دراساتمجتمع

إمكانيات الإدارة الذاتية في عشوائيات القاهرة

يعد افتقاد دور الدولة في تلبية احتياجات المجتمع أحد الملامح الرئيسية لما يسمى بالعشوائيات، أو بمصطلح أكثر انضباطا مناطق الإسكان اللارسمي. وفي حين أن التعريف المعتمد لمؤسسات الأمم المتحدة للإسكان اللارسمي يتعلق بالأساس بنمط الملكية والحيازة وتحديدا بكونهما غير محميين بالقوانين المحلية مما يجعلهما غير مستقرين ويجعل السكان عرضة دائما للإخلاء من مساكنهم، إلا أن هذا النمط ذاته مع ملامح أخرى مميزة لمناطق الإسكان اللارسمي تؤدي مجتمعة إلى ظاهرة الغياب شبه الكامل للدولة بوصفها مقدم للخدمات العامة عن مثل هذه المناطق.

إضافة إلى ذلك تغيب الدولة أيضا كضامن من خلال قوانينها لكثير من التعاملات الفردية والجماعية بين سكان هذه المناطق، نظرا لأنه يتعذر في كثير من الأحيان إبرام هذه التعاملات من خلال القنوات الرسمية بما تمنحه من مواقف قانونية يمكن استخدامها لاسترداد حقوق أطرافها بالسبيل القانوني.

غياب الدولة ومن ثم افتقاد دورها في تقديم مثل هذه الخدمات أو الضمانات مع حاجة السكان إليها يدفعهم بالضرورة إلى البحث عن بدائل، وهو ما يطرح السؤال هنا عن إمكانية أن يكون غياب الدولة حافزا على نشأة نمط للإدارة الذاتية، وعما إذا كانت بعض الممارسات الفردية والجماعية الملحوظة في هذه المناطق يمكن تصنيفها على أنها صور من هذه الإدارة، أو إن كان يمكن تطويرها لتصبح كذلك.

تسعى هذه الورقة إلى استطلاع إمكانية إقامة منظومة فعالة وعادلة للإدارة الذاتية في مناطق الإسكان اللارسمي (العشوائيات) في القاهرة. وفي سبيل ذلك تبدأ أولا باستعراض مختصر لتاريخ الإسكان اللارسمي في القاهرة وبعض الملامح الإحصائية لتمدده، ثم تتناول مفهوم الإدارة الذاتية والتناقضات التي قد ينطوي عليها المصطلح في حد ذاته وتمثل عائقا في حد ذاتها دون تحققه الواقعي. تاليا تستخلص الورقة مجموعة من المتطلبات الأساسية لإقامة إدراة ذاتية فعالة وعادلة، ثم تعرض لبعض تجارب التشاركية التي تمت من خلال تعاون الدولة مع جهات خارجية وكذا لممارسات محلية تحاول تقديم بديل عن دور الدولة الغائب عجزا أو عمدا. من خلال ما سبق تنتقل الورقة إلى إجابة سؤالها الأساسي بأن توضح ما يتطلبه إنشاء منظومة للإدارة الذاتية في الواقع المصري الحالي بناء على الأقسام السابقة فيها.

أقراء أيضاً

أولاً: عشوائيات القاهرة

النمو الكبير والمطرد للمدن هو أحد الملامح الرئيسية المميزة للعصور الحديثة، فبالرغم من إن العصور القديمة والوسطى قد شهدت مدنا بعينها نمت إلى أحجام ضخمة فقد ظل هذا النمو استثناءً على القاعدة بخلاف كونه في معظم الوقت مشروطا بظروف خاصة ليست لها صفة الاستدامة ما يعني أن تلك كانت في المعتاد ظاهرة مؤقتة لم تستمر. وحده العصر الحديث قد شهد نمو المدن كظاهرة عامة محايثة للحداثة بوجهيها أي مع نشأة كل من الرأسمالية والدولة الحديثة، فاﻷولى عملت على تركيز الثروات في المدن ونقل الأنشطة اﻹنتاجية وبخاصة الصناعية إليها، فيما أنتجت الثانية اﻷجهزة البيروقراطية الضخمة التي احتاجتها الدولة الحديثة ﻹدارة المجتمعات بنمط أكثر تدخلية وتفصيلا عما سبق.

وفي جميع الحالات كان نمو مدن العصر الحديث ناتجا بالأساس عن الهجرات الداخلية المستمرة إليها من المناطق الريفية إضافة إلى الزيادة الطبيعية التي عززها تطور آليات الرعاية الصحية وتوافرها بصفة خاصة في المدن أكثر من غيرها. هذا التوجه العام إلى نمو المدن تصاعد بشكل متسارع في القرن العشرين، ومع بداية القرن الحالي قدرت الأمم المتحدة من خلال تقرير لها أن سكان المدن في العالم الذين بلغوا عام 2001 حوالي 2.9 مليار نسمة سيصلون إلى 5 مليارات نسمة في عام 2030، وقي حين كان 30% من سكان العالم يسكنون المدن في عام 1950، أصبحت هذه النسبة 47% في عام 2000، وقدر التقرير أن تصل إلى 60% في عام 2030. (UN 2001, p.5)

في نسخته لعام 2018 يورد تقرير الأمم المتحدة “آفاق العمران العالمي” أن 55% من سكان العالم يعيشون في المدن، ويقدر أن تصل النسبة إلى 68% في عام 2050. نما عدد سكان المدن، كما يذكر التقرير، بشكل متسارع منذ عام 1950، فبينما بلغ حينها حوالي 751 مليون نسمة في العالم، أصبح 4.2 مليارات في عام 2018، يعيش 54% منهم في قارة آسيا. وتوقع التقرير أن تنفرد ثلاث دول، هي الهند والصين ونيجيريا، بإضافة 35% من إجمالي الزيادة المتوقعة لسكان المدن ما بين عامي 2018 و2050.

كما يتوقع التقرير أن يكون في العالم 43 مدينة كبرى megacity معظمها في البلدان النامية. وفي قائمة المدن الأكثر سكانا بالعالم تأتي القاهرة ضمن المدن في الترتيب الخامس بتعداد يقارب العشرين مليون نسمة، يرافقها كل من مومباي وبكين ودكا، في حين كانت طوكيو العاصمة اليابانية في المركز الأول بتعداد يبلغ 37 مليون نسمة. (UN 2018, p. 1)

على جانب آخر، وكما أوضحنا في ورقة سابقة، يعتبر النظر إلى نمط إسكان ما على أنه غير رسمي منتجا للحداثة ولآليات الدولة الحديثة، في حد ذاته. فلم تعرف المجتمعات فيما سبق إلا أنماط عمران تقليدي سواء كان مخططا له بشكل مسبق وهو ما مثل الاستثناء على القاعدة، أو نما وانكمش كاستجابة طبيعية لاحتياجات المجتمع وتطور قدراته المادية والتقنية. ولكن التدخل العميق للدولة في التفاصيل اليومية لحياة مواطنيها وهو ما يميز الدولة الحديثة عن سابقاتها هو ما أنتج عمرانا رسميا يتم بالكامل وفق سياسات تفرضها الدولة من خلال قوانينها أو تنفذها بشكل مباشر بالقيام بأنشطة تخطيط وإنشاء المناطق العمرانية الجديدة وإعادة تخطيط وتطوير المناطق القديمة. ومع فرض الدولة الحديثة لمعايير محددة لنمط عمران يتفق مع متطلباتها التي أملتها حاجاتها إلى إدارة شؤون السكان وأنشطتهم، أصبح كل ما يخالف هذه المعايير ينضوي تحت تصنيف العمران اللارسمي.

بدأت ظاهرة اﻹسكان اللارسمي في القاهرة في أربعينيات القرن الماضي عقب الحرب العالمية الثانية بسبب ازدياد حركة الهجرة الداخلية من الدلتا والصعيد إلى القاهرة ما شكّل ضغطا كبيرا على سوق الإسكان المحدود حينها. وتضاعفت حركة الهجرة الداخلية هذه في عهد جمال عبد الناصر مع اجتذاب المدينة لمزيد من المهاجرين مع طفرة التنمية الصناعية. وبلغ معدل زيادة السكان بالقاهرة الكبري في الفترة 1960 إلى 1966 حوالي 4.4% سنويا. (Sejourne 2009) “في الفترة من السبعينات وحتى التسعينات بني 80% من الوحدات السكنية الجديدة في القاهرة الكبرى بشكل غير رسمي” (Piffero 2009) ووفق تقديرات تمت في عام 1998 بلغ سكان مناطق اﻹسكان اللارسمي حول القاهرة حوالي 7 ملايين نسمة، وفي عام 2006 كانت هذه الوحدات تؤوي 65% من سكان القاهرة الكبرى. (Sejourne 2009) “منذ بدء سياسة الانفتاح في عهد السادات أصبح الوصول إلى سوق السكن الرسمي للإيجار بالغ الصعوبة نتيجة لقرار الحكومة بتفضيل عرض وحدات مشروعات اﻹسكان للبيع.” (Piffero 2009)

استمر تمدد العمران اللارسمي طوال العقود التالية وحتى اليوم. فمن جانب كان الاتجاه إلى سياسات الليبرالية الجديدة بدءا من التسعينات سببا في مزيد من انسحاب الدولة من أدورها السابقة مع تزايد الأعباء المادية الملقاة على عواهل المواطنين مما دفع المزيد منهم إلى البحث عن بدائل إسكانية في المناطق غير الرسمية والتي أصبح النمو العمراني فيها مجالا استثماريا مربحا نتيجة الإقبال عليه.

ثانياً: مفهوم الإدارة الذاتية والعشوائية – مستويان للتناقض

في أبسط تعريفاته يعني مفهوم الإدارة الذاتية أن تتولى جماعة بشرية تمثل جزءا من المجتمع إدارة بعضا من شؤونها التي يفترض أن تديرها الدولة. والمعتاد أن تكون هذه الإدراة الذاتية بموافقة ومباركة الدولة نفسها، إما لتوافق على أن هذه الشؤون تعتبر داخلية بالنسبة للجماعة المذكورة ومن ثم يحق لها إدارتها بنفسها بقدر محدد ومتفق عليه من الاستقلالية، وإما لتحقيق توازن سياسي لتخطي حالة من المواجهة بين الدولة وبين هذه الجماعة. والأمثلة الواضحة للحالة الأولى تتعلق بإدارة أصحاب المهن المختلفة لبعض شؤون مهنتهم من خلال النقابات المهنية، بينما تتعلق الأمثلة الواضحة للحالة الثانية بمنح بعض الأقاليم ذات الأغلبية العرقية أو الدينية المختلفة قدرا من الاستقلالية لضمان عدم تعرض سكانها للتمييز ضدهم بسبب اختلافهم.

الحاجة إلى ممارسة شكل من أشكال الإدراة الذاتية نتيجة لفشل الدولة في إدارة بعض شؤون جماعة من السكان لأسباب مختلفة تواجه إشكاليات متعددة، أولها عدم استعداد الدولة للاعتراف بهذا الفشل، وإلقائها بالمسؤولية عليه على عاتق الجماعة المعنية. وهذه الحالة متكررة بالنسبة لمناطق الإسكان اللارسمي، ففشل الدولة في إمداد سكان هذه المناطق بالمرافق والخدمات يبرر بسهولة بكونها أولا نشأت دون تخطيط مسبق، وبالمخالفة لقوانين الدولة المنظمة للبناء، وثانيا لأن طبيعتها العمرانية يتعذر معها مد المرافق أو إنشاء الخدمات المختلفة. وعندما يتعلق الأمر بأوجه الإدارة الأخرى وفي مقدمتها توفير الأمن وإنفاذ القانون في حل المنازعات ومواجهة الجريمة وحماية المعرضين لخطر التعدي من غيرهم، يتم تبرير ذلك بعدم لجوء سكان هذه المناطق إلى أجهزة الدولة عند حاجتهم إلى تدخلها في مثل هذه الأمور. والواقع أن هذا التبرير يشير إلى حلقة مفرغة، فلجوء السكان إلى أجهزة الدولة يثبت في معظم الأحيان عدم فعاليته مما يؤدي لألا يكون هذا اللجوء خيارا عمليا مطروحا في الأساس.

ما سبق يوضح حقيقة أن نمط الإدارة الذاتية الذي يمكن تخيله في مناطق الإسكان اللارسمي لا يقع تحت أي من التصنيفين الذين يمكن أن تمنح فيهما الدولة بنفسها حق الإدارة الذاتية للسكان طواعية وبشكل مقنن ومنظم. وذاك لأن الدولة لا يمكنها التسليم بفشلها في إدارة هذه المناطق وبالحاجة إلى إيجاد بديل عن هذه الإدراة. ولكن على جانب آخر ليس هذا هو العائق الوحيد، فالسكان أنفسهم ليسوا في أغلب الأحيان مستعدين للتسليم بتخلي الدولة عن لعب دورها في إدارة شؤونهم، وهم ينظرون إلى ذلك على أنه انتقاص من حقوقهم، فهم حينما يؤكدون على فشل الدولة في القيام بدورها تجاههم، يرون أن سبب ذلك هو عدم اكتراثها لهم، وتخليها عنهم، وليس لأن ثمة أسباب موضوعية تجعل قدرة الدولة على إدارة كافة شؤونهم بالشكل المطلوب أمرا مستحيلا. ومن ثمة فالسكان أنفسهم يرون حل المشكلة في أن توليهم الدولة قدرا أكبر من الاهتمام وأن تقوم بدورها تجاههم وليس أن تلقي بالعبء كاملا عليهم.

يمكننا في الواقع أن نفسر هذا الوضع بحقيفة أن ثمة تناقضًا داخليًا في مصطلح الإدارة الذاتية نفسه. على الجانب الأول، يرتبط مفهوم الإدارة بالدولة الحديثة حصرا، وهو يميزها عما سبقها من صور حكم المجتمعات البشرية. ويمكننا القول إن حكم المجتمعات البشرية فيما سبق الدولة الحديثة كان محصورا في ممارسة شكل من أشكال السياسة، تشبه السياسة الخارجية بين الدول في عصرنا الحالي أكثر مما تشبه ما نسميه بالسياسة الداخلية. فالجماعة البشرية التي كانت تسكن إقليما من الأرض يخضع لسلطان منظومة حاكمة واحدة، كانت تتشكل من عدة جماعات يحتفظ كل منها بقدر كبير من الاستقلال في إدارة أغلب شؤونه اليومية. الدولة في ذلك الوقت، كانت أكثر تمثيلا لجماعة حاكمة من كونها تمثل مجمل سكان إقليمها، ومن ثم فدور الدولة كان تحقيق مصالح الجماعة الحاكمة من خلال إبقاء توازن القوى بينها وبين الجماعات ذات الشأن في إقليمها لصالح هذه الجماعة، ومن خلال الحفاظ على ولاء هذه الجماعات لها. لم تكن هذه الدولة معنية بإدارة الشؤون التفصيلية لرعاياها إلا بقدر ما كان ذلك ضروريا لتحقيق مصالحها.

وفي الواقع كانت نشأة الدولة الحديثة امتدادا في الأصل لهذا المبدأ، فما حدث عمليا هو أن مصالح الجماعة الحاكمة اصبحت تتطلب مزيدا من التدخل في الشأن اليومي للجماعات البشرية التي تعيش في ظل حكمها، ومع نشاة الرأسمالية وتفكك الجماعات التقليدية بالتدريج أصبح على الدولة أكثر فأكثر أن تتعامل مع أفراد مجتمع، وليس مع ممثلي جماعات. ومن هنا نشأت الإدارة بديلا عن السياسة للحكم الداخلي، وهو ما حكم تشكل الدولة الحديثة ومؤسساتها وطابعها البيروقراطي. ومن ثم فالدولة الحديثة وبصفة خاصة مؤسساتها البيروقراطية ترتبطان بشكل وجودي بالإدارة. بعبارة أخرى ممارسة الإدارة هي مبرر وجود البيروقراطية ووجود الدولة الحديثة نفسها، ولذا تجد بيروقراطية الدولة الحديثة صعوبة بالغة في التخلي عن دورها في الإدارة، ولا تسمح به إلا في حالات لا تمس من حيث المبدأ اختصاصها بهذا الدور، وما تسمح به من صور الإدارة الذاتية هو إجمالا نوع من التفويض ببعض المهام تحت إشرافها وبمقتضى قوانينها.

على الجانب الآخر، لو أننا سلمنا بما يقول به ميشيل فوكو في “المراقبة والعقاب”، فالذوات الحديثة هي منتج لممارسات السلطة التي تقوم الدولة بمعظمها سواء بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال مؤسسات تنظمها وتديرها مثل المؤسسة العسكرية والسجون، والمدارس في أغلب الأحيان، أو مؤسسات تنظم شؤونها من خلال القوانين. وما يعنيه ذلك أن الذات تنشأ في موقع تُمارس عليه السلطة أو الإدارة. مواطنو الدولة الحديثة تتشكل ذواتهم من خلال توقع أن يكونوا موضع رعاية هذه الدولة، وهم يعتبرون أن من مسؤولية الدولة إدارة العديد من شؤون حياتهم اليومية.

الإشكالية التي يطرحها غياب دور الدولة هي إذن ذات وجهين: الأول هو أنه غياب لا تعترف به الدولة أو على الأقل لا تعترف بأنه نتيجة فشل أو عجز من جانبها. الوجه الثاني أنه غياب يشكو منه المواطنون ولكنهم لا يرون له علاجا إلا في أن تصطلع الدولة بدورها، فهم يردونه إلى الفشل أو إلى عدم الاكتراث من جانبها وليس إلى عجزها عن القيام بدورها لأسباب موضوعية.

مما سبق يتضح أن تعريف مفهوم الإدارة الذاتية في سياق تغيب فيه إدارة الدولة لبعض أو معظم شؤون مواطنيها يختلف عن المفهوم السائد للإدارة الذاتية الذي يكون فيه تفويض الدولة لجماعة من مواطنيها بإدارة بعض شؤونهم ناتج عن توافق وخاضع لشروط تحكمها قوانين الدولة. وما ينبغي أن يشير إليه المفهوم في حالتنا هو أحد أمرين: الأول، هو إشارة إلى الواقع، ففي ظل غياب دور الدولة في تولي بعض شؤون مواطنيها لا يوجد بديل أمامهم سوى الاستعاضة عن هذا الدور في حالات الضرورة بأي بديل متاح. وهذا يخلق ما يمكن تسميته بالإدارة الذاتية الاضطرارية، ولا يمكننا أن نجد له نمطا ثابتا أو هيكلا تنظيميا، فهو ببساطة ينشأ في ظروف مختلفة تتطلب استجابات مختلفة، وهو لا ينتج بالضرورة نمطا مطردا.

المعنى الثاني الذي يمكن أن يشير إليه مصطلح الإدارة الذاتية في حالتنا هو كإمكانية، بمعنى أنه وضع تخيلي يفترض أن يحقق مصالح سكان المناطق اللارسمية بصورة أفضل دون الحاجة إلى الاعتماد على اضطلاع الدولة بدورها التقليدي. هذا المعنى هو ما نتناوله في هذه الورقة، ولكن علينا أن نتوقف أولا أمام الواقع وما يتيحه من صور لاستبدال دور الدولة بممارسات يمكن وصفها بالذاتية أو بشكل أدق بالمحلية، وذلك لبيان السبب في عدم إمكان اعتبار هذه الممارسات صورة مقبولة للإدارة الذانية، أو تصور إمكان البناء عليها للوصول إلى مثل هذه الصورة المقبولة. يتطلب ذلك بالطبع طرح معايير موضوعية للحكم على مجموعة من الممارسات من حيث كونها تشكل صورة مقبولة للإدارة الذاتية أو لا، وهو ما سنتناوله في القسم التالي.

أقراء أيضاً

ثالثاً: مقومات الإدارة الذاتية

لماذا نبحث في إمكانية تحقيق شكل من أشكال الإدارة الذاتية في مناطق الإسكان اللارسمي؟ لماذا لا نطالب ببساطة بأن تضطلع الدولة بدورها تجاه هذه المناطق وتعمل على رفع مستوى المعيشة بها من خلال إمدادها بالمرافق والخدمات وإقرار تواجد أمني يضمن توافر الأمن والأمان لسكانها ويسمح بتسوية النزاعات من خلال القانون؟ الإجابة هي أن التجربة قد أثبتت عجز الدولة عن القيام بدورها في هذه المناطق بالطريقة المعتادة، وثمة أسباب منطقية لذلك تتلخص في أن الدولة الحديثة يمكنها فقط التعامل مع ذلك الذي خططت له مسبقا، أما ما نشأ خارج سيطرتها فيمكنها فقط التعامل مع من خلال شكل من أشكال الإزالة والتطويع ليتحول إلى مساحة فارغة يمكنها تخطيطها من الصفر. والواقع أن ما يحول دون أن تمارس الدولة هذا الأسلوب في جميع مناطق الإسكان اللارسمي يعود فقط إلى ارتفاع تكلفته المادية والسياسية، والدليل أنه عندما يكون العائد المتوقع ماديا وسياسيا أكبر من التكلفة لا تتردد الدولة في استخدام أسلوب الإزالة وهو ما أقدمت بالفعل عليه في مناطق متعددة آخرها مثلث ماسبيرو.

نمط العمران الناشئ في مناطق الإسكان اللارسمي لا يسمح لتدخل منفرد من قبل الدولة لتحسين أحوال هذه المناطق وهو يتطلب بالضرورة شكلا من المشاركة الشعبية في قرارات التنمية والتخطيط لتحسين المرافق والخدمات والوضع الأمني. ولكن البديل النقيض، أي انفراد السكان من خلال شكل من أشكال الإدارة الذاتية لا تكون الدولة طرفا فيه هو بدوره غير واقعي ولا يمكن تحقيقه، ليس فقط لأن الدولة لن تسمح بنشأته ولكن لأن السكان لن يرغبوا فيه، ولأن الموارد المطلوبة لتحقيقه غير متوافرة لديهم على أية حال.

محاولات رفع مستوى مناطق الإسكان اللارسمي عالميا قديمة وتعود إلى خمسينيات القرن الماضي وشهدتها دول عديدة مثل بيرو، إندونيسيا، الهند، وتركيا. هذه المحاولات تبنت مقاربات اختلفت بشكل جذري ما بين السبعينات وحتى بداية القرن الحالي، ففي الفترة الأولى ساد أسلوب الإزالة الكاملة وتهجير السكان إلى مناطق أخرى خططتها الدولة. (Khalifa 2015) والواقع أن هذا كان اختيار الدولة في مصر في تصوراتها عن التعامل مع العشوائيات، ينقل (الرجال 2019) عن كتاب “القاهرة مدينة عالمية” إشارة الدراسات الواردة فيه “إلى محاولات دائمة لعزل السكان المحليين (يطلق عليهم المسؤولون أحيانا ‘الرعاع’ أو ‘الناس البلدي’) عن المناطق الأثرية.” ويضيف الرجال: “كانت هذه المناطق هما بوليسيًا للداخلية المصرية في الجانب الذي يخص إدارتها … فالعنف والإرهاب والتعذيب والمرشدون والدوريات والحملات الأمنية والعلاقات الزبائنية كانت استراتيجية الداخلية في إخضاع هذه المناطق.”

ينقل الرجال أيضا عن تقرير للبي بي سي: “عندما عمل المهندس حسين صبور مستشارا للحكومة في الثمانينات، تم التخطيط لإزالة العشوائيات في وسط المدينة، ونقل سكانها خارج نطاق الطريق الدائري الذي كان يتم إنشاؤه آنذاك.” ويتابع الرجال رصد تطور يصفه بالخطير “طرأ على سؤال العشوائيات في 1992 بسبب وقوع كارثة الزلزال الذي راح ضحيته أكثر من 500 شخص، وتشردت نحو 10 آلاف أسرة، وهو العام نفسه الذي أعلنت فيه ‘الجماعة الإسلامية’ سيطرتها على إمبابة، ثم اندلعت اشتباكات عنيفة في عين شمس وتوغلت المجموعات الإسلامية المختلفة داخل المطرية.” أدى هذا التطور إلى أمننة مسألة العشوائيات بشكل شبه كامل خضعت معه كثير من مناطق الإسكان اللارسمي لحصار أمني خانق.

في المقابل شهدت الثمانينات عالميا بداية الانتقال التدريجي للدفع بمقاربات تحسين مناطق الإسكان اللارسمي بدلا من السعي لإزالتها بشكل كامل، بهدف “التقليل من الآثار الاجتماعية والاقتصادية والبيئية الضارة الناشئة عن سياسات الإزالة. بالحفاظ على العلاقات الاجتماعية القائمة، والتماسك المجتمعي في هذه المناطق” (Khalifa 2015) الأدوات الرئيسية لهذه المقاربات كانت كل من عمليات تقنين ملكية وحيازة الأراضي والوحدات السكنية، وإقامة مشروعات “الموقع والخدمات”، وهي مشروعات تنشئ الدولة فيها المرافق والخدمات وتقدم قطع الأراضي للسكان ليقوموا ببناء وحداتهم السكنية عليها. وهذه مقاربة ظهرت في مصر في مشروعات مثل “ابني بيتك”. ولكن الدراسات التي أجريت لتقييم هذه المقاربات وجدت أن عمليات التقنين كانت مكلقة وطويلة وفي حالة مشروعات الموقع والخدمات كانت استعادة الاستثمارات متعذرة مما عرقل استمرارها أو التوسع فيها.

في بداية الألفية حل مصطلح “الاستيعاب” محل “التحسين”. واتجهت المبادرات نحو ربط العمران اللارسمي بتوسع سوق العقارات الرسمي، وشمل الاستيعاب ثلاثة مظاهر أساسية، الأول هو الاستيعاب الفيزيائي، بتوجيه الاستثمارات العامة نحو هذه المناطق وفتح طرق جديدة لتحسين الوصول إليها وإتاحة الاتصال بشبكات المرافق الرئيسية. المظهر الثاني هو الاستيعاب الاجتماعي بتبني برامج تتعامل مع احتياجات المجتمع وتدفع التنمية الاجتماعية. وأخيرا تعلق المظهر الثالث بالاستيعاب التشريعي بتنظيم الملكية وحيازة الأراضي وتسوية مشاكل الحيازة لتمكين جمع ضرائب عقارية. (Khalifa 2015)

في المقاربات السابق الإشارة إليها كان القاسم المشترك الأهم هو أنها جميعها انطوت على تدخل منفرد للدولة، سواء كان بالإزالة الكاملة لإعادة الأوضاع إلى صورة تألفها ويسهل عليها التعامل معها أو بمحاولة تحمل مسؤولية رفع مستوى معيشة السكان أو بمحاولة استيعابهم عمرانيا واجتماعيا وتشريعيا. والمشاهد أن أيا من هذه المقاربات قد نجح إما لأن تكلفته الاقتصادية والسياسية كانت مرتفعة للغاية أو لأنه ظل بعيدا عن تحقيق احتياجات السكان والتوافق مع مواردهم المحدودة ومن ثم لم يمثل بديلا ولم يوقف تمدد الإسكان اللارسمي. ومن ثم فالتوجه الذي تدفع به الجهات الدولية المانحة اليوم يحاول إدماج صور من التشاركية في أي برنامج للتعامل مع إشكالية الإسكان اللارسمي. ولكن ما الذي تتطلبه التشاركية لتكون فعالة وناجحة على أرض الواقع؟

المتطلب الأول هو انخراط كافة الأطراف ذات المصلحة وذات القدرة على التأثير في مسار عملية بناء التشاركية سواء بالسلب أو الإيجاب. والانخراط هنا يعني المشاركة الكاملة في العملية والعمل الفعلي على إنجاحها. وهذا يتطلب أن تتوافر لدى كل طرف القناعة بأن العملية من شأنها أن تحقق مزيد من المصالح له أو على الأقل لن تضر بمصالحه القائمة.

المتطلب الثاني هو التمثيل الفعلي وليس الإسمي لكافة الأطراف، والمقصود هو أن ممثلي كل طرف ينبغي حقا أن يكونوا مؤثرين وقادرين على تقديم ضمانات لالتزام من يمثلونهم بما يتم التوافق عليه، وفي نفس الوقت ينبغي أن يكونوا ممثلين على المستوى الفردي للمصالح الجماعية لمن يمثلونهم.

المتطلب الثالث هو توافر موارد واضحة ومحددة بحيث يمكن بناء برنامج تنموي يأخذ في الاعتبار التدفقات النقدية المتاحة وتوقيتاتها وتوافر الموارد البشرية والفنية بالقدر الكافي والمناسب.

المتطلب الرابع هو أن تتم عملية التشاركية دون وجود ضغوط أو تهديدات على طرف أو أكثر من المنخرطين فيها.

المتطلب الخامس هو أن يكون صوت ممثلي السكان في العملية التشاركية مؤثرا؛ وإلا انعدم الفرق بين هذه العملية وبين كافة صور التدخل المنفرد للدولة.

رابعاً: صور الإدارة الذاتية في العشوائيات

من المقاربات ذات الصلة بالإدارة الذاتية التي سبق تجربتها من خلال برامج مولتها جهات مانحة أجنبية محاولات إنشاء منظومة تشاركية. الفرضية التي تقوم عليها هذه المقاربات هي أن “تحسين ظروف المعيشة لفقراء المدينة في مصر يمكن تحقيقه بتحسين آليات تقديم الخدمات في المناطق التي يعيشون فيها”. (2009 Halim) وأن هذه الآليات يمكن تحسينها بالسماح للسكان أنفسهم بالمشاركة في الفرارات الخاصة بتنظيمها.

ومع الاعتراف بأن “إدارة المشاركة من خلال التمثيل لا تعمل بشكل جيد في مصر”، حيث إن المجالس المحلية القائمة يشغل مقاعدها ميسورو الحال ممن لا يعنيهم إلا تحقيق مصالحهم، فقد لجأت هذه المقاربات إلى سبل بديلة لتأمين منظومة تشاركية. أحد هذه السبل هو الاعتماد على مثلث يشكل أضلاعه كل من الحكومة، والقطاع الخاص، والمنظمات غير الحكومية التي يفترض هنا أن تمثل مصالح السكان. والمشكلة في هذا النموذج أن “واقع حوالي 26000 منظمة غير حكومية في مصر يظهر أن معظمها لا يمثل بحق المجتمعات المحلية، ولا تدعم النموذج التشاركي أو المجتمعي، وليس لها أجندة شاملة للتنمية.” (Halim 2009)

يتحدث (Halim 2009) عن تجربة تمت في إطار تعاون مصري ألماني، وبدأت في نهاية تسعينات القرن الماضي. تحت عنوان “برنامج التنمية التشاركية” (PDP)، بدأ العمل في المرحلة الأولى في منطقتين من مناطق الأسكان اللارسمي في القاهرة الكبرى هما منشية ناصر وبولاق الدكرور. في هذه المرحلة الأولى الممتدة من (1998 – 2003)، استكشفت الفرق البحثية الألمانية مجموعات أصحاب المصلحة في هاتين المنطقتين ومدى إمكانية مشاركتها في إجراءات التنمية. المرحلة الثانية بين (2004 -2007) “ركزت على كيفية تحسين آليات الإدارة العمرانية من خلال تطوير أدوات ومناهج يمكن طرحها والبناء عليها خلال عملية التنمية المحلية لضمان كونها تشاركية”. (Halim 2009, p. 126)

ما كشفت عنه هذه التجارب كان يمكن للأطراف الرسمية الالتزام به غير أنه لم يكن مطروحا من قبل الشركاء المباشرين الممثلين للدولة، وجميعهم كان ينتمي إلى الإدارات المحلية والمجالس الشعبية. ومن ثم فقد اتجه البرنامج المذكور إلى توسيع نطاق المشاركة الحكومية ورفع مستواه من خلال إشراك المحافظين والوزراء ذوي الصلة، ولكن هل كان هذا كافيا؟ ما تذكره التقارير أن هذا لم يحقق المرجو منه، وما تسكت عنه هو تبرير عدم كفايته، فالمفترض أن بإشراك المسؤولين الأعلى ذوي الاختصاص لا يعود ثمة مجال لعدم ضمان التزام الدولة التي يمثل هؤلاء حكومتها ويشاركون في وضع سياساتها بما يتم التوافق عليه، وهو أيضا ما يعني التزام كافة مؤسسات الدولة بما توافق عليه هؤلاء المسؤولون.

ولكن هذا ببساطة لم يحدث، لماذا؟ الإجابة هي أن هذه البرامج تعاملت مع من افترضت أنه صاحب الاختصاص، ومع من قدمته الحكومة المصرية على أنه كذلك. ولكننا إذا عدنا إلى الأقسام السابقة من هذه الورقة بمكننا أن نستعيد حقيقة أن العشوائيات في مصر قد أصبحت منذ التسعينات شأنا أمنيا، وليست فقط ذا جانب بوليسي، وهذا لا يعني ففط أن وزارة الداخلية وليس وزارات الإسكان أو التخطيط أو المالية إلخ هي المختصة ولكن داخل هذه الوزارة نفسها من يختص بشؤون هذه المناطق ويملك الكلمة النهائية على ما يمكن أن تلتزم به الدولة من سياسات تجاهها هو الجهاز الأمني وليس القطاعات الشرطية الاعتيادية.

ولكن تجارب تحقيق شكل من أشكال التشاركية في مناطق الإسكان اللارسمي ليست الشكل الوحيد من الإدارة التي لا تنفرد بها الدولة في هذه المناطق. ثمة مظاهر مختلفة قد يحب البعش النظر إليها كنوع من الإدراة الذاتية من منطلق أنها تغطي نقصا تركه غياب الدولة.

من ذلك مبادرات إنشاء خدمات تعليمية وصحية إما يقوم بها بعض ميسوري الحال من خارج هذه المناطق كعمل خيري أو تتولى ذلك جمعيات أهلية تمولها التبرعات. والملاحظ أن هذه المبادرات الخيرية ذات طابع ديني دائما، فحتى في الحالات الفردية يغلب أن يقدم المتبرع على بناء مسجد يلحق به مستوصف (مجموعة عبادات منخفضة الرسوم)، أو بناء مدرسة يعهد بإدارتها إلى إدارة الأزهر التعليمية. أما في حالة الجمعيات الأهلية التي تؤدي الدور نفسه فغالبيتها الساحقة جمعيات ذات توجه ديني. والإشكالية هنا ليست في غلبة التوجه الديني على هذه المبادرات، ولكن في عدها بين صور الإدارة الذانية، فالواقع أنه لا يوجد أي قدر من المشاركة لسكان هذه المناطق في اختيار أنشطة أو توجهات مثل هذه المبادرات، ولا دخل لهم في إدارتها أو الرقابة عليها.

يبقى فقط نوع أخير من أشكال الممارسات التي تغطي افتقاد دور من أدوار الدولة وهو الآليات البديلة للحصول على الأمن على النفس والممتلكات والمصالح، وآليات حل النزاعات بين أفراد مجتمع سكان مناطق الإسكان اللارسمي. تدور هذه الآليات في معظمها بين دورين، الدور الخارجي في مواجهة مؤسسات الدولة، ويتمثل في توفير الحماية من تدخل هذه المؤسسات بشكل يهدد مصالح بعض السكان. الشائع بين هذه الآليات هو الحماية من قرارات الإزالة للمباني المخالفة، ولكنه قد يمتد إلى توفير الحماية في مواجهة صور أخرى لإنفاذ القانون منها تنفيذ أحكام قضائية وأوامر للنيابة بالضبط والإحضار في جرائم جنائية.

هذه الآليات يقوم فيها بدور الوسيط مع مؤسسات الدولة أشخاص ذوو نفوذ أو في علاقة تبادل للمصالح مع ممثلين لهذه المؤسسات، عادة المؤسسة الأمنية. وقد يعود النفوذ أو العلاقة الخاصة إلى كون الوسيط صاحب أعمال ويمكنه تقديم رشاوى أو تبادل خدمات ذات طابع مادي (تمليك عقارات وهدايا عينية أخرى)، أو إلى كونه أحد كبار البلطجية في المنطقة والذين يقدمون خدمات مثل حشد الناس في الانتخابات أو التعدي على المرشحين المعارضين أو المشاركة في مواجهة المظاهرات، بخلاف أوجه التعاون وتبادل المصالح اليومي.

نفس هاتين الفئتين هما من يقومان بدور الوسيط في عمليات تسوية النزاعات بعيدا عن تدخل مؤسسات الدولة، فهما من خلال نفوذهما في مناطقهما يمكنهما تقديم ضمانات كافية لالتزام أطراف أي تسوية بما يتفق عليه في إطارها.

غالبا ما تكون آليات الحماية وتسوية التزاعات المذكورة سابقا هي البديل الوحيد المتاح أمام غالبية سكان مناطق الإسكان اللارسمي نظرا لالتزام ممثلي مؤسسات الدولة بعدم التدخل في شؤونهم إلا من خلال شركائهم المحليين من أصحاب النفوذ في إطار توافقات تبادل المصالح بينهم. ومن ثم فليست هذه الآليات خارجة عن سيطرة وإدارة السكان بل هي عادة مفروضة كأمر واقع عليهم، ومن ثم لا يمكن اعتبارها من بين صور الإدارة الذاتية، وإن كانت تمثل صورا من الإدارة المحلية المستقلة نسبيا عن الدولة ومؤسساتها، وليس هذا بالمعنى الإيجابي للمصطلح خاصة وأنه بالرغم من أن لهذه الآليات أعراف مستقرة تشكلت مع الوقت إلا أنها ليست قوانين ملزمة وبإمكان أصحاب النفوذ تخطيها وهم يفعلون ذلك طيلة الوقت، كذلك ليس ثمة أية ضمانات لعدالة مثل هذه الآليات إذ تخضع دائما لعمليات تبادل المصالح والخدمات ومن ثم فهي تميل دائما لصالح من يمكنه تقديم أكثر وهو عادة من يملك أكثر أو من تتوافر له فرص نفوذ أكبر.

 عن العشوائيات في مصر: عساكر وفقراء وعصابات وعمران
عن العشوائيات في مصر: عساكر وفقراء وعصابات وعمران

خامساً: إمكانية الإدارة الذاتية في العشوائيات

من الواضح مما أوردناه بالقسم السابق أن أيا من التجارب التي حاولت إقامة شكل من أشكال التشاركية لم تنجح في تحقيق أهدافه نظرا لافتقاد الواقع العملي لتنفيذ هذه التجارب إلى المتطلبات الأساسية التي أوردناها في القسم السابق عليه. ولا تنطبق هذه المتطلبات أيضا على الصور المختلفة لتوفير بدائل لدور الدولة في هذه المناطق سواء من حيث توفير بعض الخدمات أو توفير الحماية وتسوية المنازعات. ويمكننا بذلك أن نتبين أن أية إمكانية لتحقيق صورة فعالة وعادلة للإدارة الذاتية في مناطق الإسكان اللارسمي تدور بالأساس حول إمكانية تطوير التجارب السابقة وإزالة العراقيل التي حالت دون تحقيقها لأهدافها أو تحويل الآليات المطورة محليا إلى صورة تحقق متطلبات الإدارة الذاتية. وتقودنا المناقشة في القسم السابق إلى الجزم بالحاجة إلى الجمع بين المقاربتين.

يتطلب نجاح أي شكل من الإدارة الذاتية إطارا من الشرعية تحمي استمراريته، كما أنه يتطلب توفير موارد مالية وتقنية يفتقر إليها السكان، إضافة إلى أن كثيرا من الخدمات والمرافق لا يمكن أن تعمل بالأساس أو أن تعمل بشكل مرضي دون ربطها بالشبكات والمؤسسات المدارة إقليميا أو قوميا. ما سبق كله يشير إلى أن دور الدولة ضروري، وإن كان هذا الدور ليس بالضرورة أن يكون تقليديا، ومن ثم كخطوة أولى ينبغي على الدولة والسكان معا التخلي عن التصور التقليدي لإدارة الدولة الكاملة لشؤون مناطق سكنهم، وكخطوة ثانية يمكن تشكيل دور الدولة كحام لشرعية الترتيبات المحلية من خلال قوانينها، وكممول وميسر لوصول التمويل وكمصدر و/أو ميسر لتوفير الخبرات الفنية المطلوبة، وكذلك كمنسق لربط المرافق والخدمات بالشبكات الإقليمية والقومية.

ليس ثمة نظريا ما يحول دون تبني الدولة المصرية في ظل الحكم الحالي لتوجه مشابه يرفع عن كاهلها قدرا من المسؤوليات خاصة المالية، مع اعتبار أن معظم التمويل المطلوب يأتي من جهات مانحة خارجية، ولكن على أرض الواقع سيظل هناك العائق الأكبر وهو نظر الدولة على مستويات مؤسساتها الهرمية المختلفة إلى مناطق الإسكان اللارسمي كمصدر تهديد أمني، وهذا الهاجس في الواقع قد تزايد بصفة خاصة في أعقاب ثورة 25 يناير، ومن ثم فالتغلغل الأمني من خلال شبكات المخبرين والمرشدين والبلطجية في هذه المناطق تزايد ومن ثم تعززت شبكات المصالح والنفوذ المرتبطة به وهذه الأخيرة تحول بالضرورة دون إقامة آليات تمثيل سليمة محليا.

بالتالي فأي محاولة جادة وفعالة لإقامة شكل من أشكال الإدارة الذاتية في مناطق الإسكان اللارسمي تتطلب تعديلا في التوجه السياسي للدولة يبدأ من أعلى مؤسساتها، وتتوافر لديه إرادة تفكيك شبكات المصالح الواصلة بين مؤسسات الدولة وبين أصحاب النفوذ المحليين. وهذا يستحيل تحقيقه دون أن ينتفي وجود مصالح لمؤسسات الدولة العليا مرتبطة باستمرار التعلغل الأمني في هذه المناطق بصورته الحالية. بعبارة أخرى لا ينبغي أن تتعلق مصالح المؤسسات العليا بقمع المعارضة وتعقب المعارضين وبالسيطرة على العمليات الانتخابية والعمل على توجيهها لصالحها. باختصار لن يكون من مصلحة مؤسسات الحكم أن تفكك شبكات المصالح والنفوذ إلا إذا كانت هي نفسها مؤسسات ديموقراطية منتخبة ومتقبلة لمبدأ تداول السلطة.

إذا ما تصورنا وجود مثل هذه الإرادة السياسية وتفعيلها في صورة تفكيك شبكات المصالح والنفوذ الحالية، سيبقى حينها أن يتاح للسكان المحليين إفراز قياداتهم المحليين بأي سبيل ديموقراطي يسمح بأن يكون لهم ممثلون حقيقيون في أي عملية تشاركية، وهذا يتطلب ألا يتاح لأصحاب الموارد المالية الأكبر أن يتمتعوا بنفوذ يسمح لهم بتوجيه عمليات التمثيل لصالحهم، ويشمل ذلك الجهات الخارجية ذات المصالح المختلفة التي قد تستغل تقديمها لخدمات لأهالي المناطق الفقراء في تحقيق مصالح انتخابية أو في فرض سلوكيات أو ممارسات بعينها. ولا يعني هذا بالطبع وقف العمل الخيري ولكن تنظيمه بحيث تصل التبرعات إلى صناديق تدار محليا توجه التبرعات إلى تمويل الاحتياجات التي يقررها السكان من خلال آليات المشاركة، وتدار الخدمات المنشأة بواسطة هذا التمويل من خلال متخصصين تحت رقابة مالية وإدارية لممثلي السكان.

خاتمة

الإدراة الذاتية في مناطق الإسكان اللارسمي في القاهرة وغيرها أيضا من محافظات مصر ليس أمرا مستحيلا. وفي الواقع قد تمثل الحل المنطقي الوحيد للمشاكل المزمنة لهذه المناطق. وقد تكون السبيل الوحيد لرفع مستويات معيشة سكانها الذين يمثلون حاليا قطاعا كبيرا إن لم يكن غالبية سكان المدن في مصر. ومن ثم فهي ليست غاية فقط وإنما هي ضرورة أيضا.

ولكن بناء المتطلبات الأساسية للإدارة الذاتية المرجوة يتطلب إرادة سياسية يكاد يستحيل توفرها حاليا في ظل حكم المؤسسة العسكرية، ومن ثم فمثل كثير من قضايا ومشاكل المصريين لا مجال للتقدم نحو حلحلة هذه القضية المصيرية دون المرور بالتغيير الديموقراطي أولا. مثل هذا التغيير لا ينبغي أن يكون قشريا يأخذ بمظاهر الديموقراطية المتمثلة فقط في تفويض الصناديق لأحد الأحزاب بالحكم، وإنما هو تغيير ينبني على إيمان حقيقي بالديموقراطية على مستوياتها المختلفة، لأن هذا الإيمان وحده هو ما يمكن أن يؤدي بمؤسسات الدولة إلى الانخراط بفعالية في عمليات الإدارة التشاركية والسماح للسكان بلعب دور حقيقي في تطوير وتنمية مناطقهم ومن خلالها رفع مستوى معيشتهم.

مصادر

  1. United Nations, Population Division, World Urbanization Prospects: The 2001 Revision, New York 2001.
  2. United Nations, Department of Economic and Social Affairs, Population Division (2019). World Urbanization Prospects 2018: Highlights (ST/ESA/SER.A/421).
  3. Piffero, E. (2009). Beyond rules and regulations: the growth of informal Cairo. In R. Kipper, & M. Fischer (Eds.), Cairo’s Informal Areas Between Urban Challenges and Hidden Potentials Facts. Voices. Visions. (pp. 21–28). Cairo: Deutsche Gesellschaft f {\”u}r Technische Zusammenarbeit (GTZ) GmbH.
  4. Sejourne, M. (2009). The history of informal settlements. In R. Kipper, & M. Fischer (Eds.), Cairo? S Informal Areas Between Urban Challenges and Hidden Potentials Facts. Voices. Visions. (pp. 21–28). Cairo: Deutsche Gesellschaft f{\”u}r Technische Zusammenarbeit (GTZ) GmbH.
  5. Halim, Khaled Mahmoud Abdel (2009). PDP’s Methodology for Participatory Urban Upgrading. In R. Kipper, & M. Fischer (Eds.), Cairo’s Informal Areas Between Urban Challenges and Hidden Potentials Facts. Voices. Visions. (pp. 21–28). Cairo: Deutsche Gesellschaft f {\”u}r Technische Zusammenarbeit (GTZ) GmbH.
  6. Khalifa, M. A. (2015). Evolution of informal settlements upgrading strategies in Egypt: from negligence to participatory development. Ain Shams Engineering Journal, 6(4), 1151–1159. http://dx.doi.org/10.1016/j.asej.2015.04.008
  7. الرجال، علي، عن العشوائيات في مصر: عساكر وفقراء وعصابات وعمران، موقع السفير العربي، 12 سبتمبر 2019 [1]

[1] الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.

الوسوم

تامر موافي

باحث مصري متخصص في الدراسات الاجتماعية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى