دراسات

قراءات نظرية: شروط نجاح التحول الديمقراطية الجزء الخامس

معظم الدراسات التي تناولت عملية ظهور الديمقراطية واستمرارها أكدت على أن عوامل التحول الديمقراطي ليست هي العوامل التي تؤدي إلى تحقيق التماسك الديمقراطي، وأن هناك مجموعة من الشروط التي لابد أن تتوفر لنجاح واستمرار عملية التحول الديمقراطي وصولاً لاستكمال النظام الديمقراطي، إذ يشير البعض إلى وجود قواعد عدة تنظم اللعبة السياسية خلال عملية التحول الديمقراطي، وتمثل في الوقت نفسه قواعد لضمان عدم الارتداد عن العملية الديمقراطية.

وهناك عدة مؤشرات يمكن من خلال رصدها وتحليلها أن تنبئ عن وجود تحولات ديمقراطية في نظام ما من عدمه، ذلك كونها مؤشرات تتمتع بالشمول لما تتضمنه من مؤشرات فرعية أخرى، ومن بين هذه المؤشرات:

1- الفصل بين السلطات:

تستوجب الديمقراطية عدم الجمع بين السلطات في قبضة فرد أو هيئة واحدة، وعلى الدستور أن يكفل الفصل بين السلطات، ولتحقيق ذلك عليه أن يبين اختصاصات كل مؤسسة من المؤسسات المناط بها أداء سلطة من سلطات الدولة الثلاث، كما أن على الدستور أن يحدد اختصاصات الحكومة، والمجالس النيابية، وهيئات القضاء1.

2- البنية المؤسسية للدولة:

يرى العديد من الباحثين أن استمرار النظام الديمقراطي وضمان عدم عودته أو ارتداده إلى النظام السلطوي يرتبط بوجود مؤسسات سياسية تكفل أداء الوظائف المنوطة بالنظام، ومن ثم تكفل استمراره، وهو ما يطلق عليه البعض إضفاء الطابع المؤسسي على النظام، والتي تعني الاعتماد في عملية صنع القرار السياسي على هياكل وأطر نظامية مختلفة من برلمانات وأحزاب وجماعات مصالح2.

إذ أن المؤسسات ترتبط عضوياً بالتطور الديمقراطي كونها تستبدل الأسس التقليدية في الإدارة والعلاقة بين الأجهزة والأفراد بغيرها أكثر تنظيمًا وموضوعية، بمعنى أنها تلغي الاعتبارات الشخصية أو القبلية أو العصبية، وهي تجنب ما يعرف بظاهرة شخصانية السلطة Personalizing power والتي تعني الخلط بين الوظيفة العامة وشاغلها، وهو ما يضمن عدم حدوث تغيرات جوهرية في الأهداف الوطنية استناداً إلى رؤى ذاتية، هذا فضلاً عن تغليب الدور الرقابي للمصلحة العامة والحد من ظاهرة الفساد.

وعلى ذلك فإن تأسيس مؤسسات تسمح للأفراد بالمشاركة السياسية والمشاركة في صنع القرار السياسي فيما يطلق عليه هندسة المؤسسات Institutional Engineering هو الضمانة لإجراء عمليات تغيير مستقرة على مستوى القيادات وفي جميع المستويات دون وقوع أزمات قد تعصف باستقرار المجتمع.

وتزداد أهمية وجود تلك المؤسسات في المجتمعات المتباينة عرقياً ولغوياً ودينياً كي تظل جميع الفئات مشتركة في الولاء لبلد واحد على أساس المشاركة السياسية، وهو ما يصعب تحقيقه في ظل الأنظمة الشمولية والتي تغيب عنها صفة “دولة المؤسسات” بينما تأخذ بصفة “الديمقراطية الشعبية”، مما يحول دون تحقيق التوازن الاجتماعي والسياسي والممارسة الحرة والمشاركة السياسية التي تكفلها المؤسسات السياسية في الأنظمة الديمقراطية3.

وتقام مؤسسات الدولة الديمقراطية عادة بموجب الدستور الذي يمثل سيادة الشعب وحكم الشعب، وتنص الدساتير الديمقراطية القديمة منها والحديثة على تنظيم حكم الشعب بموجب المؤسسات التالية التي تحدد سلطاتها وصلاحياتها بموجب الدستور: مؤسسة العرش أو رئاسة الجمهورية التي لا ينفذ قرار مهم يتعلق بحياة الشعب دون تصديق الملك أو الرئيس عليه، مؤسسة السلطة التنفيذية صاحبة الولاية في الحكم، مؤسسة السلطة التشريعية النائبة عن الشعب في التشريع والرقابة، مؤسسة القضاء المستقلة التي تختص بسيادة العدل4.

وقد وضع هنتنجتون عدداً من المؤشرات أشار إليها باعتبار أن تحقيقها يمثل نجاحاً في إقامة المؤسسات السياسية، ومنها: درجة تكيف هذه المؤسسات مع مرور الزمن مع تغيرات المجتمع وتباين الوظائف التي يمكن أن تقوم بها، درجة التراتبية الهيراركية وتعدد هياكل المؤسسة، درجة استقلالها الذاتي في إدارة شئونها، ودرجة الاتساق الداخلي فيما بينها.

ويجدر التأكيد على أن العبرة ليست بمجرد التواجد الشكلي للمؤسسات، وإنما ينبغى أن يتحقق التواجد الفعلى لها في عملية إدارة المجتمع، ففترة التحول تعتبر بمثابة فرصة لتعلم كيف يعمل النظام الديمقراطي الجديد من خلال مؤسسات لا يصح تجاوزها، ويتحقق التثبيت لدعائم النظام الديمقراطي عندما يعلم الجميع من نخب وجماهير كيفية احترام تلك المؤسسات التي تمثل الواسطة ما بين المجتمع والدولة، ومتى تم الوصل إلى هذه النقطة يتم الوصول إلى نهاية مرحلة التحول والتي يشير إليها البعض بأنها تلك الفترة الزمنية الممتدة منذ سقوط النظام السلطوي ومحاولة السيطرة التي يبذلها النظام الديمقراطي البديل حتى ينجح في ذلك بوجود فعّال لمؤسسات تتمتع بالشرعية والقبول5.

3- حرية ونزاهة العملية الانتخابية:

تعتبر العملية الانتخابية مهمة وذلك لكونها مرتبطة بعناصر أخرى تعني بالتحول الديمقراطي، فنظام الانتخابات ليس نظاماً قائماً بذاته إنما يتضمن عناصر أخرى تدعمه وتضمن له التنفيذ بشكل يتسم بالحياد والشفافية وإرضاء لجميع التيارات المتصارعة على الساحة السياسية المؤيدة منها والمعارضة، كما أنها تشكل مناخاً سياسياً يتواءم مع نجاح تلك العملية الانتخابية6، ومن ثمّ نجد أن هناك مجموعة من العناصر يمكن من خلالها الحكم على نزاهة الانتخابات من عدمها، وهي كالتالي:

أ) حرية الانتخابات: فتعتبر الانتخابات حرة بالنظر إلى مدى السماح بالتعبير الكامل عن الإرادة السياسية للشعب، والتي تشكل أساس الحكم. ولكي تكون الانتخابات حرة فلابد أن تتوافر لها الحريات التالية: (حرية الرأي- حرية التعبير والإعلام- حرية التجمع السلمي- حرية تأسيس الجمعيات- المساواة دون تمييز).

ب) سلامة الانتخابات: وهي تعد من أهم شروط العملية الانتخابية الديمقراطية. ولكي تكون الانتخابات سليمة لابد من توافر الشروط التالية: الاقتراع العام المتساوي، وصوت واحد لكل شخص، وتوفير الضمانات بعدم التزوير والتلاعب، وعدم التمييز بين الفئات.

ج) نزاهة الانتخابات: ويقصد بالنزاهة هنا نزاهة الإجراءات، ونزاهة الآثار المترتبة عن الانتخابات، ونزاهة الاختيار الفعلي للناخب7.

4- الجماعات المشاركة أو المستبعدة من العملية السياسية:

هناك بعض القوى التي يكون من المفيد استبعادها من ممارسة دور سياسي في نظام ديمقراطي كالمؤسسة العسكرية بينما هناك قوى أخرى يسمح لها بالدخول في مجال المشاركة السياسية للتعبير عن وجهة نظرها وحماية لمصالحها ولإنجاح عملية التوفيق والمساومة التي تنطوي عليها الديمقراطية. ويمكن الإشارة إلى أن كثيراً من النظم الديمقراطية تلجأ إلى وضع قواعد دستورية تنص على حياد مؤسسات معينة كالقوات المسلحة خاصة إذا كان الجيش لا ينصرف عن الأمور السياسية من تلقاء نفسه8.

5- حرية الرأي والصحافة:

تحدّث العديد من الباحثين والسياسيين عن الحريات بشكل عام، وما يهمنا هنا هو حرية الصحافة وحرية الرأي بمعناهما الواسع، بمعنى حرية الوصول إلى المعلومات وحرية إبداء الرأي وحرية تبادل المعلومات والأراء.

ومعنى الحرية الفكرية أن يكون للإنسان قدرة على إظهار أفكاره بلا مانع في كل مادة فلسفية أو دينية أو سياسية أو غيرها. أما حرية الصحافة، فتعني أن لا تكون هناك رقابة من قِبَل السلطة على ما تنشره الصحف من أخبار وتحقيقات وأعمدة ومقالات وكاريكاتير.. إلخ، وتسهم بها في توعية الجماهير والرقابة على أجهزة الدولة ومحاربة الفساد ومناقشة السياسات العامة، وعرض مختلف الآراء المؤيدة منها والمعارضة، وهو ما يعد مؤشراً مهماً من مؤشرات التحول الديمقراطي9.

6- سيادة القانون Legal State :

يقصد بسيادة القانون أن تكون هناك مجموعة من القواعد التي تنظم الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المجتمع يلتزم بها الحكام والمحكومين. وهو ما يعني قيام الدولة على نظام قانوني يتصف بالعمومية، وذلك النظام من شأنه تنظيم علاقات المجتمع، حيث يتم الالتزام والقبول بالقواعد القانونية من قبل الحاكمين والمحكومين على حد سواء دونما تمييز10.

فخضوع الدولة للقانون ووجود قواعد قانونية تلتزم الدولة باحترامها دون أن يكون لها سلطة إلغائها أو تعديلها، هي الطريق إلى الديمقراطية. ولهذا ذهب أحد كبار رجال الثورة الفرنسية إلى القول بأن: “القانون سيد العالم، وسياج النظام الديمقراطي، الذي يجعل السيادة للجماعة وليس للحاكم، مع الاعتراف بحقوق الأفراد وحرياتهم واعتبارها حقوقاً مقدسة لا يجوز المساس بها، وتصونها السلطة وتحميها”.

كذلك فإن سيادة القانون هي الضمانة الأساسية لحقوق الأفراد وحرياتهم في مواجهة تعسف السلطة، وكفالة المساواة بين المواطنين دون تمييز بسبب الجنس أو اللون أو العقيدة، وبدون سيادة القانون لا يمكن قيام الديمقراطية، حتى وإن اجتمعت العناصر الأخرى.

فعند خضوع الحاكم والمحكوم لقواعد قانونية معروفة سلفاً، وتكون السيادة العليا في الجماعة للقانون وليست لإرادة الحاكم فإن ذلك يمثل ضمانة تكفل حقوق الأفراد في المجتمع وتضمن حمايتهم من تعسف السلطة إعمالاً لمبدأ خضوع السلطة لسلطان القانون. من ناحية أخرى فإن غياب سيادة القانون أو انهياره بسبب أعمال العصيان والتمرد والإرهاب يمثل عائقاً أمام التحول الديمقراطي، بل ومصدراً لعدم استقرار النظام ذاته وانخفاض شرعيته، ولذلك تعد سيادة القانون مؤشراً مهماً من مؤشرات التحول الديمقراطي11.

7- الوعي الديمقراطي (الثقافة السياسية):

فنجد أن الوعي الديمقراطي أو الثقافة السياسية الديمقراطية هي من أهم الشروط اللازمة لترسيخ الديمقراطية، بحيث يكون لدى المواطنين وعي كامل بحقوقهم وواجباتهم تجاه دولتهم. فشدد علماء السياسة على أهمية التوجهات الثقافية من أجل تطوير الديمقراطية وصونها، كما رأوا أن عناصر الثقافة السياسية يمكن أن تساعد في التغلب على المعضلات الأساسية للديمقراطية، مثل معضلة إيجاد توازن بين الصراع من جهة، والإجماع من جهة ثانية.

ويرتبط بأهمية انتشار قيم الثقافة السياسية المشاركة الواسعة للمواطنين في العملية الديمقراطية التي تعد من أهم الشروط أيضاً لنجاح وترسيخ العملية الديمقراطية، بالمقابل تصاب الديمقراطية بأشد أمراضها فتكاً إذا لم تحظ بأكبر وأوسع مشاركة شعبية، سواء في استخدام حق التصويت أو العضوية الإيجابية في الأحزاب وغيرها من منظمات المجتمع المدني، ففي غياب المشاركة على أوسع نطاق ممكن يتم اتخاذ القرارات السياسية بعيداً عن رغبات وحاجات الإرادة العامة أو غالبية الشعب. ولا يمكن كذلك ممارسة الديمقراطية بدون تحلي ممارسيها بخلق التسامح وقبول الآخر، حيث يساعد التسامح على تشجيع ظهور الآراء والأفكار البديلة وتعددها، والحوار من أجل الوصول إلى القرار الأفضل.

وبصفة عامة، فإنه يمكن القول إنه ومع تعدد المؤشرات التي يمكن الاستناد عليها لرصد وجود تحول ديمقراطي في بلد ما، بأنه لا مناص من وجود المؤشرات السابق ذكرها، فالعملية الانتخابية مثلاً لا يمكن تصورها بالمعنى السالف الذكر بدون وجود احترام الحريات المدنية والسياسية للمواطنين، كما أنها تتضمن مبدأ المشاركة السياسية، بمعنى أن القرار السياسي يكون محصلة أفكار ومناقشات الفئات المشاركة في العملية السياسية، كما أن حرية الإعلام والصحافة تتضمن وجود نوع من الرقابة والشفافية بجانب توفير قنوات الاتصال والتغذية الاسترجاعية بين الشعب والسلطة. أما سيادة القانون فهي الضمانة الأساسية لحقوق الأفراد وحرياتهم في مواجهة تعسف السلطة وكفالة المساواة بين المحكومين بغض النظر عن سلطتهم ونفوذهم لما تشمله تلك القوانين من أحكام عامة مجردة، فهو بصفة عامة الأداة التي تحقق الانضباط والاستقرار داخل المجتمع وبدون سيادة القانون لا يمكن قيام الديمقراطية وإن اجتمعت العناصر الأخرى، وتحديد الجماعات المشاركة في العملية السياسية يساعد على عدم تحويل مسار هذه العملية لخدمة أهداف فئة وغايات محددة، فضلاً عن أن الوعي الديمقراطي يعد هو الضمانة الرئيسية لنجاح وسلامة العملية الديمقراطية12.

——————————————-

الهامش

1 يوسف سلامة حمود المسيعدين، مرجع سابق، ص 30

2 حسن محمد سلامة السيد، مرجع سابق، ص 15

3 أحمد جمال عبد العظيم، مرجع سابق، ص ص 35- 36

4 علي سعيد صميخ المري، مرجع سابق، ص 51

5 حسن محمد سلامة السيد، مرجع سابق، ص ص 15- 16

6 أحمد جمال عبد العظيم، مرجع سابق، ص 34

7 علي سعيد صميخ المري، مرجع سابق، ص 49

8 حسن محمد سلامة السيد، مرجع سابق، ص ص 15- 17

9 علي سعيد صميخ المري، مرجع سابق، ص 51

10 أحمد جمال عبد العظيم، مرجع سابق، ص 36

11 علي سعيد صميخ المري، مرجع سابق، ص 52

12 أحمد جمال عبد العظيم، مرجع سابق، ص ص 37- 38

إيمان أحمد

باحثة مصرية، دكتوراه الفلسفة في العلوم السياسية، 2016، ماجستير العلوم السياسية 2008 جامعة القاهرة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى