المغرب العربيتقارير

انتصار الجغرافيا

كيف تُعيدُ الجغرافيا تشكيل العلاقات المغربية-الجزائرية؟

مُلخّص:

تُؤكّد هذه الورقة على طرحٍ مُبكّرٍ نبّه إليه صاحبها حينما حاجج من قبل بضرورة انتباه صنّاع القرار والباحثين المغاربة والجزائريين على حدٍّ سواء إلى الدور الحتمي الذّي لعبته وسوف تلعبه الجغرافيا في تحديد طبيعة العلاقات بين البلدين ومستقبل هذه العلاقات أيضاً،1 لقد كان ذلك الطرح متزامناً مع آخر زيارةٍ قام بها الملك المغربي محمد السادس إلى مجموعة من الدول الخليجية، على رأسها قطر والإمارات شهر نوفمبر 2017، وذلك في إطار سعي المملكة المغربية إلى ممارسة دورٍ إيجابيٍ ما في تجاوز الأزمة الخليجية التّي كانت –ولا تزال- قائمةً بين هذين البلدين.

لقد كانت تلك الزيارة مدفوعةً بأسبابٍ كثيرةٍ هندسَ لها المغرب وبنَفسٍ طويلٍ منذ قرابة العقديْن ونصف من الزمن، حينما سعى منذ سنة 1994 إلى النظر بعيداً عن محيطه الجغرافي الطبيعي المتوتّر بسبب علاقاته مع الجزائر آنذاك، متّجهاً إلى محاولة البحث عن “حلفاء” بعيداً عن مجاله الطبيعي عبر تعميق علاقاته مع دول مجلس التعاون الخليجي خصوصاً، والبعيدة عنه جغرافيا بدلاً من مواصلة السعي الدبلوماسي إلى تصفير المشكلات القائمة بينه وبين جيرانه، وعلى رأسهم الجزائر.

وفي شهر نوفمبر سنة 2017 وحينما كانت العلاقات المغربية-الخليجية في أوج ازدهارها، تنبأ صاحب هذه الورقة بشكلٍ مبكرٍ بالمسار السلبي الذّي سوف تأخذه هذه العلاقات في أيّة لحظة، ودعا في مقابل ذلك إلى ضرورة بل وحتمية إعادة تعريف العلاقات المغربية-الجزائرية من جديد، بشكلٍ يُقرّبُ مصالح البلدين بدلاً من استمرار المغرب في متابعة “سياسات خارجية تتحدّى قَدَره الجغرافي” في وقتٍ يستمر فيه الموقف الجزائري متسّماً بالثبات السلبي، القائم على التصلّب وغياب روح المبادرة لأجل تجاوز المشكلات القائمة بين البلدين.

لقد بُنيَ هذا التنبؤ على الدور الحتمي الذّي سوف يلعبه عامل الجغرافيا في إعادة تشكيل السلوكيات الخارجية للبلدين تجاه بعضهما البعض، سيما السلوك المغربي تجاه الجزائر. منذ تلك الفترة (نوفمبر 2017) تتتالى الأحداث تباعاً لتُثبت صحّة هذه التنبؤات مثبتتةً بدورها القوة التفسيرية لعامل الجغرافيا في التحليل والتنبؤ بالمسار الذّي سوف تأخذه سلوكيات الدول في نهاية المطاف، حينما تعود إلى مبدأ العقلانية في سياساتها الخارجية، كان آخر تلك الأحداث إعلان المغرب، أوائل فبراير 2019، الانسحاب من “التحالف العربي” الذّي تقوده السعودية ودولٍ عربيةٍ أخرى ضدّ ما يعتبرونه “إرهاباً” في اليمن، في مقابل بثّ قنواتٍ خليجيةٍ تابعةٍ للسعودية تقاريراً وأخباراً تعترف فيها بالصحراء الغربية كدولةٍ مستقلةٍ بعد سنواتٍ طويلةٍ من الاصطفاف الخليجي وراء المغرب في هذه المسألة التّي يعتبرها مسألة أمنٍ قوميٍ بامتياز.

وسوف تعمل هذه الورقة على تحليل مسار التحوّل في السلوك الخارجي للمغرب بشكلٍ متسلسلٍ مركّزةً على الدور الذّي لعبته الجغرافيا في إعادة تشكيل هذا السلوك تجاه جاره القريب الجزائر من جهة، وحلفائه الخليجيين البعيدين من جهة أخرى، مُحاججةً بأنّ الجغرافيا تقف كعاملٍ أساسيٍ في جعل السلوك المغربي أكثر واقعيةً وعقلانيةً من ذي قبل وأنّ على الجزائر أن تُحسن استثمار هذه اللحظة التاريخية لتجاوز مشكلاتها العالقة مع المغرب ليتمكّن البلدان معاً من بلوغ حلم المغرب الكبير الذّي طال انتظاره منذ أمدٍ بعيد.

مدخل:

يسعى المغرب الأقصى منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي إلى تحقيق مكانةٍ إقليميةٍ متميزّةٍ بشمال إفريقيا خصوصاً والقارة السمراء عموماً على حساب جاره الجزائر، وقد بدا ذلك واضحاً من خلال التحالفات الإقليمية والدولية التّي يُشكّلها المغرب بعيداً عن الجزائر بل والمتضاربة مع مصالحها القومية في كثيرٍ من الأحيان، تكفي الإشارة هنا إلى طبيعة العلاقات الاقتصادية المتنامية للمغرب مع دول مجلس التعاون الخليجي، بل ورغبة المغرب المُلّحة في الانضمام إلى هذا المجلس البعيد عنه جغرافياً، بدلاً من تفعيل آليات التكامل في جواره الإقليمي أي الاتحاد المغاربي المُجمّد، أيضاً مُشاركته إلى جانب بعض دول الخليج في حربها على ما يُسمى “بالإرهاب” في اليمن (عاصفة الحزم)، ومساندته لبعض مواقفها الدبلوماسية من أزمات “الشرق الأوسط”. علاوةً على ذلك، يحظى المغرب بعلاقاتٍ دبلوماسيةٍ طبيعية مع “إسرائيل” التّي ترفض الجزائر الاعتراف بها على الإطلاق، كلُّ ذلك سعياً منه إلى تحصيل أفضليةٍ ما على جاره المنافس الجزائر، (الذّي يرفض الانخراط في شؤون “الشرق الأوسط” بشكلٍ كليٍّ) ومكانةٍ إقليميةٍ متميّزةٍ في القارة السمراء على العموم وفي شمال إفريقيا على وجهٍ أخصّ.

إلاّ أنّ بدايات شهر نوفمبر الماضي كانت قد حملت معها علاماتٍ كثيرةٍ لإمكانية حدوث تحوّلٍ جذريٍ في طبيعة العلاقات المغربية-الجزائرية من جهة، وطبيعة العلاقات المغربية-الخليجية من جهة أخرى، فقد ألقى آنذاك الملك المغربي محمد السادس خطاباً يدعو فيه الجزائر إلى فتح الحدود المغلقة بين البلدين منذ سنة 1994، وتعزيز سُبل الحوار بينهما بشكلٍ فاجئ الكثيرين، كان ردّ الجزائر على المبادرة دبلوماسياً جدّاً، حيث طلبت بعد أيّامٍ قليلةٍ من ذلك اجتماعا طارئاً لوزراء خارجية الاتحاد المغاربي المجمّد من أجل تفعيل مؤسّساته، الأمر الذّي فتح ملف العلاقات المغربية-الجزائرية المتأزّمة للنقاش من جديد، كما طرح أسئلةً عديدةً بخصوص مصير الاتحاد المغاربي المجمّد، والمنحى الذّي سيأخذه الخلاف حول ملّف الصحراء الغربية بين البلديْن، أمّا السؤال الأهمّ بالنسبة لنا هنا فهو ذلك المتعلّق بالأسباب الكامنة وراء هذا التحوّل “المفاجئ” في الموقف المغربي في هذا التوقيت بالضبط والمتعارض كما يبدو مع التوجّه الذّي تبنّاه المغرب في سياسته الخارجية منذ سنواتٍ عديدةٍ والقائم على تعزيز الارتباط الخارجي مع دول مجلس التعاون الخليجي خصوصاً، بعيداً عن مجاله الجغرافي الطبيعي كما أشرنا قبل قليل.

نُحاجج في هذه الورقة بالدور المركزي لعامل الجغرافيا الحاسم في تفسير تحوّلات السلوك المغربي تجاه محيطه الإقليمي، مُستعينين بالطرح النظري الذّي يُقدّمه الباحث الأمريكي روبرت كابلان في كتابه “انتقام الجغرافيا”، صحيح أنّ هناك عواملاً كثيرةً تحكم علاقات الدول وهي متباينةٌ حدّ التناقض أحياناً كعوامل الثقافة والقيم (التّي تركّز عليها النظريات المعيارية) أو عوامل الاعتماد المتبادل الاقتصادي والتجاري (الذّي يُركّز عليه الليبراليون والوظيفيون الجدد)، إلاّ أنّها جميعاً تبدو عاجزةً عن تفسير “السرعة المفاجئة” للتحوّل القائم في العلاقات المغربية-الخليجية من جهة أو الخطاب التاريخي للملك المغربي شهر نوفمبر الماضي، إلاّ أنّ الجغرافيا لوحدها في نظرنا قادرةً على تفسير هذا التحوّل السريع بل التنبؤ بحدوثه قبل الجميع. سوف تُحاجج هذه الورقة في الوقت نفسه باستحالة تحصيل المغرب الأقصى لأيّةِ مكانةٍ إقليميةٍ أو حتّى دوليةٍ إذا ما استمر في تجاهل “قدَرِه الجُغرافي”، بل وتحدّيه في كثيرٍ من الأحيان، ونقصد “بقدَرِه الجغرافي” هنا الجزائر بالأساس، لما تتميّز به من أفضليةٍ جيوبوليتيكيةٍ في المنطقة، فلطالما أثبت التاريخ دوماً عَوْدَة الجغرافيا في كلّ مرّةٍ “للانتقام من الأُمم التّي تجاهلتها حينما رسمت سياساتها الخارجية” على حدِّ تعبير كابلان، إنّها ذات الجغرافيا التّي سوف تُحتّم على الجزائر أن تتجاوز “مُدركاتها الأمنية السلبية المحفورة في ذاكرة التاريخ” حتّى تُحسن استثمار هذه اللحظة التاريخية لأجل إنهاء “معضلتها الأمنية” مع المغرب بسبب مشكلة الصحراء الغربية بدلاً من مجرّد التفكير في استغلال توتّر العلاقات المغربية-الخليجية للضغط على المغرب ومحاصرته بشكلٍ أكبر، أي الاصطفاف خلف الخليجيين في هذه الأزمة، والذّي سوف يكون –إن حدث- خطئها الاستراتيجي الأعظم في هذه المرحلة من التاريخ.

انتقام الجغرافيا

في سنة 2013، كتب الباحث الأمريكي روبرت كابلان كتابه الشهير “انتقام الجغرافيا، ما الذّي تُخبرنا به الخرائط عن النزاعات القادمة وعن المعركة ضدّ القَدَر”، في هذا الكتاب يحاول كابلان أن يُظهر استمرار أهميّة العامل الجغرافي في تشكيل وتوجيه سلوكيات الدول وبالتالي في تحديد مسار التفاعلات الدولية القائمة، وذلك بالرغم من التحوّلات الطارئة على النظام الدولي منذ نهاية الحرب الباردة2، والتّي سبّبت تضائلَ أثر عامل الجغرافيا على العلاقات بين الأمم، حتّى تحدّث باحثون كثر عمّا سمّوه “بموت الجغرافيا” وانتهاء عصر الجيوبوليتيك على غرار الباحث الأمريكي توماس فريدمان “نبّي العولمة” كما يُعرف. من هنا نستطيع أن نفهم ما الذّي يقصده كابلان بالضبط بعبارته المثيرة “انتقام الجغرافيا”، فهو يُحاجج بأنّ عامل الجغرافيا أثبت من جديد وفي هذا العصر مدى أهميّته في تحديد مصائر الأمم، وأنّ الأمم التّي تجاهلت هذا العامل أثناء رسمها لسياساتها الخارجية وعلاقاتها الإقليمية والدولية دفعت ثمناً باهضاً، إذ انتقمت منها تلك الجغرافيا التّي أهملتها ولو بعد حين.

لتوضيح هذه الفكرة، يضرب كابلان في كتابه هذا أمثلةً كثيرة، ولعلّ أبزرها ذلك المتعلّق بما سُميّ “بالحرب الأمريكية على الإرهاب” منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر، فحينما احتلت الولايات المتحدة أفغانستان ثمّ العراق، ظنّ المحافظون الجدد بأنّ القوة العسكرية الضخمة والتكنولوجيا العسكرية الخارقة التّي تمتلكها الولايات المتحدة سوف تُمكّنها من الإطاحة بنظام طالبان بشكلٍ سهل، ثمّ نظام صدّام بالعراق، يليها كلّ من “النظاميْن المارقيْن” في إيران وسوريا وكلّ الدول “المارقة” تباعاً، وذلك من دون خسارة جنديٍ أمريكيٍ واحد، بفضل الطائرات المقاتلة المزوّدة بأحدث التكنولوجيات والصواريخ الضاربة العابرة للقرارات، أو ما سُمّي بنظرية “الصفر جندي” للعسكري أندرو كرينيبيفتش والتّي طبّقها وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد في العراق خصوصا.

لكن، النتيجة كانت صادمةً جدّاً، إذ خسرت القوة العظمى الأولى في العالم حربيْ أفغانستان والعراق، بعدما انتقمت جبال توروا بورا وتضاريس العراق الوعرة ومناخها الحار من العقل العسكري الأمريكي الذّي تجاهل دورها الفاعل أثناء وضعه لخططه بالرغم من أفضلية التكنولوجيا الحربية التّي يحوزها، فكانت الخسائر المادية والبشرية التّي تكبّدتها الولايات المتحدة عاليةً جدّا (أكثر من 3 تريليون دولار حسب كلّ من جوزيف شتنغلتز ولِندا بلمز في كتابهما الشهير: حرب الترليونات الثلاث).3

مثالٌ آخر يوضّح من خلاله كابلان كيف تُساهم الجغرافيا في توجيه السياسة الخارجية للبلد وتحديد متطلّباته الأمنية، وهو ذلك المتعلّق بالولايات المتحدة الأمريكية ذاتها، فهذا البلد في نظره “مُباركٌ بنعمةِ الجغرافيا”، إذ تتموقع الولايات المتحدة بعيداً عن ساحات الحروب في أوروبا (منذ نشوء الدولة الويستفالية مروراً بالحربين العالمية الأولى والثانية)، مُحاطةً بجيرانٍ ضِعافٍ من الشمال كندا ومن الجنوب المكسيك، من الشرق سمكٌ، ومن الغرب سمكٌ (في إشارةٍ إلى المحيطين الأطلنطي والهادي الذّين يُشكلّيْن لها حصناً طبيعياً منيعاً)، الأمر الذّي مكّن الولايات المتحدة من بناء دولةٍ قويةٍ عظمى مُحصّنةٍ من تهديدات الأعداء المحتملين تتطلّعُ إلى ماوراء البحار في سياستها الخارجية. هناك دولٌ أخرى ساعدتها الجغرافيا على أن تكون دولاً عظمى، كالصين وبريطانيا، وهناك أخرى إبتُليت بنقمةِ الجغرافيا وتهميشها على غرار البرازيل المعزولة جغرافياً في أقصى الأرض، أو كحال دولٍ إفريقيةٍ عديدةٍ عرقلت نهضتها “غاباتٌ كثيفةٌ غير صديقة للحضارة” على حدّ تعبير كابلان، أو كألمانيا النازية مثلاً صاحبة الطموحات الخارجية والتّي وجدت نفسها مُحاطةً ببحرٍ من الأعداء منعها من تصدير مشروعها وقوتّها نحو الخارج، فماذا عن المغرب الأقصى؟

مُعضلةُ الصحراء الغربية وصراعُ المكانة بين “حُكماء الجيوبوليتك”:

بدايةً، ينبغي توصيف طبيعة البيئة الإقليمية التّي يتواجد بها المغرب حالياً، وهي منطقة شمال أفريقيا المضطربةٌ أمنياً إلى حدٍّ بعيد، ويسودها تنافسٌ واضحُ المعالمِ بين أهمّ فاعليْن فيها وهما الجزائر والمغرب. يحظى المغرب بعلاقاتٍ مضطربةٍ مع جاره الجزائر، لسببيْن إثنيْن، أولاًّ بسبب هجومه العسكري على منطقة تيندوف غرب الجزائر سنة 1963، بهدف ضمّها إليه مُحاججاً بأنّها جزءٌ من أراضيه التاريخية، وقد كان ذلك بعد استقلال الجزائر مباشرةً، (أي في الوقت الذّي كانت تضمّد جراحها من الاحتلال الفرنسي) الأمر الذّي أدّى إلى قيام حربٍ نظاميةٍ بين البلدين سُميّت آنذاك بحرب الرمال. لقد رأى “حُكماء الجيوبوليتيك” المغاربةُ آنذاك أنّهم بصدد فرصةٍ تاريخيةٍ ستمنحهم مقدرةً على توسعت حدود بلدهم ونفوذه الجيوبوليتيكي لتبلغ ما بلغته حدود دولة المرابطين في القرن الحادي عشر أو أكثر، فكانت دعوتهم للتحرّك العسكري نحو منطقة تيندوف الجزائرية، إلاّ أنّها كانت في الحقيقة خطوةً غير حكيمةٍ منهم بالمطلق، إذ رسمت هذه السابقة الخطيرة في المُدركات الأمنية لصنّاع القرار الجزائريين شعوراً بالتهديد المستمر، تهديدٌ قادمٌ من دولةٍ ذات طموحاتٍ توسعيّةٍ على حساب الجيران كما رآها هؤلاء، منذ ذلك الحين، اتخذت الجزائر موقفاً حذراً تجاه المغرب، بل وعمد “حُكماء الجيوبوليتيك” بها إلى اتخاذ إرجاءٍ جيوبوليتيكيٍ إستباقيٍ من خلال حرصهم على إشغال المغرب بقضيةٍ أخرى على حدوده وهي قضية الصحراء الغربية، عبر دعم حقّ الشعب الصحراوي بالاستقلال وهذا ما نعتبره ثاني سببٍ مهمٍّ، أيْ مُشكلة الصحراء الغربية التّي يدّعي المغرب أنّها “مغربية” وجزءٌ لا يتجزأ من أراضيه ويبذل لأجل ذلك كافة السبل العسكرية والدبلوماسية لأجل إخضاع أراضي الشعب الصحراوي، وتُعتبر الجزائر الداعم الأول للشعب الصحراوي في هذه القضية، إذ تُنفق الجزائر سنوياً مبالغاً لا بأس بها لأجل تدريب وتجهيز المقاتلين الصحراويين وإيوائهم وتدريسهم، ولقد نجح “حُكماء الجيوبوليتيك” الجزائريين إلى حدٍّ بعيدٍ في ذلك إذ أشغلوا المغرب لعقودٍ طويلةٍ بقضيةٍ أخرى من شأنها “أن تُهدّد أمنه القومي ووحدته الترابية” كما يتصوّر، وهي خطوةٌ جيوبوليتيكيةٌ إستباقيةٌ سوف تصدّه عن التجرأ مجدّداً على مُباشرةِ “سلوكٍ هجوميٍ” ضدّ جاره الجزائر، فضلاً عمّا قد يُحقّق ذلك من مكاسبٍ وأفضليةٍ جيوبوليتيكيةٍ للجزائر إذا ما نالت الصحراء الغربية استقلالها يوماً ما، إذ يصير للجزائر حينها منفذٌ آخر على المحيط الأطلسي، وهو ما قد يُقدّم لها خدماتٍ عسكريةٍ لوجستيةٍ في أفريقيا بل ومزايا اقتصادية كبيرةٍ أيضاً، هذا ما يطمحُ إليه “حُكماء الجيوبوليتيك” في الجزائر.

هكذا صارت الصحراء الغربية بمثابة الساحة التّي تتنافس فيها التصوّرات الجيوبوليتيكية المتضاربة “لحكماء البلديْن” بشكلٍ مباشرٍ على المكانة الإقليمية والنفوذ، وإذا كانت الجزائر تعتمدُ في ذلك على ميزانيةٍ ضخمةٍ مُخصّصةٍ للإنفاق العسكري بفضل ثراءها النفطي، فإنّ المغرب يعتمدُ في ذلك على نسجِ شبكةٍ من التحالفات الإقليمية والدولية لمحاصرة الجزائر دبلوماسياً على الأقل (كما فعل لسنواتٍ عديدةٍ حينما توجّه إلى حلفاءه الخليجيين)، أو يعمدُ إلى تقديم تنازلاتٍ ما على أراضيه “لحلفاءٍ آخرين” (مثلاً اعترافه “بدولة إسرائيل” وإقامة سفارة لها على أراضيه في الوقت الذّي تعتبر الجزائر هذا الأمر خطّاً أحمراً بالنسبة لها)، فالمشاريع الاقتصادية أو الاستراتيجية الأجنبية التّي قد ترفضُ الجزائر تمريرها بشمال إفريقيا، قد يوافق عليها المغرب ويُكيّفُها وفقاً لرؤاه الأمنية أو الاقتصادية (مثلاً مشروع الطاقة الشمسية الألماني) سعياً منه إلى تحدّي قَدَرِه الجغرافي والتحرّر منه، فهل نجح “حُكماءه” في بلوغ ذلك؟

معاركٌ ضدّ القَدَر:

نُحاجج قبل كلّ شيء، بأنّ الجغرافيا تفرض على “حكماء الجيبوليتيك” في المغرب حتمية التوجّه نحو تعزيز علاقاتهم مع الجزائر وتصفير مشكلاتهم العالقة معها وعلى رأسها قضيّة الصحراء الغربية، وإلاّ فسوف يجد المغرب نفسه معزولاً سياسياً ومُحاصراً جيوبوليتيكياً4 منزوعاً من أيّ طموحٍ، فبمجرّد إلقاء نظرةٍ على خارطة شمال إفريقيا، سوف يتضّح لنا “القدر المشؤوم” الذّي يُعيقُ المغرب من أن يكون دولةً إقليميةً قويّةً مُكتفيةً ذاتياً، وهو الجغرافيا، وأنّ قَدَره هذا سوف يبقى مربوطاً دوماً بتحدّي حتمية هذه الجغرافيا المُعيقة المُحيطة به، فعن الشرق توجد الجزائر بصحرائها الحارة الواسعة وبقوتّها العسكرية الضخمة التّي تصدّ أيَّ طموحٍ للمغرب بتصدير قوتّه نحو الشرق، أمّا عن الغرب، فالمغربُ مُحاصرٌ بكتلةٍ مائيةٍ ضخمةٍ اسمها المحيط الأطلنطي، والذّي يمنعه من تصدير قوتّه باتجاه الغرب أيضاً، أو ما يُسمّيه البروفيسور جون ميرشايمر “بالقوة المعيقة للمياه”، أمّا عن الشمال فتُوجد إسبانيا ودول الاتحاد الأوروبي التّي تمنعه من تصدير القوة نحو الشمال وتشكيل هذه الجهة حسب طموحاته، فهو سيبقى –من الشمال- متأثراً بميزانٍ سلبيٍ للقوة في غير صالحه. يبقى الجنوب منفذاً وحيداً للمغرب بإتجاه دول القارة السمراء، وهنا يُصادف المغرب معضلةً جيوبوليتيكيةً أخرى ألا وهي مُعضلة الصحراء الغربية، المنفذ الجيوبوليتيكي الوحيد للمغرب، لذا تُعتبر هذه القضية قضيةَ أمنٍ قوميٍ لدى المغاربة خاصةً مع توجّهم الاستراتيجي الجديد نحو إفريقيا جنوب الساحل.

لقد سعى المغرب مِراراً أن يتحرّر من هذا الطوق الجيوبوليتيكي عبر محاولة بناء شبكة صداقاتٍ عربيةٍ، إفريقية ودوليةٍ بعيداً عن منطقة شمال إفريقيا مُحيطه الجغرافي الطبيعي، ولعلّ دول مجلس التعاون الخليجي تُعدُّ أهمّ هؤلاء “الأصدقاء” بالنسبة للمغرب عربياً، أمّا فرنسا والولايات المتحدة فهما أهمّ القوى الغربية التّي يُعوّل عليها المغرب في دعم موقفه تجاه قضية الصحراء الغربية. قبل سنةٍ تقريباً في شهر نوفمبر 2017، كان لملك المغرب محمد السادس زيارةٌ إلى بعض الدول الخليجية على رأسها قطر والإمارات، وذلك على إثر الأزمة الخليجية بين هذين الدوليتين إضافةً إلى السعودية وبعض الدول الأخرى، حينما حاصرت هذه الدول قطر حتّى تدفعها لتغيير سياساتها تجاه بعض ملّفات المنطقة. وبالرغم من خلفيات هذه الزيارة، فإنّ ما يهمّنا هنا هو محاولة المغرب البحث عن حلفاء خارج إقليمه تماماً ونسج علاقاتٍ اقتصادية وسياسية قويّة معها5 بعيداً عن الجزائر التّي لا تزال المُدركات الأمنية لصنّاع القرار المغاربة تراها مصدراً للتهديد. لقد فسّر البروفيسور ستيفن والت من جامعة هارفرد هذا النمط من السلوكيات والتحالفات حينما كتب سنة 1987 كتابه الشهير: “أصول الأحلاف”، وتحدّث فيه عن نظريته الجديدة “توازن التهديد” (Balance of Threat) 6، والتّي ترى –خلافاً لنظرية توازن القوى- بأنّ:

  • الدول تتوازن ضدّ الطرف الأكثر تهديداً لها، لا الأكثر قوّة.
  • كلّما كانت الدولة أقرب جغرافياً، دفع ذلك إلى زيادة تحرّك الآخرين للتوازن ضدّها، لذا فالدول المجاورة أقلُّ إحتمالاً لأن تكون حليفةً لبعضها البعض، حيث تُفضّل عنها قوةً أخرى.
  • كلّما تعاظمت القدرات الهجومية لدولةٍ مجاورة، تعاظم إتجّاه الآخرين للتحالف ضدّها، لذا فالدول التّي تتمتّع بقدراتٍ عسكريةٍ تدفع الدول الأخرى إلى تشكيل إئتلافٍ دفاعي.

فالمُدركات الأمنية للمغرب ترى في الجزائر مصدراً للتهديد لذا يتّجه المغرب للتوازن ضدّها، وبما أنّ مصدر التهديد هذا (أي الجزائر) يُعتبر قريباً جغرافياً، فهذا ما يدفع المغرب للتوجّه إلى البحث عن حلفاء له خارج هذا الإقليم الجغرافي الذّي تفرضُ الجزائر هيمنتها النسبية عليه. أيضاً، تُعتبر الجزائر البلد الإفريقي الأكثر تسليحاً، إذ تحظى بنسبة 52% من السلاح الذّي تستورده القارة السمراء حسب تقرير معهد ستوكهولم، بينما تحتل المركز السابع عالميًا من حيث الاستيراد، كما يرى التقرير بأنّ موازنة الدفاع الجزائرية قد حافظت على مستواها خلال السنوات الأخيرة وقُدِّرت بـ 10.1 مليار دولار خلال 2017، وهي تحتّل المرتبة ال 20 عالميا والثالثة عربيا7، في حين تُقدّر ميزانية الدفاع المغربية ب 3.4 مليار دولار وتحتل المرتبة 55 عالميا.8 كُلُّ ذلك، كما قُلنا، دفع المغرب للبحث عن أصدقاء خارج إقليمه ليتحرّر من قَدَرِ الجغرافيا، فما الذّي أحدثَ تغييراً في موقفه –بشكلٍ مفاجئ- حتّى يدعو الملك المغربي إلى فتح الحوار مع الجزائر بتلك الطريقة الإعلامية التاريخية؟

“إنتصار الجغرافيا” أو كيف أعادت الجغرافيا المغرب إلى مجاله الطبيعي:

بينما كان العالم كلّه منشغلاً بمتابعة تصفيات كأس العالم لسنة 2018، أجرت الفيفا تصويتاً بين أعضاءها حول المرشّح الذّي سوف يستقبل على أراضيه نهائيات كأس العالم لسنة 2026، كانت المغرب إحدى الدول المُتنافسة على ذلك في مواجهة ملف أمريكا الشمالية المشترك، أسفرت النتائج عن فوز ملف أمريكا الشمالية ب 139 صوتا مقابل 65 صوتاً حاز عليه المغرب، أمّا الأمر الذّي صدم المغرب في هذا الحدث فهو تصويت معظم “أصدقاءه الخليجيين المُفترضين” ضدّه، وكأنّ “هؤلاء الأصدقاء” يقولون للمغرب بأنّه لن يكون على رأس أولوياتهم إذا ما تواجهت مصالحه مع مصالح الولايات المتحدة في مسألة ما أو إذا ما قرّرت الولايات المتحدة شيئاً مخالفاً لإرادة المغرب، ولو كانت المسألة مسألةً رمزيةً على غرار حدثٍ كُرويٍ كهذا. لقد أثار هذا الحدث موجةَ سخطٍ داخل المغرب وتساؤلاً جدّياً عن “حدود الصداقة والتحالف المزعوم” بين بلدهم ودول الخليج البعيدة، وعن مدى إستعداد هذه الدول للذهاب بعيداً في مساندة المغرب إقليمياً ودولياً في قضاياه الأساسية وعلى رأسها قضية الصحراء الغربية. الطريف في هذه المسألة هو تصويت “الجار الخصم” الجزائر لصالح ملف المغرب، بشكلٍ بدا بأنّه أولى ملامح “إنتقام الجغرافيا”، بمفهوم كابلان، من سياساتٍ خارجيةٍ غير عقلانيةٍ للمغرب تتحدّى حتميّة الجغرافيا المتواجد فيها، أو ما نعتبره في هذه الورقة “إنتصاراً للجغرافيا” على عوامل كثيرةٍ قد تدخل في حسابات الدول حينما تُهندس لتحالفاتها على غرار العامل القيمي الذّي يتحدّث عنه المعياريين واللبيراليين الجدد (تشابه طبيعة المَلَكيات الحاكمة بين المغرب ودول الخليج) أو العامل الإقتصادي الذّي يتحدّث عنه أصحاب مقاربة الإعتماد المتبادل (إستفادة المغرب من إستثماراتٍ دول الخليج الريعية الغنية على أراضيه في مقابل دعم المغرب الدبلوماسي وحتّى العسكري للمواقف والسلوكات الخارجية التّي تتبّناها تلك الدول في منطقة الشرق الأوسط على غرار حرب اليمن) أو غيرها من العوامل، فمهما بدت تلك العوامل “عواملاً إستراتيجيةً” إلاّ أنّها لن تتصّف بمزايا الديمومة التّي يتميّز بها مصلطح “إستراتيجية” أساساً إذا كانت تلك العوامل تتضارب مع الطبيعة الحتمية لعامل الجغرافيا فضلاً أن تتحدّاه.

لقد إزداد المغرب قناعةً بأنّه مُعرّضٌ لخنقٍ جيوبوليتيكي فعليٍ من طرف الجزائر إذا ما إستمر في إنتهاج سياسته تلك، خاصةً وأنّ بعضاً من هذه الدول الخليجية صار لها تأثيرٍ أمنيٍ سلبيٍ على قضايا المغرب الكبير لن تتردّد الجزائر في التصدّي له بطرقها الخاصّة، كما يحدث في ليبيا بالضبط أو حتّى تونس التّي تحدّث بعض مسؤوليها العام الماضي عن إفشالهم محاولة إنقلاب كانت ستشهدها بلادهم -بمساعدةٍ من الجزائر- كان لبعض تلك الدول الخليجية يدٌ فيها، لقد بدا ذلك الخنق الجيوبوليتيكي واضحاً حينما أعلنت الجزائر يوم 18 أغسطس الماضي عن فتحها لأولّ معبرٍ برّيٍ بينها وبين موريتانيا، يُعبّرُ هذا الخطّ بالفعل عن تفكيرٍ جيوبوليتيكيٍ محضٍ من طرف “حكماء الجيوبوليتيك” في الجزائر، إذ يُساهم هذا الخطّ في تعزيز العلاقات الجزائرية الموريتانية إقتصادياً وإستراتيجياً على حساب المغرب الذّي يزداد وضعه الجيوبوليتيكي سوءاً بعدما إقتنع بعدم قدرته على التنبؤ بحدود المقدرة والفعل لدى “حلفاءه الخليجيين المفترضين” خاصةً وأنّهم يعيشون اليوم أزمة شرعيةٍ راهنةً تُفقدهم الكثير من السُمعة والحركة على المستويين الإقليمي والدولي على حدٍّ سواء بعد حادثة إغتيال الصحفي جمال خاشقجي.

لأجل كلّ ما سبق، جاء خطاب الملك المغربي محمد السادس في هذا التوقيت بالضبط ليعكس إقتناع “حكماء الجيوبوليتيك” المغاربة بحتمية العودة إلى جوارهم الجغرافي الطبيعي وضرورة تصفير مشكلاتهم مع الجزائر بإعتبارها الفاعل الأهمّ في هذا الجوار حتّى يتسنّى لبلدهم التحرّك بحُريّةٍ أكبر في سياسته الخارجية وهذا ما نراه هنا عين الحكمة والعقلانية والواقعية السياسية، خاصةً وأنّ الجزائر تعيش اليوم مرحلةٍ إنتقاليةٍ على مستوى نظامها السياسي مع صراع جنيرالاتها وأجنحتها الراهن قد تُفرزُ (على المدى البعيد) جيلاً جديداً من النخب ينظر إلى العلاقات المغاربية البيْنية عموماً بمنظورٍ ثقافيٍ- بنائيٍ-تعاوني غير تنافسي أو بمنظور جغرافي كما تفعل هذه الورقة، وهذا هو المطلوب بالضبط الذّي يُستحسن على الباحثين الجزائريين والمغاربة على حدّ السواء أن يروجوا له طالما يصبّ في مصلحة البلدين ومصلحة شعوب المغرب الكبير عموماً. لكن لحدّ الآن، تظلّ الجغرافيا بمثابة العامل المُفسّر الأكثر أهميّةً في إحداث تقاربٍ نسبيٍ راهنٍ بين الطرفين، لقد كتب الجيوبوليتيكي الأمريكي الشهير نيكولاس سبيكمان مُعبّراً عن هذه الحقيقة يوماً حينما قال: “الجغرافيا لا تُجادَل فهي ما هي عليه ببساطة.. الجغرافيا هي العامل الأكثر أهميّةً في السياسة الخارجية للدول، لأنّها أكثر العوامل ديمومةً، يأتي الوزراء ويذهبون، وحتّى الطغاة يموتون، لكن السلاسل الجبلية تظلّ راسخةً في مكانها”9، وبالفعل تبقى الجغرافيا ثابتةً بين البلديْن بجبالها الشامخة وصحاريها الشاسعة، كما يبقى الشعبيْن المغربي والجزائري شعبين مجاوريْن في حاجة إلى تعاونٍ مشتركٍ دائمٍ، بينما يتغيّر “الحكّام والحُكماء” بشكلٍ مستمرٍ وتتغيّرُ معهما المُدركات الأمنية لدى البلديْن، كما تتعرّض قوّة الفعل والتأثير النسبية لدى “الحلفاء البعيدين” لحالةٍ من التغيّر المستمر، أمّا القوى الكبرى الفاعلة في هذه القضية فليس لديها أصدقاءٌ دائمون وإنّما مصالح دائمة وفقط.

توصيات: بديلاً عن الخاتمة:

إنّ الدرس الذّي يُستحسن عدم نسيانه أو تجاهله بالنسبة صنّاع القرار والمنخرطين في البحث بهذا الملف في المغرب والجزائر معاً هو إستحالة المراهنة على “حلفاء بعيدين” لأجل تحقيق أفضلية ما على حساب الجار القريب المنافس، إنّها مراهنةٌ خاسرةٌ بإمتياز على المدى البعيد حينما تتحدّى الدول قدرها الجغرافي بدلاً من أن تتصالح معه وتتكيّف بطريقة ما، لقد قدَّمتْ هذه الورقة مُجدّداً مثالاً راهناً في هذا الصدد، فقوّة الدول الخليجية “الحليفة” كانت وسوف تظلّ قوةً نسبيةً غير مستقرّةٍ على الإطلاق، بينما تبقى الجغرافيا عاملاً ثابتاً على الدوام، سوف تظلّ الجزائر الجار الأوّل المحاذي للمغرب على مرّ الزمن كما كانت في الماضي تماماً قبل قرون، بينما قد تهتّز قوّة هذه الدول الخليجية تماماً مع أولّ حربٍ جدّيةٍ في “الشرق الأوسط” ضدّ إيران مثلاً، أو إذا ما قرّرت الولايات المتحدة يوماً ما تغيير أولوياتها أو حلفاءها هناك. إنّ تعزيز العلاقات مع الجار الأكبر (الجزائر) وتصفير المشكلات معه لهو الأولوية القصوى التّي يُستحسن على صنّاع القرار في المغرب مُباشرتها، فهي عين الحكمة والعقلانية والواقعية السياسية كما قلنا، إذ تبقى الجزائر الفاعل الأقوى في منطقة شمال إفريقيا خصوصاً والأكثر تأثيراً في قرارات الإتحاد الإفريقي على وجه العموم، لذا فمن الخطأ إستراتيجياً معاداتها، كما تبقى الجزائر الطرف الأول المساهم في الإستقرار الأمني لمنطقة شمال إفريقيا، فإستقرار المغرب من إستقرار الجزائر، وأيّ فوضى أمنية في الجزائر سوف يكون لها حتماً آثارٌ سلبيةٌ ضخمةٌ على الأمن القومي المغربي. على “حُكماء الجيوبوليتيك” في المغرب إذن أن ينظروا إلى الجزائر بطريقةٍ مغايرةٍ وأن يعملوا على تغيير المُدركات الأمنية لدى نخبهم الحاكمة والأجيال الجديدة من الباحثين بخصوص “وهم التهديد الجزائري” للأمن القومي المغربي من خلال فتح أبواب الحوار مع الجزائر والبحث عن أرضيةٍ مشتركةٍ في مجالات السياسة الدنيا على الأقلّ كالإقتصاد والإستثمار وقطاع السياحة والخدمات والأهمّ في مجال التبادلات الثقافية والفكرية، وهو مقتضى الحكمة التّي يُستحسن على “حُكماء الجيوبولتيك” في الجزائر مباشرتها فوراً في المقابل، أمّا ما نُحذّر منه في هذه الورقة فهو مجرّد تفكير صنّاع القرار في الجزائر بخيار الإصطفاف إلى جانب هذه الدول الخليجية صاحبة النفوذ المالي ضدّ المغرب معتقدين أنّ بإمكانهم الإستفادة من هذه الأزمة لصالح الجزائر ومحاصرة المغرب بشكلٍ أكبر وأمتن، لو حدث هذا الأمر فسيكون خطأ الجزائر الإستراتيجي الأعظم على المدى البعيد الذّي سيصعبُ تداركه لاحقاً أو تغيير ما يُخلفّه من مدركاتٍ أمنيةٍ سلبيةٍ لدى المغاربة في الحاضر والمستقبل، فقد يدفع ذلك المغرب كردّة فعلٍ منه على تعزيز تنسيقه الإقتصادي والإستراتيجي مع “إسرائيل” المتوغلّة بقوة في القارة الإفريقية منذ عقودٍ (سيكون ذلك بدوره خطئاً إستراتيجياً جديداً للمغرب لا يختلف عن خطأ إرتباطه السابق بدول الخليج على حساب محيطه الجغرافي الطبيعي)، وما الملفات الإفريقية التّي حملتها الزيارة الأخيرة لنتانياهو إلى المغرب إلاّ مثالٌ واضحٌ عن ذلك، إذا ما ذكّرنا هنا بأنّ للجزائر توجّهٌ تقليديٌ نحو القارة الإفريقية التّي تعتبرها مجالها الحيوي الكبير ولن ترض طبعاً بوجود تنسيقٍ عالي المستوى بين منافسين لها كالمغرب و”إسرائيل” في هذا الملف. ما نريد قوله هنا أنّه وحتّى مع الأفضلية الجيوبوليتيكية التّي تتمتّع بها الجزائر مقارنةً ببقية الجيران فلن تكون الأخيرةُ قادرةً على تصحيح خطأ الإصطفاف وراء الدول الخليجية في هذه اللحظة ضدّ المغرب، وسيعاني الأمن القومي الجزائري لعقودٍ طويلةٍ لاحقةٍ من خاصرته الغربية كما تُعاني الصين اليوم تماماً من خاصرتها الجنوبية تايوان، أو روسيا من خاصرتيْها الغربية والجنوب غربية أوكرانيا وجورجيا، أو تركيا من محيطها الجغرافي المضطرب من جميع الجهات بل وحتّى كأقوى دولةٍ عرفها التاريخ البشري أي الولايات المتحدة التّي ظلّت تُعاني من المكسيك وجزيرة كوبا الصغيرة بالأخصّ في التاريخ وربّما في المستقبل أيضاً مع إستمرار إمتداد النفوذ الصيني العالمي الذّي قد يصل في ذروته إلى تلك الأراضي البعيدة كما وصل نفوذ السوفيات في ذروته إلى هناك من قبل سنة 1962.

ما نريد المحاججة به هنا أنّ الجغرافيا ستظلّ ثابتةً متحكّمةً في مصائر الأمم كما أثبت التاريخ وتُثبتُ أمثلةُ الحاضر أيضاً، ولن يكون المغرب والجزائر إستثناءً عن هذه القاعدة الجغرافية الحتمية، على المغرب، بإختصار، أن ينظر إلى الجزائر بإعتبارها “الأخ الأكبر” الحريص على أمن ومصالح جميع الإخوة في منطقة شمال إفريقيا وعلى الجزائر في المقابل أن تُوظّف ثقلها الجيوبوليتيكي بالشكل الأنسب فتضطلع بقيادتها الحميدة للمنطقة، فلعلّها تكون أولى الخطوات نحو حلم إتحاد المغرب الكبير الذّي طال إنتظاره[10].


الهامش

1– لقد طرح الباحث الفكرة التّي تدور حولها هذه الورقة شهر نوفمبر سنة 2017 متنبئاً بشكلٍ مبكرٍ بالمسار الذّي سوف تأخذه العلاقات المغربية-الخليجية وكذا العلاقات المغربية-الجزائرية اعتمادا على الدور الحتمي الذّي سوف يلعبه عامل الجغرافيا في ذلك، منذ تلك الفترة تتتالي الأحداث تبعاً لتُثبت صحّة هذه التنبؤات.. للمزيد أنظر:

– جلال خشيب، أزمات الخليج والمغرب العربي، محطات مغاربية، قناة الحوار اللندنية، 12 نوفمبر 2017، إسطنبول-تركيا.

– جلال خشيب، ماوراء تصويت دول عربية ضد ملف المغرب لتنظيم كأس العالم 2026؟ محطات مغاربية، قناة الحوار اللندنية، 18 جوان 2018، إسطنبول-تركيا.

– Then: Djallel Khechib, The Revenge of Geography; Can Morocco ignore the geography surrounding it in its foreign policy? INSAMER Center, August 15, 2018, Istanbul-Turkey.

2– على غرار أثر العولمة، التكنولوجيا العسكرية كالصواريخ العابرة للقارات، غزو الفضاء، الثورة السيبرناتيكية (وغيرها) على التفاعلات بين الأمم.

3 – See: Iraq, The Three Trillion Dollar War, Interviews with Joseph Stiglitz, Yale Journal, Spring-Summer 2008.

4– ينبغي الإشارة إلى أنّ الحدود البريّة بين البلدين مغلقةٌ منذ سنة 1994، كان ذلك على إثر تفجيراتٍ حدثت بفندقٍ بمدينة مرّاكش المغربية، اتهم حينما المغرب المخابرات الجزائرية بالوقوف خلفها، وفرض تأشيرةً على الجزائريين لدخول أراضيه، ردّت الجزائر على هذا القرار الاستفزازي بغلق الحدود البرّية بين البلدين، وهو إجراءٌ يصبّ في صالحها في الحقيقة خاصةً وأنّها تعاني من مشكلات التهريب الغير شرعي للوقود من الجزائر نحو المغرب، وتهريب الحشيش والمخدرات من المغرب نحو الجزائر، إلاّ أنّ المغرب رأت فيه إجراءً يستهدف عزلها إقليمياً ومحاصرتها، وقد عملت على إقناع الجزائر بفتح الحدود مراراً بعدما تضرّرت من ذلك اقتصاديا على نحوٍ خاص.

5– نسب إستثمار الدول الخليجية في المغرب مرتفعة جدّا مقارنة بدول أخرى في منطقة شمال إفريقيا، للمزيد أنظر:

See: Lélia Rousselet, Evolutions in the relations between Morocco and the Gulf Cooperation Council, Science Po– Paris 2014.

6 – See: Stephen M. Walt, The Origins of Alliances, Cornell University Press, 1987, USA.

7 – See: Nan Tian and others, TRENDS IN WORLD MILITARY EXPENDITURE, 2017, SIPRI Fact Sheet May 2018, p: 04 link

8– See: 2018 Morocco Military Strength, GFP Strength in Numbers, 2018. link

9– روبرت كابلان، إنتقام الجغرافيا، ما الذّي تُخبرنا به الخرائط عن الصراعات المقبلة وعن الحرب ضدّ المصير، ترجمة إيهاب عبد الرحيم علي، سلسلة عالم المعرفة، الطبعة الأولى يناير 2015، الكويت، ص: 50.

[10] الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.

جلال خشيب

باحث جزائري مُقيم بتركيا، تهتمُ أعماله بمجال الجيوبوليتيك، نظريات العلاقات الدولية، سياسات القوى الكبرى والإقليمية، من أبرز أعماله كتاب: “أثر التحوّلات الطارئة في بُنية النظام الدولي على التوجّهات الكبرى للسياسة الخارجية التركية”، سنة 2017.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى