمسّ بمصالح هؤلاء وقد تؤدّي في النهاية إلى إنهاء العلاقات السلبية للمال بالسياسة في الجزائر بشكلٍ مطلقٍ بعد تنامي هذه العلاقة في الأعوام الأخيرة. لقد عُزل تبّون بعد شهرين فقط من تولّيه منصب رئاسة الوزراء.
تُذكّرنا علاقة المال بالسياسية هذه (الجديدة في الجزائر) بالطرح النظري الذّي يُقدّمه البروفيسور رايت ميلز في نظريته الجذّابة “نظرية النُخبة المسيطرة” أو ما تُعرف أيضا “بنظرية المركّب الصناعي العسكري”، منطلق هذه النظرية كان أمريكياً وقد جاءت لفهم الطريقة التّي يُصنع بها القرار الأمريكي لاسيما تجاه بعض القضايا الخارجية، ثمّ طُبّقت كنموذجٍ تفسيريٍ في بقيّة الدول، خاصّة تلك التّي تعرف تنامياً لأثر رجال المال والأعمال في السياسة.
تُحاجج هذه النظرية بالدور الفاعل للتحالف القائم بين رجال الأعمال وأصحاب الشركات الصناعية والعسكرية من جهة وبين رجال السياسة وصنّاع القرار من جهةٍ أخرى، فالقرارات السيادية الكبرى لا تُأخذ إلاّ بعد أن تأخذ بعين الاعتبار مصالح هذه الشرِكات وأصحابها كما تُحاجج النظرية، بل إنّ هؤلاء عادةً ما يدفعون الدولة على المستوى الخارجي إلى خوض نزاعاتٍ وحروبٍ بهدف تصدير منتجاتهم وتحقيق الأرباح، ليصير اقتصاد الدولة اقتصاد حربٍ، وتصير الدولة مضطرةً في كلّ مرّةٍ إلى ضمان إيجاد أسواقٍ خارجيةٍ لمنتوجاتهم الاقتصادية والعسكرية، هناك العشرات من الأمثلة التاريخية لطريقة عمل هؤلاء في الولايات المتحدة، وكيف ساهموا في توريط الإدارات الأمريكية المتعاقبة في حروبٍ عديدةٍ بهدف بيع الأسلحة أو حتّى تجريبها (على غرار فضيحة إيران سنوات الثمانينيات من القرن المنصرم، حينما كانت إيران تخوض حرباً ضدّ العراق، وكانت هي الشيطان الأكبر بالنسبة للولايات المتحدة التّي ساندت في العلن النظام العراقي، في حين اكتشف بيعها للأسلحة للنظام الإيراني خُفيةً وسُميّت آنذاك بفضيحة إيران، والأمثلة كثيرة جدّاً).
طبعاً، لم تصل الجزائر بعد إلى هذا المستوى، لكن ومنذ وصول الرئيس عبد العزيز بوتفليقة للحكم سنة 1999 وانفتاحه على الغرب والولايات المتحدّة على وجهٍ أخصّ لأسباب استراتيجية عديدة ( على غرار تنويع التحالفات الاستراتيجية وتجنيب البلاد أي إمكانية للإستقطابات العالمية المُضرّة بالأمن القومي للجزائر) بدأنا نسمع شيئاً فشيئاً عن دور رجال المال والأعمال في السياسة الجزائرية عموماً، ثمّ صرنا نتحدّث اليوم عن جناح أمريكا في الجزائر، والذّي يُراد له بأن يُؤدّي نفس الوظيفة التّي يُؤدّيها في الولايات المتحدّة كما تُحاجج نظرية رايت ميلز، والذّي سوف يُساهم إلى حدٍّ كبيرٍ في إنجاح المساعي الأمريكية لتعزيز الصلاحيات الإمبراطورية لسلطة الرئاسة على حساب المؤسّسة العسكرية روسية الذهنية، البُنية والتسليح، فيضمن التفوّق الأمريكي في الجزائر على الأقل كخطوة أوليّة.
هناك الكثير من الأمثلة عن شخصياتٍ تُؤدّي هذا الدور الوظيفي في الجزائر “للمركّب الصناعي العسكري” بمفهوم ميلز، وإن كان الاقتراب من القطاع العسكري لا يزال أمراً صعب المنال جدّا في الجزائر الآن، تحدّثنا سابقاً عن السيد علي حدّاد وجماعته كما يُشار في هذا الصدد أيضاً إلى المدير العام السابق لمجمع سونطراك السيّد شكيب خليل، تلك الشخصية التّي أثارت جدلاً طويلاً داخل الجزائر بعدما اتهم باختلاسات كُبرى –خرج منها بريئاً- في سوناطراك التّي تُعتبر الشركة النفطية الأولى التّي تعتمد عليها الجزائر ( حوالي 98% من الصادرات الجزائرية نفط تنتجه هذه الشركة أي نسبة مرتفعة جدّاً من المدخول القومي)، وقد أوردت صحفٌ وطنيةٌ أنّ الرجل يحمل الجنسية الأمريكية ويُحاضر في جامعاتها أيضا.
هناك شخصيةٌ أخرى مثيرة للجدل والأمر متعلّق هنا بالسيد عبد المؤمن ولد قدّور الذّي سُجن سابقاً بتهمة الفساد في القطاع البترولي وكذا التخابر مع جهاتٍ أجنبيةٍ بعدما عثرت المخابرات الجزائرية بمكتبه أو بيته على أجهزة تنصّت، كان المقصود بالجهات الأجنبية آنذاك الولايات المتحدّة وشركة براون أند روت كوندور (BRC) وهي شركة مختلطة بين سونطراك الجزائرية وشركة لنائب الرئيس الأمريكي الأسبق ديك تشيني (أحد الرموز البارزين للمركّب الصناعي العسكري الأمريكي).
لقد عاد الرجل مجدّداً إلى الواجهة، بل وعُيّن قبل سنتين على رأس أكبر شركة بترولية في البلاد أي سونطراك، وكان الأمر قد تمّ بضغطٍ أمريكيٍ كما أوردت مصادرٌ عديدة، والأمثلة كثيرة عن عائلات وشخصيات تمتلك شركات وعقارات ونفوذ مالي كبير قد يتحوّل إلى نفوذ سياسي بادي للعيان مع الوقت في الجزائر على غرار عائلة كنونيناف التّي لا يعرف الجزائريون عنها الكثير وتُعدّ أكبر ذراع مالي لشقيق الرئيس بوتفليقة، بشكلٍ يشبه كثيراً ما يُصطلح على تسميته “بالدولة العميقة أو “الكيان الموازي” المتغلل في أطراف الدولة والمجتمع والذّي يُمكن أن يتحوّل إلى “حصان طروادة” في يدّ القوى الأجنبية الداعمة له في أيّة لحظةٍ إذا تنامي في قوتّه وزاد تأثيره المالي على السياسة.
اليوم وبعد إطلاقها لمبادرةٍ جديدةٍ وسحبها لمرشّحها الرئيس بوتفليقة، تستقدم السلطة شخصياتٍ دبلوماسيةٍ ثقيلة الوزن على غرار السيد الأخضر الإبراهيمي والسيد رمطان لعمامرة خيرة ما أنجبته الدبلوماسية الجزائرية، الأمر الذّي يجعلنا نعيد بدورنا طرح السؤال نفسه، ألا يُمثّل هؤلاء إضافةً ما للنفوذ الأمريكي في الجزائر على حساب النفوذ التقليدي لروسيا؟ خاصّة إذا علمنا بأنّ كلا الشخصيتيْن ذوي ارتباطات أقرب للولايات المتحدة وفرنسا منها إلى روسيا رغم إحتفاظهما بعلاقاتٍ شخصيةٍ موازيةٍ مع الروس أيضاً، لاسيما السيد رمطان لعمامرة كما هو معروف. لن نكون هنا في صدد التشكيك في نوايا الرجلينْ أو كفاءتهما المشهودة أو كونهما يُعبّران بحقّ عمّا يُسمى في الأدبيات السائدة “برجل الدولة” العامل بمنطق الدولة بعيداً عن أيّ اعتبارات أخرى، لكن سؤالنا هنا مرتبطٌ أولاًّ بغاية النظام السياسي من استدعائهما في هذه اللحظة الحرجة بالضبط، ثمّ ثانيا بالطريقة التّي يرى بها الرجليْن أين تكمن بالضبط المصالح الاستراتيجية الأمثل للبلاد على المستوى الخارجي خصوصاً، أهي في تقوية الارتباط الاستراتيجي مع الولايات المتحدة وفرنسا أم في تعزيز الارتباط التقليدي بروسيا والصين؟ الذّي يستمر نفوذهما العسكري والاقتصادي في التنامي بالمناسبة، أم في تحقيق نوع من التوازن الاستراتيجي بين الطرفين؟ والذّي نراه أمراً حيوياً للبلاد في هذه الفترة بالضبط ولكنّه أمرٌ شديد الصعوبة، ربمّا تُقدّم لنا الزيارة الأخيرة للسيد رمطان لعمامرة لروسيا والزيارة المرتقبة للسيد الأخضر الإبراهيمي إلى الصين إجابةً مبدئيةً عن هذا السؤال الحيوي.
قبل الانتقال إلى “مُعسكر القوى التعديلية”، بقي أن نوضّح بعض معالم الاختلافات الكبرى بين فواعل القوى التقليدية تجاه حِراك الجزائر، وبالأخصّ بين فرنسا والولايات المتحدة وإيطاليا. تُعتبر الجزائر–بجغرافيتها الرحبة- بالنسبة لفرنسا بمثابة الدولة الحامية أو الكتلة الجيوبوليتيكية العازلة لجميع أشكال المخاطر والتهديدات القادمة من الضفة الجنوبية للمتوسط باتجاه الشمال، كالهجرة غير الشرعية والجماعات الإرهابية العابرة للقوميات وما إلى ذلك، لذا فهي وإن كانت تريد إبقاء الجزائر دولةً منقوصة السيادة أو في حالة ضعفٍ بنيويٍ يُبقيها تحت النفوذ الفرنسي، فهي لا تقوى على أن تتحوّل هذه الدولة إلى دولةٍ فاشلةٍ (بالمفهوم الأكاديمي للدولة الفاشلة) تغيب عنها مركزية السلطة المحتكرة لوسائل القهر المادي (السلاح)، خاصّة وأنّها اختبرت للتو ما يُمكن أن تُحدثه الدولة الفاشلة من انعكاسات خطيرة على أمنها القومي وأمن الضفة الشمالية للمتوسط حينما تحوّلت ليبيا إلى دولةٍ فاشلةٍ بعد انهيار نظامها وتفكّك سلطتها المركزية.
فقد أدّى سقوط النظام الليبي بتلك الطريقة إلى حالةٍ من الفوضى في منطقة المغرب الكبير والساحل الإفريقي-جنوب الصحراء، حالة من الفوضى لا تخدم فرنسا أو دول الاتحاد الأوروبي، ولقد سجّل المراقبون منذ ذلك الوقت على سبيل المثال ارتفاعاً لمستوى الأعمال الإرهابية والتفجيرات في عواصمٍ أوروبيةٍ غربيةٍ نفذّتها خلايا نائمة أو “مستيقظة” ذات علاقة بالجيل الثاني والثالث من المهاجرين المغاربة أو ذات صلاتٍ بتنظيمات إرهابيةٍ تنشط على طول الإقليم المغاربي والصحراوي، فأيُّ جحيمٍ ستعيشه أوروبا إذا ما تحوّلت الجزائر إلى دولةٍ فاشلةٍ على الطريقة الليبية أو السورية أو أسوء منهما بكثير؟ لذا، فالعامل الجغرافي هنا يلعب دوراً مهمّاً في فهم الرؤية الفرنسية للحدود التّي لا ينبغي أن يتعدّاها هذا الحِراك المليوني للشعب الجزائري.
في مقابل ذلك، فإنّ عامل القرب الجغرافي لا يلعب نفس الدور بالنسبة للرؤية الأمريكية في هذا الصدد، فالولايات المتحدّة تُركّز كما قلنا على مصالحها في الجزائر المتمثّلة أساساً في النفط وكبح تنامي النفوذ الروسي والصيني هناك، ولن يُؤدّي تحوّل الجزائر إلى دولةٍ فاشلةٍ إلى إعاقة متابعة الولايات المتحدّة لمصالحها المركزية في الجزائر، بل ولربّما تجد من يُحاجج بأنّ “سياسة الفوضى الخلاّقة” سوف تظلّ أداةً ناجحةً في السياسة الخارجية الأمريكية في إدارة الأزمات أو بلوغ المصالح الأمريكية أكثر من الاستقرار (هذه مسألة حِجاجية). بالنسبة لإيطاليا والتّي تعيش في الفترة الأخيرة أزمةً دبلوماسيةً مع فرنسا سببها المهاجرين القادمين من منطقة المغرب الكبير، فقد تتوافق في رؤيتها الكبرى مع فرنسا بسبب العامل الجغرافي كما قلنا، إلاّ أنّ إيطاليا ستكون أحد المستفيدين إذا تراجع النفوذ الفرنسي في الجزائر، لاسيما من الناحية الاقتصادية، فإيطاليا وفرنسا فاعليْن متنافسيْن في شمال إفريقيا، في ليبيا، تونس والجزائر خصوصاً، لذا فتراجع نفوذ رموز النظام السياسي الجزائري المدعومين من فرنسا من شأنه أن يهبها فرصاً تجاريةً واقتصادية أكثر على حساب الفرنسيين خاصةً في قطاع الغاز، ربّما ينطبق الأمر نفسه على إسبانيا، إلاّ أنّ الجميع يجد إلى حدّ الآن مصالحه في رموز جناح الرئاسة الذّين أحسنوا إلى حدٍّ ما إدارة التنافس البيني بين هذه الأطراف على الأقل في مسألة توزيعهم لحصص الغاز والنفط، ولو على حساب الشعب الجزائري والمصالح العليا للبلاد.
ب. القوى التعديلية وحِراك الجزائر:
تُعتبر كلٌّ من روسيا والصين أبرز “القوى التعديلية” المرتبطة بحِراك الجزائر، وهما، كما أسلفنا الذكر، من الفواعلٌ الخارجية غير المرتبطة بالأسباب المباشرة لحِراك الجزائر الراهن، لكن يهمّها المسار الذّي سوف يأخذه هذا الحِراك ومن مصلحتها أن ينتصر فيه الطرف المُعبّر عن مصالحها الحيوية في هذا البلد، أي المؤسّسة العسكرية (جناح قيادة الأركان وجناح المخابرات الجديدة)، والأسباب في ذلك كثيرةٌ جدّاً، أولّها أنّ العلاقات الروسية-الجزائرية والصينية-الجزائرية علاقاتٌ استراتيجية أصيلةٌ تمّ التأسيس لها بشكلٍ تعاونيٍ منذ استقلال الجزائر سنة 1962، إذ كانت روسيا بمثابة الداعم العسكري الأول للجزائر –ولا تزال- في حين كانت الصين من أولى الدول الداعمة للثورة الجزائرية واستقلال البلد عن الاحتلال الفرنسي، لتُساهم بمعوناتٍ اقتصادية كبرى في إرساء الدولة الجزائرية الفتيّة منذ الاستقلال، كلّ ذلك عزّز من مسألة تقارب المدركات الفكرية (الاشتراكية) والسياسية والأمنية بين صنّاع القرار الجزائريين وصنّاع القرار الروس والصينيين منذ تلك المرحلة.
اليوم، تُعتبر روسيا المُورّد الرئيسي للسلاح الجزائري إذ يُمثّل السلاح الروسي أكثر من 75% من سلاح الجيش الجزائري، كما تستحوذ الجزائر على ما نسبته 52% من سوق السلاح الروسي في إفريقيا، ويقول خبراء في دراسةٍ عسكريةٍ أجراها مركز بحوث قوات الجو الأمريكية بأنّ: “طبيعة الأسلحة التّي تشتريها الجزائر من روسيا مؤخّراً أسلحةٌ استراتيجية على غرار منظومات الدفاع “أس 400 تريامف” التّي تُنصّبُ احتسابا لمواجهة قوى كبرى، وبأنّ قوات الجو الجزائرية للدفاع عن الإقليم باتت من بين أفضل 10 منظومات دفاعٍ في العالم، الأمر الذّي يطرحُ أسئلةً مُحيّرةً عن السبب الذّي يدفع الجزائر إلى امتلاك دفاعٍ جويٍ بميزاتٍ مُماثلةٍ لا يجد له أيّ مبرّر سوى وجود مخاوفٍ جزائريةٍ من احتمال التعرّض لهجومٍ جوّيٍ مفاجئ من قوة كبرى”، وبغضّ النظر عن الأسباب التّي تدفع الجزائر إلى التسلّح1، فإنّ روسيا تُعتبر في هذا الصدد صاحبة النفوذ العسكري الأول في الجزائر من دون منازع، لذا فبإمكان الروس “أن يتكلّموا لغةً مشتركةً وموحّدةً” مع قيادات المؤسّسة العسكرية الجزائرية، خاصّة وأنّ أغلب هذه القيادات كانت قد أخذت تكوينها من قبل في المدارس الروسية العسكرية أيّام الحرب الباردة، فتشبّعت بالثقافة الروسية السياسية والعسكرية على حدٍّ سواء.
بالنسبة للصين، فقد فرضت وجوداً اقتصاديا وتجارياً ضخماً ومتنامياً في الجزائر، لاسيما خلال العقد الأخير، إذ أخذ الوجود الصيني في شمال إفريقيا عموماً شكلاً أكثر ثباتاً وتنامياً، ومع حلول سنة 2014، تفوّقت الصين لأوّل مرّة على فرنسا من حيث حجم الاستثمار في الجزائر، كما صارت المورّد الأول لها، ومنذ إعلان الرئيس الصيني شي جي بينغ عن مبادرة الحزام والطريق سنة 2013، التحقت دول المغرب الكبير تباعاً بهذه المبادرة ووقّعت مذّكرات تفاهمٍ واتفاقيات شراكةٍ مع الصين، كانت الجزائر أولى هذه الدول، بشكلٍ أوحى بأنّ خارطة العلاقات الاقتصادية بين الصين ودول المغرب الكبير عموماً من شأنها أنّ تُغيّر كثيراً في طبيعة علاقات القوة بالمنطقة.
بلغة الأرقام، نشير إلى أنّه وفي سنة 2016، بلغت قيمة سوق الإنشاء والبنية التحتية التّي تُشرف عليها شركاتٌ صينيةٌ في منطقة المغرب الكبير حوالي 9 مليار دولار. كانت العلاقات التجارية بين الصين ودول هذه المنطقة سنة 2000 تُقارب قيمتها 1.6 مليار دولار، بحلول سنة 2012 نمت هذه العلاقات بحوالي 20 ضعفاً لتصل قيمتها إلى حوالي 31 مليار دولار. في الفترة ما بين 2000 -2012، نمت قيمة تصدير الصين لشمال إفريقيا من مجرّد 1.4 مليار دولار إلى 20.5 مليار دولار، في حين نمت واردات الصين من المنطقة من 213 مليون دولار إلى 10.7 مليار دولار أثناء نفس الفترة. في الوقت الحاضر، تُعتبر الصين واحدةً من بين أهمّ 10 مصادرٍ لواردات اقتصاد المنطقة، هذا ما يؤكّد أهميّة منطقة شمال إفريقيا كسوقٍ حيويةٍ بالنسبة للصين، وخاصّة السوق الجزائرية ذات الروابط التاريخية القديمة.
تُباشر الصين الآن مشاريعاً عملاقةً بالجزائر على غرار دار الأوبرا الضخمة في العاصمة، مسجد الجزائر الأعظم، بناء مطار جديد بالعاصمة، ملاعب أولمبية، مبنى وزارة الخارجية والمحكمة الدستورية، فنادق خمسة نجوم ضخمة، معامل تركيب السيارات، توسعة شبكة السكك الحديدية، طريق سيّار سريع يربط شرق البلاد بغربها على مسافاتٍ طويلةٍ جدّا، كما تستثمر الصين في حقول النفط والغاز جنوب البلاد، كما صارت الجزائر المشتري الأول للسلاح الصيني في القارة الإفريقية.
أمّا عدد العمّال الصينيين في الجزائر فقد بلغ حوالي 50 ألف عاملٍ بحلول سنة 2009، جاعلين من الجزائر البلد الأوّل المُستقبل لأكبرِ جاليةٍ صينيةٍ في شمال إفريقيا وأحد أكبر البلدان المُستقبلة لها في كامل القارة الإفريقية. وفي إطار مشروع طريق الحرير الجديد شرعت الصين منذ سنة 2016 بمبادرةِ مشاريعٍ جديدةٍ لموانئٍ حيويةٍ على طول منطقة شمال إفريقيا، أهمّها ميناء الحمدانية بمنطقة شرشال بالجزائر، وهو الميناء الذّي يراه الصينيون حيوياً جدّاً لتصدير سلعهم نحو الضفة الشمالية للبحر المتوسط.2
اليوم، ومع تطوّرات حِراك الجزائر تخشى كلٌّ من روسيا والصين أن تتضرّر مصالحهما العسكرية والإقتصادية في الجزائر، خاصّة إذا ما أسفر صراع الأجنحة داخل النظام الجزائري عن انتصار الجناح الذّي تُدعمّه الولايات المتحدّة خصوصاً، على اعتبار أنّ حدود النفوذ الفرنسي في الجزائر اليوم في حالة تآكل غير مسبوق، وقد عبّر البلدان عن مواقفهما تجاه حِراك الجزائر بلغةٍ دبلوماسيةٍ حذرةٍ ومتوازنةٍ موضحّين قلقهما تجاه ما يحدث في الجزائر اليوم، خاصّة وأنّ كلاهما يُدرك الضرر الكبير الذّي يُحدثه انهيار مؤسّسات الدولة والنظام على مصالحهما الحيوية في هذه المنطقة، ولهما تجربةٌ قريبةٌ في ليبيا التّي تسبّب تدخّل الناتو فيها في خسارة كلّ من روسيا والصين عقوداً ماليةً ضخمةً مع نظام القذافي فضلاً عن تراجع نفوذهما السياسي والعسكري هناك لصالح الولايات المتحدّة وفرنسا. تُدرك روسيا والصين بأنّ التشبّث بعلاقاتٍ استراتيجية مع الجزائر مسألةٌ حيويةٌ في استراتيجيتهما الكبرى، فكلاهما يسعى لتوسعة مجالات نفوذه في النصف الغربي من العالم بعدما حاولا لسنواتٍ ماضيةٍ تثبيت وضع الهيمنة في جوارهما الإقليمي، والجزائر في هذا الصدد تُعدّ لكليهما منطقة نفوذٍ استراتيجية متقدّمةٍ جدّاً لمحاصرة “قوى الأطلسية الجديدة” وأوروبا الغربية من الجنوب، لذا تعمل الولايات المتحدة وفرنسا وبعض الدول الأوروبية على غرار إيطاليا وإسبانيا منذ سنوات عديدة على تعميق علاقاتها الاقتصادية وحتّى العسكرية مع النظام الجزائري في محاولةٍ منها لكبح هذا النفوذ الروسي-الصيني المتنامي على مقربةٍ منها جميعاً، لاشك بأنّ امتلاك الجزائر على سبيل المثال لمنظومة دفاع أس 400 الروسية المتطوّرة جدّاً أمرٌ مرعبٌ بالنسبة لدول كفرنسا، إسبانيا وإيطاليا، هذا من دون الحديث عن سعي الجزائر منذ مدّة لتطوير قوتّها البحرية والجوية بأسلحةٍ روسيةٍ وصينيةٍ متطوّرةٍ جدّاً على غرار آخر الغواصات البحرية المسماة “بالثقف الأسود” المستوردة من روسيا أو الصواريخ صينية الصنع من نوع (C-802/CSS-N-8) المضادة للسفن، أو صواريخ أرض جو من نوع (FM90) أو سفن (C28A Corvette) المستقدمة من الصين أيضاً.
وبالرغم بأنّ كلاً من روسيا والصين لا تمتلكان قواعداً عسكريةً في الجزائر، إلاّ أنّ قوى الستاتيكو الدولية تعيش حالة رعبٍ مستمرٍ من أن يأتي ذلك اليوم الذّي يصير لهذه القوى الدولية التعديلية الصاعدة قواعداً عسكريةً غرب المتوسط، بأراضي دولةٍ ذات إمكانياتٍ هائلةٍ كالجزائر التّي لا تفصلها سوى مسافة 300 كلم على الأكثر عن الساحل الجنوبي لأوروبا، لقد تكرّرت المحاولات الروسية مع الجزائر في هذا الصدد منذ أيّام الحرب الباردة، وقد باءت بالفشل نظراً للعقيدة الأمنية الصارمة التّي تتبنّها الجزائر في هذا الصدد، إلاّ أنّ كثيراً من الأمور قد تتجّه إلى التغيّر إذا ما انفلتت الأوضاع في الجزائر على غرار ما حدث في ليبيا مثلاً، أمّا الصين التّي تكتفي حالياً بأسلوبها التجاري-الاقتصادي في مدّ نفوذها السياسي والاستراتيجي عبر العالم، فإنّها تُثير كثيراً من المخاوف الغربية والأمريكية من أن تتجّه في المستقبل المنظور إلى تحويل مكتسبات نفوذها الاقتصادي إلى نفوذٍ عسكري، وقد عبّر كثيرٌ من المحلّلين الأمريكيين عن مخاوفٍ مماثلةٍ من أن يصير لأغلب الموانئ والبنى التحتية التّي أنشأتها الصين في المستقبل المنظور استخدام ثنائي، أيْ أنّها قد تُستخدم لأغراضٍ تجاريةٍ وعسكريةٍ في نفس الوقت، هذا ما عبّر عنه الأستاذ جوناثان هيلمان3 Jonathan Hillman)) مدير مشروع إعادة ربط آسيا بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن دي سي حينما قال: “إذا كان بإمكان هذه الموانئ حمل السلع، فبإمكانها أيضاً حمل الجنود في المستقبل”.
يُدرك النظام الجزائري بجميع أجنحته أهميّة الحفاظ على علاقاتٍ استراتيجية متينةٍ مع أصدقاء الجزائر القدامى، روسيا والصين، وما يُمكن أن يخسره البلد إذا ما تمادت إحدى أجنحة النظام في تعزيز المصالح الأمريكية خصوصاً والفرنسية أيضاً في الجزائر بهدف الحدّ من النفوذ المتنامي لقوى الشرق الصاعد، في هذا الصدد يُمكننا قراءة الزيارات المتعدّدة لكلٍّ من السيد رمطان لعمامرة إلى روسيا والسيد الأخضر الإبراهيمي إلى الصين والتّي تهدف في إحدى جوانبها إلى تطمين الحلفاء القدامى للجزائر بأنّ مصالحهما لن تتزعزع لصالح مصالح قوى دوليةٍ أخرى متنامية النفوذ حديثاً كالولايات المتحدة، لقد عبّرت هذه الزيارات في نظرنا أيضاً عن تمكّن المؤسّسة العسكرية بجناحيها قيادة أركان الجيش والمخابرات الجديدة من فرض وجودها على طاولة المفاوضات التّي جرت ولا تزال بين رموز أجنحة النظام على غرار اللقاء الأخير بقصر الرئاسة بالمُرادية يوم 09 مارس الفارط والذّي تمّ بموجبه سحب ترشيح الرئيس بوتفليقة، حل الحكومة القائمة واستقدام كلّ من لعمامرة والإبراهيمي أكثر الشخصيات الدبلوماسية الجزائرية كفاءة.
ج. قوى إقليمية محتملة التأثير في حِراك الجزائر:
هناك مجموعةٌ من الدول ذات نفوذٍ إقليميٍ متباينٍ كان لها علاقة ما بحرِاك الجزائر الراهن أو أنّها تُراقب هذا الحِراك عن كثب محاولةً إيجاد سبيلٍ معيّن في الوقت المناسب يُمكّنها من تحصيل نتائجٍ معيّنةٍ تتوافق مع مصالحها الداخلية أو الإقليمية، على غرار “إسرائيل”، المغرب، السعودية، الإمارات، قطر وتركيا.
بالنسبة “لإسرائيل”، فإنّ بُعدها الجغرافي عن الجزائر يجعلها على غرار الولايات المتحدة أقلّ القوى تضرّراً من انهيار الدولة الجزائرية ومؤسّساتها على غرار ما حدث في ليبيا (دولة فاشلة) مُقارنة بدول الاتحاد الأوروبي على غرار فرنسا، إيطاليا وإسبانيا، وهذه أكثر السيناريوهات التّي تُحبّذها “إسرائيل” أو قد تدفع إليها وذلك لسببٍ رئيسي ومتمثّل في نظرنا في كون الجزائر منافس قويّ لها في إفريقيا التّي يتوغّل فيها “الإسرائيليون” بقوة منذ تأسيس دولتهم4، فلكلٌّ من الجزائر و”إسرائيل” استراتيجية تقليدية في التوجّه نحو إفريقيا منذ عقودٍ من الزمن. قبيل بداية الحِراك شهر فبراير الماضي، تواردت كثيرٌ من الأخبار عن تحرّكاتٍ دبلوماسية قويّةٍ “للإسرائيليين” في بعض الدول الإفريقية تتويجاً لمسارٍ حافلٍ من الإنجازات السابقة لهم في هذه القارة، على غرار زياراتٍ متعدّدةٍ كانت نحو مالي وتشاد على الحدود الجنوبية للجزائر، وكذا زيارة كانت مرتقبة لنتانياهو إلى المغرب على الحدود الغربية للجزائر، والتّي قيل بأنّها أُلغيت في الدقائق الأخيرة، في حين أوردت مصادرٌ صحفيةٌ بأنّها تمّت سرّاً آنذاك.
باختصار، فإنّ ما يهمّ “الكيان الصهيوني” هو استغلال أيّ ظرفٍ مناسبٍ لإضعاف دولةٍ قد تنافسها في سياساتها الإفريقية مستقبلاً، والجزائر أكثر هؤلاء المنافسين قوّةً في إفريقيا، خاصّة وأنّ هناك تاريخاً مضطرباً بين “إسرائيل” والجزائر التّي تستمر في عدم الاعتراف بها كدولة، والقادة الإسرائيليون من أكثر القادة تعلّمناً من التاريخ ودروسه.
بالنسبة للمغرب، فقد التزم في مواقفه مبدأ الحياد وعدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، لاسيما إذا تعلّق الأمر بالجار المنافس، الجزائر، الذّي يحظى المغرب معه أصلاً بعلاقاتٍ سياسيةٍ غير مستقرةٍ بسبب أزمة الصحراء الغربية ولا يريد لها أن تتجّه إلى الأسوأ طبعاً.
لقد جاء هذا الحِراك الذّي تشهده الجزائر بعد فترةٍ قصيرةٍ من حدثٍ مهمٍّ عايشه المغرب في علاقاته الإقليمية، والمتعلّق بأزمته الدبلوماسية مع حلفاءه الخليجيين التقليديين، لقد حاججنا آنذاك في ورقةٍ سابقةٍ بأنّ البلَدان (الجزائر والمغرب) يقفان أمام فرصةٍ تاريخيةٍ مناسبةٍ لتجاوز خلافاتهما الإقليمية نظراً للدور الذّي يلعبه عامل الجغرافيا في إعادة تشكيل العلاقات الثنائية بينهما بشكلٍ أفضل5.
ويُدرك صنّاع القرار المغاربة الآن أنّ بإمكان بلدهم أن يلعب دوراً وظيفياً لصالح قوى أجنبية ضدّ استقرار الأمن القومي الجزائري، كما يُمكن لبلدهم أيضاً في المقابل أن يُمارس دوراً بنّاءً في تجاوز الجزائر لوضعها الحالي بتكاليف أقلّ، بنفس الطريقة التّي كان فيها صنّاع القرار الجزائريين يُدركون أنّ بإمكانهم استغلال أزمة المغرب مع حلفاءه الخليجيين (السعودية والإمارات) في هذه الآونة بشكلٍ قد يُحقّق لهم مكاسباً قصيرة المدى في محاصرة المغرب أكثر ودفعه للتنازل في قضية الصحراء الغربية ولكن، أضراراً استراتيجية بعيدة المدى على الأمن القومي الجزائري أو ما إعتبرناه بمثابة الخطأ الإستراتيجي الأعظم للجزائر على المدى البعيد الذّي سيصعبُ تداركه لاحقاً أو تغيير ما يُخلفّه من مدركاتٍ أمنيةٍ سلبيةٍ لدى المغاربة في الحاضر والمستقبل، فقد يدفع ذلك المغرب كردّة فعلٍ منه إلى تعزيز تنسيقه الاقتصادي والاستراتيجي مع “إسرائيل” المتوغلّة بقوة في القارة الإفريقية منذ عقودٍ، وما الملفات الإفريقية التّي حملتها الزيارة الأخيرة لنتنياهو إلى المغرب إلاّ مثالٌ واضحٌ عن ذلك، إذا ما ذكّرنا هنا بأنّ للجزائر توجّهٌ تقليديٌ نحو القارة الإفريقية التّي تعتبرها مجالها الحيوي الكبير ولن ترض طبعاً بوجود تنسيقٍ عالي المستوى بين منافسين لها كالمغرب و”إسرائيل” في هذا الملف .ما حاججنا به آنذاك أنّه وحتّى مع الأفضلية الجيوبوليتيكية التّي تتمتّع بها الجزائر مقارنةً ببقية الجيران فلن تكون الأخيرةُ قادرةً على تصحيح خطأ الاصطفاف وراء الدول الخليجية في هذه اللحظة ضدّ المغرب، وسيعاني الأمن القومي الجزائري لعقودٍ طويلةٍ لاحقةٍ من خاصرته الغربية كما تُعاني الصين اليوم تماماً من خاصرتها الجنوبية تايوان، أو روسيا من خاصرتيْها الغربية والجنوب غربية أوكرانيا وجورجيا، أو تركيا من محيطها الجغرافي المضطرب من جميع الجهات بل وحتّى كأقوى دولةٍ عرفها التاريخ البشري أي الولايات المتحدة التّي ظلّت تُعاني عبر التاريخ من المكسيك وجزيرة كوبا الصغيرة في خاصرتها الجنوبية.
لقد كانت لرئيس أركان الجيش الجزائري مع بداية الحِراك زيارة إلى الإمارات وقطر، وقد قُدّم لها قراءاتٌ متباينةٌ بين المتابعين، وهذا ما يُحيلنا للحديث عن الدور المحتمل لبعض دول الخليج في حِراك الجزائر على غرار السعودية، الإمارات وقطر، وهو دورٌ غير منفصل العلاقة عمّا أوردناه قبل قليلٍ عن كلّ من “إسرائيل”، المغرب، وأزمة الأخير الدبلوماسية مع “أصدقاءه الخليجيين” على التوالي، إذ يبدو بأنّ قائد الأركان الجزائري تمكّن من إقناع هذه الدول الخليجية بالامتناع عن ممارسة دورٍ سلبي إلى حدٍّ ما في حِراك الجزائر، وقد اتضح ذلك من خلال التغطية الإعلامية لقنواتها الرئيسية لحِراك الجزائر والتّي تبدو إلى الآن مختلفةً إلى حدٍّ ما عن التغطية الإعلامية لذات القنوات المؤثّرة في “دول الربيع العربي” من قبل، قد يكون المقابل الذّي قدّمه النظام الجزائري لهذه الدول مرتبطاً بوعودِ استثمارات اقتصادية كبيرةٍ في الجزائر في المستقبل المنظور، كما قد يكون الأمر مرتبطاً أيضاً بتعهّد الجزائر بممارسة دورٍ وساطة ما (أو ضغط) أكثر فاعليةٍ في كلٍّ من أزمة دول الخليج العالقة بسوريا أو الأزمة الدبلوماسية لبعض هذه الدول كالسعودية والإمارات مع المغرب. الأمر متقاربٌ أيضاً بالنسبة لتركيا التّي تلتزم مبدأ الحياد لما يحدث في الجزائر وتُغطي قنواتها الرسمية “بتحفظ” حِراك الجزائر، على الأقل إلى حدّ الآن.
ختاماً لهذا المحور، فإنّنا نُحاجج هنا أولاً بضرورة استيعاب الدور الفاعل للعوامل الخارجية لأجل تشكيل صورةٍ أوضح عمّا يحدث اليوم في الجزائر، فما يحدث في الجزائر لا يُعتبر شأنا داخلياً محضاً كما يُصرّ البعض على تصويره، فهو لاشّك متقاطعٌ بقوةٍ مع استراتيجيات دولٍ كبرى بعضها متقاربٌ وبعضها متضاربُ المصالح حدّ التناقض، لكنّها جميعاً ذات تأثيرٍ فاعلٍ على المصير الذّي تنتظره البلاد في قادم الأيام والسنوات.
بديلا عن الخاتمة:
تُقدّم محاور هذه الورقة بشكلٍ متكاملِ الوظيفة إجابةً عن سؤالها المركزي المتعلّق بالعوامل التّي تقف وراء حِراك الجزائر اليوم، فهي إذن عواملٌ بنيويةٌ مُركبّةٌ، منها ما يرتبط بالشعب، سيكولوجيته، ذهنيته، نخبه ومجتمعه المدني، ومنها ما يرتبط بتركيبة النظام السياسي وطبيعة أجنحته ومصالح رموزها الأساسية ومنها ما يرتبط بالتفاعلات القائمة في بنية النظام الدولي بين قواه الدولية (ثمّ الإقليمية) الفاعلة، ولا يُمكن في نظرنا إقصاء أيّ عاملٍ من هذه العوامل لأجل فهم أبعاد هذا الحِراك فضلاً عن محاولة التنبؤ بالمصير الذّي سيأخذه.
وبعيداً عن محاولة تفسير أبعاد هذا الحِراك، فإنّنا نشير في ختام هذه الورقة إلى نقطةٍ نراها حيويةً جدّاً يُمكن البناء عليها مستقبلاً لأجل التجاوز السلمي لهذا المنعطف الحاسم في تاريخ الجزائر، ونعني بذلك إمكانية بل ضرورة استثمارنا -مجتمعاً ونظاماً- في الطبيعة السلمية والمنحى الحضاري الذّي أخذه هذا الحِراك بشكلٍ غير مسبوقٍ في تاريخ الجزائر (إلى حدّ كتابة هذه الورقة على الأقل) أو في نماذج الحِراكات الشعبية التّي شهدتها منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط منذ سنة 2011. لقد حاججنا في مقالٍ سابقٍ6 بإمكانية أن يصير هذا الحِراك الحضاري بمثابة نقطةِ بدايةٍ جديدةٍ “لشرعيةٍ جديدةٍ” نبني عليها جمهوريةً ثانيةً على أسسٍ ديمقراطيةٍ حقّة في الداخل، ونعيد عبرها الجزائر إلى المسرح الدولي باعتبارها دولةً إقليميةً رائدةً مرّةً أخرى، إنّ من شأن حِراكٍ سلميٍ حضاريٍ كهذا أن يُحيي قوتّنا الناعمة من جديد والمنبثقة من روح ثورة نوفمبر المجيدة التّي خاضتها الجزائر ضدّ المحتّل الفرنسي فكانت منطلقاً صلباً بنت عليه الجزائر صورتها الداخلية والخارجية بعد الاستقلال.
ففي سنة 1969، أطلق أميلكار كابرال –أحد أشهر الثوريين في القارة الأفريقية ضدّ الكولونيالية- على الجزائر العاصمة تسمية “مكّة الثوّار”، وهي تسميةٌ ظلّت ملاصقةً لها منذ الاستقلال إلى نهاية الحرب الباردة، لم يكن ذلك بسبب الزيارات الكثيفة لقادةٍ ثوريين مشهورين لها طيلة فترة الستينيات من القرن المنصرم على غرار تشي غيفارا، ياسر عرفات ونيلسون مانديلا، ولكن لأنّ المئات من التروتستيين، الآنركيين وشتّى أنماط ثوريي العالم الثالث ظلّوا يلتقون بالعاصمة الجزائرية طيلة تلك الفترة لأجل إجراء نقاشاتٍ وبناء شبكاتٍ ودراسة التجربة الجزائرية في التحرّر الثوري، كان هذا الأمر كفيلاً لوحده بمنح الجزائر دوراً رائداً في قيادة العالم الثالث المتمزّق بين مصالح الشيوعية والرأسمالية أيّام الحرب الباردة وذلك عبر منظماتٍ عديدةٍ كان أهمّها منظمة دول عدم الانحياز أو عبر جهودها الدبلوماسية الفاعلة، لقد كانت الجزائر الدولة الأكثر إلهاماً لثوريي العالم ضدّ الظلم والعنصرية وقوى الاحتلال، وقد بلغت سمعتها آفاق العالم من جاكارتا إلى إيران إلى فلسطين إلى جنوب أفريقيا إلى كوبا وأمريكا اللاتينية، ولا تزال هذه السمعة الحسنة قائمةً إلى الآن بالرغم ممّا عاشته الجزائر من مشكلات.
بعد مرور نصف قرن ونيف على اندلاع الثورة الجزائرية المُلهمة، ها هي الجزائر تعيش اليوم لأوّل مرّة أعظم “ثورةٍ سلميةٍ” حدثت بأراضيها منذ الاستقلال، اعتبرها كثيرون بأنّها تكملةً لهذا الاستقلال السياسي المنقوص، إذ يضرب حِراك الشعب الجزائري المليوني اليوم مثلاً مُلهما في “الثورة السلمية” على كافة أشكال الظلم الاجتماعي والفساد وانسداد الأفق الديمقراطي في البلاد.
الصور والفيديوهات المُذهلة القادمة من الميادين هناك تجعلنا نستحضر الإنجاز العظيم الذّي بنت عليه الجزائر صورتها الدولية وسياستها الخارجية بعد الاستقلال بفضل الشرعية المُكتسبة من ثورة نوفمبر المجيدة، فصارت قِبلةً للثوار، بشكلٍ يجعلنا نُحاجج بإمكانية الاستثمار في الصورة التّي قدّمها حِراك الشعب الجزائري الحضاري اليوم في بناء “شرعية جديدة” تُؤسّس عليها الجزائر من جديد وتستفيد منها في بناء نظامٍ ديمقراطي قويّ في الداخل وفي تعزيز سياستها الخارجية على المستوى الإقليمي خصوصاً باعتبارها أكثر الدول الإفريقية المؤهلّة للقيادة الإقليمية في المنطقة.
يأتي ذلك في وقتٍ اتجهت فيه أغلب “موجات التغيير الشعبية” في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا منذ سنة 2011 إلى نماذجٍ متباينةٍ من التغيير الراديكالي العنيف أو ذلك المنقاد بعامل الإيديولوجيا ولو أنّه بدأ بدونها، وهنا تكمن إحدى فروقات الحِراك الشعبي الجزائري عمّا سواه، فالشارع اليوم مُجمعٌ على مسألتين مركزيتيْن: السلمية وعدم الانجرار إلى العنف مهما بلغت استفزازات السلطة، أمّا الأمر الثاني فتحييده لعامل الإيديولوجيا والحزبية بعدما كفر بأغلب الوجوه السياسية القديمة لاسيما تلك المنحازة إيديولوجياً نحو هذا التيّار أو ذاك، وفي المسألتين تكمن قوّة هذا الحِراك الحضاري، طبعاً فلا يزال الوقت مُبكّرا للحكم على نجاح هذا الحِراك أو استمراره على ذات الوتيرة السلمية الحضارية، فهذه مسألةٌ أخرى تحكمها عواملٌ كثيرةٌ تتجاوز إرادة الجماهير، لكن المطلوب من هذه الجماهير في الوقت الراهن أساساً هو المحافظة على وتيرة السلمية والابتعاد عن كلّ ما من شأنه أن يعود بها نحو الإستقطابات الإيديولوجية التّي سوف تُبعد الحِراك على أهدافه المركزية.
في مقابل ذلك، فإنّ النظام السياسي بجميع أجنحته المتنافسة يقف اليوم أمام لحظةٍ تاريخيةٍ بجدّ لن يُكرّرها التاريخ كثيراً في هذا البلد عليه أن يُحسن الاستثمار فيها بحكمة إذا أراد رموزه نقل الجزائر إلى مرحلةٍ جديدةٍ من القوة والتأثير على المستويين الداخلي والخارجي، فمن المستحيل على الإطلاق المُضي قُدماً في مشروع بناء جزائر قويّةٍ ومُؤثّرةٍ من دون أن يستغل صنّاع القرار هذه الفرصة التاريخية فيُشرفوا بأنفسهم على تعبيد الطريق لتجسيد نموذجٍ جذّابٍ وناجحٍ في الانتقال الديمقراطي، وإنّها لفرصةٌ مناسبةٌ جدّاً لتحقيق ذلك ما دامت الجزائر تعيشُ اليوم مرحلةً انتقالية بأتّم معنى الكلمة. إنّنا نرى بأنّ أولى الخطوات الثابتة في المشاريع النهضوية الناجحة إنّما تبتدأ بتكريس قيمِ الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة والإيمان برأس المال الإنساني داخل المجتمع وبين مؤسّسات الدولة، فالنظم السياسية المُعادية لروح الديمقراطية والفاقدة لشرعية وجودها لدى شعبها لن تكون قادرةً على إقناع الشعوب الأخرى بأنّها نموذجٌ ناجحٌ يستدعي التقليد أو الانجذاب، ذلك أنّ مضمون القوة الناعمة يرتكز أساساً على القيم الإنسانية الجذّابة التّي تتجسّدُ داخل الدولة بفضل جهود الجهات الحكومية وغير الحكومية فتكسب رضى الجماهير والنخب وتُحفّز لديهم رغبة المساهمة في إنجاحها.
لا يرتبط هذا الشرط كما قد يُفهم بالنظام السياسي وأجنحته المتنافسة وحسب، ما دام العجز الديمقراطي الذّي تعرفه الجزائر عجزاً مُركّب الأسباب والأبعاد، فثقافة الديمقراطية والمواطنة والدولة المدنية الحديثة ثقافةٌ محدودةٌ لدى الجماهير، كما أنّها ثقافةٌ مُزيّفةٌ، إن صحّ التعبير، لدى طائفةٍ كبيرةٍ من نشطاء الساحة السياسية الجزائرية المعارضين والموالين على حدٍّ سواء.
إنّ الدول التّي قدّمت تجربةً ناجحةً في عملية انتقالها نحو الديمقراطية (على غرار تركيا مثلاً) أو كانت سبباً أصيلاً في “إلهام العالم روح الديمقراطية” بعد أن أرست نُظماً ديمقراطيةً حُرّةً في الداخل (كالولايات المتحدة مثلاً)، منحت لنفسها شرعيةَ القول عند مُخاطبة هذا العالم، بل إنّها نالت شرعية الفعل حتّى عند غزوه بقوّةِ البارود.
باختصار، إذا أراد صنّاع القرار القائمون أو القادمون المُضي قُدُماً نحو مشروع بناء جزائر قويّة، فما عليهم سوى قطع الارتباط بالماضي السياسي السلبي (لهم وللبلاد) الذّي ينخره كثيرٌ من الفساد، وبكلّ الوجوه التّي ساهمت في تكريسه على مستوى مؤسّسات الدولة أو الإعلام أو الأحزاب أو الجامعات ومنابر التعليم والدين، فرُوحُ الديمقراطية عنصرٌ حيويٌّ لهذا المشروع، يختصر الباحث الأمريكي جوزيف ناي هذا المضمون العام في مصطلحه الشهير “القوة الناعمة”، فيقول: “بأنّ القيم التّي تدافع عنها حكومةٌ ما فتنتصرُ لها بسُلوكها في الداخل (كالديمقراطية مثلا) وفي السياسة الخارجية تُؤثرُ تأثيراً قويّاً على تفضيلاتِ الآخرين، فالحكومات يمكنُ أن تجذب الآخرين أو تُنفرّهم بتأثير المِثال الذّي تضربه لهم كقدوة.”
لقد ضربت الجزائر مثالاً قويّا للعالم في ثورة نوفمبر المجيدة جعلها محط جذبٍ وتقديرٍ ومنحها مكانةً لائقةً بها بين الأمم، أَفلِتْ قوتّها الناعمة تلك لعقودٍ، وها قد حان الوقت مُجدّداً لإحياء روح ثورة نوفمبر المجيدة بثورةٍ سلميةٍ حضاريةٍ سيُعلّم بها الشعب الجزائري العالم بأسره دروساً كثيرة 7.
الهامش
1 – For more informations see: Djallel Khechib, Why Algeria is Arming Itself Militarily? INSAMER Center, September 10, 2018, Istanbul-Turkey.
2– For more informations see: Djallel Khechib, One Belt, Different Aims: Beyond China’s Increasing Leverage in The Grand Maghreb, INSAMER Center, October 04, 2018, Istanbul-Turkey. link
3 – See: Djallel Khechib, One Belt, Different Aims: Beyond China’s Increasing Leverage in The Grand Maghreb, Op Cit.
4– للمزيد أنظر: آمال وشنان، كيف عبّدت “الماشاف” طريق إسرائيل إلى إفريقيا؟ موقع تي ري تي عربي، 07 فبراير 2019، إسطنبول-تركيا.
5– للمزيد أنظر: جلال خشّيب، انتصار الجغرافيا، كيف تعيد الجغرافيا إعادة تشكيل العلاقات المغربية-الجزائرية من جديد؟ المعهد المصري للدراسات، 15 فبراير 2019، إسطنبول-تركيا.
6– جلال خشّيب، قوتّنا الناعمة المُتجدّدة، ما الذّي يُقدّمه الحِراك الحضاري لجزائر الغد؟ موقع TRT ARABI، 11 مارس 2019، إسطنبول-تركيا.
7 الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.