الشرق الأوسطترجمات

فورين أفيرز: “إسرائيل” وغزة وسلاح التجويع

نشرت مجلة فورين أفيرز الأمريكية في عدد مايو مقالاً بعنوان: ““إسرائيل” وغزة وسلاح التجويع” لـ “بويد فان دايك”، الباحث في مؤسسة “أكسفورد مارتن” التابعة لجامعة أكسفورد، وهي منظمة بحثية تجمع أفضل العقول من مختلف المجالات لمعالجة القضايا الأكثر إلحاحاً في القرن الحادي والعشرين.

يقول بويد فان دايك إن المحكمة الجنائية الدولية تختبر تناول جريمة حرب نادرة الملاحقة القضائية. فقضية المحكمة ضد “إسرائيل” وما تحمله من دلالات على إمكانية محاسبة حتى حلفاء الغرب الأقوياء تضع المعايير الأخلاقية العالمية للاختبار. وفي الوقت الذي تسعى فيه القوى الأوروبية الكبرى إلى تعزيز قدراتها الدفاعية بسرعة في عالم لم تعد فيه المظلة الدفاعية الأمريكية مضمونة، تواجه حكوماتها خياراً: إما تطبيق المبادئ الدولية التي طالما دافعت عنها أو التخلي عن ادعائها بالقيادة الأخلاقية.

وقد جاء المقال على النحو التالي:

مع بدء انهيار وقف إطلاق النار مع حماس في أوائل مارس، لجأت “إسرائيل” مرة أخرى إلى تكتيك كانت قد استخدمته سابقاً في حرب غزة وهو: فرض حصار كامل على القطاع، بما في ذلك قطع جميع إمدادات الغذاء والدواء والوقود والكهرباء. وكان الهدف من وراء ذلك، وفقاً لمسؤولي مجلس الوزراء الإسرائيلي، هو جعل الحياة لا تُطاق لسكان غزة البالغ عددهم مليوني نسمة لإجبار حماس على قبول المطالب الإسرائيلية في محادثات تمديد وقف إطلاق النار. ودافع وزير المالية بتسلئيل سموتريتش على وسائل التواصل الاجتماعي، مردداً تصريحات وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، عن قرار الحكومة “بوقف تدفق المساعدات الإنسانية تماماً”، واصفاً إياه بأنه وسيلة لفتح “أبواب الجحيم… بأسرع ما يمكن وبطريقة مميتة”. ولم تكن هذه ملاحظة منفصلة أو معزولة؛ فقد أشار سموتريتش سابقاً إلى أن منع المساعدات عن غزة أمر مبرَّر حتى لو أدى ذلك إلى مجاعة جماعية للمدنيين. وبعد سبعة أسابيع من الحصار الذي عاد من جديد، وبينما أعلن برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة أن إغلاق الحدود تسبب في نفاد جميع مخزوناته الغذائية في غزة، قال موشيه سعادة، عضو الكنيست من حزب الليكود بزعامة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، لقناة 14 التلفزيونية الإسرائيلية إن هذا هو المقصود. وقال سعادة: “نعم، سأقوم بتجويع سكان غزة، نعم، هذا هو التزامنا”.

وفي خضم حرب قُتل فيها عشرات الآلاف من المدنيين بوسائل أكثر مباشرة، قد تبدو حصارات “إسرائيل” المتسلسلة لقطاع غزة للوهلة الأولى قضية ثانوية. لكن هذا التكتيك – و تلك المبررات التي قدمها المسؤولون الإسرائيليون لاستخدامه – أصبح اختباراً رئيسياً للقانون الدولي. وعقدت محكمة العدل الدولية جلسات استماع بشأن هذه القضية، عقب طلب من الجمعية العامة للأمم المتحدة للتحقيق فيما إذا كانت “إسرائيل” قد انتهكت ميثاق الأمم المتحدة بعرقلة عمل الأونروا، وكالة الإغاثة الرئيسية للأمم المتحدة في غزة. وفي شهر نوفمبر، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية بالفعل أوامر اعتقال دولية ليس فقط لقادة حماس ولكن أيضاً لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع الإسرائيلي السابق يوآف جالانت بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وفي حالة حماس، تتعلق اتهامات المحكمة الجنائية الدولية بالـ “فظائع” التي (زُعم أنها) ارتكبت في هجوم 7 أكتوبر 2023 على المدنيين الإسرائيليين. ومع ذلك، فإن جوهر التهم الموجهة إلى نتنياهو وجالانت يكمن في جريمة مختلفة ونادراً ما يتم الاستناد إليها: حيث يتهمهم المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، بتنظيم سياسة تجويع إجرامية ضد السكان المدنيين في غزة. ويتضمن نظام روما الأساسي، المعاهدة الموقعة عام 1998 والتي أسست المحكمة الجنائية الدولية، في تصنيفه لجرائم الحرب “الاستخدام المتعمد لتجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب”، وهو تكتيك يمكن أن ينطوي على “عرقلة متعمدة لإمدادات الإغاثة”. ويقول المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية إن نتنياهو وجالانت قد ارتكبا جريمة حرب من التجويع وذلك من خلال الإعلان بشكل صريح عن نية “إسرائيل” فرض حصار شامل على غزة ثم فرض تدابير تحرم سكان غزة من الغذاء والسلع الأخرى التي لا غنى عنها لبقاء المدنيين. وهذه هي المرة الأولى في التاريخ التي تركز فيها محكمة كبرى على محاكمة المتهمين بارتكاب جرائم حرب بناءً على هذه التهمة تحديداً.

ومع تفاقم الحرب في غزة، كانت عواقب الحصار واسعة النطاق. ففي شهر أكتوبر من عام 2024، وبعد عام من الحرب التي غالباً ما تباطأت خلالها شحنات المساعدات إلى حد كبير، خلص تقييم غذائي مدعوم من الأمم المتحدة إلى أن ما يقرب من أربعة أخماس سكان غزة البالغ عددهم 2.2 مليون نسمة يواجهون “جوعاً شديداً”. والآن، ومع تصعيد الجيش الإسرائيلي بشكل كبير لهجومه البري الجديد، تتزايد المخاوف من أن الأزمة الإنسانية قد تصل مجدداً إلى تلك المستويات الكارثية، أو حتى تتجاوزها. وفي أوائل إبريل، أعلن برنامج الغذاء العالمي أن جميع المخابز الـ 25 التي يدعمها في غزة، والتي كان العديد منها ضرورياً لبقاء المدنيين خلال المراحل الأولى من الحرب، قد أُجبرت على الإغلاق بسبب نقص الدقيق والوقود. وبما أن الوقود والكهرباء ضروريان لتشغيل محطات تحلية المياه التي توفر معظم مياه الشرب في غزة، فإن ما يُقدر بنحو 91% من السكان يواجهون أيضاً انعدام الأمن المائي، مما يُفاقم نقص الغذاء ويُعيد شبح انتشار الأمراض إلى الواجهة. ووفقاً لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، يدخل سكان غزة الآن أطول فترة بدون مساعدات إغاثية منذ بدء الأعمال العدائية في أكتوبر 2023. وقال متحدث باسم مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية الأسبوع الماضي: “في الوقت الحالي، ربما يكون هذا أسوأ وضع إنساني شهدناه على الإطلاق طوال الحرب”.

وعلى الرغم من هذه الآثار الواضحة للسياسات الإسرائيلية، تواجه المحكمة الجنائية الدولية من جهتها معركة شاقة. فمن ناحية، لم تحاول المحكمة من قبل أبداً محاكمة زعيم دولة غربية. وقد وضعت مذكرات التوقيف تلك الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية، وخاصة حلفاء “إسرائيل” الأوروبيين وكندا، في موقف حرج. فإذا دخل نتنياهو – أو جالانت – إحدى تلك الدول، فإن سلطاتها ملزمة قانوناً باحتجازه. (بينما تجاهل رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان هذا الشرط عندما استضاف نتنياهو في أوائل إبريل الماضي) من جانبها، عارضت الولايات المتحدة بشدة القضية المرفوعة ضد الإسرائيليين منذ البداية، وشرع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في العمل على تدمير المحكمة الجنائية الدولية نفسها، وسحب الدعم الأمريكي لمحاكمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتهمة ارتكاب جرائم حرب، وأذن بفرض عقوبات على مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية في فبراير تهدف إلى جعل عمل المحكمة أمراً شديد الصعوبة. وخوفاً من تعرض مستقبلها للخطر، سارعت المحكمة إلى دفع رواتب الموظفين مقدماً وناشدت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تقديم مساعدات طارئة. ومن المفارقات أن السلاح الذي تحاول المحكمة الجنائية الدولية استخدامه، وهو الإكراه الاقتصادي، يُستخدم الآن ضد المحكمة نفسها. وقالت رئيسة المحكمة الجنائية الدولية، توموكو أكاني، للبرلمان الأوروبي في مارس: “تواجه المحكمة تهديداً وجودياً”.

ومع ذلك، فإن جوهر قضية المحكمة الجنائية الدولية لا يقل صعوبة في الحقيقة. فرغم تاريخه الطويل والمدمر، فإنه يصعب إثبات التجويع المتعمد للسكان المدنيين، ونادراً ما تُحاسب الأطراف المتحاربة التي استخدمت هذا التكتيك. وهكذا، تُسلط إجراءات المحكمة الجنائية الدولية الضوء على مدى إلحاح أزمة الجوع الجماعي في غزة، والتحديات المستمرة في مقاضاة مرتكبي التجويع كجريمة. ورغم هذه العقبات القانونية الهائلة، فقد لفتت خطوة المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية الانتباه الدولي إلى شكل خطير للغاية من أشكال الحرب ضد المدنيين، وهو شكل ظلّ غائباً عن الأنظار حتى الآن. وسواء نجحت قضية المحكمة الجنائية الدولية أم لا، فإن هذه السابقة التي تُرسيها المحكمة قد تُعيد رسم الحدود القانونية للحرب وتُجبر الدول على مراعاة قواعد ظنّت يوماً أنها لن تنطبق عليها.

سلاح الغرب المُفضّل

على الرغم من أن ملايين المدنيين قد لقوا حتفهم في القرن العشرين نتيجةً لاستراتيجيات الحصار والتجويع، إلا أن الجهود المبذولة لاعتبار التجويع جريمة حرب هي حديثة عهد بشكلٍ يُثير للدهشة. فبخلاف جرائم الحرب الأخرى التي دُوّنت في أعقاب الحربين العالميتين، لم يتم حظر استخدام التجويع كسلاح في النزاعات المسلحة بشكل رسمي في القانون الدولي حتى عام 1977. ومنذ ذلك الحين، ورغم الحظر الصريح (لاستخدام التجويع القسري كسلاح)، أصبحت مقاضاة هذه الجريمة نادرة للغاية. حيث لم تُدرج معظم المحاكم الجنائية الدولية التي أُنشئت بعد الحرب العالمية الثانية، بما فيها تلك التي أُنشئت في أوائل التسعينيات للنظر في انتهاكات الحرب في يوغوسلافيا السابقة، التجويع القسري في قوانينها التأسيسية، ناهيك عن السعي إلى مقاضاتها.

وكان أحد الأسباب الرئيسية لذلك هو أن حصار الجوع كان طوال القرن العشرين جزءاً لا يتجزأ من التفكير الاستراتيجي الغربي، وكما يرى العديد من رجال الدولة، جزءاً لا يتجزأ من الحفاظ على النظام الدولي نفسه. وخلال الحرب العالمية الأولى، اعتبر مخططو الحصار في كل من ألمانيا والمملكة المتحدة السكان المدنيين العمود الفقري للجيوش الحديثة: ففي ظل حرب شاملة، وذلك حسب رأيهم، لم يكن قطع واردات الغذاء عن المدنيين الأعداء مسموحاً به فحسب، بل ربما كان ضرورياً، من وجهة نظرهم أيضاً. وهكذا، فبدءاً من عام 1914، فرضت المملكة المتحدة حصاراً بحرياً على جميع القوى المركزية، مما أسفر في النهاية عن قتل مئات الآلاف من البشر (بسبب الجوع). وكان هذا التكتيك، المعروف بالألمانية باسم “حصار الجوع”، في الواقع فعالاً بشكل مرعب لدرجة أن المنتصرين والمهزومين اعتبروه سلاحاً لكسب الحرب، حيث تسبب في الانهيار المجتمعي لألمانيا والنمسا والمجر عام 1918. 

وفي الحرب العالمية الثانية، أصبحت حملات التجويع، إن لم يكن أكثرها، أكثر أهمية، وأقرّت كل من قوى الحلفاء والمحور صراحةً بأن هدفها هو قتل المدنيين الأعداء. فعلى سبيل المثال، وكجزء من حربها الشاملة ضد اليابان، شنت الولايات المتحدة عملية التجويع، وهي حصار جوي وغواصات قطعت بموجبه إمدادات الغذاء والمواد الخام عنهم. وبعد الحرب، حُمِّل النازيون (وحدهم) مسؤولية أعمال تجويع المدنيين في محاكم نورمبرج، على الرغم من أن هذه الإجراءات كانت تُصنّف ضمن الجرائم الكبرى مثل الإبادة. أما بالنسبة لأطراف الحلفاء المنتصرة، فلم تكن هناك أي مساءلة على الإطلاق.

واستمر تبني الغرب بشكل استراتيجي للتجويع لفترة طويلة بعد سقوط هتلر عام 1945، وكان النقاش حول هذا التكتيك غائباً بشكل ملحوظ عن معظم هياكل القانون الدولي لفترة ما بعد الحرب. فعلى سبيل المثال، لم تتناول اتفاقية الإبادة الجماعية لعام 1948 ولا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان صراحةً التجويع المتعمد للمدنيين. لكن صياغة اتفاقيات جنيف هي التي وفرّت أوضح نافذة على سبب تهميش جرائم التجويع بعد الحرب العالمية الثانية.

الحصار: الصواب والخطأ

عندما اجتمع ممثلو الدول في جنيف منتصف عام 1949 لصياغة اتفاقيات لحماية ضحايا الحرب، سعت دول عديدة إلى ترسيخ ضمانات إنسانية أقوى في النزاعات المسلحة. وعلى وجه الخصوص، ضغطت اللجنة الدولية للصليب الأحمر، إلى جانب العديد من ممثلي الدول التي عانت من الاحتلال خلال الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك الاتحاد السوفيتي، من أجل ضمانات حرية مرور المساعدات الإنسانية وحظر تدمير المواد الأساسية لبقاء المدنيين. إلا أن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة أصرّتا على الحفاظ على قدرتهما على فرض الحصار، وقاومتا أي بنود قد تحد من قوتهما البحرية أو الجوية. وتصورتا احتمال فرض حصار مستقبلي ضد الخصوم الشيوعيين أو المناهضين للاستعمار، ونجحتا في إضعاف هذه المقترحات. وقد ساعد الحل الوسط الناتج في إرساء أسس توافق قانوني في حقبة الحرب الباردة بشأن حصار التجويع. ورغم أنها لم تحظر هذا التكتيك، إلا أن اتفاقيات جنيف وصمت نهب الأراضي، وحمت عمال الإغاثة، واعترفت ولو اسمياً بمبدأ وصول المساعدات الإنسانية – على الرغم من أن حماية هذا الوصول قد أُضعِفت بشكل كبير بسبب الشروط التقييدية وصلاحيات التفتيش الشاملة، مما سمح للمحاصِرين بعرقلة المساعدات حتى لمجرد أدنى شك في أنها قد تفيد العدو.

وتُقدم التصريحات المعلنة والصريحة للقادة الإسرائيليين دليلاً غير عادي على النية في ذلك (التجويع القسري ضد المدنيين في قطاع غزة).

وبعد عام 1949، لم تتمكن قوى الحصار من المطالبة رسمياً بحق تجويع المدنيين عمداً كسلاح حرب مشروع. ورغم ذلك، فقد استطاعت وضع استثناءات هامة، حيث يُمكن اعتبار موت المدنيين غير المتعمد أمراً مقبولاً قانونياً في ظل ظروف محددة. فعلى سبيل المثال، استخدمت الولايات المتحدة أساليب التجويع على نطاق واسع في حرب فيتنام، بتدميرها الممنهج للمحاصيل في المناطق المشتبه في إيوائها لعصابات شيوعية. وفي هذا الإطار الناشئ، يُمكن لحكومة في حالة حرب أن تدّعي أن تجويع المقاتلين الأعداء لا يزال قانونياً، وأن الوفيات العرضية للمدنيين، نتيجة لذلك، كانت نتائج مأساوية، وإن كانت حتمية، في ظل أسلوب حرب مشروع في العصر الحديث ضد أعداء شموليين. وكما هو معروف، فنادراً ما تُوصف المجاعات في زمن الحرب بأنها متعمدة من البداية إلى النهاية؛ بل غالباً ما تكون نتيجة لسياسات الحصار التي تُعطي الأولوية للاحتياجات العسكرية على أرواح المدنيين. ومع ذلك، فبحلول سبعينيات القرن الماضي، قادت موجة من الدول حديثة الاستقلال، بما في ذلك في أفريقيا والشرق الأوسط وأماكن أخرى، حملةً جديدةً لتشديد وصم ورفض أساليب التجويع، مدفوعةً بالتجربة المباشرة لهذا النوع من الحروب من قِبل أسيادها الاستعماريين السابقين. وفي المفاوضات التي أدت إلى إضافة بروتوكولين جديدين إلى اتفاقيات جنيف عام 1977، ضغطت هذه الدول من أجل وضع قواعد صارمة ضد القصف العشوائي، وتدمير المحاصيل، والتجويع. ومع ذلك، لم تدعم جميع دول ما بعد الاستعمار فرض حظر شامل (على العدو). فعلى سبيل المثال، أدركت نيجيريا، التي استغلت عمداً الاستثناءات القانونية لعام 1949 للحصارات لتأثيرها المدمر خلال حرب نيجيريا-بيافرا في أواخر الستينيات، المزايا التكتيكية للتجويع في قمع التمردات الانفصالية. ونتيجةً لذلك، حدّت البنية القانونية الدولية الجديدة من أساليب التجويع في الحروب بين الدول وأثناء الاحتلال، لكنها لم تصل إلى حد تجريم هذا السلاح بشكل كامل، لا سيما عندما تستخدمه الدول الفقيرة ضد الجماعات المتمردة في الحروب الأهلية.

وكان لهذه النتيجة عواقب وخيمة في الحقيقة. فقد ظلت الأقليات عديمة الجنسية أو تلك المهمشة – البيافريون (سكان بيافرا)، وسكان دارفور، والأكراد، والتيجراي – عرضة للحصار المسبِّب للمجاعة من قبل الحكومات المعادية لهم. وحتى بعد أن صنّف نظام روما الأساسي التجويع كجريمة حرب، لم ينطبق هذا التصنيف إلا على النزاعات المسلحة بين الدول. ولم تعترف دول، بما فيها ألمانيا، رسمياً بالتجويع كجريمة في الحروب الأهلية إلا في عام 2019. ومع ذلك، وحتى الوصول إلى قضية المحكمة الجنائية الدولية ضد “إسرائيل”، فلم تُنظر جريمة التجويع قط كجريمة مستقلة. وعلى الرغم من تدوينها في قانون المعاهدات، فإن اتهام أحد الأطراف المتحاربة بجرائم التجويع كان يُعتبر أمراً شديد الحساسية من الناحية السياسية، ومتشابكاً للغاية مع الاستراتيجيات العسكرية للدول القوية. وقد استمر التجويع المتعمد كاستراتيجية عسكرية ليس فقط لأنه غير مكلف وبسيط وشديد الفعالية، ولكن أيضاً لصعوبة المعاقبة عليه.

السبب والنتيجة

تسعى مذكرات التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية ضد قادة “إسرائيل” إلى تحدي هذا الإفلات طويل الأمد من العقاب. لكن القضية تُسلّط الضوء أيضاً على الصعوبات المستمرة في مقاضاة جرائم التجويع: إذ يتعين على المدَّعين إثبات أن القيادة الإسرائيلية حرمت السكان المدنيين في غزة، عمداً وعن علم، من مواد تُعتبر ضرورية لبقائهم. وكما هو الحال في الإبادة الجماعية، فغالباً ما يكون إثبات النية أمراً بالغ الصعوبة. وفي حالة حدوث مجاعة جماعية في حالة صراع ما، قد يتمكن القادة السياسيون أو العسكريون من تصوير أي وفيات ناجمة عن ذلك على أنها مجرد نتيجة مؤسفة للحرب الحديثة.

وبالإضافة إلى ذلك، فإن طريقة فرض الحصار قد تُصعّب عملية تحديد الجرائم. ففي حملات القصف، على سبيل المثال، عادةً ما يكون المصدر واضحاً، وتكون النتيجة فورية، وغالباً ما تكون شديد الوضوح لذي عينين. لكن على النقيض من ذلك، عادةً ما تتكشف الآثار المدمرة للحصار بشكل غير مباشر، بمرور الوقت، وغالباً ما تكون بعيدة عن الأنظار. كما أنها تكون نتيجة إجراءات إدارية روتينية – كرفض التصاريح، وإغلاق المعابر، ومنع الشحنات – يشرف عليها بيروقراطيون مجهولون. وبإعادة صياغة مقولة المؤرخ والفيلسوف الألماني الأمريكي حنا أرندت، فإن أساليب التجويع هي من عمل “القاتل المكتبي”: حيث تكون ممنهجة، مخفية، وغالباً ما تكون تحت قناع مبررات بديلة، مثل الضرورات الأمنية أو منع تهريب الأسلحة. وقد حجبت هذه العملية، التي غالباً ما تكون خفية، حملات التجويع لفترة طويلة عن الملاحقة القانونية.

انظر إلى الصراع الدائر في السودان منذ عامين بين القوات المسلحة السودانية وميليشيا قوات الدعم السريع، والذي أدى إلى نقص حاد في الغذاء لأعداد أكبر من الناس مقارنةً بغزة. فبحلول منتصف عام 2024، خلصت الأمم المتحدة إلى أن 18 مليون سوداني يعانون من “جوع حاد”، بمن فيهم حوالي 3.6 مليون طفل. وكما كتب أليكس دي وال في مجلة فورين أفيرز، “هذا الوضع المزري… هو النتيجة المباشرة لأعمال طرفي الحرب الأهلية المروعة في السودان”. وقد فتح المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية تحقيقاً في جرائم حرب في إقليم دارفور السوداني – وهي منطقة تتمتع المحكمة بسلطة قضائية واضحة عليها بعد إحالة مجلس الأمن الدولي القضية إليها عام 2005 – حيث تحاصر قوات الدعم السريع مدينة الفاشر، عاصمة شمال دارفور. ومع ذلك، ورغم تزايد التقارير التي تربط الأزمة الإنسانية في جميع أنحاء البلاد بأساليب التجويع المتعمدة، لم توجه المحكمة بعد اتهامات علنية تُصنف التجويع كجريمة حرب في السياق السوداني. (ومع ذلك، ففي إبريل الماضي، تناولت محكمة العدل الدولية هذه القضية في قضية إبادة جماعية رفعتها الحكومة العسكرية السودانية ضد دولة الإمارات العربية المتحدة، متهمةً الإمارات بدعم أساليب التجويع التي تتبعها قوات الدعم السريع).

ومن خلال جعل الحرب في غزة أول محاكمة للمحكمة الجنائية الدولية لجرائم التجويع، فإنه يبدو أن المدعي العام للمحكمة قد قرر أن التصريحات العلنية الصريحة للقادة الإسرائيليين تقدم دليلاً ملموساً بشكل غير عادي على النية (للتجويع القسري)، بغض النظر عن العقبات القضائية المختلفة. ففي 9 أكتوبر 2023، على سبيل المثال، بعد يومين من هجمات حماس، أعلن جالانت “حصاراً كاملاً” على غزة، وأمر بقطع جميع الكهرباء والغذاء والوقود عن القطاع، وأشار إلى سكان غزة على أنهم “حيوانات بشرية”. وبالمثل، فخلال الأسابيع الأولى من الحرب وما يحدث من جديد مؤخراً، رفض نتنياهو بشكل علني السماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى غزة. وخلال السنة الأولى من الحرب، بدأت “إسرائيل” في السماح بدخول كميات صغيرة من المساعدات إلى غزة، وذلك إلى حد كبير استجابة للإدانات الدولية والضغوط من إدارة بايدن. ومع ذلك، ففي الآونة الأخيرة، بدلاً من التخفيف من مثل هذه التصريحات العلنية للنوايا، ضاعفت القيادة الإسرائيلية من خطابها من هذا القبيل حتى مع إعادة فرض حصار كامل واستئناف حملة القصف. وفي شهر مارس الماضي، على سبيل المثال، انضمّ يسرائيل كاتس، الذي خلف جالانت في منصب وزير الدفاع، إلى وزراء آخرين في الحديث عن فتح “أبواب الجحيم” على سكان غزة. وقد حوّلت هذه التصريحات العلنية الصادرة عن القيادة السياسية الإسرائيلية التجويع من جريمة حرب لم تُلاحق قضائياً قط إلى ما وصفه بعض خبراء القانون الدولي بـ “الأمر سهل المنال”، مما ساعد في جعل تهمة التجويع محور مذكرات التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية.

ومع ذلك، فإن تركيز المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية على خطاب المسؤولين الإسرائيليين يثير تساؤلات أعمق حول جدوى السعي لتحقيق العدالة في جرائم التجويع. هل كانت المحكمة الجنائية الدولية لتتمكن من إصدار مذكرات التوقيف لو كان نتنياهو وجالانت أكثر تحفظاً في تصريحاتهما العلنية؟ يشير البيان الصحفي الذي أعلن قرار المحكمة الجنائية الدولية إلى أنه لو تجنبت القيادة الإسرائيلية الإعلان صراحةً عن حصار التجويع – بغض النظر عن نتائج هذا التكتيك – لكانت التهم قد اقتصرت بدلاً من ذلك على “مسؤولية القيادة” عن الهجمات المباشرة على المدنيين والجرائم ضد الإنسانية. هذه الجرائم في حد ذاتها خطيرة، لكنها ربما تكون أقل ضرراً من جريمة التجويع، بما تنطوي عليه من نية تدمير مجموعة مدنية كلياً أو جزئياً.

نقطة تحول؟

وبالنظر إلى الرياح السياسية الهائلة المعاكسة التي تواجهها المحكمة الجنائية الدولية حالياً، فقد لا تُسفر القضية المرفوعة ضد “إسرائيل” عن أي نتيجة. ومع ذلك، فإن تركيز المحكمة على جريمة التجويع قد يكون له تداعيات قانونية على صراعات أخرى حديثة ومتكشفة. ففي منطقة البحر الأحمر ووسط أفريقيا، تواصل الأطراف المتحاربة استخدام أساليب الحصار وحملات التجويع دون أي عوائق تُذكر. واتباعاً للسوابق التي أُرسيت في جنيف عام 1949، تواصل الدول التي تستخدم هذه الأساليب الادعاء بأن المجاعات الناتجة إما غير موجودة، أو أنها عواقب غير مقصودة لإجراءات قانونية ضد المقاتلين الأعداء. ورغم أنه من غير المرجح أن يُسهم ذلك في تخفيف معاناة الفلسطينيين، إلا أن أوامر الاعتقال الصادرة بحق القادة الإسرائيليين تُمثل نقطة تحول قانونية صغيرة ولكنها مهمة، إذ قد تُوضح، بل وتُخفض، الحد الأدنى اللازم لإثبات النية في الملاحقات القضائية المستقبلية، سواءً في المحاكم المحلية أو الدولية. ويشير اعتقال الرئيس الفلبيني السابق رودريجو دوتيرتي مؤخراً في لاهاي إلى أن هذه الجهود ليست بالضرورة عبثية. ويُعد توقيت قرار المحكمة الجنائية الدولية مهماً، إذ تزامن ليس فقط مع تزايد القلق من خطر المجاعة الشاملة في شمال غزة، بل أيضاً مع تحول حاسم طويل الأمد في المواقف العالمية تجاه استخدام التجويع كسلاح. ولا شك أن هذا التكتيك لا يزال مرتبطاً بالأولويات الاستراتيجية لأقوى دول العالم، حيث تستعد الصين لحصار خانق محتمل على تايوان، وتستمر وزارة الدفاع الأمريكية في قبول حصار التجويع كأساليب حرب قانونية محتملة ضد المقاتلين الأعداء. ومع ذلك، فمنذ أواخر التسعينيات، ضغط محامون تقدميون ومنظمات غير حكومية وقوى ناشطة أخرى على كل من الدول والمحاكم لوصم حملات التجويع، وقد أبرزت الصراعات الأخيرة تكاليفها المدنية الباهظة.والآن، تضع قضية المحكمة الجنائية الدولية ضد “إسرائيل” – وما تحمله من دلالات على إمكانية محاسبة حتى حلفاء الغرب الأقوياء – هذه المعايير العالمية المتغيرة قيد الاختبار. في أواخر إبريل، أفادت صحيفة الجارديان أن كريم خان، المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، قد تقدم بطلب إصدار مذكرات توقيف إضافية ضد مسؤولين إسرائيليين، مما يُشير إلى أن القضية قد تتسع بشكل أكبر. وفي الوقت الذي تسعى فيه القوى الأوروبية الكبرى بسرعة كبيرة إلى تعزيز قدراتها الدفاعية في عالم لم تعد فيه المظلة الدفاعية الأمريكية مضمونة، تواجه حكوماتها خياراً هاماً، وهو: إما تطبيق المبادئ الدولية التي طالما دافعت عنها أو التخلي عن ادعائها بالقيادة الأخلاقية. وعلى نفس القدر من الأهمية، يجب على الدول الكبرى في الجنوب العالمي، التي طالما انتقدت المحاكم الدولية، عن حق، لاستهدافها فقط الجهات الفاعلة غير الغربية والخصوم الصريحين للغرب، أن تُقدم الآن على التحرك في هذا الاتجاه. فإذا كانت هذه الدول ترغب في استعادة زمام الدفاع عن القانون الدولي، فعليها دعم جهود المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، ليس فقط قولاً بل أيضاً فعلاً. وإلا، فقد تُصبح المحكمتان والقواعد الدولية التي تسعيان إلى تطبيقها بلا قيمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى