fbpx
تقارير

حرب غزة وأسطورة الشفافية في نيوزيلندا

عندما نسمع أي أخبار عن نيوزيلندا  تطير قلوب الكثيرين فرحاً إلى هذا المكان الجميل البعيد جداً في أقصى طرف الأرض، وإلى الشعب الطيب والبلد الطيب والحكومة العادلة التي أبهرت العالم كله في كيفية التعامل مع الحادث الإرهابي الذي وقع في مدينة كرايستشيرش في مارس 2019.

بعد هذا الهجوم الإرهابي لمع اسم نيوزيلندا بشكل استثنائي في الشرق الأوسط كله بسبب طريقة تعامل الحكومة النيوزلندية مع الحادث، واحتواء الموقف، واحتواء المجتمع المسلم في نيوزيلندا وتغيير قوانين ترخيص السلاح، والكثير من المواقف الإنسانية التي كانت بطلتها رئيسة الوزراء في هذا الوقت جاسيندا أردرن التي كانت بطلة الموقف منذ اللحظات الأولى للحادث، ومن خلفها الإعلام في نيوزيلندا والحكومة وبالطبع وبلا شك الشعب النيوزلندي العطوف بكل أطيافه.

دائماً ما يتخذ الكثيرون منا نيوزيلندا مثالاً للشفافية والمصداقية وحرية التعبير ولكن دعونا نرى ما الذي تغير بعد أحداث غزة في 7 أكتوبر 2023، وكيف تعامل الإعلام في نيوزيلندا مع هذا الحدث الذي صار حديث العالم كله بل وكيف كان الموقف الرسمي النيوزيلندي مع الحرب في غزة.

غزة في إعلام الكيوي (Kiwi)

منذ اللحظات الأولى للحرب في غزة تصدر الخبر كل الصحف والجرائد بالإعلام النيوزيلندي بل وكل المنصات الإعلامية المسموعة والمقروءة، وانهالت التحليلات السياسية والإعلامية على الحادث، ولكن الصدمة الكبيرة في إعلام عُرف عنه الإنصاف والشفافية بأنه تعمد إهمال حقيقة الوضع في غزة وتعمد في كل التصريحات والأخبار حتى بعناوين الأخبار تصوير الحرب في فلسطين على أنه صراع بين حماس وإسرائيل، وغض الطرف بشكل متعمد بأن إسرائيل دولة احتلال لا يعترف بها الفلسطينيون ولا الشعوب العربية ولا العديد من الشعوب في العالم، رغم تطبيع بعض الحكومات مع الكيان الصهيوني.

ازدادت عبارات الدعم للاحتلال الإسرائيلي والتنديد بحركة حماس “الإرهابية” حسب وصفهم المعتمد على قوانين أمريكا لتصنيف حركات المقاومة الفلسطينية بالإرهاب، وصار الوضع مأسوياً في إعلام نيوزيلندا وبكاء على ضحايا ما أسموهم بالمدنيين الإسرائيليين وتنديد بـ “إرهاب حماس” التي قتلت الأطفال والنساء، وتم الترويج لهذه السردية بشكل عام على كل المنصات.

فوجئت بانزعاج منصات الإعلام في نيوزيلندا من مجرد التعليق على صفحات التواصل الاجتماعي على السردية التي تمررها، وقامت أبرز المواقع الإخبارية بحذف التعليقات أو غلق التعليقات أيضا لمنع توضيح زيف السردية التي يمررها الاعلام في نيوزيلندا تيمناً بالإعلام الأمريكي، حتى إن معظم التقارير والمقالات التي نشرت في الاعلام النيوزيلندي كان مصدرها وسائل الإعلام الأمريكي المعروف بموقفه من فلسطين وإسرائيل، وكان من الملاحظ جداً أسماء الصحفيين والمنصات الإعلامية الصهيونية المعروفة في الإعلام الأمريكي والتي كانت مصادر المعلومات للإعلام النيوزيلندي.

ليس هذا فقط ما قام به الإعلام في نيوزيلندا، ولكن باعتباري صحفية ولي تاريخ طويل مع إعلام الأنظمة الديكتاتورية في الشرق الأوسط، وجدت “خُبث” كثير من الصحفيين في نيوزيلندا أثناء تغطية الأخبار للمظاهرات، والتي خرجت بالآلاف في العديد من المدن النيوزيلندية، منددة بالمذابح التي ترتكب في غزة والمطالبة بوقف النار الفوري في غزة.

إلا أن هؤلاء الصحفيين كانوا يصرون على أن الأعداد بالمئات فقط، وينشرون صوراً لبعض الفتيات المحجبات لنقل صورة أن المشاركين معظمهم من الجاليات المسلمة فقط، وهذا عارٍ تماما من الصحة، فقد كان المشاركون من كل أطياف المجتمع، ومن الأحزاب السياسية وأعضاء برلمانيين ونساء وأطفال، وأعداد كبيرة من السكان الأصليين في نيوزيلندا، والذين ارتفعت أصواتهم برفض العدوان على غزة وأطفالها، ورفض كل ممارسات الاحتلال الإسرائيلي.

قام أيضاً هؤلاء الصحفيون المتلاعبون بنشر صور لشباب غاضب أثناء هتافاتهم ونشر صور لوجوه عابسة غاضبة تحت عنوان مسيرات السلام في نيوزيلندا، من باب السخرية لتصوير أنهم شباب يظهر عليهم الغضب والعنف.

ففي أول مسيرة في مدينة أوكلاند الأكثر تفاعلاً مع القضية الفلسطينية شارك بعض المصورين الفاعلية للقيام بواجبهم المهني (المفترض)، ولكن فوجئت أنهم جاءوا لتصيد بعض المشاهد الفردية غير المعبرة عن أغلبية المشاركين، كقيام بعض الشباب الصغير بحرق العلم الإسرائيلي أمام القنصلية الإسرائيلية في مدينة أوكلاند، وإرسال هذا المشهد لبعض البرلمانيين للتسويق بخطورة العنف في المسيرات الداعمة لفلسطين، لكنهم تناسوا أن أهالي هؤلاء الشباب تم حرقهم وقصفهم في المدن الفلسطينية، فغضوا الطرف عن حرق الفلسطينيين وآلمهم بينما أفجعهم حرق “العلم الإسرائيلي”.

تشويه الرافضين لإسرائيل

شاركتَ إحدى نواب البرلمان النيوزيلندي والتي تنتمي لحزب الخضر (Green Party)المعروف بتأييده لحق الفلسطينيين وهتفت النائبة أثناء تظاهرات رافضة لمذابح إسرائيل هتاف “من النهر إلى البحر فلسطين ستكون حرة”، وهنا كانت الطامة، هجوم في كل وسائل الإعلام على النائبة التي اتهمت بمعاداة السامية والقضاء على دولة إسرائيل..!! والمطالبة بوقفها ومحاسبتها.

أما بالنسبة للمسؤولين الذين يشاركون في الفاعليات الداعمة لدولة الاحتلال الإسرائيلي ويشعلون الشموع على الضحايا المزعومين فلم يصدر أي تصريح لهؤلاء المتورطين في دعم الاحتلال بكلمة واحدة عن ضحايا غزة الذين تعدوا بعد مرور نحو شهر ونصف من بدء الحرب 12 ألف شهيد، نصفهم من الأطفال، فلا بأس!

الأسباب الحقيقية خلف دعم إسرائيل

بعيداً عن الديموقراطية والشفافية التي تروجها الحكومة النيوزيلندية والتي تسعى حقيقة لتأسيسها على أرض الواقع داخل البلاد، لكن نيوزيلندا هي مستعمرة بريطانية في الأصل نشأت على مذابح دموية تمت على حساب سكان “الماوري” السكان الأصليين في البلاد، واحتلال أراضيهم، فمن الطبيعي أن يكون عندها مخاوف من دعم أي دول تعاني من الاحتلال، فنيوزيلندا وإن أظهرت ومارست الديموقراطية والحرية فهي حتى الآن ليست دولة مستقلة، ولكنها دولة تابعه للتاج البريطاني الذي تسبب في وجود إسرائيل على الأراضي الفلسطينية.

وفي تاريخ الدولة النيوزيلندية تتورط كثيراً الحكومة النيوزيلندية في الحروب الخارجية، حيث قدمت نيوزيلندا أفراداً للخدمة في القوات الجوية الملكية، وفي القوات البحرية الملكية والعديد من جنود الجيش في الحرب العالمية الأولى والثانية، وقُتل آلاف الجنود منهم في تلك الحروب، كما شاركت نيوزيلندا أمريكا أيضا بإرسال جنودها فيما يسمى “الحرب على الإرهاب” في أفغانستان والعراق والتي بلغت أعداد الضحايا فيها أكثر من نصف مليون من المدنيين، في القتل المباشر فقط، بجانب أضعاف العدد من الضحايا بسبب تداعيات هذه الحرب.

حرب غزة والرواية الإعلامية النيوزيلندية

لقد كانت حرب غزة كاشفة لكواليس الاعلام والساسة في نيوزيلندا، والذين يتحججون بأن حماس هي من بدأت الحرب في السابع من أكتوبر على حفلة يحضرها مدنيون إسرائيليون، وهذا الادعاء كُشف زيفه من قبل تقارير الشرطة الإسرائيلية نفسها التي نشرتها مؤخراً صحيفة “هآرتس” العبرية.

حيث قالت الصحيفة إن التحقيقات الأمنية الإسرائيلية تُشير إلى أن حماس لم تكن تعلم مسبقاً بالحفل الموسيقى في غلاف غزة يوم 7 أكتوبر، وأن مروحية عسكرية إسرائيلية أطلقت النار على المستوطنين المحتفلين وعلى عناصر القسام أيضاً”.

هذه شهادة المحتل الإسرائيلي، فلماذا يصر الإعلام والساسة على ترويج الأكاذيب وتصوير المقاومة بأنها إرهاب، أو المطالبة بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي بأنه ممارسات ضد السامية، لذا يجب على الإعلاميين والساسة في نيوزيلندا الوقوف بدقة على أن إسرائيل دولة احتلال، ولا يجب على أي طرف أن يفرض على أحرار العالم دكتاتوريته وازدواجية المعايير التي شهدناها في حرب غزة الكاشفة، وأن الشعوب الحرة لن تعترف بإسرائيل، ولا يوجد في القاموس الحر دولة اسمها “إسرائيل”، إنما هي الأراضي الفلسطينية المحتلة.

ورغم تشويه حركات المقاومة بالإرهاب وحرمان الشعب الفلسطيني من الدفاع عن نفسه ومنح مرتزقة الجنود الذين أتى بهم المحتل “الصهيوني” لقتل الفلسطينيين حق الدفاع عن نفسه، وقتل المدنيين من النساء والأطفال وقصف المستشفيات والمدارس ومخيمات اللاجئين والمرضي، فإن كل من يدعم الاحتلال الإسرائيلي في جرائمه، سواء بالصمت أو بتبرير الجرائم فهو شريك مباشر في سفك دماء الأبرياء أصحاب الأرض.

فأي عقل ومنطق يطلق على “مجرمي الحرب” اسم “قوات الكوماندوز”، ويطلق على “قوات المقاومة” أصحاب الأرض اسم “إرهاب”؟!! هل تناست نيوزيلندا بأن إسرائيل دولة احتلال وردمت التراب على كل جرائم إسرائيل خلال 75 عاماً منذ إعلان قيامها عام 1948، وجلست تشاهد الموسم الثاني من المسلسل والذي بدأ في 7 أكتوبر 2023؟

لقد قام رئيس الوزراء “كريس هبكينز” الذي تولى رئاسة الحكومة النيوزيلندية خلفاً لـ “جاسيندا أردرن” بإصدار تصريح رسمي للمطالبة بوقف إطلاق النار في غزة، ولكن كان ذلك بعد انتهاء صلاحيته كرئيس وزراء حتى لا يكون موقف الحكومة الرسمي تجاه الحرب في فلسطين ولكنه موقف حزب العمال الذي يترأسه هبكينز، وجاء التصريح بعد 44 يوماً من الإبادة الجماعية في غزة رغم استطلاعات الرأي العام لشعب “الكيوي” والتي أكدت أن أكثر من 60% من النيوزلنديين يطالبون بوقف إطلاق النار. 

إن القضية الفلسطينية ليست قضية أمة عربية وإسلامية فقط، إنما هي قضية إنسانية ومسألة ضمير، فلا يستطيع أحد مهما بلغت قوته طمس الحقائق، وهذا ما نشهده على الأراضي النيوزيلندية منذ بدء الحرب، فرغم تزييف الحقائق عبر بعض وسائل الاعلام، وفي بعض التصريحات الرسمية الحكومية، نجد أن التظاهرات في كل المدن النيوزيلندية مستمرة، وفي تزايد مستمر مع انكشاف زيف الرواية الإسرائيلية التي نقل عنها الإعلام النيوزيلندي.

ويدهشني حقاً دور الناشطين والداعمين لفلسطين المحتلة من غير الجنسيات العربية والإسلامية، فأعدادهم في زيادة مستمرة، وهم الغالبية في التظاهرات الأسبوعية، فهؤلاء يتركون وقت راحتهم في الإجازة الأسبوعية ويشاركون في المسيرات مشياً على الأقدام بالساعات بشكل أسبوعي بأطفالهم وأسرهم دون كلل، حتى كبار السن منهم وأصحاب الإصابات أو الحالات الخاصة، تستطيع أن تجد البعض منهم بالكراسي المتحركة يشاركون بكل جهد في دعم القضية الفلسطينية متحدياً الإعاقة وتضليل الاعلام والعديد من التحديات.

وبعد

إن أوتياروا (Aotearoa) وهو الاسم القديم لنيوزيلندا باللغة الماورية تُثبت دائما بأنها أرض المحبة والسلام بشعبها ووعي أهلها بكل أطيافهم في تضميد الجراح، ودعم كل القضايا الإنسانية وقضايا الحريات والاستقلال في مواجهة سياسات التضليل التي تمارسها بعض وسائل الإعلام أو بعض الساسة هنا.

اقرا ايضا: فورين بوليسي: لا نهاية للحرب في غزة بدون مصر

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close