fbpx
كتب إليكترونية

رحلة دبلوماسي: ستون عاما في حب مصر 5

مهماتي الخارجية: بين نيودلهي ومدغشقر والجزائر

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

خلفـــــيــة عن الهند

في الفكر الهندوسي أشرفت سلالة جوبتا منذ القرن الثالث الميلادي على ذلك العصر الذي أشير إليه قديما بـ “العصر الذهبي للهند“. وعقب ذلك جاء الفتح الإسلامي في شبه القارة الهندية بين القرن الـ 10 والقرن الـ 12، وأصبح جزءا كبيرا من شمال الهند تحت حكم سلطنة دلهي، وتم فيما بعد احتلال البلاد من قبل الإمبراطورية المغولية تمتعت الهند بتقدم ثقافي واقتصادي وكذلك بانسجام ديني. وقام اباطرة المغول تدريجيا بتوسيع إمبراطوراتهم لتغطية أجزاء كبيرة من شبه القارة الهندية وكان من أهم حكام المغول في القارة الهندية هو الحاكم المغولي المسلم شاه جهان الذي ترك آثارا عظيمة لا زالت خالدة حتى الآن تشهد مدى تقدم البناء في عصره ومن أعظم الآثار هو تاج محل في أجرا الذي يزوره الملايين سنويا.

وبدأ استعمار الهند من القوي الأوروبية منذ القرن الـ 16 حيث أسست البرتغال، وهولندا، وفرنسا، والمملكة المتحدة بعد انتهاء التداول محطات، وقاد الزعيم الهندي موهانداس كارامشاند غاندي الملايين من الناس في حملات وطنية للقيام بالعصيان المدني السلمي، وفي 15 أغسطس 1947، حصلت الهند على استقلالها من الحكم البريطاني وكتبت دستورها الذي دخل حيز التنفيذ في 26 يناير 1950، الهند هي أحد الأعضاء المؤسسين للأمم المتحدة (عندما كانت تسمى الهند البريطانية)، وحركة عدم الانحياز. في عام 1974، أجرت الهند تجربة نووية تحت الأرض.

والهند هي الدولة الديمقراطية الأكبر من حيث عدد السكان في العالم. وبالنسبة لمعظم فترة ما بعد الاستقلال، والحكومة الاتحادية كان يقودها المؤتمر الوطني الهندي.. وتحتفظ الهند بثالث أكبر قوة عسكرية في العالم،.

وكان لنقلي إلى نيودلهي ملابسات غير عادية، فقد كانت التوصية بنقلي إلى نيويورك للعمل في وفدنا الدائم لدي الأمم المتحدة لتولي المسائل ذات البعد القانوني، وفي ذلك الوقت تبين أن عدد المستشارين بالوفد أكثر من اللازم والحقيقة أنه لم تكن لدي واسطة، ومن ثم عرض عليّ أن أكون قنصلا في نيويورك أو لندن فاعتذرت لأنني لا أرغب في ممارسة العمل القنصلي الذي يبتعد بي عن العمل الدبلوماسي وتختلف حرفياته عن الحرفيات والقدرات الدبلوماسية، وعلى ذلك ترك اسمي طليقا بحيث يمكن أن أنقل إلى أي مكان مناسب. وصدرت الحركة الدبلوماسية التي نقلت فيها للعمل بسفارتنا في نيودلهي، وعلمت بذلك في مســاء ذلك اليوم، فلم أستقبل ذلك بارتياح واستقر رأيي على أن أقدم في صباح اليوم التالي اعتذارا عن نيودلهي، وكان أهم الأسباب التي دفعتني لذلك ما علمته من معاناة الزملاء هناك من السفير الذي كان جنرالا بالجيش وكان معلما لعبد الناصر فكوفئ بتعيينه سفيرا في دولة هامة تتلاطم فيها مصالح الدول شرقا وغربا فضلا عن علاقاتنا التاريخية من سعد زغلول حتى عبد الناصر. وكان نتاج السفارة صفرا ولم تكن تبعث بتقارير متعمقة عن التطورات السياسية التي تمر بها داخليا ولا عن أبعاد علاقاتها الخارجية. كان السفير يتفنن في إصدار التعليمات التي تجعل من الأعضاء قطع شطرنج لا تتحرك إلا بأمره وكان ماهرا في تفادي المسئولية حيث تلحق المساءلة عن أي خطأ على العضو الموكل إليه الاختصاص، كما كان يعتقد ويقول إنه جاء للسفارة حتى يستكمل فيها الضبط والربط وهو تعبير عسكري معروف لا يتصور تطبيقه بحذافيره العسكرية، هناك بالطبع انضباط ربما كان أعمق وأشمل من المعني العسكري داخل السفارات.

وبينما كنت أتناول الإفطار وورقة الاعتذار في حقيبتي، هاتفني الصديق الزميل أحمد رشاد رحمة الله عليه وقال إنه تم نقل سفيرنا في الهند، وأن الرئيس السادات عين بدلا منه السيد اللواء محمد حافظ إسماعيل سفيرا في الهند اعتبارا لأهميتها الدولية ورغبة في تدعيم علاقتنا بها بعد أن مرت بفترة جمود بين السادات وأنديرا غاندي بسبب امتناعها عن تزويدنا قطع غيار الطائرات الميج والسوخوي السوفيتية التي كانت الهند تصنعها برخصة سوفيتية مع التعهد بعدم تصديرها إلى طرف ثالث. وقال أحمد رشاد إنه على صلة بحافظ إسماعيل وأنه يحسن أن أتريث في تقديم الاعتذار حتى أقابل حافظ إسماعيل.

وكان أداء حافظ اسماعيل كمستشار الرئيس أو كسفير أو كوكيل وزارة أو نائب وزير ممتازا ينم عن تحليل متعمق وأفكار إبداعية وصرامة في الالتزام، لذلك أجلت اعتذاري وزرته في شقته بعمارة ليبون الشهيرة والمطلة على النيل بالجزيرة، وتحدث معي بما أبهرني من فكر استراتيجي مستقبلي لا يتخطى أو يعطل المصالح اليومية، وفي نهاية المقابلة أبلغني بتمسكه بي وكلفني ببعض الترتيبات في دار السكن والسفارة، فأيقنت أنني مقدم على تجربة فريدة ليس فقط لأنها في الهند بل وأيضا مع مفكر سياسي استراتيجي على أعلي مستوى. ونفذت النقل وكانت المفاجأة أن الصديق أحمد رشاد عين أيضا سكرتيرا أول بالسفارة.

ولم يكن هناك خط طيران مباشر إلى نيودلهي فأخذت الطائرة المصرية التي تعمل على خط الشرق الأقصى من القاهرة إلى طوكيو وتتوقف بعد بومــــباي (اسمها الآن مومباي) وكنت أسافر بالدرجة الأولى ولا أنسى أن قائد الطائرة كان يترك الكابينة ليصلي وكانت معنا سيدة محجبة قالت لنا المضيفة إنها زوجة الكابتن، وكانت المضيفة على قدر من الجمال كما كانت خدومة ومجيدة لعملها، كان لدى رئيس الطاقم وقتا يثرثر فيه مع الركاب وعندما جاءني كان يشكو من أن الكابتن أصدر أمره بمنع شرب الخمور بالطائرة وأن ذلك يفقدنا كثيرا من الزبائن وطلب مني أن ابلغ ذلك للمسئولين ظانا أنني رجل ذو نفوذ. أزعجكم بهذه التفاصيل لأنني بعد أن وصلت بومباي في المساء وذهبت للفندق انتظارا لطائرة الغد إلى نيودلهي، جاءني قنصلنا في بومباي محمد سعيد ليصحبني في سهرة على عشاء ومنه عرفت أن الطائرة التي وصلت عليها من القاهرة قد سقطت وتحطمت في بانجكوك بعد ساعات قليلة من تحركها من بومباي، وكان وقع الخبر على شديدا فأخذت أستعيد صورة الكابتن التقي الذي يصلي وهو بين السماء والأرض وزوجته المحجبة الورعة والمضيفة الجميلة ورئيس الطاقم (الاستيوارد) والراكب الاسترالي الظريف إلى جانبي، فأتعذب بينما سجدت شكرا لله أن الطائرة التي سقطت قد أمهلتني للحياة بعد السقوط قبل بومباي. واجلت سفري إلى نيودلهي بضعة أيام وقبعت في غرفتي أترحم على من فقدناه في حادث الطائرة وأحاول أن أتغلب على حالة الأسى التي راودتني بشدة، وفي النهاية حزمت حقائبي وطرت إلى نيودلهي لأبدأ فصلا جديدا في حياتي المهنية.

في هذه الأجواء بدأت خدمتي بالهند حيث عينت مستشارا (ووزيرا مفوضـــــا) بسفارة مصر في نيودلهي، واستبشرت خيرا بالعمل مع السفير حافظ إسماعيل الذي عين يوم صدور حركة نقلي إلى نيودلهي، إلا أن الرئيس السادات قد فاجأه في ذات يوم سفره للهند وبعد أن أرسل حقائبه للمطار بإلغاء قراره، وكان الموقف محرجا للسفارة ومزعجا لي على وجه الخصوص لهذا جندت كل أعضاء السفارة في الاتصال في ساعة متأخرة من الليل بجميع السفراء العرب والأفارقة وكبار الشخصيات ومدير المراسم بالخارجية لعدم الذهاب للمطار لاستقبال السفير ووفقنا في تفادي الحرج إلا أن عشرات الاستفسارات انهالت علينا عن أسباب إلغاء تعيين حافظ إسماعيل في الهند.

وبحكم أهمية وثقل الهند الدولي كانت عاصمتها مركزا هاما تحتشد فيه أكثر من مائة بعثة دبلوماسية وفروع لكل المنظمات الدولية وأجهزة المخابرات الأجنبية، بالإضافة إلى نشاط هندي ضخم في التجارة والصناعة وبين الأعراق والطوائف والديانات العديدة، والعقائد القديمة الغريبة على فكر عالمنا حيث تلتقي وتتنافر البوذية والهندوسية والسيخ وعشرات الأديان والعقائد وفوق كل ذلك حياة ثقافية غنية ومتنوعة من العاصمة وفي كل الولايات حيث تعرض الرقصات التقليدية لكل فئة وأغانيها التي يصل عدد الضربات BEATS فيها إلى 12 في النغمة الواحدة، وتنتشر المراكز الثقافية والمعابد، وما زال هناك بعض أغنياء الزمن الغابر من مهراجات وأمراء، كما يسود الأرض الهندية كل وسائل الخداع القديمة والانتقام والتآمر ويتابع ذلك كله مئات من الصحف التي تمثل كل الاتجاهات والتي تتمتع بحرية كاملة في النشر وصناعة سينما كبرى تنتشر أفلامها في العالم كله.

وحيثما يسود الفقر تتم التجارة في كل شيء حتى البنات الصغيرات يتم بيعهن للخليجيين تحت إغراء المال وضغوط الفقر، والمشهد إجمالا كان غابة من المتناقضات البشرية والعقائد القديمة والســـــــــــــــــحر والشعوذة، كما يتنوع جمال المرأة الهندية في الساري الشهير بين مختلف السلالات من ذوات الأجساد الأبنوسية في مدراس جنوبا إلى البيضاء الشقراء في كشمير شمالا، وكانت الحياة الاجتماعية نشطة للغاية وكان الهنود منفتحين على دعوات الأجانب ويبادلونهم الدعوات في بيوت هندية والطعام الهندي.

 وكانت الهند تتمتع بامتياز فريد في أسعار الكتب والمراجع الأجنبية بسعر زهيد جدا مما أغراني بشراء الكثير من مراجع القانون وأعمال الشعراء والفلاسفة الغربيين ومنها مثلا الانسكلوبيديا بريتانيكا الشهيرة التي لم أستطع شراءها في لندن وكانت الحصيلة 8 متر مكعب في صندوق للشحن البحري لمصر بين 20 مترا مخصصة لأغراضي الشخصية. كانت المعرفة والخبرة التي يحصل عليها دبلوماسي مصري في يوم واحد بالهند تصل إلى ما يمكن تحصيله في عام بأي مكان واحد.

وتوافرت لي في الهند فرصة ممارسة القانون أيضا، وهو أمر شعرت معه بالرضاء، ذلك أنني كنت بالإضافة إلى عملي الدبلوماسي، ضابط اتصال باللجنة القانونية الاستشارية لدول آسيا وأفريقيا، في مقرها بنيودلهي، وكنت أتابعها من الإدارة القانونية بالقاهرة كما حضرت اجتماعاتها في طهران والدوحة وكوالالمبور قبل أن أعين في الهند.

ونشأت بيني وبين أمينها العام الدكتور بي سن B.sen وتصادف أن سكنت بجوار بيته في حي مهراني باج وكانت ابنته ليزا صديقة لابنتي إيمان، وكان معظم حديثنا يدور حول محاولة الحد من تسلط القوى الكبرى والدول الغنية على دول العالم الثالث وهو الغرض الذي أنشئت من أجله هذه المنظمة وكيف نتفنن في تمرير معاهدات دولية توجد حدودا لتسلط الدول الكبرى والغنية وأن تراجع الاتفاقيات الدولية التي تعدها الأمم المتحدة والمنظمات الدولية لتلقن مندوبي دول العالم الثالث الذين تنقصهم الخبرة الدولية والقانونية.

ومتابعة لاجتماعات هذه اللجنة، انتدبتني الوزارة للسفر إلى سيول عاصمة كوريا الجنوبية، وكان الوضع بالنسبة لي حساسا، فلم تكن لنا علاقات دبلوماسية مع كوريا الجنوبية مجاملة لكوريا الشمالية التي كانت تحظي بزيارات كبار المسئولين المصريين وكان السيد/ حسني مبارك نائب الرئيس والسيدة قرينته من أشد المعجبين بها بعد زيارتهما إلى بيونج يانج في عهد الرئيس كيم ايل سونج حيث كانت براعتهم في تنظيم المهرجانات واصطفاف الشباب بحيث يكونون صورة أو جملا وملابس الفتيات الجميلة والمآدب الفاخرة.

وفي سيول فوجئت بما لا أتوقعه، فقد دعاني نائب وزير خارجيتهم على عشاء بحضور قنصلهم بالقاهرة ونظموا لي زيارات لعدد من المصانع وللمسجد الكبير بالعاصمة وبالصلاة فيه عرفت أن الجنود الأتراك الذين وفدوا أثناء الحرب التي شنتها الولايات المتحدة لوقف احتلال كوريا الشمالية لنصفها الجنوبي، هم الذين أسسوا الوجود الإسلامي، فقد بقي منهم البعض واستقروا وتزوجوا من كوريات، وبفضلهم دخل بعض الكوريين الاسلام فازداد عدد المسلمين مما اقتضي بناء مسجد بالعاصمة ومساجد صغيرة في مدينة أو مدينتين.

و دعيت إلى مكتب نائب وزير الخارجية الذي طرح موضوع توثيق العلاقات بيننا، واقامة سفارة، وقال لي إنهم بدأوا يحصلون على تكنولوجيا حديثة في الصناعة وإنهم مستعدون لمزاملتنا في تطوير صناعاتنا نحو التقدم والاتقان، وتطرقت وعودهم للمجال النووي فوعدوا بتعاون وثيق مع مصر في تطوير قدراتنا النووية، وكانت المفاجأة ما قاله قنصلهم بالقاهرة الذي كان حاضرا من أنهم يشعرون بقبول عام في القاهرة لتبادل السفراء ولكن الأمور كانت تقف دائما في مكتب نائب الرئيس المصري الذي يحابي كوريا الشمالية لأسباب غير مفهومة، وكتبت تقريرا للوزير بمجرد وصولي للقاهرة موصيا بإعادة النظر في سياستنا إزاء كوريا الجنوبية، ولكن ذلك لم يلق قبولا بالرئاسة.

وفي الهند واصلت متابعة الأعمال القانونية الدولية في إطار اللجنة فانتدبتني الوزارة لحضور دورتها في كوالالمبور أيضا وكنت أكثر إلماما بالموضوعات المطروحة وقام تعاون وثيق بيني وبين الدكتور سن، وأذكر أننا كنا نستعرض مشروع اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، وكان نظام المرور في المضايق البحرية مطروحا حيث كانت الولايات المتحدة تريد تغيير القواعد المستقرة من سيطرة الدول التي تقع هذه المضايق في مياهها الإقليمية وابتداع مبدأ الحق في المرور السريع في المضايق دون أي تعويق من الدول المطلة عليها.

 وبينما كنت أدافع باسم الوفد المصري الذي كان يرأسه المستشار جمال المرصفاوي رئيس محكمة النقض، فوجئت بممثل دولة الإمارات العربية وهو الدكتور المستشار محمد عوض المر أثناء ندبه للعمل بالإمارات يدافع بقوة عن المرور السريع وفقا للنظرية الأمريكية وحدثت بيننا مواجهة عنيفة في المؤتمر تطورت إلى تعارف وصداقة عميقة استمرت أثناء توليه رئاسة الدستورية العليا وكان يسكن مثلي بالمعادي.

 وكعادتي حصلت على دروس في اللغة الهندوستانية والموسيقي الهندية وكنت أواظب على حضور مسرحياتهم الشهيرة كلما كان ممكنا وفي بعض الأحيان كنت أترجم لنفسي الأحداث من واقع تمثيلها وحركات الممثلين لعدم إلمامي الجيد بلغاتهم المتعددة. وكنا نشارك جيراننا الهنود في عيدين كبيرين هما الديوالي والدوسيرا ولكل منهما مراســـمه واستعداداته.

وكانت التقاليد والعادات والثقافة البريطانية غالبة ومسيطرة على المجتمع الهندي وفكره، فاللعبة الشهيرة هي الكريكت واللغة الإنجليزية هي اللغة الفيكتورية القديمة التي فقدت بريقها في لندن ذاتها، والسيارة الهندية صنعت بناء على ترخيص إنجليزي. أما الغناء الهندي الحديث فكان قريبا إلى أسماعنا والغريب أن أغلب المغنين كانوا مسلمين، وكانت موسيقى (Gazal الغزل الباكستانية) هي المفضلة عند الهنود رغم أن مطربيها كانوا مسلمين من باكستان. وكانت الهندوسية تحتوي على عدد لا بأس به من الكلمات العربية نقلا عن الأوردو المنتشرة في باكستان وأفغانستان والتي تستخدم نسبة كبيرة من الكلمات العربية.

وعلى النهج البريطاني ترك الإنجليز ناديا إنجليزيا على نسق نادي الجزيرة عندنا اسمه نادي الجيمخانة، وكان كل ما فيه من أثاث وخدمات وألعاب إنجليزيا، وقد تعلمت فيه رياضة الجولف بمصاريف زهيدة وهي التي تكلف المرء مئات بل آلاف الدولارات في أوروبا وأمريكا، وفي هذا النادي تعلم أولادي ركوب الخيل والسباحة إلى جانب الرياضات المعتادة، وكان بالنادي مكتبة بريطانية ثرية كنت ألجأ إليها انا وأولادي بانتظام كما كان بالنادي شاليهات لإقامة الأعضاء لقاء إيجار شهري وغير ذلك من التسهيلات.

كانت العلاقات باردة مع نيودلهي بسبب رفض انديرا غاندي تزويدنا بقطع غيار الأسلحة السوفيتية احتراما لتعهداتها مع موسكو، غير أن باب منزلها ظل مفتوحا للسفارة المصرية رغم برود العلاقات بعد أن ورثت ذلك من جواهر لال نهرو، وكان ولديها سانجاي ورهيب غاندي في عمرنا وكثيرا ما كنا نلتقي في المناسبات، غير أن العلاقات مع وزارة الخارجية ظلت باردة.

وفجأة قررت انديرا غاندي إجراء انتخابات مبكرة بناء على نصيحة أحد المنجمين، وفوجئت بها تطلبني لمقابلتها، وكان أستاذي الدكتور محمد حافظ غانم الذي يشغل منصب وزير للدولة، في زيارة للهند، فقابلناها سويا، أخذت تتحدث بألم كبير عن تجمع القوي اليمينية والطائفية ضدها وأنها على وشك فقد السلطة، وتعجبنا عن أسباب استدعائنا لمصارحتنا بذلك، فأبلغنا القاهرة وفهمت من مراجعة بعض ملفات السفارة أن مصر كانت تقدم لحزب المؤتمر مساعدات مالية في وقت الانتخابات وكانت أنديرا تهدف إلى طلب مثل تلك المعونات قبيل الانتخابات. وأوفد الرئيس السادات الوزير الدكتور محمد حافظ غانم وكان أستاذي في القانون الدولي وقابلها وأنا بصحبته، وقد عبر الوزير كمبعوث عن الرئيس عن دعمنا لها وقال لي إنها اعتادت على تلقي مساعدات مالية من عبد الناصر في ظروف الانتخابات ولكني أتصور أن الرئيس السادات لم يتجاوب مع هذا الطلب.

وبالفعل أسفرت الانتخابات عن فوز حزب جاناتا بأغلبية المقاعد وشكل الحكومة وانتقلت أنديرا للمعارضة وشكلت حزبا جديدا بعنوان حزب المـؤتمر (o) كونجرس أو، وكنت أراقب هذه التجربة الديموقراطية بانتباه شديد، فعلمت مثلا أن أنديرا فقدت أغلبيتها لنقص في القمح الذي يصنع منه رغيف الخبز الهام (شاباتي) والعدس وهو طعام يومي، ثم اللبن، وإن الفقراء هم الذين أسقطوها بصرف النظر عن الأيديولوجيات والزعامات، وكان من الجديد عليّ أن تتهم أنديرا باستخدام سيارة رسمية مرة واحدة في حملتها الانتخابية، ومن أجل هذا حوكمت وسجنت رئيسة وزراء الهند لسنوات طوال.

 وهنا تعلمت درسين هامين في التطبيق الديموقراطي أحب أن انقلهما للنخب والصفوة في مصر، الأول هو أن الفقراء والأميين مواطنون لهم كل الحقوق السياسية التي يتمتع بها الدكاترة والأساتذة والعلماء، وأن الاعتقاد السائد في مصر عند النخب لا يثق ولا يلقي اعتبارا لتصويت الفقراء والأميين ولا يأخذ تصويتهم لحزب أو لشخص مأخذ الجد بل يجردهم من كل مصداقية، وها هو الفلاح الهندي الجاهل الأمي يسقط أنديرا غاندي لمطالب بسيطة تخصه، والثاني هو وهم الاعتقاد بأن الأكاديميين فقط هم من يصلحون لأداء مهام الوزراء ومناصب الدولة العليا، فالسياسي الهندي يبدأ العمل السياسي من القرية ثم يصعد للمدينة ثم لعاصمة الولاية ثم لمنصب الوزير في حكومة الولاية وأخيرا في العاصمة المركزية نيودلهي في مجلس النواب (لوك سابها)، ولذلك يكون أغضاء البرلمان والحكومة من السياسيين الناضجين والمدربين وليس للدكاترة والأكاديميين.

وبعد فترة مليئة بالترقب والتوتر كنت أتحمل فيها مسئولية السفارة كقائم بالأعمال، تم تعيين سفير جديد من شباب الدبلوماسيين من أبناء الخارجية وكان هذا هو أول منصب له كسفير وتواترت التعليقات عن أسباب تعيين سفير حديث في دولة كبري وهامة كالهند، وكان السفير صديقي وكثيرا ما التقينا بالقاهرة، وكان على معرفة واسعة بأمور السياسة الدولية كما كان متحدثا لبقا وشخصيته محببة.

رحبت به وهيأت له الراحة في دار السكن ووضعت سيارتي الدودج 8 سلندر المكيفة وعليها حامل للعلم اشتريتها من سفير لبنان في نيودلهي قبل سفره ليؤدي بها سفيرنا الجديد زياراته لأكثر من 80 بعثة وتكفلت حتى بالبنزين لأنه لم يتنبه إلى ذلك طوال شهرين وبدأنا العمل فكان كثير الحديث وكانت أفكاره وتحليلاته جيدة، ولكنه كان يترك لي الكتابة والإدارة، وعلي قدر ما قدرت فيه هذه الثقة فإنه دأب على الحضور للسفارة بغير انتظام، فكان متغيبا معظم الوقت لظروف شخصية لا أحب أن أفصح عنها احتراما لذكراه رحمة الله عليه، فوقعت على عاتقي الكثير من أعباء رئيس البعثة من حيث إدارة السفارة والمكاتب الفنية في سفارة كبري، أو من حيث متابعة أنباء ومعلومات عن كل التحركات والتطورات الداخلية وعلاقات الهند بالقوى الكبرى ومواقفها من القضايا العربية فضلا عن العلاقات الثنائية.

 وحرصت على أن تصدر كل البرقيات والتقارير منسوبة للسفير دون ذكر اسمي، وكان السفير غير منضبط في مواعيده لدرجة أنه تأخر عن موعد زيارة السيد حسني مبارك نائب الرئيس في ذلك الوقت لرئيس الوزراء الهندي ولكن السفير أسامة الباز أقنع مبارك بأنه لا داعي لحضور السفير تفاديا لنشوب أزمة، ويحضرني هنا أن المصادر الهندية سربت عتب رئيس الوزراء الهندي على تعيين شخص بهذه الضحالة وعدم الخبرة نائبا للرئيس، وكان مبارك يجلس مع الوفد المصري في دار الضيافة في المساء يتسامرون ويشربون وكنت حاضرا تحسبا من طلب أي شيء أو حدوث أي عارض، ولكن لهجة مبارك مع أعضاء وفده لم تعجبني فقد كان يناديهم بأفظع الكلمات على سبيل الهزار، ولذلك خشيت أن يصلني الدور فيتلطف النائب بالمزاح معي بذات الأسلوب فاستأذنت بحجة مراجعة الاتصالات مع القاهرة.

وعلى العكس من المحطات السابقة كانت الحياة في نيودلهي -رغم مصاعب العمل-شديدة الثراء مليئة بالحركة والديناميكية من الجوانب الدبلوماسية والاجتماعية والثقافية، كانت كل القوى العظمى تتصارع في الهند التي تحتل مكانا مؤثرا في الساحة الدولية وانعكس هذا على النشاط الدبلوماسي فكثيرا ما يجد الدبلوماسي لديه في اليوم الواحد أكثر من دعوة على حفلات الاستقبال، ومثلها على حفلات الغذاء والعشاء، وأكثر من برنامج أو ندوة ثقافية.

وهناك -كما قدمت -درست اللغة الرومانية في بوخارست، أقبلت على دراسة اللغة الهندوستاني وهي خليط من الأوردو والهندي، والمقامات الموسيقية الهندية التقليدية التي تصل عدد الضربات في النغمة الواحدة إلى 12 ضربة. وفي الهند أمكنني أن أزود مكتبتي بأمهات الكتب في القانون الدولي والسياسة الدولية والأدب والتاريخ والعلوم، والمذاهب الفلسفية، وفلسفة الديانتين البوذية (وفلسفة كونفوشيوس…) والهندية، وعقيدة السيخ.

 كذلك استمتع أولادي بتعليم متميز في المدرسة الإنجليزية بنيودلهي وكانت لنا زيارة كل يوم أحد للمكتبات حيث يشتري كل منهم ما شاء من الكتب، والسر في إقبالنا على شراء الكتب بنهم شديد هو رخص أثمانها بدرجة يصعب تصورها وذلك بسبب اتفاق دور النشر في بريطانيا وأمريكا ببيع نسخ خاصة بالهند لكل مطبوعاتها بأسعار رمزية سعيا للسيطرة على السوق الهندية الكبيرة التي تحقق لها أرباحا طائلة.

وعلى سبيل المثال فقد عجزت عن شراء الموسوعة البريطانية الشهيرة بريتانيكا من لندن أو واشنطن بسبب ثمنها الغالي، واشتريتها من الهند بعشر ثمنها.

مدغشقر:

خلفية:

قرأت كعادتي، بالإضافة للملفات والتقارير المتاحة بالوزارة، عن تاريخ البلد الذي أنقل إليه وتبلغ مساحة مدغشقر 587،000 كم مربع وهي بذلك تكون الدولة السادسة والأربعين في أفريقيا من حيث المساحة وهي كذلك رابع أكبر جزيرة في العالم. وهي أكبر قليلا من فرنسا، وهي واحدة من 11 مقاطعة منفصلة. بدأت كتابة التاريخ في مدغشقر في القرن السابع، عندما أنشأ المسلمون مراكز تجارية على طول الساحل الشمالي الغربي. خلال العصور الوسطى كانت مدغشقر بمثابة منفذ هام للتداول عبر المحيطات لساحل شرق أفريقيا التي أعطت أفريقيا طريقا تجاريا على طريق الحرير.

الوضع السياسي في مدغشقر متسم بالصراع من أجل الحكم. بعد أن حصلت مدغشقر على استقلالها عن فرنسا عام 1960 حدثت الاغتيالات والانقلابات العسكرية والانتخابات المتنازع عليها بشكل واضح.

استولى ديدييه راتسيراكا على السلطة في انقلاب عسكري عام 1975، وحكم البلاد حتى عام 2001، [23] مع استراحة قصيرة عندما أطيح به في وقت أوائل التسعينيات. عندما زعم كل من مارك رافالومانانا وراتسيراكا فوزهما بعد الانتخابات الرئاسية في ديسمبر عام 2001، والعاصمة هي انتاناناريفو وبها ثالث أعلى جبل في الجزيرة، تسيافاجوفونا، بارتفاع 2,642 متر

ظروف النقل لمدغشقر:

بعد أن خدمت كنائب مدير (وزير مفوض) في الإدارة القانونية في فترة مليئة بالتطورات والتحديات وصعوبة ضبط مبادرات الوزراء في تصرفاتهم واتصالاتهم الخاصة بالعلاقات الدولية التي هي من اختصاص الوزارة، رشحت كقنصل عام في عاصمتين مرموقتين كبديل عن تعييني ببعثتنا لدي الأمم المتحدة لعدم وجود مكان لوزير مفوض، وقد اعتذرت عن ذلك لعدم تقبلي للعمل بالشـئون القنصلية ولأنني كنت أتوق – كما هو حالنا جميعا – لشغل منصب سفير، وعندها لم يكن أمامي إلا منصب سفيـر في تناناريف في مدغشقر، وقال لي مدير السلك وقتها أنها جزيرة ساحرة وربيع دائم وأنني سأقضي إجازة سياحية لمدة أربع سنوات بمرتب وامتيازات السفير. وإنها مخصصة للسفراء ذوي الاتصال الذين يطلبون الراحة التامة والبعد وشقيق شخصية هامة بمكتب الرئيس عبد الناصر، وقد كان وتوجهت إلى منصبي الجديد، وتبين لي أنني سأخدم في دولة يهاجم رئيسها راتسيراكا الرئيس السادات في خطبه في المحافل الدولية وفي كتبه لعقده صلحا مع إسرائيل دون التشاور مع الدول الأفريقية التي قطعت علاقاتها مع تل أبيب تأييدا للحق العربي، وبدأت الصعوبات من أول خطوة أثناء تقديم أوراق اعتمادي.

 ولعله من الطريف أن أذكر أن السلام الوطني المصري الذي عزف لي كان والله زمان يا سلاحي الذي تغير بعد السلام إلى بلادي بلادي، وقد أبديت هذه الملاحظة لوزير الخارجية الذي اعتذر عنها وأكد أنها غير مقصودة.

 وكان أقدم زملائي بالسفارة قد أبلغني أن العرف في مدغشقر لا يتطلب تبادل الخطب مع الرئيس، فذهبت دون إعداد خطاب في هذه المناسبة، ولكني فوجئت بالرئيس راتسيراكا يقف أمام عدسات التلفزيون ليلقي خطابا حماسيا وتضمن الخطاب إيماءات ناقدة لسياسة السلام مع إسرائيل.

 وكان على أن ارتجل خطبة أرد فيها على الرئيس باللغة الفرنسية السائدة في مدغشقر والتي رغم اتقاني لها لم استخدمها منذ عشر سنوات، وعندما توجب على الرد بالفرنسية لا أدري من أين جاءتني الكلمات فانطلقت للرد دون تلعثم ولا تردد، ولكني أحجمت في خطبتي للرئيس عن إثارة أزمة في بداية مهمتي، فشرحت سياسة بلدي وحرصها على دعم وتوثيق علاقاتها بالدول الأفريقية، وأشرت إلى أن وجود خلافات بيننا يحتاج إلى مراجعة ومناقشات حتى نضيق فجوة الخلاف وننطلق للتعاون الثنائي والعمل من أجل أفريقيا، وظهر لي أن الرئيس تقبل هذا الأسلوب بدلا من المواجهة.

ودخلت على الفور في سلسلة لقاءات ومناقشات مع وزير الخارجية بمانانجارو المقرب للرئيس ومع أعضاء المجلس الأعلى للثورة، وكانت المناقشات مرهقة وسط حالة من التوتر، ولكنها أثمرت في النهاية بعد أن تقبلوا تنحية الخلاف جانبا والبدء في التعاون الثنائي، ولوحت لهم بخدمات الصندوق المصري فطلبوا خبراء كان أنجحهم خبراء الزراعة الذين علموهم وسيلة مقاومة آفات القطن بدلا من الخبراء الفرنسيين الذين يتقاضون مرتبات عالية وليس لديهم خبرة بزراعة القطن.

 ولهذا انهالت علينا طلبات المنح الدراسية وترتيب زيارات وزارية للقاهرة ووصل عدد الوزراء الذين زاروا القاهرة أثناء خدمتي 15 وزيرا بعد انقطاع دام أكثر من عشر سنوات. وتوثقت صلتي الشخصية بوزير الخارجية الذي كان يحضر مرات متعددة إلى منزلي للغذاء يوم الأحد مع زوجته وأولاده الثمانية بملابس كاجوال، وكنت قد دبرت لأحد أبنائه منحة للدراسة في الأكاديمية البحرية الإسكندرية واستضفته بمنزلي بالقاهرة حيث كان طلاب مدغشقر يقصدونني بمنزلي بالقاهرة بعد انتهاء مهمتي عند وجود مشاكل.

وكانت نتيجة اتصالاتي ومحاوراتي سريعة وعجيبة، ذلك أنني كنت مكلفا بالسفر بعد شهور من وصولي إلى تناناريف إلى أديس أبابا أثناء انعقاد المجلس الوزاري باعتباري رئيسا للمحكمة الإدارية لمنظمة الوحدة الأفريقية وقتها، واتفقت مع وزير الخارجية على ترتيب لقاء بينه وبين الدكتور بطرس غالي، وهناك اصطحبت معي وزير الخارجية إلى جناح وزيرنا وكان حديثه بحرارة عن تقديرهم لمصر ودورها وعن تطلعهم إلى تعاون أوثق معنا مفاجأة ملحوظة للجانب المصري.

 وقد قدر وزيرنا الجهد الذي تم بعد شهور قليلة من بداية مهمتي، وتبينت فيما بعد أنه أرسل برقية للرئيس أشاد فيها بجهودي طالبا توجيه كتاب شكر من الوزارة.

وقضيت أربع سنوات بمدغشقر من 1983 إلى 1987 كانت مليئة بالعمل والنشاط، ولقلة عدد السفراء في انتاناناريفو لم يكن أمامي إلا أن أوثق علاقاتي مع سفيرين متعاقبين لفرنسا، وبالسفير الأمريكي والبريطاني، وكان التمثيل العربي محصورا في ليبيا والجزائر على مستوي القائم بالأعمال، وكان التواصل معهما صعبا لنقص الخبرة وبوادر التنافس مع مصر.

ونظرا لقلة الأحداث وبطئها وقلة اهتمام القاهرة بها، بدأت أكتب عن أهم التطورات في أفريقيا والعالم العربي، وأذكر هنا أن السفير الأمريكي كان من الـ political appointees عينه ريجان لإسهامه في المعركة الانتخابية وكان ضابطا بالجيش، وساعد جمود العلاقات الاجتماعية على توطيد علاقاتي به (كذلك مع السفيرة التي خلفته باتريشيا جيتس والسفير الفرنسي) على صعيد شخصي بحيث كنا نلتقي في فندق هيلتون الوحيد من نوعه في انتاناريفو، وكان السفير يدعوني لحفلات نادي المارينز الذي كان يعج بالنشاط والفعاليات، وحدثني السفير في إحدى الجلسات الشخصية عن ارتياحه لما ورد له من واشنطن من أن أمريكا ومصر اعدتا خطة لغزو ليبيا واسقاط القذافي تعتمد على دخول الجيش المصري التراب الليبي وتتقدم حتى طرابلس مع دعم بحري وجوي أمريكي، مع الاتفاق على تقاسم عائدات النفط الليبية، وسايرته في الإشادة بالتعاون المصري الأمريكي، إلا أنني سارعت للسفارة وأرسلت للقاهرة برقية حادة تحذر من سابقة خطيرة تهدم التضامن العربي وستخرج منها مصر خاسرة وربما تكون أمريكا هي الرابح الوحيد بالتخلص من القذافي.

وفي مناسبة أخري وردت أنباء عن محاولات من الملك حسين نحو تحسين الأجواء واستعادة العلاقات الودية مع السادات، وهنا ومن جزيرة مدغشقر البعيدة وصلت برقية للقاهرة تحذر من مناورات الملك وتذكر بمناوراته مع عبد الناصر.

وأسفر ذلك عن نوع من الضيق بي رغم نجاح مهمتي في مدغشقر وحولتها إلى دولة غير معادية لمصر، وقد استشعرت ذلك عندما طلب الوزير بطرس غالي رغم تقديره لي من أخي الذي كان مستشارا في سفارتنا بأنجولا آنذاك بشكل شخصي أن ينبهني إلى أن مهمتي تنحصر في مجال العلاقات مع مدغشقر، ولكنني لم أستطع الامتناع عن تحليل الأحداث خـارج مدغشقر والتعليق عليها.

 ولوحظ في الوزارة أن مدغشقر تبعث بتقارير وبرقيات أكثر من بعض سفارات في دول أوروبا، واقترح بعض أعضاء مكتب الوزير كمال حسن أول إجراء من نوعه بوزارة الخارجية وهو أن اتحمل شخصيا ثمن البرقيات التي لا تدخل في اختصاصي، ووصلني إخطار من مكتب الوزير بهذا المعني، ولكني واصلت تناولي لأهم الأحداث خارج مدغشقر.

 وقد شفع لي عند الوزير أن تعليقاتي وتقاريري كانت تلمس نقاطا لا ترد من مكان الحدث وأنها كانت محل اهتمام جهات صنع القرار مثل العدول عن خطة الهجوم على ليبيا، وتذكر الوزير دوري في إفشال أو تأجيل إقامة قاعدة أمريكية في راس بناس وفي استعادة علاقات التعاون مع مدغشقر بعد القطيعة، فتراجعت الوزارة عن تغريمي ثمن البرقيات الزائدة.

ونعود إلى نشاطي في مدغشقر حيث كان السفير الفرنسي فكان ملك انتاناناريفو غير المتوج، فضلا عن الماضي الاستعماري الفرنسي، كان نشاطه واتصالاته أكثر من أي سفير آخر وكانت حفلات العشاء التي يقيمها دائما بالاسموكنج للرجال والفساتين السواريه النسائية الطويلة، وكانت دائما تنتهي بالرقص إلى ساعة متأخرة من الليل، وكان يقدم مسرحيات فرنسية كان يشارك فيها بتمثيل بعض الأدوار.

 وكانت حفلاته من أنجح الحفلات، ويحرص على حضورها كبار المسئولين والأسر العريقة والموسرة، ومن الطبيعي أن أشعر بأن مصر تستحق أيضا إثبات وجودها كأكبر دولة أفريقية كبرى ويقتضي هذا بالضرورة أن يشعر المسئولون والنخب والسلك السياسي بالوجود المصري، ولم يكن هناك مشكلة في المكان حيث كان دار السكن على ربوة تطل على بحيرة وحجرة الطعام مهيأة وأطقم الكريستال والكرستوفل كا استوردت ساوند سيستم قوي لبث الموسيقي، ولكن الصعوبة كانت تكمن في الجبن الفرنسي بأنواعه المختلفة الذي يقدم في نهاية العشاء قبل توست الشمبانيا. وكانت الجبن الفرنسية بأنواعها تصله من مزرعة جدته على ايرفرانس مجانا، وكان لزاما على بالمقابل أن استورد أنواع الجبن الفرنسية من جزيرة رينيون الفرنسية جنوب مدغشقر وكان الكيلو يكلفني مائة دولار شامل مصاريف الشحن ورغم ميزانيتي المتواضعة إلا أنني كنت أصمم على أن تكون السفارة المصرية على مستوى السفارة الفرنسية، وبالفعل أصبحت حفلاتنا مقصدا بالمساواة مع سفارة فرنسا وكان الحضور بملابس السهرة ويعقب العشاء موسيي ورقص، واعتبرت هذا النجاح في أمر شكلي مكسبا لمصر زعيمة أفريقيا في ذلك الوقت.

ولم يقتصر عملي على الجوانب السياسية بل حرصت على شرح ودحض كل ما يقال قدحا في الإسلام وأذكر هنا أنني كنت أجلس في إحدى الحفلات إلى جانب زوجة سفير فرنسا، فقالت إن مصر بلد عظيمة يحبها الفرنسيون لكنها تحفظت على أن المرأة المصرية مظلومة ومنتقصة الحقوق بسبب الدين الإسلامي، وأجبتها على الفور بأن هذا اعتقاد خاطئ، وان المرأة المصرية لها حقوق أكثر من المرأة الفرنسية فخرت ضاحكة ولم تصدق، ولكي تبالغ في إحراجي قالت أنها مستعدة لعقد اجتماع في قاعة المكتبة القومية وهي أكبر قاعة في المدينة لكي أشرح ذلك.

 وقبلت التحدي لأنني كنت على علم ببعض ثغرات القانون الفرنسي في حقوق المرأة، وأعددت دراسة شاملة مستندا إلى آيات القرآن الكريم والحديث الشريف ونصوص القانون المصري وقارنته بمواد القانون الفرنسي عن حقوق المرأة، واستغرق مني ذلك ما يقرب من شهر.

وجاء وقت المحاضرة ولاحظت أن السفارة الفرنسية والجالية قد حشدوا حشدا كبير من الفرنسيين والمالجاش وقساوسة كاثوليك لحضور محاضرتي، وتحدثت ما يقارب الساعة قدمت فيها بالفرنسية دراسة مقارنة، أشرت فيها على ما أذكر إلى أن العشيقة تشارك الزوجة في الميراث وقد تحصل عليه كله، وبالمقابل فإن المرأة المسلمة ترث دائما كأم وزوجة وأخت وابنة وأنها غير مكلفة بالإنفاق على نفسها وأولادها ولا حتى عن إرضاع الأولاد، وأن المرأة المصرية تعامل أحسن معاملة بحكم نصوص القرآن والقانون، وبررت تعدد الزوجات بأن أفضل من نظام العشيقات المتبع في فرنسا حيث يحفظ الشرف والنسب. ووفقت في تفادي كل الحفر التي حاولوا الايقاع بي فيها، وانتهت المحاضرة، ولكن آثارها بقت عدة شهور بعدها حيث نشرت إحدى الصحف نص المحاضرة فكانت السفارة تتلقى اتصالات وتزورها الأهالي للاستفسار عن وسائل اعتناق الدين الإسلامي وكنا نحسن الاستماع دون أن نمضي في مهمة التبشير، وفي مناسبة تالية قالت لي سفيرة فرنسا سعادة السفير لم أكن أعلم أنك من رجال القانون وأنك تلم بنصوص دينك ولكنك اجتزت الامتحان كما أخبرني القساوسة الكــاثوليك.

وكان التنقل في الجزيرة يحتاج إلى سيارة متينة ذات دفع رباعي فاستوردت سيارة مرسيدس قوية وبها كل الكماليات بالإضافة إلى رافعة (ونش) يستعمل عند الغرز، وساعدني ذلك على أن أطوف أنحاء الجزيرة بإذن من الخارجية وكنت ألقى في كل اقليم استقبالا رسميا حافلا انطلق بعد الرسميات لأختلط بالشعب، وفي إحدى الجولات شاهدت مسجدا صغيرا فدخلته لأصلي، والتف حولي المصلون ومعظمهم من الشباب وحكوا لي قصة شاب منهم آمن حديثا بالإسلام فاعتكف بالمسجد لأن أهله اوصدوا دونه أبواب منزله إلى أن يعود لدينهم، وناقشت الصبي بالفرنسية فأكد القصة وتلي لي بعض الآيات باللغة العربية، وشكي لي الشبان من ضعف امكانياتهم وعدم وجود أئمة في المساجد، وطلبت من الأزهر الشريف 15 منحة لشباب مدغشقر ووفق عليها وزير الخارجية بيمانجار.

 وكنت أشارك في الرحلات مع السفراء وأنشطهم سفير بريطانيا مالكولم ماكبين الذي كان الجولف أهم شيء في حياته ولما كنت عضوا في نادي الجولف على مشارف مدغشقر واصلت اللعبة التي تلقيت قواعدها وتدربت عليها في الهند ثم في نادي الجزيرة بالقاهرة قبل أن أنقل إلى مدغشقر، واكتشفت أن في غرب الجزيرة منتجعا صيفيا يقصده سياح جنوب أفريقيا البيض رغم مقاطعة مدغشقر لجنوب أفريقيا، وكان مطعم الفندق مشهورا بوجبة الاستاكوزا التي يتم صيدها من سواحل الجزيرة ويتم شحنها حية إلى فرنسا، كما تقوم شركة يابانية بصيد الاستاكوزا والجمبري وانواع السمك وتصنعها على السفن وتشحنها شهريا لليابان.

  الطريف هنا أنني نزلت البحر في الصباح الباكر وكان الشاطئ خاليا إلا من سياح قليلين، وبعد السباحة استلقيت على كرسي مريح وغفوت لبعض الوقت، وعندما افقت وفتحت عيناي إذ بي أجد نفسي وسط أجساد نسائية ورجالية عارية تماما، وكان رد فعلي غريبا إذ لم أستطع البقاء بالبلاج وعدت لغرفتي مذعورا.

ولا أستطيع اختتام ذكرياتي عن مدغشقر قبل أن أذكر واقعة زيارتي لإحدى الغابات في جنوب جـــزيرة مدغشقر، وكنت قد قرأت في مجلة ناشيونال جيوجرافيك الشهيرة عن حيوان غريب لا يوجد إلا في مدغشقر له وجه وعينان تقتربان من عيون القطط لكن جسمها على شكل قرد، وكان يختفي فوق فروع الشجر ولا يظهر إلا في ضوء القمر وشجعني السفير البريطاني وقطعنا المسافة الطويلة إلى هناك ونزلنا في فندق فرنسي متواضع وخرجنا مساء ومعنا كاميراتنا وشاهدنا الحيوان يقفز من شجرة إلى أخرى ولكن لم أستطع تصويره لسرعته الفائقة ورحلنا بعد يومين ولكنها كانت رحلة جميلة.

خلاصة القول إن العمل في مدغشقر الذي ينظر إليه في الوزارة على أنه أجازه سياحية بمرتب كان مرهقا لي ماليا وحرفيا حيث تمت مراجعة كافة نواحي العلاقات الثنائية وتطبيعها وتحويلها إلى علاقات صداقة من جهة، كما شغلني اهتمامي بتتبع التطورات المتوالية في أفريقيا والعالم العربي والتعليق عليها وما استتبعه ذلك من مشاكل مع الوزارة.

الجزائر: المحطة الأخيرة

خلفيــــة

قبل السفر قرأت ما تيسر عن تاريخ الجزائر فقد أطلق عليها اسم جزائر بني مزغنة نظرا لوجود 4 جزر صغيرة غير بعيدة عن ساحل البحر قبالة المدينة. وهو ما أكده الجغرافيون المسلمون مثل ياقوت الحموي والإدريسي. العثمانيون هم من أطلق اسم الجزائر على كافة البلاد باشتقاقه من اسم العاصمة.

عرف تاريخ الجزائر الطويل توافد مجموعات بشرية متنوعة فإضافة إلى الأمازيغ (البربر) وهم السكان الأصليون للجزائري، فقد ساهمت الدول والحضارات التي تتواجد بشكل أساسي في المنطقة الشمالية في اندماج مجموعات عرقية من أصول وثقافات مختلفة (فينيقيون ورومان ووندال وبيزنطيون وعرب وأتراك وغيرهم) ذابت في المجتمع الأمازيغي الذي حافظ على هوية مشتركة.

عند الاحتلال الفرنسي للجزائر كانت نسبة الأمية 5% فقط حسب تقدير الفرنسيين سنة 1830، يقول الرحالة الألماني فيلهلم شيمبرا حين زار الجزائر في ديسمبر 1831:

لقد بحثتُ قصداً عن عربي واحد في الجزائر يجهل القراءة والكتابة، غير أني لم أعثر عليه، في حين أني وجدت ذلك في بلدان جنوب أوروبا، فقلما يصادف المرء هناك من يستطيع القراءة من بين أفراد الشعب. لكن نسبة التعليم تراجعت مع الاحتلال الفرنسي نتيجة السياسات الاستعمارية والقمعية.

وبعد اعتناق مجمل السكان الإسلام في وقت مبكر من الفتوحات الإسلامية كان التأثير اللغوي العربي محدودا جدا، غير أن هجرة أعداد معتبرة من القبائل العربية البدوية (بنو هلال وبنو سليم) من صعيد مصر في القرن 11 أدت إلى اختلاط العرب بالأمازيغ في مناطق واسعة وكان للإسلام الفضل في الانتشار السريع للعربية بين السكان من شمالي الصحراء والهضاب العليا بالغرب ثم انتشر التعريب في الممرات السهلية وسط الكتل الجبلية الشمالية وفي المدن الكبرى واستمر انتشار العربية ليشمل مناطق العنصر العربي فيها ضئيل كالجهة الشرقية لمنطقة القبائل الصغرى (منطقة القل بسكيكدة، ولاية جيجل، شمالي ولاية ميلة) وأكثر منطقة الشاوية وهذا الانتشار لا يزال مستمراً إلى اليوم كنتيجة لاختلاط السكان في المدن الكبرى، وقد انتشرت العربية بدورها لا سيما بانتشار التعليم ونشوء المدن في المناطق الصحراوية بعد الاستقلال (1962).

الجزائر بلد موحد -أساسا-دينيا ومذهبيا، فالإسلام يعتنقه معظم السكان (99.9 بالمائة على الأقل) وقد زال التأثير الجزئي للمسيحية بعد الفتح الإسلامي وانتشر الإسلام ليكون الدين الأوحد باستثناء فئة يهودية.

 أثناء حقبة إيالة ومملكة الجزائر كان التعليم دينيا بحتا، وذلك أن الدولة آنذاك لم تكن تهتم بالتعليم كثيرا الذي لم يكن في حينها إلزاميا، فكان متاحا فقط بفضل الأوقاف والمؤسسات الخيرية. وانقسم التعليم في تلك الفترة إلى مرحلتين، الكتاتيب حيث يتعلم الطالب أساسيات اللغة ويحفظ القرآن ومبادئ الدين. بعدها ينتقل إلى المدارس -التي كانت تلحق بالجوامع الكبرى- والتي كان يشرف عليها العلماء، وتتسع لآلاف الطلاب وتدرس فيها مختلف العلوم بما فيها الهندسة والفلك. كانت الأوقاف الموقفة لهذه المدارس تتكلف بنفقات الطلاب وإقامتهم، وأحيانا يتولى بعض الأشخاص الإنفاق على مجموعات من الطلاب.

 وكان الفضل يرجع إلى الإسلام في تعليم وتثقيف الجزائريين، فلم يكن المستعمر الفرنسي يبذل جهدا كافيا لنشر المدارس والتعليم، ولكن اعتناق الأمازيغ للإسلام جعل تعلم العربية ركنا هاما في الدين، فانتشرت الكتاتيب في مختلف أنحاء البلاد وتناقصت الأمية بسرعة كبيرة.

والجزائر بلد عزيز بشعبه غني بموارده ويشكل قطاع النفط (المحروقات) الركيزة الأساسية في الاقتصاد الجزائري، حيث يمثل حوالي 60% من الميزانية العامة، و30% من الناتج الإجمالي المحلي و97% من إجمالي الصادرات. تطمح الجزائر إلى التقليل من الاعتماد على عوائد النفط بالتركيز على الفلاحة وتنمية تصدير منتوجات أخرى كالتمر والتي تشتهر به. كما للجزائر ثروات طبيعية أخرى كالحديد والفحم واليورانيوم.

وكان الجدل يثور دائما عن هوية الجزائر وبينما لم يكن لدي الأمازيغ والعناصر الأخرى حساسيات نحو العرب، لجأ الفرنسيون لبث الفرقة بين الأمازيغ والعرب، فكانوا يركزون على تعليم الأمازيغ اللغة الفرنسية ويبعثون بهم في بعثات إلى فرنسا ويعينوهم في أكثر الوظائف حساسية وأهمية في أجهزة الدولة والبنوك وفي المواقع الثقافية وكان العمل يسير دائما باللغة الفرنسية، وقد ترتب على اندماج هذه الفئة الصغيرة من الأمازيغ المتفرنسين في المجتمع الفرنسي إهمالهم اللغة العربية مكتفين بالتحدث في بيوتهم وقراهم بالأمازيغية، ومبالغة في السياسة الفرنسية لقطع الروابط بين شعبنا في الجزائر والشعوب العربية وخاصة مصر والمشرق العربي ابتدع الفرنسيون كتابة الأمازيغية بالحروف اللاتينية، ولكنهم لم ينجحوا في النهاية في هدفهم، فقد بزغت الثورة الجزائرية من القاهرة حيث أعلن بيانها الأول وكان زعماء النضال الجزائري ضيوفا على القاهرة كلاجئين سياسيين (بن بللا) أو طلبة بالأزهر الشريف (بو مدين)

وعبر الابراهيمي الزعيم الروحي الجزائري ورائد تعليم الدين واللغة العربية وكان من الأمازيغ بعبارة بليغة ومعبرة عن هوية الجزائر حيث قال في قصيدة أو مقولة جابت أنحاء الجزائر: شعب الجزائر مسلم وإلي العروبة ينتمي

مهمتي بالجزائر

عينت سفيرا بالجزائر وكان مشروع الحركة الدبلوماسية تتضمن تعييني سفيرا في مدريد، ولكن الرئيس مبارك طلب في اللحظات الأخيرة تعيين قائد القوات الجوية سفيرا في إسبانيا جريا على عادته في تعيين ضابط واحد فقط في كل حركة دبلوماسية بدلا من تعيين عشرات من ضباط القوات المسلحة في السلك السياسي الذي يتطلب معرفة ودراسة وممارسة مما انعكس سلبا على إدارة سياسة مصر الخارجية.

وهكذا جـــري تعييني بالجزائر بدلا من مدريد، ودهش الكثيرون من ترحيبي بهذا التغيير رغم جمال وسحر ورحابة الإقامة في إسبانيا، لكني استشرفت وقتها أن العلاقات مع إسبانيا كانت تقليدية ولم تمر بها أزمات خطيرة وكانت ملكة إسبانيا تحب مصر وتحرص على زيارتها مرارا.

وعند بداية اتصالاتي للتعارف مع الوزراء وكبار الرسميين لاحظت أن الأغلبية تتجاوب معي وتحدد مواعيد زيارتي لهم في أقرب الأوقات بينما كان يؤخرها البعض عدة أسابيع، ولم أفهم وقتها سبب هذا التباين في المواقف، ولكن حدث أن التقيت بوزير أثنا حفل استقبال وكان يتحدث بالفرنسية مع سفير فرنسا، وعندما تقدمت له قال بالفرنسية للسفير الفرنسي أقدم لك سعادة السفير ولم يكن قد التقي بي من قبل وبادرني السفير بالتحدث بالفرنسية فشاركنا الوزير الجزائري، وانتحي بي بعد ذلك جانبا فقال لي إنه يسعده أن أزوره في صباح اليوم التالي معتذرا عن التأخر في تحديد موعد لي لمقابلته، وفهمت أنه كان محرجا لضعف لغته العربية رغم إيمانه بالتضامن العربي، ومن ذلك الوقت لم أكن أتحدث بالعربية إلا للسفراء العرب أو من يبادرني بالحديث بها مثل عبد العزيز بو تفليقة وعبد العزيز بالخادم وعميمور.

وخلال سنة كنت قد اقمت صلات شخصية جيدة مع كبار رجال الدولة والقادة السياسيين ولم يكن يخل أسبوع دون أن أدعو أو أكون ضيفا على شخصية جزائرية في منازلهم وكانوا يقبلون دعوتي لهم في منزلي، وتطور التواصل إلى علاقات حميمة مع بعض كبار الشخصيات مثل بوتفليقة قبل أن يعود للحكم ومحيي عميمور وزير إعلام بومدين وعبد الحميد مهري الأمين العام لجبهة التحرير الجزائرية وعبد العزيز بالخادم رئيس البرلمان وغيرهم.

شبح صدام حسين

ورغم هذا الإنجاز إلا أنه قد واجهتني مشكلة كبرى لا علاقة لها بالعلاقات الثنائية وهي انحياز الحكومة والشخصيات السياسية والصحافة لصدام حسين في الحرب التي غزى فيها الكويت، ورغم مشاعر الإعزاز الشخصية التي أحملها للرئيس صدام حسين وفهمي أن ضم الكويت كان مطلبا قوميا عراقيا منذ استقلاله، ورغم تفهمي أنه يريد توظيف الثروة البترولية الهائلة ليس فقط في الكويت ولكن في الإمارات وشرق السعودية لتوظيفها في تنمية القدرات العراقية وتنفيذ مخطط البعث في نوع من الوحدة العربية، فقد كانت لي مناقشات كثيرة مع الجزائريين الذين كانوا يؤيدون صدام بلا تحفظ وينتظرون نجاح مغامرته.

 ولكني لم أكن أن أتوقع نجاحه لأن الغرب كان يتخوف من أهدافه، وتناولت المشكلة من وجهة نظر عربية لأوضح أنه من الخطر على الوحدة العربية أن نسمح لدولة عربية باحتلال دولة أخرى، خاصة وأنني قبل تسلمي مهمتي بالجزائر قد حضرت كل جلسات مؤتمر القمة العربي برئاسة مبارك وشهدت ما دار في كواليسه والذي خذل فيه مبارك صدام متحالفا مع السعودية والخليج ومتجاوبا مع التوجهات الأمريكية والغربية فلم يقبل بعض الحلول الوسطية التي طرحها صالح مهدي عماش رئيس الوفد العراقي أثناء المؤتمر، وليقيني أن هذا العمل لن ينجح، وأن صدام قد استدرج إليه بضوء أخضر أمريكي مزيف من سفيرة أمريكا آنذاك، كانت لي أحاديث جانبية مع غوزالي وزير خارجية الجزائر في ذلك الوقت الذي ألمح لي أنهم مستاؤون من الخذلان العربي.

وكانت الصحف الجزائرية الصادرة بالعربية والفرنسية تسبح بحمد صدام وتتنبأ بانتصاره، وكان الفريق سعد الشاذلي لاجئا بالجزائر وقتها، وكان يظهر بشكل منتظم على التلفزيون الجزائري ليظهر ويبرهن بالدراسات العسكرية أن صدام سينتصر.

وأعود للحديث عن حرب الخليج ومعارضتي لها فقد، دعيت إلى مناظرة تلفزيونية مع إعلامي جزائري كان صديقي ونتزاور من آن لآخر وفوجئت به يجادلني بشكل عنيف انتصارا لصدام وتوقعا بنجاحه، وقلت وقتها إنني أوجه الحديث إلى شعبنا في العراق وزعيمه بحل الأزمة سلميا والانسحاب من الكويت.

وتطور الأمر إلى أن شاركت ضده دول عربية مثل مصر وسوريا والسعودية كان بعض الشبان ينعتوننا بالخيانة. ولا بد أن أذكر هنا أن مصر خرجت من المولد بلا حمص كما يقولون، فاستبعدت من فرص الاستثمار في العراق بعد الهزيمة ولكن دولا عربية أخري مثل سوريا طلبت الثمن مقدما وحصلت عليه.

حكايتي مع الفريق سعد الدين الشاذلي:

وطالما تحدثت عن الفريق فيحضرني أنني كنت أراه مدعوا دائما في حفلات السفارات، ولم يكن يعرفني شخصيا، فبادرت بالتحدث إليه في إحدى حفلات الاستقبال وقدمت نفسي كسفير بمصر، فاعترته بعض الدهشة وتساءل عما إذا كنت قد تلقيت تعليمات بالتواصل معه حيث قاطعه الزملاء السابقون، فقلت إن مهمة السفير أن يتواصل وأن يرعي كل المصريين وأنه شخصية بارزة لها إنجازات لا تنسى وسألته إذا كان يرغب في بعث أي رسالة للقاهرة فنفى ذلك وقال لن يقبلوا مني أي رسالة.

 واتفقنا على التواصل عند الحاجة وأكدت له أن بابي مفتوح له في أي وقت فقابل حديثي بنوع من الشك ولــكنه وعد بذلك وشكرني على مبادرتي وانتهى اللقاء.

وبعد مرور شهور عديدة طلبت مني القاهرة تأييد أو نفي اعتزام الشاذلي العودة إلى مصر -وسط أنباء عن طلب السلطات الجزائرية منه المغادرة -وتنبيهه أنه لن يحصل على عفو بل سيخضع للمحاكمة والسجن، ودعوته للحضور لمكتبي فلبي الدعوة وقابلته مع زميل من المخابرات العامة مقدم كمستشار بالسفارة وأن أسمح بتسجيل المقابلة وفقا لتعليماته فسمحت بذلك على مضض.

 ورغم تسجيل المقابلة وحضور مندوب المخابرات قلت له إن مصر وجيشها تقدر إنجازاته وتعتبره شخصية هامة ووطنية، وتطرقنا إلى الموضوع فأكد أنه مصمم على العودة لأنه تقدم في السن ولا يستطيع الاستمرار في البقاء بالمنفى لأنه يريد أن يعود ويعيش ويموت في أرض الوطن، فحذرته من احتمال القبض عليه ومحاكمته وسجنه فقال باطمئنان إنه مستعد لذلك بل يتوقعه، وطلبت منه بيانات وصوله للقاهرة فأعطاها لي وأذكر أنه وصل على طائرة سويس إير من جنيف.

النظام السياسي بالجزائر

النظام السياسي في الجزائر جمهوري دستوري ذو طابع ديموقراطي، وقد أقر تعديل الدستور لسنة 1989 التعددية الحزبية والنقابية في البلاد. وكان إرث الماضي سبب الثقل السياسي حاليا، فلسنوات عديدة استمر حكم الحزب الواحد منذ استقلال البلاد، متأثرا بالنظام الاشتراكي. شهدت الجزائر في ثمانينات القرن الماضي عدة هزات اقتصادية كان من أثارها أحداث 5 أكتوبر 1988 والتي عجلت بإدراج إصلاحات سياسية واقتصادية.

وقائع مهمتي بالجزائر:

على هذه الخلفية عند تعييني وبدء مهمتي بالجزائر كانت العلاقات وقتها باردة وشبه مجمدة، كما كانت الخارجية الجزائرية تقلل من اتصالات السفارة بها.

 وفي القاهرة أطلعت على ملفاتنا فلم أجد تضاربا في المصالح يبرر هذا الجمود، واستدعيت سفير الجزائر بالقاهرة وسألته عن مبررات هذا البرود في علاقاتنا، فلم يكن لديه إجابة مقنعة، ووجدته يوافقني على أنه لا يوجد لديهم ما يمنع من العمل على استعادة دفء العلاقات وبداية التعاون الثنائي.

 وعند تقديم أوراق اعتمادي للرئيس الشاذلي بن جديد صارحته بأن العلاقات الهامة بين بلدين كبيرين وفاعلين على الصعيدين العربي والأفريقي، وأوضحت أن مهمتي ستتركز في التخلص من هذا الجمود الذي يصعب تبريره وأن القاهرة لديها من الرغبة والمرونة لبدء مرحلة جديدة تسودها الصداقة والتضامن والتعاون. شعرت وكأن الرئيس لم يكن يتوقع هذه اللهجة الودية، ولكن حديثي مع مدير مكتبه العربي بالخير قبل مقابلة الرئيس قد مهد الطريق لتفهم الرئيس، وخرجت من المقابلة بوعد من الرئيس على التجاوب مع مهمتي وتسهيلها.

وبدأت بالرياضة التي تبينت لدهشتي أنها أهم أسباب الجفاء، فطلبت فريقا مصريا لكرة القدم للعب مباريات ودية، وترددت الجهات المختصة على ضوء التجارب السابقة التي تعرض فيها لاعبونا للشتائم والضرب، وفي النهاية صدرت بناء على إلحاحي وتحت مسئوليتي تعليمات بتشكيل الفريق.

وكان على قبل وصول الفريق أن أؤمن سلامته، وان أمهد الطريق لتعامل مختلف من الجمهور الجزائري، وقد اتصلت لهذا الغرض بكبار المسئولين ابتداء برئيس الجمهورية ووزيري الخارجية والداخلية والولاة في الولايات التي سيلعب فيها الفريق لتشديد إجراءات الأمن وحسن الاستقبال واستضفت مجموعة النقاد الرياضيين وطلبت منهـم أن يعكسوا الحقيقة دون تحريض أو مبالغة، واتفقت على برنامج تلفزيوني تحدث فيه اللاعبون بأسلوب ودي لتطويع الجمهور، ونجحت التجربة التي كانت منطلقا لجهد مستمر وتجاوب العاصمتين معه.

 وأما داخل السفارة وفي المجال الثقافي فقد كان مما أفخر به أنني أعدت الحياة والمصداقية للمدرسة المصرية بالجزائر التي تضم كافة مراحل التعليم حتى الثانوية العامة، وكانت قد وصلت رغم أهميتها للجزائريين، تعاني من ضعف في الأداء، واكتشفت أن غالبية المدرسين معينين بالواسطة وليس لديهم الهمة أو القدرة على القيام بواجباتهم. ولذلك اجريت تغييرا شاملا في المدرسين وقصدت أن أعين من بينهم عددا من الجزائريين الأكفاء وتجاوب معي فضيلة جاد الحق شيخ الأزهر في ذلك الوقت فبعث لي بأربعة مدرسين للغة العربية والدين كما بعثت وزارة التعليم بعدد من المدرسين في الرياضة والعلوم، ولم يفتني تنمية التذوق الفني فاشترت المدرسة بعض الآلات الموسيقية يدرسها للطلاب مدرسة جزائرية متخصصة، وأقامت المدرسة حفلات قدمت فيها مسرحيات وعزف وغناء فتهافت الجزائريون على الحاق أبنائهم بها ونالت رضاء وشهرة كبيرة، كذلك عنيت باستعادة نشاط المركز الثقافي المصري الذي كان مجمدا وزودته بأحدث الكتب التي طلبتها من القاهرة، وافتتحت قاعة القراءة بعد تجديدها في حفل ضم كبار المسئولين الجزائريين والسفراء العرب.

ونشأت عن طريق المدرسة والمكتب الثقافي علاقات وثيقة وشخصية من غالبية المسئولين، وكبار القادة السياسيين خارج السلطة ومن أهمهم الرئيس السابق بن بللا والرئيس المستقيل بوتفليقة – عندما كان خارج السلطة -الذي شرفت بزيارته في منزلي مرات عديدة والذي وجه لي – عند انتهاء مهمتي -كتابا يثمن فيه جهودي في دعم العلاقات الثنائية.

وتعاصرت مهمتي كسفير لمصر بالجزائر في الوقت الذي دخلت في عشرية سوداء نتيجة لتوقيف المسار الانتخابي نهاية سنة 1991 واستقالة الرئيس الشاذلي بن جديد وانتشار أعمال مسلحة. وصارت الأولوية وضع حد لهذا الوضع الذي استنزف الأرواح والطاقات.

فقد مرت الجزائر خلال 1993 بمرحلة انتقالية، من النهج المركزي الاشتراكي نحو اقتصاد السوق. في هذا النسق، لعبت مواردها الطبيعية الدور الأهم. وتتوفر الجزائر على واحد من أكبر الاقتصادات في أفريقيا، وتشير الإحصائيات بعد مغادرتي في أواخر سنة 1994 إلى أن الدخل القومي في الجزائر وصل بعد مغادرتي الجزائر في سبتمبر 1995، إلى أكثر من 183 مليار دولار سنة 2011 أي بزيادة قدرها 15.38 عن سنة 2010

وبعد مغادرتي وانتهاء مهمتي بالجزائر احتفظت لها بمكان عزيز في القلب وتابعت التطورات في وضعها الداخلي وسعدت عندما بدأت بوادر الانفراج تظهر بعد مغادرتي بشهور بانتخاب عبد العزيز بو تفليقة رئيسا للبلاد وشروعه في اتخاذ إجراءات لوقف المسلسل الدموي التدميري. وحضرت أيضا فترة إعادة هيكلة الجيش منذ 1993، كانت قوات الجو مجهزة بـ 193 مقاتلة و58 مروحية قتالية، والبحرية شكلتها قوات الفرقاطة، الطرّادة وسفن الصواريخ. مع 4 من الغواصات الألمانية.

كما شملت اتصالاتي أحزابا معارضة وغير موالية وكنت أحرص على دعوة الجميع لحفلات السفارة مثل حزبي آية احمد والسعدي اللذان يمثلان الأمازيغيين وحزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ بزعامة عباسي مدني دون حرج.

درس لمصر من الجزائر

 ولكن كانت لزيارتي لعباسي مدني ظروف خاصة أحب أن أذكرها، فقد جاءتني من القاهرة تعليمات أمنية بعدم اتصال السفارة أو أي عضو من أعضائها بإرهابي كبير يدعي عباسي مدني رئيس منظمة إرهابية اسمها الجبهة الاسلامية للإنقاذ التي يعرفونها بالحروف الأولي من اسنها بالفرنسية (فيس)، وتعجبت من سذاجة هذه التعليمات التي أرسلت بناء على تقرير من ضابط المخابرات بالسفارة على الأرجح، وكانت معلوماتي لا تتفق مع هذه الرؤية لأن مدني كان رئيسا لهيئة قانونية مسجلة وفقا للقانون الجزائري، وأن هذه الهيئة (فيس) كسبت 90% من مقاعد البلديات مع أنها كانت حديثة النشأة، وكانت تعد نفسها لتولي الحكم في الانتخابات البرلمانية الوشيكة، وقررت أن رجلا بهذه الأهمية لا يصح إهماله، ورغم التعليمات قمت بمقابلته، وأذكر أن مكتبه كان في الدور الخامس ولم يكن هناك مصعد، فوصلت إليه لاهثا واستغرقت عدة دقائق حتى بدأت معه الحديث.

 وكان صريحا معي فقال إنهم يختلفون مع الإخوان المسلمين عندنا، كما لا يوافقون على السلام مع إسرائيل، ولكنه عند تسلمه للحكم، يطمح إلى تعاون وثيق مع مصر وسيطلب عدة آلاف من المدرسين كما سيستعين بشركات المقاولات المصرية لبناء مئات من المسكن لمحدودي الدخل وقال إنه -بصرف النظر عن الخلافات السياسة-يريد تعاونا كاملا ودعما من مصر، وفي الشأن الداخلي.

 وشجعتني لهجته الودية في أن أصارحه بألا يتسرع في التوصل للسلطة رغم قدرة تنظيمه على الحصول على أغلبية في البرلمان لأن المؤسسة العسكرية التي تحكم البلاد خلف ستار من الشرعية الدستورية لن تقبل التفريط في السلطة، ونبهته إلى أن جبهته لحداثة عهدها بالسياسة قد لا تجد الكوادر الكافية لحسن إدارة البلاد، لكنه بدى لي مصمما على الترشيح في كل الدوائر متوقعا أن يفرض على العسكر قبول إرادة الشعب.

 وأرسلت تقريرا مفصلا بهذه المقابلة صدرتها بالإشارة إلى تعليماتكم بعدم الاتصال بعباسي مدني الإرهابي، قابلت عباسي مهدي وفصلت جوانب الحديث في التقرير رغم أن ذلك قد يفسر بالقاهرة بأنه مخالفة للتعليمات، ولكن لم يصلني أي اعتراض وعلمت أن تقريري هذا قد حظي باهتمام كبير لأنه كشف لأول مرة عن فكر ومشروعات وتوجهات الفيس وسد فراغا كبيرا في المعلومات ونحى جانبا التقارير السابقة وتقارير المخابرات بالتركيز على الفيس كمنظمة إسلامية إرهابية.

 ولكن عباسي مدني مضي في طريقه، فوقع الانقلاب الذي قاده الجيش ضد الجبهة التي فازت بأغلبية مقاعد البرلمان ودخلت الجزائر في أزمة ما زالت بقاياها حاضرة بصورة أو باخري في المشهد السياسي الجزائر.

أوضاع داخل السفارة:

 وعند انتهاء مهمتي شرفت بعديد من حفلات التكريم التي أقامها كبار المسئولين بما فيها حفل حضره السيد عبد العزيز بوتفليقة قبل تعيينه رئيسا وألقى خطبة تقريظ لي ثم كتب لي مشيدا بعملي وشاكرا لي بالإضافة إلى الحفلات البروتوكولية العديدة الأخرى في الوسط الجزائري والسلك الدبلوماسي، وكان مشهد وداعي بالمطار معبرا واضحا حيث اكتظ بغالبية السفراء والدبلوماسيين ورجال الأحزاب والأصدقاء الجزائريين، وتركت الجزائر بعد بدايـة تعاون عسكري وثقافي ومخابراتي وثيق، في آخر المراحل الصعبة.

جزاء سنمار

غادرت الجزائر عائدا للقاهرة في سبتمبر 1994 وعلمت أنني رشحت لمواصلة العمل القانوني بديوان الوزارة وكنت قبلها قد رقيت إلى أعلي درجات السلك الدبلوماسي المصري وهي درجة سفير ممتاز.

 وكان وزيــــــــــر الخارجية قد ألغي نظام الإدارات المركزية المتخصصة جغرافيا وفنيا، حيث كان يعين على رأس كل إدارة جغرافية أو سياسية أو فنية مديرا بدرجة سفير، وكان الوزير يكلف هذه الإدارات ببحث أمور معينة قبل اتخاذ قراره وينظر في مبادرات تلك الإدارات. حيث كان كل سفير يتصل بقيادات أجهزة الدولة بما فيهم الوزراء للتنسيق بين العمل الداخلي وسياسة الدولة الخارجية.

 وكان وزراء الخارجية يأخذون في الاعتبار رأي كل سفير في المسائل التي نقع في اختصاصه وكانت اتصالات السفراء مديري الإدارات تلقى اهتماما ومصداقية من الوزراء مما يؤدي إلى تخفيف العبء على وزير الخارجية، ولكن وزير الخارجية الجديد استلهم لمصر نسخة تعيسة من نظام وزارة الخارجية الأمريكية، أدى إلى التركيز الشديد في سلطات وزير الخارجية وعدم ترك مساحة كافية للاستماع لآراء ومبادرات السفراء بحكم تخصصهم ومتابعة ما يحدث يوميا في دوائر اختصاصهم.

وتتركز فلسفة النظام الأمريكي على إعلاء سلطة وزير الخارجية بحيث لا تدانيه أي فروع للوزارة في السلطة أو اتخاذ قراراته بل تمكنه من أن يصدر قراراته دون الرجوع للمختصين، وهذه سمة من سمات النظام الأمريكي الذي يعطي السلطة للسكرتير المسمى عندنا بالوزير، وذلك على أساس أن للرئيس السلطة الكاملة في إصدار التعليمات لأي فرع من فروع الحكومة دون معارضة، ولكن وزير الخارجية هناك خاضع لرقابة الكونجرس ومن الطبيعي أن تسري قراراته على جميع فروع وزارته لأنه يتحمل مسئولية أي فشل في السياسة الخارجية.

 وهكذا ألغي نظام الإدارات السياسية والفنية الذي ظل معمولا به في وزارة الخارجية حقبة طويلة، وأنشأ النظام الجديد المستورد مكاتب صغيرة يرأسها دبلوماسيون من درجـــات متوسطة (سكرتير أول – مستشار) مهمتهم تجميع المعلومات وتحليلها ورفعها إلى منصب جديد هو مساعد وزير الخارجية الذي يحيلها للوزير كما هي أو مصحوبة بتوصية متحفظة ومرتعشة تاركا للوزير اتخاذ الرأي الأخير. ومن سوء الحظ أن هذا النظام قد عم على وزارات الدولة وسعد الوزراء بتطبيقه لما يعطيه لهم من سلطة كبري ومفرطة خاصة وأن الوزير في مصر منذ عام 1952 كان مجرد رئيس موظفين يأتمر بما يراه رئيس الوزراء ورئيس الدولة.

 وعندما وصلت للقاهرة عائد من الجزائر زرت وزير الخارجية زيارة مجاملة ولأننا عملنا سويا ما يراوح أربعين عاما، اتفقنا فيها أحيانا وتنافسنا أحيانا أخرى واختلفنا كثيرا ولم ينس أبدا منازعاتنا في شئون العمل بل وحاول استغلال سلطاته ضدي أثناء خدمتي بالجزائر في عدد من المواقف ولم يحقق أي نجاح في ذلك، ولكني أبقيت على الود بيننا وكانت تعجبني فيه روحه المرحة وبديهتـــــــه الحـاضر، قدمت له هدية صغيرة من شيء يحبه، وكانت المقابلة ودية.

 وفي جولاتي بالوزارة بعد وصولي، تتبعني بعض من عملوا معي بطلب نقلهم إلى مكتبي كمساعد لوزير الخارجية للشئون القانونية وهو ما كان معروفا في كل أرجاء الوزارة، وقبعت في منزلي انتظر تسلم عملي ولكن مدير إدارة السلك كان يجيبني بإجابات غامضة ولكنه كان يبشر بالخير دائما، وبعد فترة أدركت أنني مبعد عن أي منصب بالوزارة وأن على أن أمضي ما بقي لي من عمر قبل التقاعد خارج أي إطار رسمي.

ولم أدهش كثيرا بهذا الموقف لأنه كان من الطبيعي أن تسير أمور الدولة وقتها بالطرق التي ترضي وتربح أهل الفساد في كل مناصب الدولة وأصدقاءهم من رجال الأعمال بعيدا عن المتاعب، ولا بد أن الوزير فضلا عن ما يحمله نحوي من مشاعر غير ودية نتيجة تعرض مواقفنا السياسية أو على الأقل لأنه تعرض لضغوط لعدم تعييني بهذا المنصب مستندا إلى أن سوابقي للتصدي في عملي لأي عمل لا يتفق مع صحيح القانون عضوا ونائبا ومديرا والتي لا تشجع على إعادة تعييني في ذلك المنصب الذي أصبح يسمي تحت النظام الجديد مساعد الوزير للشئون القانونية. وإن كنت وما زلت ألاحظ أن هذا اللقب لا يكتسب في مصر مفهومه في أمريكا، فمساعد الوزير عندنا تجمع بين الكاتب والسكرتير والباحث ومدير المكتب فكل منهم يساعد الوزير ولا ينوب عنه، وكنت أفضل لو سمي مثل هذا المنصب بنائب الوزير، ولكن النهج الفرعوني عندنا لا يسمح بنواب الفراعنة فالكل خدامه ومساعدوه.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close