التركيبة النفسية لبنية المؤسسة العسكرية
تمهيد:
إن التركيبة النفسية لبناء المؤسسة العسكرية هي من مجموعة من المتناقضات الغريبة التي يعجز علم النفس على جعلها كلها في بوتقة واحدة أو في وصف واحد لتعدد وتنوع واختلاف السلوكيات والتصرفات التي تنتج عن هذه الفئة من المجتمعات العربية والأجنبية على حد سواء، وتتمثل هذه القدرات الخارقة (قوة، شجاعة وإقدام، حزم، وعي وذكاء غير طبيعي، حنكة وحكمة سياسية، …) لتجعل منه على المستوى الظاهري شخصية تاريخية على مستوى العالم. هذا الاحساس بالعظمة والتفرّد يقود الطاغية المستبد أحياناً إلى تصرفات غريبة (اقتناء أسلحة مطلية بالذهب، اقتناء حيوانات معينة كالأسود والنمور التي وجدت مثلاً في قصور صدام حسين والقذافي…) وأحياناً يقوده إلى سلوك مضحك، فشخصية القذافي ولباسه وتصرفاته المدهشة كانت فكاهية، أما إرادة شرح المفردات والتفلسف في لقاءات الأسد والسيسي كانت غالباً ما تظهره بمظهر الضائع المنفصل عن الواقع أو البلاهة!
في الواقع كل شخصية عسكرية تتضلع بصفات الطاغية والذي بالضرورة يعاني من ضغوط نفسية كبيرة كونه المركز الوحيد والمطلق للسلطة في البلاد، تؤدي هذه الضغوط إلى اضطرابات في بنيته الشخصية غالبا ما يستطيع ضبطها والسيطرة عليها في الأوقات الطبيعية ولكنها تظهر إلى العلن بشكل مفضوح في لحظات الانفعال والتهيّج العاطفي: انجاز علمي أو تجاري ما، نصر عسكري، خوف وانكسار، تمرد عليه… في مثل هذه اللحظات يُكثر الشخصية العسكرية المضطربة الوعود بالإصلاحات ولكن علاقته مع الاصلاح كعلاقة المجرم مع القضاء الذي برأه، فأي تعديل حقيقي على هذا القضاء سيؤدي إلى محاكمته من جديد. (عزام أمين 2014)
أولاً: قراءة في المفاهيم:
1ـ علم النفس العسكري:
هو العلم الذي يعمل على دراسة واستخدام ما توصل إليه علم النفس العام بكافة مدارسه وفروعه لخدمة الأغراض العسكرية كما يقوم بدراسة المشكلات والعوامل النفسية والقضايا الأساسية الضرورية في المجال العسكري والمهام النظامية التي تنجم عن هذا المجال كالقيادة والمعنويات والحرب النفسية والتكيف العسكري والصحة النفسية والانضباط وغيرها مما يساعد على تحقيق الأهداف العسكرية بكفاءة قصوى.
2ـ الشخصية العسكرية
جوهر الشخصية العسكرية يتجلّى في احترام الذات، والثقة بالنفس، والإيمان بقدسية الرسالة الوطنية، وتبني مفهوم الانتماء وعقيدة الولاء لهذه المؤسسة بما يعود بالنفع على الوطن الأم.
ومن أبرز السمات التي يجب أن تتصف بها الشخصية العسكرية لتكون على الصورة المثالية، وترقى إلى مستوى التكامل: الحكمة والشجاعة والأخلاق والصبر والإرادة، والعدل والشهامة والنخوة والذكاء، والحسّ المرهف والانتباه الشديد والاستعداد للتضحية، وسرعة البديهة، وغيرها من الصفات الهامة في المجتمعات النظامية.
كما وأن العسكري من المفروض أن يتحلى بذهنية صافية، وأن يتعمّق لديه الإحساس في أن الوطن هو المحضن والانتماء والعائلة، وأن الجيش هو بيته الكبير، وأن يكون متسامحاً ومحباً ويتعاطى مع رفاقه في المعسكر بمفهوم المشاركة والتعاون والاحترام والتقدير والأخوة…
3ـ الروح المعنوية
وحول أهمية الروح المعنوية وأثرها في تفعيل الشخصية، أشار علم النفس العسكري مستنداً إلى سلسلة من الاختبارات، إلى أن الحياة العسكرية بصورة خاصة، تفرض وجود شخصية ذات مهارات وقدرات حيوية وصلبة وهي التي يفترض أن تتوافر فيها الشجاعة والاستعداد للتضحية حتى البطولة، والتي يترتب عليها، النهوض بهيكلية المؤسسات الوطنية؛ وهذا ما تتعهد به، “الروح المعنوية”، التي تؤثر على الشخصية تأثيراً مباشراً، وقد خلص العلماء النفسيون إلى أنه من الأهمية بمكان أن يتسلح كل جندي بروح معنوية عالية، لأنها حالة من الحالات النفسية التي تتميز بتعزيز الشعور بالثقة في الجماعة، وبثقة الفرد بدوره في الجماعة.
ثانياً: الشخصية العسكرية: فلسفة الآلة وغسيل الدماغ:
الشخصية العسكرية، في السنوات الستين الأخيرة انطوت على مجموعة من السمات والخصائص أدت في النهاية إنتاج ما نراه الآن من سلوكيات وتصرفات على غير أساس توصيفها والهدف من تكوينها وبعض الصفات التي غرست مع ما سبق على سبيل المثال لا الحصر الطاعةٌ العمياء، والمشاعر المكبوتة، ونظام تدريبي يتحكّم في السلوك وما يترتب على ذلك من ضغط عصبي مزمن، وشعور بالتبعية المطلقة، والتقديس في غير موضعه لبعض القوانين، وإنزالها منزل الكتب السماوية، بالإضافة إلى الشعور بالقيد المستمر على مستوى الحياة الشخصية والحياة العامة.
1ـ فلسفة الآلة:
إن هذا النمط من الشخصيات هو أخطر شيء ممكن أن تتعامل معه على المستوى الشخصي. لأن مشاعره المكبوتة وغرائزه المُهانة بسبب كبت تلك المشاعر، تسعى دائمًا إلى الانتقام، وهذا الانتقام يأخذ أشكالًا مُلّتفّة ومُتعددة وغريبة، أبسطها الرغبة المستمرة في إهانة مفهوم احترام الآخرين لأنفسهم.
وأما الطاعة العمياء التي تدرّب عليها؛ تجعله يُنفّذ أي أمر يتلقاه، فإذا قيل له اقتل فسينفّذ بدون أن يعرف من هو الضحية ولماذا يُقتل. وهذه النتيجة هي أننا أمام كائن بشري تم تهجينه وتشكيله ونمذجته لكي يكون آلة قمع، لا آلة حماية.
وكلمة “آلة”، لأن هناك فرعًا في علم النفس يسمّى “علم التحكم الآلي”، وهو معني بتحويل البشر إلى آلات، والتحكم في سلوكياتها بطريقة مُحكمة مثل التي في الآلات.
2ـ غسيل الدماغ Brainwashing
هو أسلوب من أساليب الحرب النفسية يستخدم لتغيير اتجاهات الأفراد بتباع وسيلة تقنية محددة وذلك عن طريق الإقناع القسري المقنن.وهو أيضاً استخدام أي طريقة للتحكم في فكر شخص واتجاهاته دون رغبة أو إرادة منه، ويسمى أيضا غسيل المخ أو لحس المخ (أو الدماغ) أو التفكيك النفسي.
وهو أسلوب قديم استخدمه المصريون القدماءوتم تطويره عبر التاريخ ولكن أشهر من استخدمه هم الصينيون الشيوعيونفي عام 1950 عندما كان الصينيون يطبقون برنامج يسمى الإصلاح الفكري الشيوعي الصيني، حيث اعتقد الصينيون أن الأفراد الذين لم يتعلموا في مجتمع شيوعي لديهم أفكار برجوازية ويجب إعادة تعليمهم قبل أن يأخذوا مكانهم في المجتمع.
وقد اقترن اسم البروفيسور إيفان بافلوف، أستاذ علم وظائف الأعضاء الروسي بعملية غسيل المخ، نتيجة تجاربه المتقدمة على غرائز الحيوانات وسلوكها، وقد ركز بافلوف في أبحاثه عن “نظام الإشارات” وهو ما يقصد به الحس الغريزي الموجه الذي يصل مباشرة بين الحواس، وبين العقل. وانتهت الملاحظة الحاسمة من أبحاثه بتجارب على الحيوان والإنسان لإثبات نظريته “الفعل الشرطي المنعكس” (Conditional Reflex) وتعني القيام بسلوك معين نتيجة لمؤثرات خارجية، مثل سيل اللعاب عند رؤية الطعام، أو عند حدوث أي أثر مقترن بالطعام. كما توصل بافلوف إلى أنه بتغيير بيئة الإنسان يمكن تغيير طبيعته الذاتية. والواقع أن أبحاث بافلوف كانت هي المشاعل التي أنارت الطريق أمام الشيوعيين للتوسع في عملية “غسيل المخ”.
ويستخدم الدكتور ميرلو، العالم الهولندي، كلمة “Menticide” للتعبير عن عملية غسيل المخ، وهذه الكلمة معناها؛ قتل العقل، ذلك لأن العملية توجد خضوعاً لا إرادياً، وتجعل الناس تحت سلطان نظام لا تفكيري وتكون في غمرة رق آلي لا حيلة لهم ولا قدرة. (ويكيبيديا)
ونأتي هنا إلى البناء النفسي للمؤسسة العسكرية الذي تم تشكيله في الآونة الأخيرة تم التكريس لها بعد انقلاب (ثورة) 1952 وقد ذكر بعض ملامحه الدكتور. عزام محمد أمين تحت عنوان “التحليل النفسي للطغاة والمستبدين”. مع بعض الإضافة والتصريف ولا نستطيع أن نفصل بينه وبين السمات الحالية للبناء النفسي الذي طرأ عليه حتى الآن.
ثالثاً: السمات النفسية للشخصية العسكرية المستبدة
1ـ البارانويا (ميغالومانيا)
معظم الشخصيات العسكرية التي حملت بعض صفات الطغاة مصابة حتماً بمرض العظمة (ميغالومانيا)، فهو يختزل كل شيء في شخصيته ويرى العالم من خلالها فقط، هو المركز وكل ما يدور حوله ينطلق من وجوده (سوريا الأسد، ليبيا الفاتح من أيلول، أسد العرب صدام حسين، بوكاسا، هتلر، ستالين، موسيليني…وفي حالتنا هذه السيسي في مصر).
جنون العظمة هذا (الميغالومانيا) يكون جزءاً من شخصيته “البارونوية” أو عرض من أعراضها، والبارانويا هي أحد أشكال ما يُسمى باللغة العربية “الذهان النفسي”، وفي بعض الأحيان عقدة الاضطهاد والتآمر، من أعراضها الهذيان الثابت والمنتظم ولكن المصاب قد يبدو ظاهرياً سليماً من حيث القدرة العقلية والاستدلال، غير أنه يبني استدلالاته على أوهام وحوادث غير واقعية، وتجدر الإشارة إلى أن أول من تكلم عن هذا المرض هو العالم الألماني ريشارد فون كرافيبينغ 1879.
وبشكل عام يعيش الطغاة في عالمهم الخاص متقوقعين على مجدهم الذاتي منفصلين تماماً عن الواقع، فمثلاً في تصريح لنيقولاي تشاوشيسكو على سؤال لأحد الصحفيين عما إذا كانت المظاهرات التي عمت مدن رومانيا ستؤدي للتغيير وهل يخشى أن تتطور الأمور للأسوأ، قال: لا يوجد شيء مما تقولونه، واستطرد بعنجهية مستهزئاً “لن يحدث تغيير في رومانيا إلا إذا تحولت أشجار البلوط إلى تين”، بعد أربعة أيام فقط من هذا التصريح تم القبض على الطاغية هارباً مع زوجته وتم إعدامهما رميا بالرصاص.
وبالقياس ما ذكره أحد الوزراء للسيسي أن السد العالي يعاني من مشكلة كبيرة وقد توقف كلياً، فقال لا تدخلنا في مشكلات وتفاصيل فرعية، وكذلك ذكره أكثر من مرة أن الثورة والهيجان الشعبي لن يتكرر مرة ثانية، وأعتقد أن العاقبة واحدة ولا يختلف معي أحد على ذلك.
الشخص البارانوي يكون يشكل عام طموح وهو يُسخِر كل شيء في سبيل الوصول إلى غايته، يعتقد أن الجميع يريد النيل منه عبر حياكة مؤامرات خفية ضده، لديه شعور دائم بالتهديد من قبل أعداء وإن لم يكونوا موجودين في الواقع يقوم بإيجادهم في مخيلته، لذلك يكون حذر جداً، غير متسامح أبداً، قلق حساس وسريع الاتهام للآخرين بالكذب وبالتآمر عليه وخصوصا لمن يخالفه الرأي، وهذا يتجسد في معظم الشخصيات العسكرية في الوطن العربي ويمتد الأمر ليشمل العديد من قيادات الغرب العسكرية.
2ـ الرأي والرأي القاتل:
طبائع المستبد وكذلك التكوين العسكري لا يمكن أن تتسع لأي خلاف من أي نوع كان، فهو لا يستمع لغيره ويعتقد أنه دائما على صواب، أي اختلاف معه بالرأي هو جزء من المؤامرة عليه، هذا الخلاف حتى لو كان بسيطاً جداً، يُشكل خطراً على سلطته وعلى وجوده لذلك يستوجب التخلص من مصدره وبدون أي تردد، فغالبا ما يكون الطاغية “سايكوباتي” يميل إلى السادية وخصوصا في لحظات الغضب والانفعال حيث يسقط قناع العقل والتهذيب الذي عادة ما يحاول الشخص السايكوباتي إظهار نفسه بهما (هيرفي كليكلي “قناع الصحة” 1941).
أو يتصف بالمازوخية وهي عكس السادية ويرغب بشدة في الإهانة ويستمتع بها ويشعر بلذة في المزيد منها ولكن يكون ذلك بصورة مخفية وغير مرئية وللشخصيات الأمنة في ردة الفعل وتسمى هنا Save Target، غير أنه يعيش دور المستبد، فالمستبد لا يعرف الرحمة والشفقة، وانتقال الشخص من حيّز الصداقة معه إلى حيّز العدو الخطير يتم لأتفه الأسباب وربما تكون وهمية وهكذا قام ستالين وهتلر وموسيليني وجمال عبد الناصر وحافظ الأسد والسيسي وغيرهم من الشخصيات العسكرية الطغاة بتصفية كل من يمكن أن يختلف معهم أو يهدد سلطتهم.
والعسكري الطاغية متكبر ومغرور ينفرد برأيه ويستقل به ويعتقد أنه المصدر الوحيد للرأي الصحيح والفكر الصحيح وقراراته دائماً حكيمة ويعتقد أيضاً أنه مهم جداً على الصعيد العالمي وأن قراراته تشكل حجر الزاوية في السياسة العالمية، وكما هو عرضة لمؤامرة داخلية من أعدائه “في” الوطن، هو أيضاً عرضة لمؤامرة خارجية من أعداء الوطن الذي يمثله ولا يوجد غيره قادر على تمثيله. أي اختلاف معه بالرأي أو نقد له يُعتبر اعتراض على سلطته وتمرد عليه ويستفزه لأنه يضع صورة العظمة التي يرسمها لنفسه موضع الشك.
3ـ الألوهية:
يذكر عبد الرحمن الكواكبي في (طبائع الاستبداد) أنه: “ما من مستبد إلا ويتخذ صفة قدسية يشارك بها الله” فالطاغية يعتقد أنه على تواصل مع قوى عُليا يستمد منها قدرات خارقة لحماية اتباعه، فإرادته هي إرادة الشعب المنبثق عنه، وممثل له ومهمته الأولى هي انقاذ هذا الشعب من المخاطر التي تحيق به. إنه ملهم الشعب ومصدر الأمان بالنسبة له وهكذا فإن عبارة “سوريا الله حاميها” تعني ضمنياً أن الله يحمي سوريا لا لشيء عند السوريين كشعب وإنما بفضل وجود القائد الرمز الملهم المبارك من قِبل الله.
4ـ النجومية:
المستبد يُقدم نفسه كشخصية مطلقة تجتمع فيها المتناقضات، فهو قوي جبار شجاع يضرب بيد من حديد بدون أي شفقة وبنفس الوقت لا يتردد عن ارتداء معطف الأب الحنون المحب العطوف الحكيم الذي لا يتوانى عن تقديم العطاءات والمكرمات لأتباعه، ويمكننا أن نرى تعبير صارخ لهذا التناقض في الألقاب التي اختارها الطغاة لأنفسهم أو دفعوا من حولهم لاختيارها لهم، فبالرغم من قسوة جوزيف ستالين ومسؤوليته المباشرة عن قتل ملايين الناس، اختار لنفسه لقب “أبو الفقراء” أو “الأب الصغير للشعوب”، أما لقب كاسترو هو القائد الأكبر “ليدر ماسيمو”، ومن جهته معمر القذافي لُقب بـ “ملك ملوك أفريقيا وبالأخ القائد”، وماوتسي تونج” كان لقبه “الموجه الأكبر”، و”حافظ الأسد” كان لقبه “الأب المناضل والقائد الخالد”، واختار السيسي لقب “الرسول” و”سابع الخلفاء الراشدين” و”الولي السيد المنقذ” … الخ.
الطاغية معصوم عن الخطأ فإذا حصل خلل ما وانتشرت الجريمة والفساد والرشوة فهذه مسؤولية الآخرين الذين لم يطبقوا جيداً نصائحه وتوجيهاته وهذا ما تلخصه مقولة “هو كويس بس اللي حواليه فاسدين”، أو مقولة الطاغية بشار الأسد حين وصف الشعب “بقلة التربية” فلقد اختاره القدر لأنه شخص مميز ليس كالآخرين، وهكذا يقال على السيسي، كما ذكرنا ويزيد على ذلك “غرام النساء” بشخصه الجميل أو ما يتخيله هو ذلك وعلمه بطبيعة الشعب المصري.
ويعود (أمين) ليحدد الوسائل التي يستخدمها الشخصية العسكرية المستبدة، وهو في هذا السياق تحدث عن الطاغية، ولم نجد هناك طغاة غير العسكر في تناولهم للقضايا وسلوكياتهم وأفكارهم ومشاعرهم تجاه البيئة المحيطة نتيجة للتغيرات التي طرأت على المنطقة في الآونة الأخيرة، نتيجة للتجريف والتغيير والاستعمار الفكري والعقلي والجغرافي على مر مدى السنوات الماضية وبعد سقوط المؤسسة الوسطية والمعتدلة وهي الخلافة الإسلامية.
رابعاً: أدوات المستبد العسكري:
1ـ العقيدة العسكرية الجديدة
يذكر ميشيل كورناتون في كتابه (التواصل الاجتماعي)، 1998، أن كل نظام شمولي يستمد شرعيته من عقيدة (قومية، أممية، دينية…) وهي وسيلة للسيطرة على جميع الفئات العمرية في المجتمع (طلائع البعث، شبيبة الثورة، الشبيبة الهتلرية، الشبيبة الشيوعية الثورة الإسلامية الإيرانية، العقيدة الدينية والأزهر في مصر ومن ثم الكنيسية والبعد الديني، ..) وتُعتبر هذه العقيدة المصدر الشرعي للسلطة، ولكن غالبا ما يتم تفريغها من محتواها واختزالها بشخصية الطاغية فهو الوحيد القادر على فهمها بشكل صحيح وتطبيقها وحمايتها من الانحراف وتصحيح مسارها في حالة ابتعادها عن أهدافها (الحركة التصحيحية).
إن حالة الفصام النفسي والبارانويا التي يعيشها الطاغية تنعكس على العقيدة نفسها، فنجد الفرق الشاسع بين الأفكار التي تنادي بها هذه العقيدة وسلوك من يتحدث باسمها، ونجد الوسائل الإعلامية والمختلفة تقوم بعمل الدعاية والترويج لذلك، وتلبيس الأمور وفق ما يراه الطاغية، كما فعلت المؤسسة العسكرية من تعبئة وتجهيز الجهات الأمنية العسكرية بالبعد الديني، عن طريق أجهزة الشؤون المعنوية واختيار بعض الشخصيات كعمر خالد والدكتور سالم والدكتورة كريمة والمفتي السابق للجمهورية علي جمعة، وإظهار البعض الديني في الخطوات والإجراءات التي يقوم بها المستبد على أنها هي الآيات المنزلة والمؤيدة من الله، وأن ما يفعله الفرد العسكري والأمني في الشعب هو الجهاد بعينيه والدفاع عن الوطن في هذا السياق هو العبادة الحق، وأن الموت في سبيل ذلك يعد هو الشهادة المضمونة بلا ريب.
كما أنه يتم بطريقة غسيل المخ وتغيير المعتقدات وإبراز مساوئ الصديق القديم ولو بالتزوير وتشويه العقيدة الثابتة للدفاع عن المسجد الأقصى، بشيطنة الفئة الوحيدة التي تقوم بالدفاع عنه، بعد أن كانت هي الركن الركين في الدفاع عن المقدسات وقدسية المسجد الاقصى في قلوب المسلمين والمسيحيين على حد سواء.
2ـ الصورة الشخصية للمستبد العسكري:
وهو ما دأب عليه كل العسكريين على مر العصور، هو الحفاظ على وجود الصور وإن كانت رمزية في كل ركن وزاوية وتجمع في أركان الوطن أو الموالين والتابعين لهذه الشخصية المضطربة، حيث أنها تعبر عن الولاء والطاعة، كما تم وأن طبعوها على شكل بطاقة شخصية على كارت وتم توزيعه، وكذلك لصقها في المقاهي والمستشفيات ومداخل المدن والقرى، ثم سرعان ما جعلها صورة ملحقة في الكتب المدرسية، كما فعل ذلك في تركيا للشخصية العسكرية الشهيرة أتاتورك.
ويذكر أحمد ناصر في مقاله عن (سيكولوجيا الطغاة والمستبدين) أن المصور الشخصي لهتلر “إينريش هوفمان” التقط له حوالي 2.5 مليون صورة. هذه النرجسية المتضخمة يختبئ خلفها إحساساً بالضآلة والخوف، ويحاول الطاغية دائما كبتهما وكلما اشتد ضغط المكبوت يأمر أعوانه بتنظيم الفعاليات التي تمجده.
ويقول فرويد في كتابه “قلق في الحضارة” بأنه كلما زاد الخوف عند الطغاة من فنائه كلما ازدادت دوافعه التدميرية ظهوراً وزاد معها التدابير والاجراءات الوقائية للحيلولة دونها، وهذا يبرر كمم الحرائق والخراب الذي لحق بمصر في الآونة الأخيرة، وما تلا ذلك من تدمير كل شيء يعارض ذلك من هيئات أو شخصيات مهما كان مستواها ومكانتها.
3ـ الإعلام والأذرع الإعلامية
يعد الإعلام سلاحاً في حد ذاته يعتمد عليه الشخصية العسكرية لما لها من شخصية مفرغة من المضمون الحقيقي، الذي يحتاج وبصفة مستمرة إلى العمل على إبراز السيرة الذهنية الجميلة والتحسين والمستمر ولو بصورة مزيفة وإبراز الأمجاد والإمكانيات الخارقة التي يقوم بها هذا الطاغية، وغالبها تكون واهية وليس لها أساس من الصحة أو تبدأ دون أن تنتهي بفائدة حقيقة تعود على الناس، ولكن تنحصر فقط في صورة الدعاية والإعلانات والمتتالية والمتوالية والتغاضي المتعمد من صحة تحقيقها.
كما يبدو ذلك في المدينة الإدارية الجديدة وقناة السويس الجديدة والمليون وحدة سكنية في فترة قياسية … إلى ذلك من الأعمال التي لا تعدو عن أنها عناوين براقة فقط، يقوم الإعلام ترويجها والتسويق لها بصفة مستمرة وتقليل وتصغير أي نائبة أو كارثة خلال تلك الفترة حفاظا على الصورة العامة لهذا المستبد.
خامساً: البعد الأخلاقي في التركيبة النفسية لبنية المؤسسة العسكرية
كما ذكرنا أن الشخصية العسكرية من المفترض يتم اختيارها والعمل على تنمية صفاتها وأخلاقيات بما يتوافق مع المؤسسة التي تنتمي إليها، والوطن الموالية له في الحياة العسكرية وكذلك الشخصية. وفي المجال العسكري ينظر علم النفس إلى الروح المعنوية، كمصدر قوة، تدفع الفرد إلى الثبات والاتزان من حيث ضبط النفس وتنظيم الفعل، وهي في مطلق الحالات، تنطوي على الشجاعة والتصميم العميق وعلى الصمود بوجه الصعوبات والمحن، وإنجاز المهام على أكمل صورة. فالشخص الذي يتحلّى بمعنويات عالية،لا يخشى الاستجابة لأيّ تكليف عسكري، حتّى الذي يعجز عنه الآخرون
وقد أثبتت الدراسات المستحدثة حول هذا المفهوم، أن أي ضعف في المعنويات يؤدي إلى شلل في الطاقة ويؤثر سلباً على شخصية الأفراد، لأن الضعف المعنوي يولّد إحساساً بعدم الرضى عن النفس، والشعور بالنقص والدونية، ويؤدي إلى الإحساس بالخيبة والاضطراب والإحباط… (العسكرية التونسية).
وهنا يأتي السؤال، هل للأخلاق أثر في التركيبة النفسية لبناء المؤسسة العسكرية، وهل تبدلت الأخلاق في الآونة الأخيرة، حتى أنه هان على بعض الشخصيات العسكرية الكبيرة أن تعطي الأوامر بإطلاق الرصاص الحي على أفراد الوطن، والذي يسبب لدى البعض الصدمة الحقيقية من داخل المؤسسة العسكرية نفسها ومن خارجها.
إن الأغراض التي تم تنميط وتنشئة أفراد المؤسسة العسكرية بمختلف مستوياتهم، والبرمجة اللاشعورية من ناحية العقيدة والدين والوطنية والقومية والأسس التي تربي عليها أفراد الوطن الواحد، وما ترتب عليها من تغير في بعض الأفكار والقناعات وبالتالي بعض المعتقدات والمفاهيم لدى أفراد هذه المؤسسة، لهو الدافع الحقيقي خلف السلوك المستهجن والانتهاكات الصارخة التي تمت مع النساء والأطفال والشيوخ والمرضى، وكذلك التكريس والتعبئة المستمرة ليل نهار من الأدوات التي استخدمتها إدارة الشؤون والمعنوية وأجهزة المخابرات من تغيير تلك المفاهيم والقناعات، أدت في النهاية في تغيير في عدد من الأخلاقيات العامة لدى التركيبة النفسية لهؤلاء، فتجده لا يكترث بمفهوم الرجولة ولا النخوة ولا المرؤة، وتستوى عنده حال تنفيذ الأوامر المهمة المشينة مع المهمة الوطنية، ويدخل في حالة من عدم الاتزان، والصدمات المتتالية تخرج شخصية مشوهة غير واضحة، تأتي بالضرورة بهذه السلوكيات التي ما تلبث أن تدخل في حالة من الصراع الداخلي.
خلاصة:
إن عدد كبير من مكونات المؤسسة العسكرية تتم تربيته وتنشئته من الصغر على عدد من المبادئ والمفاهيم والمعتقدات، ترسخت في الداخل وكان لها بالغ الأثر في تكوين الشخصية، ووفقا لتلك للمتغيرات الأخيرة والحالات المتغايرة من التغريب وغسيل المخ، فقد أدت بعد فوات الأوان إلى الوقوع في براثن الأخطاء الكارثية التي لا تغتفر، وإلى دخول الأفراد وكثير من القيادات في حالة من الصراعات الداخلية وتأنيب الضمير والشعور بالذنب، والذي يلاقي ويواجه في الشخصية العسكرية بالكبت والترهيب والتهديد المستمر، ناهيك عن السجن والتعذيب والتشديد، بل ويصل إلى حد التصفية والموت، نتيجة لهذه الصراعات التي أحيانا تظهر على السطح ولا يستطيع الفرد أن يكتمها في نفسه وتظهر على انفعالاته وتصرفاته (1).
——————————-
الهامش
(1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.