تقاريرمجتمع

مصر العسكرية وأغاني الحروب الوهمية

“كل التطبيل والدعايات للحرب، كل الصراخ والكذب والكراهية، تأتي دائما من الناس الذين لن يذهبوا إلي الحرب ” جورج أورويل 1

مقدمة:

مرت على العالم حروب عديدة كانت الضحية فيها هي الشعوب، ضحية قرارات الحكام والعسكريين في البلاد والتي لم ينجو منها أحد، ففي الوقت الذي استخدمت السلطات الإعلام والفن والأغاني كوسيلة للتأثير في الشعوب لإخضاعهم للتسليم بالحرب والمشاركة فيها بل وتحمل نتائجها راحت الشعوب تغني حزنها وفرحها وانكسارها بالنصر أو الهزيمة التي تجرها الحرب عالمية كانت أو عربية، أو حتى حربا أهليه، وهمية كانت أو حقيقية، مع عدو خارجي أو مع عدو صُنع على أعيننا من أبناء الوطن الواحد لا يهم فالأهم هو التغني بنشوة النصر والفرح حد التخدير.

وليس ببعيد أغاني نكسة 67 وأغاني الحرب الأهلية بلبنان، وبالأمس القريب أغاني مجازر الوطن الواحد “تسلم الأيادي”، وأغاني التقسيم والتمزيق للجسد العربي من دول التحالف العربي لدولة عربية شقيقة من “قولو لقطر” و”علم قطر” وغيرها، ومن تهديدات الحرب بين مصر وتركيا مؤخرا والتي استخدمت فيها كل آلات وأدوات النفخ النحاسية والخشبية وحتى الورقية المصنعة لإشعال الحرب حتى اللحظة الراهنة، إذا فلتدق الطبول أو حتى الصاجات على وقع النصر أو الهزيمة أو الدمار.

ونتعرض في بحثنا هذا لدور الموسيقى والغناء في بعض النماذج من الحرب العالمية ومردود الشعوب الغربية والحكام عليها. ومن ثم نتناول بعدها أغاني الحروب العربية مع العدو الصهيوني وبعض الحروب الأهلية العربية لحرب لبنان وأغاني النكسة، إلى دور الأغنية في تغيير عقيدة الجيوش والعدو الجديد لها.

الحرب والدعاية والحرب النفسية

كتب د. فيليب تايلور في مقدمة كتابه قصف العقول وتحت عنوان الحرب والدعاية والحرب النفسية: الحرب في جوهرها تبادل منظم للعنف. والدعاية في جوهرها عملية إقناع منظمة. وبينما تهاجم الأولى الجسد فإن الثانية تنقض على العقل، الأولى حسية والثانية نفسية. وفي زمن الحرب تهاجم الدعاية والأعمال الحربية النفسية جزءا من الجسد لاتستطيع الأسلحة الأخرى أن تصل إليه في محاولة للتأثير في طريقة أداء الأطراف المشاركة في ميدان القتال.

 فالدعاية تقوم بدور أساسي في إقناع الناس بأن يخاطروا بحياتهم مهما كانت الأسباب أو القضية. والمقصود بالدعاية هنا؛ أي المحاولة المتعمدة المدبرة لإقناع الناس بأن يفكروا ويسلكوا بالطريقة المطلوبة. ويكمل الكاتب: وأعترف بأن الكثير من الدعاية يأتي بالمصادفة عرضا أو بعيدا عن الوعي. ولكنني أناقش هذا القرار العقلاني الواعي باستخدام وسائل للإقناع صممت لتحقيق أهداف محددة من أهداف الحرب. ويحكم على الدعاية بأنها نشاط يرغم الناس – بشكل ما – على أن يفعلوا شيئا كان يمكن ألا يفعلوه لولا وجوده.

ويهتم البحث هنا بوسائل وطرق الدعاية وتأثيرها في الناس وليس بالغايات أي ليس بالسؤال الأساسي عما إذا كانت الحرب صوابا أم خطأ.

والدعاية قد تجري في محادثة خاصة أو في مسيرة حاشدة، في دار للعبادة أو في السينما مثلما تجري في ميادين للقتال وهي قد تتخذ شكل تمثال أو مبنى أو قطعة من النقود أو رسم أو راية أو طابع بريد.. فالدعاية ببساطة هي عملية يجري من خلالها توصيل فكرة أو رأي ما إلي شخص آخر من أجل غرض محدد وليست هناك أهمية في سبيل تعريف الدعاية لماذا اتخذت شكل الخطاب أو المواعظ أو الأغاني أو الفنون أو الأغنية ولماذا حملتها موجات الراديو أو صور التليفزيون؟ ولماذا كانت موجهة إلى شخص واحد أو إلى الملايين من الناس؟ وفي زمن الحرب تقوى مشاعر حب الوطن أو الوطنية وتعلو فوق كافة المذاهب السياسية أو الإقتصادية.

دور الموسيقى في الحروب العالمية

لطالما لازمت الموسيقى الحرب على مر التاريخ، يستعين بها الجنود على شبح الموت الذي يحاصرهم، يستبدلون أصوات الانفجار بنغماتٍ عذبة، وملمس معدن البندقية، بالأوتار الموسيقية.

فالموسيقى من أقوى أشكال الفن، ربَّما أقواها جميعًا. يمكن لبعض نغماتٍ موسيقية أن تلهب حماس الآلاف. ولأسباب واضحة، كان هذا النوع من الفن مناسبًا لاستخدامه في الحروب والنزاعات. 

أحدثت ثقافة البوب في أواسط القرن العشرين تغييرات اجتماعية عميقة. وارتبطت ثقافة البوب المسالمة مع شعار “لا للحرب” في ألمانيا، وغذت أكبر المظاهرات الحاشدة منذ الحرب العالمية ضد قرار حلف شمال الأطلسي المعروف بـ “القرار المزدوج”، بمشاركة عازفي بيانو وجيتار ومؤلفي أغاني. كانت تلك المقاومة اللاعنفية وفق تعاليم غاندي والعصيان المدني السد المنيع في مواجهة نشر الصواريخ النووية في ألمانيا.

)Bella Ciao) أغنية بلا تشاو من الفلكلور الإيطالي وعرفت الأغنية من قبل حركة المقاومة التي تشكلت ضد النازية.

كانت موسيقى فريدريك شوبان رمزًا قوميًّا بالغ الأثر إلى الحد الذي دفع بالألمان إلى وضع موسيقاه على القائمة السوداء في بولندا وحدها في عام 1941، خوفًا من إثارتها النزعات القومية البولندية ضد الاحتلال النازي.

استخدم الإنسان الموسيقى في الحرب من قديم الأزل2. الأناشيد وموسيقى المارش كانت وما زالت تمثل جزءًا أصيلًا من الجيوش العسكرية. في كتاب «فن الحرب» يتغزَّل مكيافيللي في الأبواق باعتبارها أداةً تكتيكية تبعث بالإشارات إلى الجنود في ميادين القتال مخترقة ضوضاء المعركة. قبلها استخدم الرومان الآلات الموسيقية في التواصل وإعداد التشكيلات العسكرية، وإلهاب حماسة الجنود. وكان للموسيقى دور في الحرب العالمية الثانية استخدم الحلفاء سيمفونية بيتهوفن الخامسة رمزًا للمقاومة ضد الألمان

وفي 1942، عزف شوستاكوفيتش سيمفونيته السابعة للمرة الأولى في أثناء حصار ليننجراد (سانت بطرسبرج الحالية). أكل الناس الجلود واصطادوا القطط والكلاب، وحصدت المجاعة أرواح كثيرين. لكنهم لجؤوا إلى الموسيقى وسط كل هذا، لتصبح سيمفونية شوستاكوفيتش رمزًا للمقاومة وتحدي الحصار، لرفع معنويات أهل ليننجراد. 

ويمكن لنشيد ثوري صادق يتغنَّى به الشعب ترتجف له الأنظمة السلطوية وتسعى إلى إسكاته، كما حظرت الصين في عهد ماوتسي تونج كل الفنون التي لا تخدم الاحتياجات الأيديولوجية للدولة، واشترط الاتحاد السوفيتي موافقة الرقابة على كل الأعمال الموسيقية المنشورة، فالثورات تقوم على الأمل، والموسيقى لا تفك حصارًا أو تسقط حكومة، أو تغير السياسات الأمنية، لكنها تشد من عضد الناس وتلهمهم، في سبيلهم إلى فعل كل هذا.

كاتيوشا.. أيقونة الحرب العالمية الثانية

لعبت الأغنية دورا كبيرا في التعبير عن أثار الحرب على الشعوب رغم ما خلفته الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945) لأكثر من 60 مليون قتيل. فهي إحدى الحروب المدمّرة التي شهدها العالم في قرنٍ مليءٍ بالدمار والخراب، فقد أحدثت هذه الحرب نقلةً نوعيةً على مستوى العالم بأسره على حساب العديد من الضحايا من مختلف أنحاء العالم؛ ما بين الدول العظمى في العالم والذين انقسموا إلى حلفين، هما؛ الحلفاء والذين كان على رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، والمملكة المتحدة، والاتحاد السوفيتي، وفرنسا، والصين، وغيرها، ودول المحول وعلى رأسها ألمانيا النازية، وإيطاليا، واليابان.

كاتيوشا أغنية يبدو الحزن واضحا في تناولها ولكنه حزن مشوب بأمل يظهر من خلال الكلمات واللحن 3، كتب الأغنية الشاعر ميخائيل إساكوفسكي، المولود عام 1900 بمحافظة سمولينسك في الاتحاد السوفيتي، كاتب الكثير من القصائد والأغاني، أشهرها وأكثرها انتشارًا قصيدة “كاتيوشا للمؤلف الموسيقي “ماتفي بلانتر”، وهو واحد من أبرز الملحنين للأغاني الشعبية وموسيقى الأفلام في الاتحاد السوفيتي، إذ أنتج أكثر من 2000. واستخدم مقام النهاوند في اللحن لتضفي على المستمع إحساسًا بالسعادة والحزن في آن واحد.

تتلخص قصة الأغنية في انتظار كاتيوشا لحبيبها الجندي الغائب لخدمة بلاده خلال الحرب العالمية الثانية، إذ غادر الكثير من الرجال زوجاتهم للمشاركة في الحرب أرض الوطن، بينما تحولت الأغنية فيما بعد لشرارة فجرت حماسة المقاومين في أماكن مختلفة من العالم ضد الاحتلال، والأنظمة المستبدة. أطلقت الأغنية للمرة الأولى خلال حفل أوركسترا موسيقى الجاز التابع للدولة في خريف عام 1938، وبدأت شعبية الأغنية تتصاعد مع تدخل الاتحاد السوفيتي في الحرب عام 1939، عندما غنتها طالبات من كلية موسكو كوداع لمجموعة من الجنود المشاركين في الحرب. ومما يدل على أهمية الأغنية ودورها أنها أخذت طابعًا وطنيًا ساهم في إلهام الكثيرين، كما أطلق اسم الأغنية “كاتيوشا” على نوع من قاذفات الصواريخ السوفيتية التي استخدمها الجيش الأحمر خلال الحرب.

فكانت كلمات الأغنية:

كانت أشجار التفاح والخوخ،

وفوق النهر يهبط الضباب،

صعدت كاتيوشا الصبية على حافة الجرف،

والنهر يغلفه الضباب،

على حافة النهر بدأت كاتيوشا تغني،

عن النسر الرمادي الشامخ في السهول،

وعن الذي تحبه كاتيوشا،

وتصون رسائله إليها،

أيتها الأغنية،

الأغنية الساطعة عن الصبية العذراء،

طيري إلى حدود الشمس، طيري مثل طائر،

إلى الجندي البعيد عند الحدود،

من كاتيوشا أوصلي السلام،

لعله يفكر بالعذراء القروية،

لعله يسمع أغنية كاتيوشا،

وكما تحرس أرض الوطن العزيز،

سوف تحرس كاتيوشا حبها إلى الأبد. 

كاتيوشا بلغات العالم

لم تصل “كاتيوشا” إلى الجندي البعيد فحسب، إنما وصلت إلى جنود ومقاومين آخرين في أماكن بعيدة كثيرة أيضًا، خصوصًا حين جرى استخدام لحنها بكلمات أخرى من لغات مختلفة

فبعد انطلاقها بالروسية، تم غناء “كاتيوشا” بالإيطالية بنفس اللحن تحت عنوان “صفير الريح”، كتب الطبيب الشاب، فيليس كاسكيوني، كلمات الأغنية بالإيطالية، التي تحرّض الحركة الحزبية على الانتقام الشديد رغم قسوة الموت، والاستمرار في المسير رغم أن الأحذية قد تقطعت، وصولًا إلى شمس المستقبل بقلب وضربة قويتين، في كل بلد هو موطن للمتمرد، وتضيء النجوم له الطريق لترشده أثناء الليل.

كان ذلك خلال مقاومة الثوار الإيطاليين للقوات الألمانية والفاشيين الإيطاليين، بعد أن استسلمت حكومة “بادوليو” أمام الحلفاء، وسيطر الألمان على روما وشمال إيطاليا، وقام نظام فاشي تحت قيادة “موسوليني. الرابط

 “Anthem of EAM” ، و” EAM” هو اختصار لـ ”جبهة التحرير الوطني”، التي كانت الحركة الرئيسة للمقاومة اليونانية خلال مواجهة الغزو الألماني. وأشادت كلمات الأغنية بالحركة التي أنقذت الشعب اليوناني من الجوع كما ستنقذه من العبودية، ووحدت كل الأطياف، فيما كانت كل فئات الشعب تعمل بأمانة وتهتف باسم الحركة.. الرابط

أما في الصين فقد كانت “كاتيوشا” واحدة من أكثر الأغاني شعبية شهرة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث غناها الجنود الصينيون. كما غناها الصينيون مع تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949، نظرًا لتأثر جمهورية الصين بالاتحاد السوفيتي خلال النصف الثاني من القرن العشرين.

وعلى شاكلة “كاتيوشا”، فقد انتشرت أغان كثيرة بين المناضلين في العالم مثل الأغنية الإيطالية “يا حلوتي وداعًا” التي رددها مقاومون إيطاليون لنظام “موسوليني” الفاشي إلى جانب “نشيد الأنصار” وهو نشيد فرنسي كتب كلماته ضابط كان قد نجا من قصف ألماني، وأغان أخرى تؤكد قدرة الموسيقى على خلق حالة إيجابية مناهضة للحرب وتبعاتها

أما عربيًا؛ فقد لاقت الأغنية رواجًا بعد أن انتشرت في العالم بلحنها السهل والمعبر، كما عزفها “فريق الموسيقات العسكرية المصرية”، في إطار مشاركته الأولى بفعاليات المهرجان الدولي العاشر للموسيقى العسكرية “برج سباسكي” في 24 أغسطس 2018. الرابط

وخلال فعاليات المؤتمر الصحفي الذي نظمته إدارة المهرجان لقادة الوفود المشاركة، أكد اللواء، حلمي أحمد خطاب، مدير إدارة الموسيقات العسكرية على أهمية المهرجان الدولي الذي يمثل بيئة خصبة تمتزج فيها الفنون والثقافات الإنسانية بمختلف أشكالها، وفرصة للتنافس من أجل إدخال السعادة والبهجة إلى قلوب الجماهير، ونشر رسالة الخير والسلام بين شعوب الإنسانية.4

وكان قائد الوفد المصري قد وضع باقة من الزهور على النصب التذكاري لشهداء الحرب الوطنية العظمى داخل حديقة “ألكسندر”، وسط العاصمة موسكو، ضمن قادة الفرق والوفود المشاركة بالمهرجان. الرابط

كاتيوشا السورية.. تواجه القصف الروسي

الأزمة في سوريا دفعت الكثيرين نحو إنتاج أنواع جديدة من الفن، إذ استخدم السوريون النحت، والرسم، والكاريكاتور، وحتى الأغاني الوطنية تعبيراً عن غضب من جهة وحبهم لوطنهم من جهة أخرى. وعلى عكس مشاركة الوفد المصري للفرق العسكرية وحفاوتهم وعزفهم بموسيقى كاتيوشا، أطلق الفنّان السوري محمد آل رشي، والفرنسية “كاترين فانسان” أغنية “الكاتيوشا السورية”، على إيقاع أغنية “كاتيوشا” المشهورة للمغنية الروسية ليديا روسلانوفا، التي يفاخر فيها الروس بشجاعة وصمود جنودهم، وسبق للتلفزيون الحكومي السوري بثّها مراراً كتحية لهم مما أدى لدهشة الكثير رغم أن لسان حالهم أن لا غرابة في هذا التصرف. وعن “كاتيوشا السوريّة” قالت المغنية الفرنسية كاترين “تجاوبنا مع طلب شبكة (جيرون) لمواجهة العدوان الروسي على السوريين، ووجدنا من المناسب أن نستخدم ذات الأغنية التي غنّاها الروس يوماً ما لتشجيع جيشهم، أي استخدام سلاحهم الدعائي ذاته بهدف السخرية منهم. 5

وحول جدوى تأثير الأغاني في مواجهة العنف الطاغي على المشهد السوري الدامي؟! أجابت كاترين: “نحن نعلم أنّه لا يمكن لأغنية أن تغيرّ العالم، لكننا موسيقيون وهذا سلاحنا.” الرابط

“إيفان: كيفك يا كاتيوشا يا حياتي

عم حاكيكي من مطار حميم

عكل صاروخ بكتبلك رسالة

يا كتيوشا.. أنا أحبك

كاتيوشا: إيفانوشكا يا بطل الأبطال

ما بتصدق أديش فخورة فيك

اشتقتلك بس معلش يا حياتي

روح واقتل كل الإرهابيين

إيفان: خلي رجليكي واديك بمي باردة

إيفانشوشكا قتل كل البشر

بالسارين والنابالم يا كاتيوشا

واسمك فوق متل زخ المطر

كاتيوشا: ولا تنسى الكنايس والجوامع

والأفران والمشافي كمان

وفي عندك قوافل إنسانية

 شو رأيك تمحيهن يا إيفان

وبعد انفجار هائل ودخان كثيف نسمع صوت سوري من الداخل

صوت سوري: ليك ولا، أنت ورجلي كتيوشا

رسايلكم وصلتنا من حميميم

بس لسا في كام حارة وكام دخلوجة

ولادا كاسرين راس صاحب الكرملين

بس لسا في كام حارة وكام دخلوجة

ولادا زاحفين على قصر المهاجرين

بهذه الكلمات في أغنية سورية تحاكي أغنية روسية وطنية، تعد نسفًا للمعنى الذي حملته الأغنية الروسية واستبداله بمعنى جديد يقلب المعادلة رأسًا على عقب، إضافة إلى ما تضمنته من أداء فني يمتزج فيه الضحك والبكاء. الدم السوري يراق هنا من الجيش الروسي نفسه، وعلى يد الجندي الذي راحت الفتاة “كاتيوشا” تنتظر عودته من وراء الحدود، والأداء الصوتي الذي اعتمده الثنائي “آل رشي” و ”كاترين فانسان” ينم عن سخرية وتهكم على معاني أغنية كاتيوشا الروسية، فجاءت المشاهد المصاحبة لكلمات الأغنية بالأحمر والأسود، لتختصر تاريخ الجيش الروسي منذ ظهور سلاح “الكاتيوشا” في الحرب العالمية الثانية.

وقد وظف “آل رشي” و”فانسان” أغنيتهما بطريقة مبتكرة؛ إذ جعلا “إيفان” الجندي الروسي يكتب رسائل الحب لحبيبته “كاتيوشا” على الصواريخ، ويزف لها إنجازات الجيش الروسي من مطار حميم في سورية، وما حققه من قتل وتدمير للحجر والبشر. بهذه الوحشية يعبر “إيفان” عن مدى حبه واشتياقه لحبيبته “كاتيوشا”، ولا يختلف رد فعل “كاتيوشا”؛ فهي بدورها تبدي سعادتها وسرورها من هذه الإنجازات، ومن تلك الأخبار التي تصلها من حبيبها. وكي تبادله الحب بالمثل، تتمنى عليه قصف الكنائس والمساجد والمدارس والمستشفيات وقوافل المساعدات الإنسانية، كي يغدو حبهما منتشيًا بكؤوس الدم. إن مثل هذا الإفراط والهيام بالقتل، والاعتياد عليه من عاشقين روسيين، ينسف مفاهيم الفخار الوطني الروسي، وأعراف جيشه، نسفًا كاملاً، إذ يمكن للجندي الروسي وكما هو حاصل الآن في سورية أن يمارس الحب ويتغزل بحبيبته، وهو يقدم على قتل الأبرياء، ويمارس أقسى أنواع الإجرام، بحيث كلما تعاظمت الجرائم وتضاعف عدد الضحايا غدا الحب أكثر صدقًا وشغفًا، فها هي الحبيبة “كاتيوشا” في التوظيف الفني لـ “محمد” و” كاترينا” تتمنى على حبيبها “إيفان” مزيدًا من القتل والإجرام كي يصبح أكثر جمالًا وبطولة.

ومما لا شك فيه أن حوارًا كهذا الحوار بين حبيبين يستمتعان بعشقهما فوق ركام جثث الأطفال والنساء ما هو إلا تفكيك وتحطيم لكل انتصارات الجيش الروسي، وهذا ما اشتغل عليه “آل رشي” و”كاترينا فانسان”؛ حتى إن المتابع لأغنية كاتيوشا السورية يكاد يود لو أن كل المعارك والحروب التي خاضها الاتحاد السوفيتي منيت بالهزيمة؛ كي لا يكون نصرها جحيمًا على السوريين، وعلى الرغم من مرارة وسطوة هذا الجحيم يظهر في الأغنية طرف ثالث، أوتي به ليحطم الحوار الثنائي الدائر بين “إيفان” و”كاتيوشا” إنه صوت آتٍ من الداخل السوري، جاء ليفكك أسطورة العشق هذه بسخرية واستخفاف، مشيرًا إلى أن هناك “كم حارة وكم دخلوجة وكم طفل” نجو من الإجرام الروسي، وهم من سوف يكسرون رأس بوتين لتحرير العالم من هذا الفكر الهمجي ومن الروح الإجرامية. 

حرب فيتنام.. أغنية المقاومة ضد المستعمر

علينا أن نفرَّ من هذا المكان، ولو كان هذا آخر ما نفعله في حياتنا، علينا أن نفرَّ من هذا المكان، لأنه، يا فتاة، هناك حياة أفضل بانتظارنا.

ومن الحرب العالمية الثانية إلى حرب فيتنام الحرب التي خلفت 2 مليون قتيل فيتنامي خلال سنوات الحرب الثماني ضد أمريكا، و3 مليون جريح وحوالي 12 مليون لاجئ.

وكما اشتهرت أغنية كاتيوشا الروسية في الحرب العالمية الثانية ورددها العالم تحولت أغنية أعضاء «ذي أنيمالز» بعنوان “علينا أن نفر من هذا المكان” عام 1965 ذات الإيقاع الراقص في غضون سنوات قليلة إلى واحدة من أكثر أغاني الجيل ترديدا على الجبهة خلال حرب فيتنام لدرجة خروج نغماتها من إذاعة القوات المسلحة الأمريكية وتحولها إلى شريط الصوت المصاحب للحرب. الرابط

فيتنام.. حرب الروك آند رول

تداخُل موسيقى الروك مع السياسة وتورُّطها في حرب فيتنام لم يكن اعتباطيًّا قَطُّ، بل إن سفر تلك النغمات ذات الإيقاع الصاخب وتردّدها على طول الجبهة في فيتنام كان أقرب ما يكون إلى آلية دفاع، وسيلة تأقلم طورها المجندون للتكيف مع حرب لم يرد أي منهم خوضها.

جيل كامل تقع غالبيته في الفئة العمرية من 19 إلى 23 عامًا تورَّط في الحرب، تحديدًا الجيل الذي شبَّ على موسيقى الروك، التي سطع نجمها قبل اندلاع الحرب بعقد واحد. أقدام تطأ ميدان القتال بدلًا من الجامعات، وأياد تتدرب على حمل المدافع، في حين أن أيًّا منهم لم يرِد مغادرة موطنه.

كان البديل هو حمل ما يذكرهم بالبيت، عن طريق اصطحاب أغنياتهم المفضلة إلى ميدان القتال، أغنياتهم التي انتمت إلى الروك بطبيعة الحال لأن الجيل بأكمله شبَّ على هذا النوع من الغناء، وهو ما سمحت به السلطات لرفع الحالة المعنوية لجنودها، حتى إن الإذاعة كانت تبثُّ الروك في مخيَّمات الجنود طوال الوقت.

على الجانب الآخر، داخل البيوت الأمريكية، فإن ظهور الميديا المرئية وانتشار التليفزيون وسيلةً لتناقل الأخبار السياسية وشيوعه في كل المنازل من منتصف الأربعينيات تقريبًا خلق حالة من التشكُّك في نفوس المواطنين. الرابط

وعندما بُثَّت صور ومشاهد حيَّة من حرب فيتنام على الشاشة للمرة الأولى، بدأت أسئلة الجماهير في الظهور، تساؤلات شتَّى حول طبيعة تلك الحرب التي أخذت أبناءهم والأسباب الداعية إليها، تساؤلات لم تُشبعها إجابة «محاربة الشيوعية»، خصوصًا أن الغالبية العظمى لم تكُن ترى أسبابًا حقيقية لخوض حرب جديدة تكلِّف خسائر مادية ومعنوية.

ببساطة، لم يعد المواطنون يصدِّقون كل ما تقوله الحكومة، فكانت الحاجة إلى البحث عن إجابات لأسئلتهم، أو حتى وسيلة لطرح تلك الأسئلة. الرابط

الأغنية والموسيقى توحد ما أفسده المستعمر والمستبد

الإيقاع والطاقة واهتزاز أوتار الجيتار الصارخ هي أكثر ما عكس درجة التخبُّط التي يعيشها الجنود داخل الغابات في فيتنام، وهي أيضًا أكثر ما عبَّر عن ارتباك الجيل الأمريكي الناشئ. ومع تصاعد الأسئلة المستمر، وفي فترة يتحسس خلالها جيل كامل خطواته سعيًا لمستقبل أفضل، كانت المعارضة هي الحل.

تمثلت تلك المعارضة في الحركات الاحتجاجية، ومن بين أشكال تلك الحركات تبلورت موسيقى الروك والبوب. اعتلى الفنانون منصَّات المظاهرات وشرعوا في الغناء، لتصبح صوتا معبرًا عن جيل متخبط ومرتبك وتفرض نفسها كأحد أكثر أشكال الاحتجاج رواجًا ورسوخًا

استفاد الروك من حرب فيتنام بدرجة كبيرة. قبل فيتنام كانت موسيقى الروك بطبيعتها الصاخبة عبارة عن شحنات غضب متراكمة في جوف الشباب لا تجد لها تبريرًا، لكن مع بداية الحرب بدا الأمر كأن كل هذا الغضب المتراكم قد وجد لنفسه معنًى، سياقًا، جهةً مناسبة لتفريغه، فلم تعد مجرَد أغنيات غاضبة يصرخ بها بشر حانقون، بل اكتسبت أصالةً تمنح أصحابها ترخيصًا لمزاولة هذا الغضب وتوجيهه. الرابط

الإضافة إلى ذلك، حصلت استفادة أخرى للموسيقى والغناء من ظروف حرب فيتنام ومناهضتها بشكل أثراها إلى حدٍّ كبير، فصحيح أن معظم الأغنيات كانت معارضة، لكن أسلوب وأسباب ونبرة الاعتراض نفسها كانت تختلف من أغنية إلى أخرى، ومن مغنٍّ إلى غيره.

الحرب مسألة كبيرة متداخلة الأطراف، ومع استمرارها عقدًا كاملا من بداية الستينيات إلى بداية السبعينيات، كان من الطبيعي أن ترتبك الحركات المعارضة بشأن الجهة التي ينبغي إلقاء اللوم عليها وكيفية إيجاد حل. كان هذا هو التشتُّت الذي نجحت الموسيقى وحدها في محوه، فقد تتشعب الاحتجاجات والمظاهرات، لكن الجميع كانوا يرددون الأغنيات نفسها.

سأموت كخِرقة: ضد من؟

لم تكُن الأغاني تسير وَفْق نهج ثابت، كذلك كانت نبرة الاعتراض ارتجاليةً بقدرٍ ما، يغنُّون ضد الموت، أو ضد الحرب، أو ضد الحكومة نفسها. وكلما زادت المذابح في فيتنام جاءت الأغاني أكثر صراحة وغضبًا، وصولًا إلى أغنية «كانتري جوي” أشعر أني سأموت مخرقة”.

يحكي جوي بصراحة تامَّة عن الموت في فيتنام، هنا لا توجد مواربة، ولا توجد مجازات. لا يُعنَى جوي بالجمال ولا يحاول توظيفه، وإنما يتعمد استخدام كلمات جافة قاسية لا تحاول الترفُّق كالتي نستخدمها في حواراتنا اليومية، وبسخرية لاذعة يخاطب أمهات الجنود الشباب ليشحِنَّ أبناءهنَّ إلى فيتنام حتى يعودوا إليهن مرة أخرى في صناديق خشبية. الرابط

الأمر نفسه تكرَّر مع أغنية «The Eve of Destruction» (عشِيَّة الدمار) لـ “باري مغواير” (Barry McGuire) التي تناولت الموت ولكن من المنظور الآخر، لا انحيازًا إلى المجندين الأمريكيين أو تعاطفًا مع موتهم، بل على العكس جاءت الأغنية تُبدِي انحيازها الواضح لضحايا فيتنام، وبإدانة صريحة للسلطة الأمريكية

يردد في الأغنية (أنت كبير بما يكفي لتقتِل، لا لتُصوِّت في الانتخابات)، إشارة إلى أن الشباب كانوا يُرسَلون إلى الحرب فور إتمامهم الثامنة عشرة، في حين أنهم ﻻ يُمنحوا حقهم في التصويت لا يكون إلا بعد الحادية والعشرين. الرابط

كان لمؤدِّي الروك نبرتهم الزاعقة، وسيلتهم الخاصة لرفض الحرب من منظور شخصي. الشعب كله كان غاضبًا، بجميع فئاته وطبقاته الاجتماعية، والأكثر حظًّا أو ربما الأقل، هم من يمتلكون ميكروفونًا لتبليغ اعتراضهم هذا.

ومثلما استمع الشعب إلى الروك، استمعت السلطة بكل عناصرها أيضًا. ومثلما مُنعت أغان مُنع فنانون آخرون من الغناء نهائيًّا.

أما المغنية جون بايز التي كانت معروفة بنشاطها الحقوقي المعارض للحرب لدرجة امتناعها عن دفع الضرائب «لأنها تموِّل الحرب في فيتنام»، فكانت الحكومة أكثر صرامة تجاهها لدرجة أمر الجيش بمنعها من الذهاب إلى الجبهة والغناء للمصابين، خوفًا من تأثيرها على الحالة المعنوية للجنود هناك. الرابط

وكان أقصى درجات تكميم الأفواه كانت بمنع جودي كولينز من غناء أغنية “أين راحت كل الزهور؟” خلال محاكمة مجموعة من النشطاء الحقوقيين والمناهضين لحرب فيتنام بتهمة التآمر ضد الدولة.

موسيقى الروك وتأثيرها في وعي الشعوب

موسيقى الروك جاءت لتوحيد الوعي العام، إلا أن هذا الوعي كان رافضًا للحرب من البداية، فجاءت الموسيقى لتصبح مرآة عاكسة لذلك الرفض، أقرب لذاكرة توثيقية، أو معايَشة لقلق الشعب وارتباكه وتقلُّب ردِّ فعله تجاه الحرب التي تأكل أبناءه واحدًا بعد آخَر.

مثلًا، في عام 1964، وقت صدور وثيقة حرب فيتنام التي تمنع طلبة الجامعات من الانضمام إلى الجيش مقابل اختيارها أبناء الطبقة الفقيرة، حاولت الموسيقى معايشة هذا الشأن، فجاءت أغنية «Draft Dodger Rag» لتحاول إيجاد حلٍّ للتهرُّب من الخدمة العسكرية، بإيقاع ساخر قليلًا إلا أنه واضح في تحريضه. الرابط

لم تغير أغنيات فيتنام منظور الشعب، وإنما أوضحت له الصورة فقط، استحثَّت تعاطفه أحيانًا، شرحت له أبعاد الموقف في أحيان أخرى، وجَّهت اللوم تجاه الحكومة والساسة، اقترحت أشكالًا مختلفة أكثر سلمية لمناهضة الحرب.

كل هذا أكسب تلك الأغنيات أصالةً حقيقية ضمِنَت استمراريتها حتى يومنا هذا، لم تعُد مجرَّد ضوضاء مزعجة كما كان الغالبية يرونها، بل صارت لسان الشعوب وحلوقهم الزاعقة، نبرةً تختلف عمَّا يتردَّد في التليفزيون، تيَّارًا معاكسًا، حنجرةً تستطيع أخيرًا تحويل كل هذا الغضب الذي راكمته سنوات الحرب إلى كلمات، ولحن، وإيقاع. الرابط

ختام

الاغنية والموسيقى قادرة على تجسيد العاطفة والغضب والوقوف ضد الظلم والاستبداد ولتوعية الشعوب والوقوف بجانبها صفا واحدة ضد أي محاولة لكسر لإرادة الشعوب فأغنية واحدة تحمل معها هموم الشعب ونضاله يمكنها أن تكون أقوى من الطلقات ويمكنها أن تكسب وتحقق وتحلق بعيدا بالتأثير في جموع الناس أكثر وأسرع وصولا من تجمع مسيرات لمئات المتظاهرين.

فلست وحدك في وطنك ولا في أمتك العربية والإسلامية بل شعوب العالم تناهض الظلم والاستبداد والقهر بالوسائل الفنية ولكن شاءت الأغنية ان تكون الأسرع تأثيرا في الجمهور فهي من أهم الأساليب لدفع الحرب الوهمية التي تشكل خطرا على الشعوب.

وكلما ضيقت الأنظمة الحاكمة والمستبدة على الفن فما هو إلا مؤشرا لخوف هذه الأنظمة من شعوبها وما هو إلا انعكاسا وإصرارا لمواصلة النضال والاحتجاج والرفض بالأغنية على طريق الحق والعدل. وعبر عن هذا المعنى الكاتب الكبيرعبد الرحمن الشرقاوي على لسان “الحسين” في رائعته “الحسين ثائرا وشهيدا”.

فلتذكروني.. لا بسفككم دماء الآخرين

بل اذكروني بانتشال الحق من ظفر الضلال

بل فلتذكروني بالنضال..

اذكروني بالنضال على الطريق لكي يسود العدل فيما بينكم

فلتذكروني عندما تغدو الحقيقة وحدها حيرى حزينة

فإذا بأسوار المدينة لا تصون حِمى المدينة

لكنها تحمي الأمير وأهله والتابعين


الهوامش:

1- جورج أورويل، كاتب وروائي بريطاني عاش بين 1903 و1950

2 الرابط

3 الرابط

4 الرابط

5 الرابط

6 الرابط

oesn’t see? ‏The answer, my friend, is blowing in the wind ‏The answer is blowing in the wind ‏Yes, and how many times must a man look up ‏Before he can see the sky? ‏Yes, and how many ears must one man have ‏Before he can hear people cry? ‏Yes, and how many deaths will it take till he knows ‏That too many people have died? ‏The answer, my friend, is blowing in the wind ‏The answer is blowing in the wind link[1]


[1] الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.

أسامة حجاج

كاتب مصري، متخصص في النقد الفني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى