fbpx
قلم وميدان

قواعد النظر الشرعي في انقلاب تركيا

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

 

ما وقع في الجمهورية التركية يوم 15 يوليو 2016م حدث مزلزل، أربك العالم، وأوقفه على قدم واحدة، وسهر العالم كله خائفًا يترقب، سواء أكان من الأعداء أم من الأصدقاء، وشاءت إرادة الله تعالى أن يَفشل هذا الانقلابُ، ويتم إرباكُه، ومحاصرته وحسمه؛ حيث أسهم في ذلك عدة عوامل، منها: القائد الموفق الرئيس إردوغان الذي ظهر في الوقت المناسب ودعا شعبه للنزول، والشعب الواعي الذي نزل واستجاب لنداء رئيسه وأدرك اللحظة الفارقة، والشرطة الشريفة التي واجهت المنقلبين بكل حسم، والمخابرات التي قامت بدورها، وجزء كبير من الجيش وبعض قادته المخلصين للحرية وإرادة الشعوب، والدولة والرئيس، وعدد من العوامل الأخرى ليس هذا موضع التفصيل فيها.

وقد وقع من هذا الانقلاب جملة من الممارسات، كما وقعت من الدولة في مقاومة هذا الانقلاب وكسره وإفشاله عدد من التصرفات التي رآها الغرب المتآمر مخالفة لحقوق الإنسان وآدمية الإنسان وحريات البشر .. فكيف نتعامل مع هذه التصرفات والممارسات؟ وما هي المنطلقات التي نصدر عنها للحكم عليها، وما هي القواعد الشرعية الحاكمة والضابط للنظر الشرعي في قضايا الانقلاب والتعامل معه؟! هذا هو موضوع المقال بشكل مختصر ومركز؛ حيث لن يتعرض لمسائل ثم ينزل الحكم الشرعي عليها، وإنما سيضع – في حدود المساحة المسموح بها – الأطر العامة والقواعد الحاكمة للنظر الشرعي في مثل هذه القضايا الكبرى التي لها ما بعدها محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا.

أولا: قاعدة المقاصد:

من أهم هذه القواعد الحاكمة والمنظِّمة للتعاطي مع انقلاب تركيا الفاشل 15 يوليو 2016م، وما في وزنه من أحداث وقضايا .. قاعدة المقاصد، والمقصود بها تحكيم الفكر المقاصدي في هذه الأحداث، في فهمها، في أخذ القرارات بشأنها، وفي توقع ما يمكن أن تصير إليه الأمور وضبط مآلاته.

والمقاصد هنا مراتب، منها المقاصد العالية والمفاهيم التأسيسية، وهي حفظ الحريات والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية وترسيخ الأمن الاجتماعي وحفظ وحدة الأمة وحمل قضاياها، ولا شك أن الانقلابات العسكرية في تركيا وغيرها تقوم ضد هذا بل تهدره وتمحوه تماما، ولا يَبقى إلا ما تريد.

وإذا تحدثنا عن مرتبة تالية للمقاصد وهي الكليات أو المقاصد العامة بضرورياتها وحاجياتها وتحسينياتها، فإن أنواعها جميعا مهدرة على يد الحكم العسكري، من دين ونفس ومال وعقل ونسل وعرض، والإسلام أوجب إقامة الدين، وأمر بحفظ النفس، ودعا لحفظ المال والعقل والنسل والعرض، وجعل من يموت دونه شهيدا، والنصوص الشرعية بحفظ هذا كله بلغت حد التواتر المعنوي واللفظي، والحكم العسكري يهدر كل هذا ويصادره، ولا تزدهر هذه الكليات إلا في ظلال الحرية ومنح الشعوب نفسها إرادة التغيير وحرية الاختيار، وهذا لا يكون تحت حكم عسكري، وفي التاريخ فكرة ومنهاج.

ونحن الآن في فترة حرجة تمر الأمة فيها بتحول كبير يحدث لها كل مائة عام تقريبا، ولو رجعنا بذاكرتنا إلى مائة عام للوراء لوجدنا تشابها كبيرا بين ما كانت تمر به الأمة وقتها وما تمر به اليوم.. الذي نود الإشارة إليه أن مثل هذه الظروف التي تتمخض عنها هذه الأحداث تتطلب وجوبًا تحكيم قاعدة المقاصد، وتمكينها في حياة الناس لينعموا بمقومات الإنسانية والحياة الآدمية، وتفعيل قول الله تعالى: “وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً”. [سورة الإسراء: 70].

 

ثانيا: قاعدة الضرر

من القواعد المهمة لفهم هذه التحولات الكبرى والأحداث العظمى والتعاطي مع قضاياها ومسائلها قاعدة الضرر أو قواعد الضرر، فالضرر محرم في كل الشرائع، ومحظور في كل القوانين، ولابد من التعامل معه وفق قواعده ومراتبه بالميزان الحساس. فللتعامل مع الضرر قواعد مرتبة على هذا النحو: لا ضرر ولا ضرار، والضرر يزال، والضرر لا يزال بمثله، وارتكاب أخف الضررين، ولا يدفع الضرر بالأعلى إذا دفع بالأدنى.

هذه خمس قواعد شرعية يجب تحكيمها بالترتيب هكذا في القضايا الكبرى والتحولات التي تمر بها الأمة، وأكثر ما تستدعى في مجال السياسة الشرعية ومجال الحروب والمواجهة، فالضرر ممنوع أساسا، لا تضر نفسك ولا تضر غيرك، وهذه هي القاعدة الأولى، فإذا وقع الضرر فلابد من إزالته، وهي القاعدة الثانية، وفي إزالتنا للضرر لا يجوز أن نزيله ثم يقع ضرر مثله، وهذه القاعدة الثالثة، وفي طريق تعاملنا مع الضرر الواقع نرتكب الضرر الأخف لتفادي الضرر الأكبر، وهذه القاعدة الرابعة، ثم لا ندفع الضرر بالأعلى إذا كُفيناه بالأدنى، وهي القاعدة الخامسة، وبهذا نكون قد تعاملنا مع ضرر الانقلابات العسكرية والأحداث الكبرى وفق منظومة قواعد الضرر بشكل صحيح، وهذا ما يجب تحكيمه في مثل هذه الأحداث، ومن هنا ندرك خطأ شيخ الأزهر أحمد الطيب حينما تجاوز قواعد الضرر الأولى ونفذ مباشرة للقاعدة الرابعة في تأييده لمشهد الانقلاب العسكري (ارتكاب أخف الضررين) مهملا القواعد الثلاث الأولى.

وهناك منظومة أخرى وتصور آخر للتعامل مع الضرر بالنظر إلى وقوعه من عدمه، وهو أن نمنعه من الوقوع منْع وقاية، فإذا كان في طريقه للوقوع يُدفع، فإذا نزل ووقع يُرفع مع تعويض أصحاب الحقوق الشرعية، ووفق هذه المنظومة بترتيبها نتعامل مع الأضرار: المنع، والدفع، والرفع.

ثالثا: قاعدة الموازنات:

من أهم القواعد في التعامل مع الأحداث الكبيرة مثل الانقلابات العسكرية، وبخاصة انقلاب تركيا الفاشل 15 يوليو قاعدة الموازنات؛ إذ إن وضع تركيا له خصوصيته، فهي القلعة الأخيرة للإسلام في العالم، وهو الصوت الوحيد مع مَن رحم الله الذي ينادي بسياسة الأخلاق وأخلاق السياسة، ويحمل الهم العام لقضايا المسلمين في العالم، ويأوي المطاردين والمهاجرين من بلاد شتى.

والموازنات هنا هي الموازنات بين مراتب متعددة: بين المصالح بعضها وبعض، فنفوت – ولا نبالي – المصلحة الصغيرة لتحصيل المصلحة الكبيرة. وبين المفاسد بعضها وبعض، فنرتكب – ولا نبالي – المفسدة الصغرى لدفع المفسدة الكبرى. وبين المصالح والمفاسد فندفع المفسدة وتجلب المصلحة. يقول العز بن عبد السلام: (إذا اجتمعت مصالح ومفاسد، فإن أمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد فعلنا ذلك امتثالاً لأمر الله فيهما؛ لقوله – سبحانه -: “فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ” [التغابن: 16]. وإذا تعذر الدرء والتحصيل؛ فإن كانت المفسدة أعظم من المصلحة درأنا المفسدة ولا نبالي بفوت المصلحة. قال – تعالى -: “يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْـخَمْرِ وَالْـمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا” [البقرة: 219]. حرمهما لأن مفسدتهما أكبر من منفعتهما… وإذا كانت المصلحة أعظم من المفسدة حصلنا المصلحة مع التزام المفسدة) [قواعد الأحكام: (1/136)، وراجع: مجموع الفتاوى: (20/50).

بقي أن نقرر أن هذه الموازنات دقيقة وتتغير تغيرا مستمرا، وتحتاج لتحكيمها وتفعيلها إلى المختصين في الشرع والخبراء بالواقع من كل التخصصات، فالموازنات يجريها الفقهاء بناء على تقارير الخبراء، وهذا أمر شاق يعتبر مضلةَ أفهامٍ ومزلةَ أقدامٍ، ولا يُجريه إلا من تملّك ناصية العلم مع الخبرة في ظلال توفيق الله تعالى.

رابعًا: قاعدة الأولويات:

تعتبر الأولويات مرحلة لاحقة لإعمال قاعدة الموازنات، فهما عملية واحدة غير منفكة، ورعاية الأولويات وتحكيمها أمر شرعي وحياتي وحضاري، لا ينفك عنه شعب ولا تهمله أمة، وقد تحدث فيه علماؤنا فاعتبروا تقديم الاهتمام بأعمال القلوب على أعمال الجوارح، والبدء بصغار العلم قبل كباره، وتقديم الفرض والواجب على السنة والنفل، وتقديم الاهتمام بترك المنهيات على الاهتمام بفعل المأمورات، وتقديم العمل المتعدي نفعه إلى الغير على العمل القاصر نفعه على صاحبه، وتقديم العلم الذي يترتب عليه ثمرة وعمل على العلم النظري الذي لا يترتب عليه شيء، وهكذا.

والحدث الذي مرت به تركيا يحتاج إلى هذه القاعدة وإعمالها فيقدَّم الكلي على الجزئي، والأكثر أهمية على الأقل أهمية، والذي له أثر حاسم في إفشال هذه التحركات على ما له أثر أضعف، ولا تفتح جبهات متعددة في وقت واحد يضرب بعضها بعضًا، وإنما تفتح الجبهة الأهم فالأقل أهمية وهكذا. ويتم تأمين الأماكن الحيوية والحساسة في الدولة أولا، مثل: المطارات، والموانئ، والقواعد الحربية، والمجال الجوي، والمؤسسات الرئيسة في الدولة، فهذا له الأولوية على غيره، مما يفوت الفرصة على تحركات أعداء البلاد، وهكذا.

خامسًا: قاعدة المآلات:

قاعدة المآلات قاعدة خطيرة، ومن الأهمية بمكان، لا سيما في ظل الواقع المعاصر المتشابك والمعقد الذي يجعل لكل حركة وتصرف ألف احتمال وألف مآل، وهذا يوجب الحذر، والتحرك بحنكة في ضوء قوَى الشر الدولية المتربصة بها، ومن ثم يجعل كلُّ هذا من رعاية المآلات أمر له خطره وأثره.

وقد قال الإمام الشاطبي: “النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، مشروعا لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية؛ فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى المفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها؛ فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم مشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق محمود الغب جار على مقاصد الشريعة”. [الموافقات: 5/ 177-178].

فالفعل أو التصرف قد يكون واجبا لكن مقارفته تؤدي إلى هلاك في ظل ظروف معينة ووضع محدد مما يحمل المتفطن إلى مجانبته وارتكاب غيره وفق المآل، ووفق موازنات المصالح والمفاسد .. كما قد يكون العمل حراما لكن مآل البعد عنه وعدم الأخذ به يوقع البلاد والعباد في أزمات تنال الأمة كلها في بلاد العالم، وهذا مجال كما قرر الشاطبي صعب المورد، وهو مضلة أفهام وأقدام، لا يقدر عليه الإنسان إلا بتوفيق الله تعالى. فهل يُقْدم إردوغان والبرلمان على تشريع قانون للإعدام جزاء جريمة الانقلاب في ظل عالم أوربي وأمريكي يحظره ويرفض الإعدام، ويهدد بعد ضم تركيا للاتحاد الأوربي، وفي هذا ما يجلب السخط الدولي عليه وتكون مآلاته تحديا عالميا ضده؟!

أم يضعهم أمام القانون الطبيعي بعيدا عن الإعدام، وهو ما يجرّئ الآخرين ويغري الداخل والخارج بإعادة محاولات الانقلاب في مقابل تهدئة الرأي الدولي؟! .. هذه كلها تحتاج إلى موازنات وتحكيم للمآلات، وفق عملية حسابية شديدة التعقيد والحساسية.

سادسًا: قاعدة الواقع:

قاعدة رعاية فقه الواقع، واستحضار المرحلة التي تمر بها الأمة، والواقع الذي يحياه العالم؛ حيث لا يمكن اتخاذ أي قرار، ولا الإقدام على أي تصرف مع تجاهل مجريات العالم، أو بغير استبصار بواقع الأمة المسلمة اليوم التي لم يعد يجد المسلمون فيها ناصرا ولا أنصارا سوى تركيا، ولا يجد المسلمون في العالم من يحمل قضاياهم سوى تركيا؛ ولهذا تجد العالم الإسلامي كله يطرد النوم عن عينيه حين يمر مكروه بتركيا، أو حين تجرى فيها انتخابات، وفي انتخابات البلدية والبرلمان الأخيرتين خير شاهد.

واستبقاء تركيا قائمة بالقسط قوية متماسكة ظاهرة أمر يستدعي فقها حساسا ودقيقا، ويستنهض العقل الفقهي لإجراء موازات مرة، وبالغة التعقيد والتشابك في كثير من الأحيان، وتقديم أمور وتأخير أمور .. فمن خلال فقه الواقع واستحضار طبيعة المرحلة وآلام الأمة وآمالها قد نقوم بتصرفات لم نقم بها من قبل، وهذا يقدر عليه أهل العلم والخبرة.

إننا بوعي هذه القواعد ومنهجية إجرائها – المقاصد، والضرر، والموازنات، والأولويات، والمآلات، والواقع – نستطيع أن نتعامل مع الأحداث الكبرى، ونقي ملتنا وأمتنا من مصارع السوء(1).

———————–

الهامش

(1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.

 

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close