
نشرت قناة “كاسبيان ريبورت“، وهي قناة جادة ومهمة على موقع “يوتيوب”، تنشر فيديوهات تتناول الجغرافيا السياسية والشئون العسكرية، في 14 سبتمبر 2025 تقريراً مرئياً بعنوان: “كيف يمكن أن تأتي الضربة الإسرائيلية على قطر بنتائج عكسية؟”
وقد جاء تقرير “كاسبيان ريبورت” على النحو التالي:
لقد تجاوزت إسرائيل -بهجومها على قطر- عتبة جديدة في تجاوزها للخطوط الحمراء. فلأول مرة، شنّت طائراتها غارة على مبانٍ سكنية داخل قطر، مستهدفةً القيادة السياسية لحركة حماس في قلب الدوحة. واستهدفت العملية التي نفذها الجيش الإسرائيلي وجهاز الأمن الداخلي (الشاباك) كبار المفاوضين من حركة حماس، خاصة خليل الحية وخالد مشعل، اللذين كانا، بحسب التقارير، يدرسان أحدث مقترح أمريكي لوقف إطلاق النار.
وعلى الرغم من نجاة الرجلين، إلا أن الغارة أودت بحياة خمسة على الأقل من مسؤولي حماس ذوي الرتب المتوسطة، وربما كانت هذه الغارة تستهدف آخر قناة جدية لمفاوضات وقف إطلاق النار في غزة.
وعلى مدى سنوات، كانت قطر محور الوساطة بين “إسرائيل” وحركة حماس، حيث عُقدت فيها صفقات أدت إلى إطلاق سراح كثير من الرهائن، ووُضعت خطط لوقف إطلاق النار في غزة. كما أنها المكان الذي تحتفظ فيه الولايات المتحدة بقاعدة العيديد الجوية، أكبر قاعدة جوية في الشرق الأوسط، والتي تضم آلاف الجنود الأمريكيين. وقد جعل هذا التوازن الدور القطري لا غنى عنه في هذا السياق. لكن الأمور تغيرت الآن. فقد قضى هجوم إسرائيل فعلياً على محادثات وقف إطلاق النار في غزة، وجرّد الضمانات الأمنية الأمريكية من قيمتها، وأثبت أنه لم يعد من الممكن اعتبار الملاذات الآمنة أمراً مفروغاً منه.
ومن المثير للاهتمام أن اجتماع حركة حماس نفسه كان بمبادرة من ترامب الذي حث الحركة على قبول شروط إنهاء الصراع. وقد غذى التوقيت مزاعم بأن العرض لم يكن يهدف أبداً إلى أن يكون خطوة حقيقية نحو التفاوض، بل كان وسيلة لجذب كبار مسؤولي حماس إلى مكان واحد والقضاء عليهم على الفور. ومنذ ذلك الحين، اتهمت حماس الولايات المتحدة بالتواطؤ في هجوم الدوحة.
وتتمتع قطر الآن بميزة غير عادية تتمثل في تعرضها للقصف من قبل كل من إيران وإسرائيل في غضون بضعة أشهر فقط. ويُذكر أن إيران استهدفت في 23 يونيو قاعدة العيديد الجوية رداً على ضربة أمريكية على منشآتها النووية. ومع ذلك، كانت إيران قد أبلغت عن الهجوم مسبقاً، مما منح قطر والولايات المتحدة وقتاً للاستعداد وتقليل الأضرار أو الخسائر.
لكن هذه المرة، مع الضربة الإسرائيلية، كانت الإشارات أقل وضوحاً بكثير عنه في حالة إيران. فوفقاً للبيت الأبيض، رصدت القوات الأمريكية طائرات إسرائيلية متجهة نحو الخليج، ولم تُبلّغ واشنطن قطر رسمياً إلا بعد بدء العملية. حيث تزعم إدارة ترامب أنها نقلت تحذيراً إلى الدوحة، لكن المسؤولين القطريين يُصرّون على القول بأن مثل هذه الرسالة لم تأتِ أبداً، أو على الأقل ليس في الوقت المناسب.
وتثير هذه الروايات المتضاربة أسئلةً أكثر من الإجابات على التساؤلات. فالرواية الرسمية تبدو لا معنى لها. فللوصول إلى الدوحة، كان على طائرات إف-35 الإسرائيلية عبور المجال الجوي الأردني، ثم المجال الجوي السعودي قبل إطلاق صواريخ بعيدة المدى فوق الأفق من مسافة آمنة، أي الطيران ما يُقارب 1700 كيلومتر في اتجاه واحد أو 3400 كيلومتر لرحلة الذهاب والإياب كاملة. وحتى مع وجود صواريخ بعيدة المدى، كانت المسافة ستكون كبيرة جداً بحيث لا تستطيع الطائرات اجتيازها بمفردها.
وبالإضافة إلى ذلك، ولأن هذه العملية كانت مهمة سرية خفية، فلم تكن طائرات إف-35 لتستخدم خزانات وقود خارجية، مما كان سيحد من مداها التشغيلي إلى حوالي 2100 كيلومتر. ولا يأخذ هذا التقدير في الاعتبار حتى الوقود الإضافي المحروق في المناورات الجوية أو الحمولة التي ستحملها الطائرة. كل هذا يعني أنه في مرحلة ما من رحلة العودة، لا بد أن الطائرات الإسرائيلية قد تزودت بالوقود جواً، وعلى الأرجح بواسطة ناقلات جوية تابعة للقيادة المركزية الأمريكية.
وبالمصادفة، فإنه في نفس وقت الضربة الإسرائيلية، كانت طائرة فوييجر البريطانية قد أقلعت من قطر، وحلقت في السماء هناك لعدة ساعات، ثم عادت إلى القاعدة. وقد أدى ذلك إلى تكهنات بأن بريطانيا زودت الطائرات الإسرائيلية بالوقود. إلا أن هناك مشكلة تقنية في ذلك… فأنظمة طائرة فوييجر الناقلة البريطانية وطائرة إف-35 إيه الإسرائيلية غير متوافقة، مما يجعل من المستبعد جداً أن تكون الناقلة البريطانية متورطة في تزويد الطائرات الإسرائيلية بالوقود.
وفي رواية أخرى، ووفقاً لصحيفة وول ستريت جورنال، تجنبت الطائرات الإسرائيلية المجال الجوي العربي تماماً بالتحليق فوق البحر الأحمر على الجانب الآخر من شبه الجزيرة العربية من قطر. ومن هناك، قال تقارير بأنها أطلقت صواريخ باليستية جوية انطلقت إلى مدار أرضي منخفض قبل أن تضرب الدوحة.
ومع ذلك، فحتى في هذا الوضع، كانت أجهزة الاستشعار بالأشعة تحت الحمراء الفضائية الأمريكية ستكتشف الصواريخ الإسرائيلية. كما أن المسافة كانت ستظل كبيرة جداً بحيث لا تتمكن الطائرات من إكمال رحلتها بدون دعم. وعلى سبيل المثال، فلا بد أن الولايات المتحدة رصدت العملية الإسرائيلية، سواءً عبر الأجواء السعودية أو البحر الأحمر، بل ووافقت عليها كذلك.
والأغرب من ذلك هو صمت الدفاعات الجوية القطرية حيال الهجوم. فالدوحة تمتلك بعضاً من أكثر الأنظمة تطوراً، بما في ذلك بطاريات باتريوت، وثاد، وصواريخ نيسام، وسكاي نيكس، بالإضافة إلى أسطول من طائرات إف-15، ورافال، ويورو فايتر. وكان من المفترض أن تكتشف هذه الأنظمة الطائرات والصواريخ القادمة قبل وصولها إلى العاصمة بوقت طويل، ومع ذلك، لم يتم تفعيل أي منها!!
ويشير غياب أي رد من هذه الدفاعات إلى أن القيادة القطرية، مثل إدارة ترامب، ربما كانت على علم بالعملية منذ البداية، وسواءً كان ذلك تحت ضغط أو ظروف، لم يكن أمامها خيار سوى تركها تمضي قدماً. إلا أنه يمكن في حالة إستخدام أنواع معينة من المقذوفات، ألا يمتلك النظام الدفاعي القطري القدرة للرد عليها. ومع ذلك، لا توجد طريقة للتحقق من أي من ذلك، إذ لا يسعنا إلا التكهن بالأمر بناءً على المعلومات المتاحة حالياً للعامة. ولكن وزارة الخارجية القطرية أدانت الضربة الإسرائيلية باعتبارها انتهاكاً لسيادة البلاد، وهو موقف رددته العديد من دول الخليج العربية الأخرى.
وحتى بالرغم من أن الضربة قد أخطأت أهدافها المقصودة، فقد أوصلت رسالة واضحة، مفادها أنه “عندما تشعر إسرائيل بتهديد لأمنها (كما تدّعي) فإنها لا تُبدي أي اهتمام يُذكر للخطوط الحمراء أو التداعيات الدبلوماسية“، فلم يعد من الممكن اعتبار الأماكن التي كانت تُعتبر ملاذات آمنة أمراً مفروغاً منه. وكان السفير الإسرائيلي لدى الولايات المتحدة قد أكد هذه النقطة بوضوح عندما قال: “إذا لم نُنفذها هذه المرة، فسنُنفذها في المرة القادمة”. حيث يشير هذا إلى أن إسرائيل مستعدة لتنفيذ اغتيالات في دول أخرى في جميع أنحاء المنطقة على الرغم من خطر رد الفعل الدبلوماسي الذي قد يزيد من عزلتها الدولية.
ويُذكر أنه بناءً على طلب الولايات المتحدة، وإسرائيل ضمناً، بدأت قطر باستضافة حركة حماس في عام 2010. وكانت الفكرة هي إنشاء مكان آمن حيث يمكن للمسؤولين الإسرائيليين وحماس إجراء محادثات خلال أوقات الصراع. وواصلت الدوحة لعب هذا الدور خلال حرب غزة، حيث كان قادة مثل خالد مشعل وخليل الحية يقيمون في المدينة غالباً. ومع ذلك، ففي السنوات الأخيرة، ازداد انتقاد كل من الولايات المتحدة وإسرائيل لدور قطر وعلاقاتها مع حماس.
وفي وقت مبكر من أكتوبر 2023، كان الدبلوماسيون القطريون يجرون بالفعل محادثات مع نظرائهم الأمريكيين حول ما إذا كان ينبغي تقليص علاقاتهم مع حماس بعد مفاوضات الرهائن. حيث أظهر هذا النقاش أن الدوحة كانت تشعر بالضغط وبدأت تنظر إلى علاقتها مع حماس على أنها مسؤولية بقدر ما هي ميزة.
ومع ذلك، فقد حققت الدوحة بعض النجاح الدبلوماسي، وأبرزها في نوفمبر 2023 عندما سمح وقف إطلاق النار المؤقت بالإفراج عن أكثر من 100 رهينة إسرائيلية. وتبع ذلك هدنة أخرى في يناير 2025، لكنها انهارت في غضون شهرين. ومنذ ذلك الحين، توقفت المفاوضات. وأصبح القادة الإسرائيليون، بمن فيهم نتنياهو، أكثر بجاحة، متهمين الدوحة بالفشل في ممارسة ضغط كافٍ على حماس لتحرير الرهائن المتبقين.
وبحلول نوفمبر 2024، وصل دور قطر كوسيط إلى نقطة الانهيار. حيث علّقت الدوحة جهودها، بحجة عدم جدية أو إظهار حسن نية في المفاوضات بين الطرفين، حماس وإسرائيل. ومع ذلك، وتحت ضغط من إدارة ترامب التي تولت الحكم في الولايات المتحدة، استأنفت قطر دورها في الشهر التالي. أما الآن، فقد جعل الهجوم الإسرائيلي فرص وقف إطلاق النار أقل كثيراً. حيث من المرجح أن تشدد حماس من موقفها بينما تواجه الدوحة ضغوطاً متزايدة لطرد قيادة الحركة من أجل الحد من الانتقادات الأمريكية وتجنب المزيد من الضربات الإسرائيلية.
ومع تعثر المفاوضات، لا تملك حماس حافزاً يُذكر للانخراط بشروط إسرائيل، ومن المرجح أن تنتقل الوساطة إلى مصر والولايات المتحدة، رغم أن أياً منهما لا يملك النفوذ اللازم للضغط على حماس للتوصل إلى اتفاق.
وفي غضون ذلك، تتزايد المخاطر بالنسبة لقطر. فإن استضافة المكتب السياسي لحماس دون أن تكون وسيطاً يجعل البلاد هدفاً أكثر عرضة للخطر، حتى لو ظلت الضربات الإسرائيلية محدودة، مقارنة بحملاتها في لبنان وسوريا. وكل هذا يزيد من احتمالية إخراج الدوحة لقيادة حماس، مما يعني أن الصراع في غزة سيستمر في المستقبل المنظور مع توسع إسرائيل في عملياتها العسكرية في القطاع. وهكذا، فمع (احتمالية) تراجع الدوحة عن دورها كوسيط، فإنه يُمكنها التفكير في التواصل مع شركاء أمنيين جدد مثل تركيا، وفي الوقت نفسه، السعي إلى تسوية أوثق مع السعودية ودولة الإمارات.
يُذكر أنه خلال الحصار الذي قادته السعودية والإمارات على قطر في عام 2017، لجأت الدوحة إلى القوات التركية بدلاً من القوات الأمريكية للمساعدة من أجل منع غزو محتمل لها من جيرانها. ومنذ ذلك الوقت أصبح لدى تركيا مئات القوات التي تتمركز في قاعدة عسكرية لها في قطر، وفي المستقبل القريب قد تلعب تركيا أيضاً دوراً أكبر في الدفاع الجوي لدولة قطر.