أوروبا وأمريكاترجمات

فورين بوليسي: الـ 100 يوم الأولى من حكم ترامب تكشف عن نقطة ضعف غير مسبوقة لـ “الرجل القوي”


لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.


نشرت مجلة فورين بوليسي الأمريكية في 28 إبريل 2025 مقالاً بعنوان: “الـ 100 يوم الأولى من حكم ترامب تكشف عن نقطة ضعف غير مسبوقة لـ “الرجل القوي” لـ “مايكل هيرش”، كاتب العمود في مجلة فورين بوليسي، حيث يقول إنه “لم يسبق لرئيس أمريكي أن تنازل عن نفوذه العالمي بهذه السرعة، كما فعل دونالد ترامب”.

وقد جاء المقال على النحو التالي:

“لم يرَأبداً أحدٌ من قبل شيئاً كهذا”، هذا ما يُحب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قوله عن أجندته المتخمة في العمل على قلب الحكومة الأمريكية رأساً على عقب وترهيب خصومه السياسيين في الداخل.

قد يكون ترامب مُحقاً في ذلك. ولكن عندما يتعلق الأمر بالساحة العالمية، فمن الصحيح أيضاً أنه لم يسبق لأحد أن شهد مثل هذا الحال من العرض غير المسبوق للضعف من شخص يُفترض أنه “رجل قوي” – وفي غضون 100 يوماً فقط.

وسواءً كانت القضية تتعلق بالأمن القومي أو بالاقتصاد، فقد قطع ترامب، في فترة زمنية قصيرة، شوطاً طويلاً نحو التنازل أحادي الجانب عن القوة المهيمنة والنفوذ السائد للولايات المتحدة حول العالم – وخاصةً في أوروبا ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ. ولعل خير دليل على ذلك هو انخفاض الأسهم والسندات وقيمة الدولار في آن واحد – وهو أمرٌ نادر الحدوث – مما يُشير إلى تراجعٍ واسع النطاق للاستثمار من جانب الولايات المتحدة.

وهذا هو على العكس تماماً مما كان ترامب قد وعد به، وهو: عصر ذهبي جديد لأمريكا، حيث تتدفق الاستثمارات، و”تزدهر بلادنا وتحظى بالاحترام مجدداً في جميع أنحاء العالم”، كما قال في خطاب تنصيبه.

وبدلاً من ذلك، وبسبب مجموعة السياسات التي تبناها ترامب، تراجع تصنيف الولايات المتحدة تدريجياً في نظر المستثمرين من الملاذ الآمن إلى تيه لا يمكن التنبؤ بمساراته، حيث تدور الشكوك حول سيادة القانون.

وكما قال محللون في جي بي مورغان في تقييم حديث بعنوان “هل هذا هو انهيار الدولار الأمريكي؟”: “لقد هزّ الارتفاع الحاد في حالة عدم اليقين بشأن السياسة الأمريكية ثقة المستثمرين في الأصول الأمريكية، بل وأثار جدلاً حول دور الدولار الأمريكي كعملة احتياطية رئيسية في العالم”. وحتى بعض أقوى مؤيدي ترامب في قطاع الأعمال – مثل كين غريفين، الرئيس التنفيذي لصندوق التحوط “سيتادل” – يُحذّرون من ضرر دائم قد يلحق بـ “العلامة التجارية” الأمريكية بسبب ما وصفه غريفين بحرب ترامب التجارية “العبثية”، مُشيراً إلى أن إصلاح الضرر قد يستغرق “عمراً كاملاً” للقيام به.

ومن خلال تقليص الاستثمارات في العلوم والتعليم، وترحيل المهاجرين عشوائياً، وإرهاب الجامعات الكبرى لتبني نسخته اليمينية من الصوابية السياسية، يقوم ترامب أيضاً بالتعجيل بحدوث بنوع من هجرة العقول لم يكن من الممكن تصوّره من قبل؛ ناهيك عن التهديد بإضعاف القدرة التصنيعية نفسها التي يقول ترامب إنه يريد استعادتها.

وفي نهاية المطاف، فإن الولايات المتحدة بلدٌ قد تغلّب على خصومه في كثير من الأحيان – وخاصةً الاتحاد السوفيتي وألمانيا النازية – باستقطاب أفضل العقول إلى أراضيه. أضف إلى ذلك ما فعله ترامب بسيادة القانون الداخلي، مما يُقلل من احتمالية قدوم الأجانب الأذكياء والموهوبين إلى بلدٍ يُمكن فيه اعتقال أي شخص أو ترحيله دون محاكمة عادلة، ويُعفى فيه الإرهابيون المحليون جماعياً، ويُمنح فيه المجرمون المدانون مناصب حكومية عليا (من بينهم مستشار التجارة بيتر نافارو وتشارلز كوشنر، المُرشح سفيراً للولايات المتحدة في فرنسا).

ويحدث كل هذا بموافقةٍ ضمنية من الحزب السياسي الذي أسكته ترامب، الحزب الجمهوري، واعتراضاتٍ مُفككة من الديمقراطيين المعارضين الذين لا يستطيعون فهم مبادئهم بالأساس. وقد عارضت المحاكم الأمريكية العديد من سياساته، وكان ذلك في الغالب بشكل مُقنع، لكن ترامب لا يكاد يُنصت إليها.

ويبدو أن الأمر الوحيد المُهم بالنسبة للرئيس ترامب هو الأسواق – التي قد تكون الآن الأمل الوحيد لتغيير مساره. ولذلك لا يمكن لروسيا والصين، الخصمان الرئيسيان للأمة الأمريكية، أن يكونا أكثر سعادة بجهود واشنطن التي تقود إلى تدمير نفسها بالكامل كقوة عظمى.

وفي تعامله مع روسيا وغزوها لأوكرانيا – وهي القضية التي تفاخر ذات مرة بأنه سيحلها في يوم واحد – انتهج ترامب سياسة استرضاء ذليلة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ومن الغريب أن ترامب قد جمع بين معاملته المتذللة لبوتين – الذي يسيطر على اقتصاد يبلغ حجمه ثلاثة عشر ضعف حجم اقتصاد الولايات المتحدة – ورفضه للحلفاء الأوروبيين أنفسهم الذين ساعدوا واشنطن حتى الآن في كبح جماح روسيا.

وهكذا، يزيد الرئيس الأمريكي من فَرَضية أنه “ليس لديه أوراق ليلعبها” على طاولة المفاوضات، كما يحلو له أن يقول عن فولوديمير زيلينسكي، الرئيس الأوكراني الصامد.

ولكن مؤيدي ترامب يقولون إن تواصل الرئيس الأمريكي الحذر مع بوتين وجهوده للتطبيع مع روسيا تُعدّ نوعاً من السياسة الواقعية الذكية؛ فعلى غرار هنري كيسنجر، ستقوم واشنطن من خلال ذلك بإبعاد موسكو عن تحالفها مع الصين. حيث تتألف إدارة ترامب بشكل كبير ممن يُسمّون بالواقعيين و “المُقيّدين” الذين يريدون العودة إلى سياسة الواقعية للقوى العظمى (وفي نفس الوقت يدعون إلى الحد من التدخل العسكري الأمريكي في الخارج قدر الإمكان)، حيث ينتقدون سلف ترامب، الرئيس جو بايدن، لانغلاقه على نفسه فيما يخص التفاوض مع موسكو من خلال تفويضه زيلينسكي فعلياً بإدارة السياسة الاستراتيجية الأمريكية مع روسيا.

في الحقيقة، هناك ما يُبرّر هذا الانتقاد. لكن باعترافه المُسبق بـ “ادعاء” بوتين بأحقية روسيا في “ضم” شبه جزيرة القرم وغيرها من الأراضي الأوكرانية، دون انتزاع أي تنازلات من روسيا، يبدو ترامب ضعيفاً بشكل لا مراء فيه. كما أنه بذلك يُبرّر فعلياً عمليات الاستيلاء العسكرية المستقبلية على الأراضي، ويُمزّق ما تبقى من نظام ما بعد الحرب للمعايير الإقليمية القائمة على القانون الدولي. فقد تشمل هذه التوغلات المستقبلية استيلاء الصين على تايوان، بالإضافة إلى تحقيق طموحات ترامب الجشعة تجاه جرينلاند. وفي الأيام الأخيرة، أقرّ ترامب بأن الزعيم الروسي قد يخدعه، فلجأ إلى التوسل إلى بوتين لوقف هجماته القاتلة على المدن الأوكرانية.

فكتب ترامب في منشور على منصة “تروث سوشيال” في السادس والعشرين من أبريل: “لم يكن هناك أي مبرر لإطلاق بوتين صواريخ على المناطق المدنية والمدن والبلدات خلال الأيام القليلة الماضية. هذا يجعلني أعتقد أنه ربما لا يريد وقف الحرب، بل يُريد فقط تضليلي، ويجب التعامل معه بطريقة مختلفة، من خلال “المعاملات المصرفية” أو “العقوبات الثانوية”؟”.

وماذا عن الصين؟ إن بكين تسخر علناً من سياسات ترامب، التي لم تكن سوى تهديدات لا تلبث أن تتلاشى وتتراجع. إن أثر الصدمة والرعب الذي عبرت عنه الأسواق إزاء الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب على الصين بنسبة 145% على الأقل – بما في ذلك اجتماع عقده ترامب مع كبار تجار التجزئة في الولايات المتحدة الذين حذروا من “الرفوف الفارغة” وارتفاع الأسعار ــ دفعه إلى تغيير مساره والقول إنه يتفاوض الآن مع الصين لخفض الرسوم الجمركية “بشكل كبير”.

لكن بكين ردّت بنفي مُهين لوجود أي محادثات من هذا القبيل. كما ضاعفت الصين جهودها بحظر تصدير العديد من المعادن الأرضية النادرة إلى الولايات المتحدة، مما أثار الذعر في أوساط الصناعات الكبرى التي لا تستطيع تشغيل خطوط التجميع بدونها، بما في ذلك شركات مقاولات الدفاع التي تعتمد على هذه المعادن في صنع الطائرات بدون طيار والمركبات التي تعمل بالبطاريات.

قال ويليام وولفورث، خبير العلاقات الدولية في كلية دارتموث، إن كل هذا يُمثل جهوداً مُتعثرة من جانب ترامب وفريقه لاتباع استراتيجية “الانتهازية” – أي تفكيك النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة والذي ساد منذ الحرب العالمية الثانية، والاستيلاء على حصة أكبر من الكعكة الإقليمية لنفسها، على غرار رؤساء القرن التاسع عشر مثل البطل المفضل لترامب، ويليام ماكينلي.

وأضاف وولفورث بأن المشكلة تكمن في أن أنصار ترامب لا يبدو أنهم يدركون ما يفعلون. وقال وولفورث في رسالة على البريد الإلكتروني: “إن التنازلات الاستباقية لروسيا – بل إن نهج الترغيب والترهيب لأوكرانيا والأوروبيين – هو استراتيجية تفاوضية فاشلة. ويبدو حقاً أن ترامب قد تراجع عن موقفه في لعبة “عض الأصابع” المتعلقة بالرسوم الجمركية مع الصين”.

والآن، تغتنم الصين – التي لم يكن لديها حتى ذلك الحين سوى عدد قليل من الحلفاء – الفرصة بمحاولة تصوير نفسها على أنها المركز الجديد المستقر للنظام العالمي. وكما قال الرئيس الصيني شي جين بينج لكبار قادة الأعمال الأمريكيين واليابانيين والكوريين في أواخر مارس، فإن الصين تُمثل “خياراً استثمارياً مثالياً وآمناً وواعداً”. ويأتي هذا بعد عقود سعى فيها رؤساء الولايات المتحدة (بما في ذلك ترامب في ولايته الأولى) إلى الضغط على الصين للانفتاح والتخلي عن ممارساتها التجارية غير العادلة.

وحتى تولي ترامب منصبه، كانت الصين وروسيا تتوسلان لكسب الحلفاء عملياً. فلم تكن موسكو تحظى بالولاء المطلق إلا من بيلاروسيا، وهي دولة ضئيلة الأهمية – ولكن مؤخراً أقامت شراكة مع دولتين معزولتين وخاضعتين لعقوبات شديدة، هما إيران وكوريا الشمالية. كما يمكن للصين أن تفتخر بشكل رئيسي بعلاقاتها مع كوريا الشمالية، حتى في الوقت الذي تسعى فيه إلى إقناع الدول الأصغر حجما بالولاء لمبادرة الحزام والطريق وغيرها من أعباء الديون.

ثم أقامت موسكو وبكين شراكة بينهما، وبذلتا معاً جهوداً متقطعة لتوسيع منتدى البريكس الذي يضم خمس اقتصادات ناشئة رئيسية (كانت تضم في الأصل البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا) كقوة موازنة للغرب. لكن قلةً من الدول كانت راغبة في الانضمام؛ إذ لا يزال العديد من الدول الجديدة المدعوة إلى الانضمام للبريكس أو المنضمة له – المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر – شركاء أمنيين مقربين للولايات المتحدة، وقررت الأرجنتين لاحقاً عدم الانضمام.

في هذه الأثناء، وحتى مجيء ترامب، كانت الولايات المتحدة تتمتع بأكثر من 50 حليفاً وشريكاً استراتيجياً حول العالم، بما في ذلك معظم أغنى دول العالم. والآن، يتطلع حلفاء رئيسيون لواشنطن من ألمانيا إلى كوريا الجنوبية إلى تطوير دفاعاتهم الخاصة بعيداً عن الولايات المتحدة – الأمر الذي سيشكل ضربة قوية لصناعة الدفاع الأمريكية ويهدد بعصر جديد وخطير من الانتشار النووي – في مواجهة تهديدات ترامب المستمرة بالانسحاب ومطالباته بـ “الجزية” الإمبراطورية.

إن الشكوى التي اعتاد ترامب ترديدها هي أن حلفاء الولايات المتحدة لا يفعلون شيئاً سوى “نهبنا”. وللإقرار له ببعض الفضل، فقد ضغط على حلفاء الناتو وتايوان لتقديم مقترحات لإنفاق المزيد على دفاعهم. ولكن في الغالب، تتمتع واشنطن بالاستحواذ على صفقات جيدة جداً في منطقة المحيطين الهندي والهادئ والشرق الأوسط، بالنظر إلى حصة التكاليف في القواعد الأمريكية التي تتحملها الدول المضيفة مثل اليابان (75%) والكويت (58%) وقطر (61%) والمملكة العربية السعودية (65%)، وفقاً لتقرير صادر عن مؤسسة راند عام 2013.

إن القضية الأكبر هي أن مثل هذه السياسات (التي يسعى ترامب للانقلاب عليها) تضمن المحافظة على القيادة الأمريكية العالمية والهيمنة الاقتصادية.

وقد أخبرني جون إيكينبيري، الباحث في جامعة برينستون والخبير في النظام العالمي لما بعد الحرب، خلال فترة ولاية ترامب الأولى عندما شن الرئيس أول هجوم متقطع له على النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة: “قد يفكر ترامب في هذا النظام بشروطه الخاصة، كما لو كان عقاراً: فالنظام الأمريكي يجسد له استثماراً، تم إجراؤه على مدى سبعة عقود، وحقق عوائد مذهلة. إن تدمير هذا النظام – من تقويض نظام التجارة والتحالفات والمؤسسات والثقة – يشبه هدم فندقك الأكثر إدراراً للأرباح.”

في الواقع، من الصعب الإشارة إلى أي سابقة تاريخية لما يفعله ترامب حالياً، كما يقول جون  إيكنبيري. حيث يكتب في ورقة بحثية وشيكة: “لماذا تُدمر الولايات المتحدة نظامها المهيمن (على العالم)؟ لماذا تعمل أقوى دولة في النظام العالمي بدأب على إضعاف وإفقار نفسها وجعلها أقل أمناً؟. نعلم تماماً أن القوى العظمى تصعد وتسقط؛ وأن عصوراً عالمية تنتهي، وتبدأ عصور جديدة. ولكن متى رأينا نظاماً دولياً يتم تدميره، بهذه الطريقة، على يد من أنشأه؟ فعلى مر التاريخ، كانت القوى العظمى عادة ما تنتهي – أو تموت – بالقتل، وليس بالانتحار”.

وعندما يتعلق الأمر بالاقتصاد الأمريكي الذي لا يمكن إيقافه حتى الآن، فقد تبنى ترامب مجموعة من السياسات المدمرة للذات لدرجة أنه – عسى أن نتكيف مرة أخرى مع هذا النمط المألوف من ترامب – لم يرَ أحد شيئاً مماثلاً لما يقوم به من قبل. لقد استنزفت هذه السياسات مجتمعة القوة الاقتصادية الأمريكية في فترة زمنية قصيرة بشكل مذهل.

لقد مرت مائة يوم فقط منذ توليه السلطة، في الواقع. ووفقاً لاستطلاع رأي أجرته شبكة CNBC ونُشر في أوائل أبريل، يتوقع غالبية الرؤساء التنفيذيين (69%) الآن الدخول في خالة من ركود اقتصادي.

وقد بدأ هذا التدهور مع تراجع ترامب عن برامج المساعدات الأمريكية وتوبيخه للحلفاء. لكن هذا التوجه سرعان ما اكتسب زخماً في أوائل أبريل، بعد أن كشف ترامب عن مفهومه المُضلّل للرسوم الجمركية والحرب التجارية.

ومرة أخرى، كان هناك ما يدعو للاعتقاد بأن الضغط التجاري الصارم على بعض الدول قد يُعيد بعضاً من الصناعات التحويلية الأمريكية التي سمحت الإدارات السابقة بتسربها إلى الصين وجنوب شرق آسيا ومناطق أخرى.

لكن ترامب فرض رسوماً جمركية على نحو 90 دولة خول العالم دون أي خطة واضحة سوى تحصيل الإيرادات. وسرعان ما اتضح أن “الرسوم الجمركية” المزعومة التي زعم ترامب فرضها من دول أخرى على الولايات المتحدة لم تكن السياسات الفعلية لتلك الحكومات، بل كانت حساباً تقريبياً لصادرات تلك الدولة من السلع إلى الولايات المتحدة مقسوماً على العجز التجاري الأمريكي مع تلك الدولة. ويبدو أن هذا مبني على فكرة ترامب الزائفة والتجارية القائلة بأن التجارة لعبة محصلتها صفر، وأن العجز التجاري لأي دولة يُشبه خسائر الشركات.

وتراجعت الأسواق بشدة، إذ بدا أن العالم بأسره أدرك فجأة أن أقوى رجل في العالم لا يفهم أساسيات الاقتصاد. وأدركت الأسواق ذلك، بالفعل.

وقد تراجع ترامب أكثر بإعلانه عن تعليق مؤقت لمدة 90 يوماً لمعظم الرسوم الجمركية ريثما يتفاوض على صفقات تجارية جديدة. ولكن يبدو أن أياً من تلك الصفقات لن يتم إبرامه أبداً، حيث يقول خبراء التجارة إنه من شبه المستحيل التفاوض على مثل هذه الصفقات في تلك الفترة القصيرة.

وفي غضون ذلك، تستمر هجرة الأمريكيين إلى خارج الولايات المتحدة. وليس بالأمر الهيّن أن الدولار الأمريكي مهدَّد الآن بتلقي أكبر ضربة له – بعد أن فقد ما يقرب من 9% من قيمته منذ 20 يناير من هذا العام، يوم تنصيب ترامب – منذ أكثر من 50 عاماً، منذ ما يُسمى بصدمة نيكسون في أوائل السبعينيات من القرن الماضي. وكما هو الحال مع رسوم ترامب الجمركية، فقد يؤدي ذلك إلى ارتفاع نسب التضخم. وكما هو الحال اليوم، كانت تلك الفترة السابقة فترة خاطَر فيها الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون بسمعة البلاد العالمية بوقفه تحويل احتياطيات الدول الأخرى من الدولار إلى ذهب – وهو الركيزة الأساسية للنظام المالي بعد الحرب العالمية الثانية.

ولعلّ المفارقة الكبرى تكمن في أن ترامب، على ما يبدو، يطمح إلى أن يكون “الرجل القوي” الذي يُفترض أن يُعيد للرئاسة هيبتها واحترامها حول العالم. ومع ذلك، فمن الواضح أنه تولى منصبه ولديه شعور مُبالغ فيه بقدرته على ترهيب الدول الأخرى وإخضاعها. وكما صرّح لمجلة “ذا أتلانتيك” في مقابلة أجرتها معه بعد مرور 100 يوم من توليه السلطة: “أنا أدير البلاد والعالم أجمع”.

ومع ذلك، لا تقوم قوة الولايات المتحدة على الهيمنة العسكرية والاقتصادية فحسب، بل أيضاً على قدر كبير من نفوذ القوة الناعمة. ويبدو أن ترامب لم يفهم هذا الجزء الأخير، تماماً كما بدا أنه لم يفهم أن إعلانه عن نيته الاستيلاء على جرينلاند وضم كندا، لن يؤدي إلا إلى توحيد شعوبهما ضده.

كان ترامب، قبل توليه منصبه، يردد كثيراً، في معرض حديثه عن سياسات بايدن وأسلافه الرئاسيين الآخرين: “العالم يضحك علينا”.

لم يكن هذا صحيحاً آنذاك – على الأقل ليس بهذا القدر. ولكنه الآن كذلك؛ أو ربما يكون معظم العالم يبكي بدلاً من أن يضحك علينا. وبالنظر إلى: إلغاء الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية والعديد من برامجها، فقد تتسبب إدارة ترامب في نهاية المطاف في وفاة الأبرياء في قارة أفريقيا والدول النامية بقدر ما تسبب به بوتين في أوكرانيا – وذلك على حساب نفوذ الولايات المتحدة وهيبتها، مرةً أخرى.

ومع ذلك، دعونا نرجع خطوةً إلى الوراء لنلاحظ أن مقياس المائة يوم للرئاسات الجديدة كان دائماً مقياساً تنتابه الريبة. وقد يدرك ترامب، بعد أن ارتكب أسوأ ما لديه، بعض الضرر الذي ألحقه ويعدل مساره. حيث تُظهر استطلاعات الرأي الجديدة انخفاضاً في معدلات تأييده إلى أدنى مستوى لها بين الرؤساء الجدد منذ بدء إجراء مثل هذه الاستطلاعات.

ويرى العديد من المؤرخين أن المائة يوم الأولى من رئاستهم ما هي إلا خدعة إعلامية صُممت لإثارة عناوين رئيسية (في الصحافة). وقد وصف المؤرخ الرئاسي ريتشارد نيوستادت هذا المقياس بأنه “دليل ضعيف على ما يمكن أن يخطط له الرؤساء المعاصرون أو يأملوا في فعله في الأشهر الثلاثة الأولى من ولايتهم”، مجادلاً بأنه معيارٌ اقتصر على الرئيس فرانكلين د. روزفلت وبرنامج “الصفقة الجديدة” نظراً للطبيعة اليائسة للأزمة التي كان يواجهها: الكساد الكبير. (مع أن مصطلح الـ “مائة يوم” بدأ في الأصل كوصف للفترة الممتدة بين هروب الزعيم الفرنسي نابليون بونابرت من جزيرة إلبا وسقوطه بشكل نهائي، إلا أن روزفلت أعاد إحياء هذا المفهوم في يوليو 1933، عندما أشار إلى “الأحداث المزدحمة التي شهدتها المائة يوم الأولى لحكمه والتي كُرِّست لإطلاق عجلة الصفقة الجديدة”).

وقد أخبرتني لارا براون، عالمة السياسة في جامعة جورج واشنطن، في عام 2021، في تقييمها لأول مائة يوم لجو بايدن: “تُعدّ المائة يوم ، على مستوى ما، إشارة مهمة، بمعنى أنك ترى فيها الأسلوب الأوّلي للقيادة بالنسبة للرئيس. لكن من حيث الأداء الفعلي – هل سيُكتب لهذا الشخص النجاح أم لا – أعتقد أنه قِصر نظر شديد. وأود أن أجادل بأن المائة يوم الأولى، بالنسبة لمعظم الرؤساء في العصر الحديث، هي البداية وليست النهاية لقصصهم”. والأسوأ من ذلك، أن معيار المائة يوم لا يرسل سوى رسالة خلل وظيفي وعدم استقرار إلى بقية العالم، حيث يسعى كل رئيس جديد إلى إحداث ضجة كبيرة. وقد ثبت هذا بشكل خاص في العقود القليلة الماضية منذ انهيار إجماع الحرب الباردة، وسعى كل رئيس إلى عكس سياسات سلفه – ولا سيما ترامب وبايدن.

ففي يومه الأول بعد تولي منصبه، وقّع الرئيس بايدن ما لا يقل عن 50 أمراً تنفيذياً، نصفها تقريباً يلغي بها سياسات ترامب، بما في ذلك انسحابه من اتفاقية باريس للمناخ، وسياسات الهجرة، وبناء الجدار الحدودي، وحظر السفر الذي يستهدف الدول ذات الأغلبية المسلمة. وقال بايدن آنذاك: “أنا لا أضع قانوناً جديداً. أنا أقضي على السياسات السيئة (لترامب)”.

أما ترامب فقد تفوق عليه كثيراً، حيث وقّع أكثر من 100 أمر تنفيذي منذ شهر يناير من هذا العام – كثير منها يلغي سياسات بايدن – وهو يصف بايدن بانتظام بأنه “أسوأ رئيس في تاريخ الولايات المتحدة”.

وقد تبنى ترامب نفسه بكل سرور معيار المائة يوم. إنها قصةٌ يستشهد بها ترامب كثيراً لوصف النشاط الملحوظ الذي شهدته ولايته الثانية – ما وصفه ترامب في الثامن من شهر إبريل بأنه “أكثر 100 يوم نجاحاً في تاريخ بلادنا”.

وهذا ضربٌ من الخيال. ولن يعترف ترامب أبداً بذلك، لكنه أظهر بوادر تراجع في الأيام الأخيرة. وطمأن وزير الخزانة سكوت بيسنت العالم بأن الرسوم الجمركية التي قيل إنها “دائمة” أصبحت الآن قابلة جداً للتفاوض. وبعد أسابيع من التلميح إلى أنه قد يضع “نظريته الوحدوية للسلطة التنفيذية” في طور الاختبار النهائي ويدمر استقلالية مجلس الاحتياطي الفيدرالي – مما أدى إلى انخفاض آخر في السوق – ينفي ترامب الآن أنه خطط لإقالة رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول.

يأتي ذلك في أعقاب الرسالة التي أوصلها الرؤساء التنفيذيون لشركات “وول مارت” و “تارجت” و “هوم ديبوت” في المكتب البيضاوي في 21 إبريل، حيث حذروا ترامب من دمار اقتصادي قادم. وفي النهاية، لم يفت الأوان بعد لأن يقوم ترامب بتغيير مساره.


لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى