دراسات

اتخاذ القرار في السياسة الخارجية منطلقات وخبرات

تضم صناعة السياسة الخارجية عدة عمليات لتحديد قواعد التعامل مع المتغيرات الدولية ووضع برنامج للعمل في المجال الدولي. وتعد عملية صنع القرار السياسي الخارجي من أهم العمليات التي تتضمنها صناعة السياسة الخارجية. ويقصد باتخاذ القرار السياسي الخارجي المرحلة الأخيرة التي تمر بها عملية صنع القرار السياسي الخارجي، اي مرحلة اختيار القرار الأفضل. وتعد هذه المرحلة من أخطر المراحل، لما يمكن ان ترتبه من نتائج ايجابية لمصلحة الدولة او نتائج سلبية تضر بمصلحة الدولة. كما ان قرارات السياسة الخارجية تشكل في محصلتها المسار العام للسياسة الخارجية للوحدة الدولية.

وينصرف مفهوم النظم السياسية التقليدية إلى تلك النظم السياسية التي عرفت باستقرار خصائصها السياسية الأساسية واصبحت واضحة المعالم منذ عدة قرون وهي: النظام السياسي الرئاسي، وستكون الولايات المتحدة الأمريكية [1] نموذجاً لاتخاذ القرار السياسي الخارجي، والنظام السياسي البرلماني وستكون جمهورية ألمانيا الاتحادية [2] نموذجاً له، والنظام السياسي الجمعية [3] وستكون جمهورية سويسرا الاتحادية نموذجا له.

ولن يتطرق هذا البحث إلى اتخاذ القرار السياسي الخارجي في النظام السياسي المختلط، الذي يجمع خصائص من النظام السياسي الرئاسي والنظام السياسي البرلماني، والذي اخذت به فرنسا بدستورها لسنة 1958 (دستور ديغول) وبعض دول العالم الثالث، وذلك لتباين النصوص الدستورية لهذا النظام، ولاسيما فيما يتعلق باختصاصات رئيس الدولة والعلاقة بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية.

يهدف البحث إلى تحديد من يتخذ القرار السياسي الخارجي في النظم السياسية التقليدية ومدى الحرية التي يمتلكها في اتخاذ ذلك القرار. ويطرح البحث فرضيته هي ان اتخاذ القرار السياسي الخارجي هي مسؤولية من يمتلك سلطة عليا في الدولة، لما للسياسة الخارجية من اهمية بالغة الخطورة على الدولة. ومن اجل التحقق من هذه الفرضية استخدم “منهج اتخاذ القرار”.

يضم البحث اربعة محاور: يقدم المحور الأول موجزاً لعملية صنع القرار السياسي الخارجي. ويتناول المحور الثاني اتخاذ القرار السياسي الخارجي في النظام السياسي الرئاسي، ويتطرق المحور الثالث إلى اتخاذ القرار السياسي الخارجي في النظام السياسي البرلماني، أما المحور الرابع فيعالج اتخاذ القرار السياسي الخارجي في النظام السياسي الجمعية. وينتهي البحث بخاتمة لأهم النتائج التي تمخضت عنه.

أولاً: في عملية اتخاذ القرار السياسي الخارجي:

1ـ وحدة اتخاذ القرار السياسي الخارجي:

ويقصد بها الفرد او المجموعة التي يناط بها عملية اتخاذ القرار السياسي الخارجي بموجب القواعد التي ينص عليها الدستور. وهي عادة تكون السلطة التنفيذية او جزء منها. وقد تكون سلطة أخرى استثناءً.

وتختلف وحدة اتخاذ القرار السياسي الخارجي باختلاف طبيعة النظام السياسي، ويمكن تمييز ثلاث انماط، وهي:

النمط الأول: وحدة القائد السياسي:

تتكون هذه الوحدة من رئيس السلطة التنفيذية ومجموعة صغيرة من المسؤولين يقوم هو باختيارهم ويعتنقون آراءه. وتظهر هذه الوحدة القرارية في الأنظمة السياسية التي يسيطر عليها “قائد سياسي”، وتتميز بخاصية اساسية وهي ان القائد السياسي ينفرد باتخاذ القرار السياسي الخارجي. اما دور بقية الأعضاء فهو انعكاس لدور القائد السياسي. وهنا يظهر تأثير الخصائص الشخصية للقائد السياسي في اتخاذ القرار. فقد يكون القائد السياسي من الذين لهم رؤية محددة للعالم ويبحث عن المعلومات التي تؤكد وجهة نظره ويرفض المعلومات التي تتقاطع وعقائده، وقد يكون القائد السياسي من الذين يتميزون بالانفتاح على المعلومات الجديدة واستيعابها ومستعداً للاستماع إلى آراء غيره من المستشارين والخبراء [4].

النمط الثاني: وحدة المجموعة المتكافئة:

تظهر هذه الوحدة القرارية عندما لا يستطيع رئيس الوحدة القرارية من فرض وجهات نظره على بقية اعضاء المجموعة القرارية والسيطرة عليها. ويصار إلى اتخاذ القرار السياسي الخارجي من خلال تبادل الآراء والحوار والمناقشة. وليس هناك ما يمنع من وجود معارضة [5].

النمط الثالث: وحدة الجماعات المستقلة:

وتظهر هذه الوحدة القرارية في النظم السياسية التي تأخذ بالتعددية الحزبية وفي حالة قيام وزارة ائتلافية تضم أكثر من حزب واحد. وفي هذه الحالة لا يمكن اتخاذ القرار إلا بتوافق اعضاء المجموعة، اي توافق الأحزاب المؤتلفة. وقد تظهر خلافات حادة لاختيار البديل [6]. وفي الغالب يكون القرار الناجم عنها مبنياً على اساس الحلول الوسط [7].

2- عملية صنع القرار السياسي الخارجي:

لقد اختلف الباحثون [8] في تحديد مراحل عملية صنع القرار السياسي الخارجي. وقد اخذنا بالمراحل الخمس لتوزيع عملية صنع القرار السياسي الخارجي وهي كالآتي [9].

أولاً: مرحلة نشأة الحافز:

ويقصد بها قيام سلوك سياسي خارجي لوحدة دولية موجهاً إلى دولة ما. وقد يكون السلوك ذا طبيعة تعاونية او صراعية. هذا التعامل السلوكي للوحدة الدولية هو الذي ينشئ الحافز لدى الدولة. ولذا لا بد من وجود حافز لتبدأ عملية صنع القرار السياسي الخارجي.

ثانياً: مرحلة إدراك الوحدة القرارية للحافز:

لا يكفي نشأة الحافز لتبدأ عملية صنع القرار السياسي الخارجي، وإنما لا بد من إدراك الوحدة القرارية (صانع القرار) للحافز وفهم طبيعة الحافز. وان إدراك الحافز يحدث عند تزويد الوحدة القرارية بالمعلومات. وهنا تأتي اهمية وصول المعلومات المتعلقة بالحافز والتي يجب ان تكون أمينة ودقيقة.

ثالثاً: مرحلة تجميع المعلومات عن الحافز:

تنصرف هذه المرحلة إلى تجميع المعلومات كافة والمتعلقة بالظاهرة السياسية المتصلة بالحافز، سواءً أكانت تلك الواردة من الجهات الصديقة ام الجهات العدوة، من اجل الاستيضاح والتعرف على حقيقة ابعاد الحافز وتحديد ما تريد الوحدة الدولية تحقيقه ومدى تهديده لأهداف وقيم الدولة. وهنا تظهر اهمية ان تكون المعلومات صادقة وغير مشوهة لمضمونها.

رابعاً: مرحلة تفسير المعلومات:

وهي مرحلة فرز المعلومات وتبويبها وتحليلها وربطها بالخبرة السابقة لإعطائها معنىً معيناً يتعلق بالموقف ولتحديد ما تريد الوحدة الدولية تحقيقه من جراء تعاملها السلوكي.

خامساً: مرحلة البحث عن البدائل في اتخاذ القرار:

وتنصرف هذه المرحلة إلى وضع مجموعة من البدائل واختيار البديل الأفضل للتعامل مع الحافز.

ولا بد من الاشارة هنا إلى ان اختيار البديل العقلاني الموضوعي يتعلق كثيراً بمدى توافر مؤسسات متطورة من هياكل واجهزة وكوادر استشارية ومنظومات معلوماتية. وهذا الأمر يتعلق بمدى توافر الموارد الاقتصادية والبشرية في الدولة. وان غياب تلك المؤسسات يؤدي إلى ظهور التأثيرات الشخصية لأعضاء الوحدة القرارية مما يجعل البديل المختار يتميز بالضعف وعدم الواقعية.

ومما له صلة بالموضوع ان تأثير عقائد وادراكات وتصورات الوحدة القرارية في اختيار البديل يزداد كلما كان النظام السياسي يفتقد لمؤسسات سياسية تتولى مهام رقابة ومحاسبة وحدة اتخاذ القرار السياسي الخارجي، اي يؤدي إلى تعاظم دور صانعي القرار [10].

3- أساليب اتخاذ القرار السياسي الخارجي:

هناك ثلاثة اساليب رئيسة تستخدم لاختيار بديل من مجموعة بدائل وهي [11]:

أولاً: الأسلوب العقلاني (التحليلي):

ينصرف هذا الأسلوب إلى تحديد البدائل المحتملة كافة واجراء تقويم لكل بديل وللنتائج التي يمكن ان تترتب على كل بديل، وما تأثيرها على اهداف الدولة وقيم النظام السياسي. ومن ثم يتم اختيار البديل الذي يحقق اعظم المنافع بصرف النظر عن اي اعتبار آخر.

ويفترض هذا الأسلوب وجود مجلس وزراء كوحدة اتخاذ القرار السياسي الخارجي، وتوافر التجانس بين اعضائها، فضلاً عن الأيمان بوحدة الأهداف، والاتفاق على انتهاج الأسلوب العقلاني في حساب المنافع والخسائر.

ثانياً: الأسلوب العقيدي (المعرفي):

يظهر هذا الأسلوب عندما تكون وحدة اتخاذ القرار السياسي الخارجي متمثلة بفرد واحد يتصرف بمفرده او في إطار مجموعة صغيرة. ويقوم هذا الفرد باختيار البدائل التي تتسق ونسقه العقيدي، ومن ثم اختيار البديل الأكثر اتساقاً وعقائده وادراكاته وتصوراته، اي بعبارة اخرى ان الفرد “القائد السياسي” يقوم بصفة نسقه العقيدي كقاعدة لاختيار البديل. فاختيار البديل لا يقوم على دراسة وتحليل المتغيرات الوطنية والإقليمية والدولية، وعلى مدى تأثيره في الأهداف والقيم، بل ان اختيار البديل يتحدد من خلال عقائد القائد السياسي.

ثالثاً: الأسلوب الإداري (التنظيمي):

يقوم هذا الأسلوب على اختيار البديل بالاعتماد على تجميع معلومات مكتسبة من الخبرة والتجربة وربطها بإمكانات الدولة. وتحويل تلك المعلومات إلى برامج تعد سلفاً. فالبرامج تتضمن مجموعة من البدائل ومن ثم يتم اختبار البديل الذي يتعامل مع الحالة. اي ان عملية اختيار البديل تتم بالتركيز على المتغيرات المتعلقة بالحافز مع تقويم للمعلومات والبدائل على وفق التعليمات المحددة سلفاً. وعند التوصل إلى أول بديل يتفق وتلك التعليمات والبرامج المحددة تتوقف عملية التقويم. وعليه فإن هذا الأسلوب لا يعتمد على التحليل العقلاني ولا على معيار النسق العقيدي، وإنما البديل الذي يحقق الهدف المطلوب بحده الأدنى.

ثانياً: اتخاذ القرار السياسي الخارجي في النظام السياسي الرئاسي: الولايات المتحدة الأمريكية

1- تكوين وحدة اتخاذ القرار السياسي الخارجي:

تتكون السلطة التنفيذية من رئيس الجمهورية وعدد من أمناء سر الدولة (الوزراء). رئيس الجمهورية هو في الوقت نفسه رئيس السلطة التنفيذية. ويتم انتخابه عن طريق الاقتراع غير المباشر ولمدة أربع سنوات. الرئيس الأمريكي هو الذي يقوم باختيار أمناء سر الدولة بشرط الحصول على موافقة مجلس الشيوخ، وللرئيس وحده حق إقالتهم. وهم مسؤولون امامه مباشرةً وليس امام الكونغرس [12]. وأمناء سر الدولة هم عبارة عن مساعدين للرئيس الأمريكي، يرجع إليهم للتعرف على وجهات نظرهم في الأمور السياسية وشؤون الدولة والنظام السياسي الرئاسي الأمريكي لا يعرف اسلوب “اجتماع مجلس الوزراء” واسلوب المناقشة والتصويت، كما هو معروف في النظام السياسي البرلماني [13]. فلا يحق للكونغرس محاسبة الرئيس الأمريكي او طرح الثقة به او بأحد أمناء سره او محاسبتهم. وإنما يحق للكونغرس دعوة أمناء السر للاستماع إلى شهاداتهم بخصوص موضوع معين [14].

2- تكوين الوحدة المؤثرة في اتخاذ القرار السياسي الخارجي:

تتكون السلطة التشريعية الاتحادية في الولايات المتحدة من مجلسين يكونان الكونغرس، هما [15]:

  1. مجلس النواب، الذي يتكون من اعضاء يتم انتخابهم من الناخبين في كل ولاية على حدا، عن طريق الاقتراع العام الحر السري المباشر ولمدة سنتين.
  2. مجلس الشيوخ، الذي يتكون من عضوين عن كل ولاية، بغض النظر عن عدد سكانها. ويتم اختيارهم من قبل الهيئة التشريعية في الولاية، ولمدة ست سنوات، يتم تجديد عضوية الثلث كل سنتين.

3- اتخاذ القرار السياسي الخارجي:

كان في اعتقاد البعض انه يجوز للشركات الأمريكية الدخول في عقود تصدير مع الدول الأجنبية على اساس ان الدستور الأمريكي ينص على حرية التجارة وحرية العقود. إلا ان خلافاً نشأ بين الإدارة الأمريكية وشركة أمريكية تعاقدت مع بوليفيا لبيع السلاح لها، أثناء حربها مع الباراغواي. إذ ان الإدارة الأمريكية تمسكت برأيها وهو ان رئيس الجمهورية وحده يملك سلطة إدارة الشؤون الخارجية، وأنه كان على الشركة الأمريكية الحصول على موافقة الإدارة الأمريكية قبل بيع السلاح إلى بوليفيا. وقد أُحيل الخلاف إلى المحكمة الفيدرالية العليا في الولايات المتحدة، التي أصدرت قرارها في سنة 1934 والذي ينص على ان “رئيس الجمهورية وحده يملك الحق في تصريف شؤون السياسة الخارجية”[16]. وقد تم توكيد القرار بالتفسير الصادر من المحكمة نفسها في سنة 1936 والذي ينص “ان الرئيس الأمريكي هو العنصر الوحيد للأمة في علاقاتها الخارجية، وهو الممثل الوحيد في مواجهة الأمم الأجنبية”[17].

وعليه فإن الرئيس الأمريكي بصفته رئيس السلطة التنفيذية الاتحادية [18] هو وحده المسؤول عن صنع السياسة الخارجية وإدارة العلاقات الدولية واتخاذ القرارات بشأنهما، ولا يحق لأمناء السر المشاركة في اتخاذ القرار وإنما يعدون بمثابة مساعدين او مستشارين للرئيس الأمريكي [19].

وعليه فإن الرئيس الأمريكي هو وحده الذي يتخذ القرار السياسي الخارجي. إلا ان هناك شؤوناً لا يملك فيها الرئيس الأمريكي الحرية المطلقة في اتخاذ القرارات وإنما يجب توافر موافقة الكونغرس بمجلسيه او موافقة مجلس الشيوخ، وهي كالآتي:

(أ) الشؤون السياسية الخارجية التي ينفرد فيها الرئيس الأمريكـي باتخاذ القرار:

  1. اتخاذ القرار في السياسة الخارجية والعلاقات الدولية، وهذا يشمل تحديد توجهات السياسة الخارجية للولايات المتحدة وادوارها واهدافها واستراتيجيتها، فضلاً عن تحديد المواقف تجاه القضايا الدولية وإدارة الأزمات [20].
  2. اتخاذ القرار بشأن تحريك القوات المسلحة إلى اي منطقة بالعالم، وكذلك بخصوص العمليات الحربية بصفته القائد العام للقوات المسلحة والبحرية [21].
  3. الاعتراف بالدول الأجنبية وإدارة العلاقات معها. وهذا الحق يملكه الرئيس الأمريكي كتحصيل حاصل لمسؤوليته عن اتخاذ القرار السياسي الخارجي [22].

(ب) الشؤون السياسية الخارجية التي يتخذ الرئيس الأمريكي القرار فيها بشرط موافقة الكونغرس:

  1. إعلان الحرب ومنح تصاريح مهاجمته سفن العدو والانتقام ووضع قواعد حول الاستيلاء والأسر في البر وعلى الماء. وهنا يجب موافقة الكونغرس بمجلسيه وبالأغلبية المطلقة [23].
  2. اصدار التشريعات المتعلقة بالتخصيصات المالية التي يحتاجها الرئيس الأمريكي بخصوص العلاقات الاقتصادية الخارجية والمساعدات الأمريكية للدول الأجنبية والمنظمات الدولية فضلاً عن ادامة القوات الأمريكية في الخارج [24].

(ج) الشؤون السياسية الخارجية التي يتخذ فيها الرئيس الأمريكي القرار بشرط موافقة مجلس الشيوخ فقط

  1. تعيين السفراء والقناصل بالدول الأجنبية [25].
  2. المعاهدات التي يعقدها الرئيس الأمريكي او من ينوب عنه، مع الدول الأجنبية تحتاج إلى موافقة مجلس الشيوخ عليها وبأغلبية ثلثي عدد الأعضاء الحاضرين، لكي تصبح نافذة المفعول [26].

وفي حالة رفض مجلس الشيوخ التصديق على المعاهدة يملك الرئيس الأمريكي صلاحية تحويل جزء منها إلى اتفاق تنفيذي “Executive Agreement”، التي لا تحتاج إلى موافقة مجلس الشيوخ [27]. ان قدرة الرئيس الأمريكي باللجوء إلى عقد اتفاقيات تنفيذية بدون موافقة مجلس الشيوخ لا تستند على نص دستوري. ويرى البعض ان هذه الصلاحية تدخل ضمن ما يسمى بامتيازات الرئاسة. اما هارت وونستون Hart / Winston فيريان انها تستمد شرعيتها من سوابق تاريخية تعود إلى سنة 1790 والى قضاء المحكمة الفيدرالية العليا في الولايات المتحدة، وإنها اصبحت في الواقع كعرف دستوري [28].

يقوم الكونغرس احياناً بإصدار قوانين (قرارات) تتعلق بشؤون خارجية، إلا انها غير ملزمة للرئيس الأمريكي، وإنما تعد رسالة موجهة اليه لبيان وجهة نظر الكونغرس بخصوص قضايا دولية معينة. وهي تعد وسيلة للتأثير على الرئيس الأمريكي في اتخاذ القرار السياسي الخارجي [29].

ولا بد من الإشارة هنا إلى انه توجد مجموعة من الأجهزة والمكاتب والوكالات تقع مباشرة تحت أمرة الرئيس الأمريكي تساعده في أداء مهامه كتزويده بالمعلومات والبيانات اللازمة وتقديمها المشورة والرأي له. ومن اهمها الأمانة العامة للشؤون الخارجية، الأمانة العامة لشؤون الدفاع، مكتب البيت الأبيض، مجلس الأمن القومي، وكالة المخابرات المركزية وغيرها [30].

ثالثاً: اتخاذ القرار السياسي الخارجي في النظام البرلمانـي: جمهورية ألمانيا الاتحادية:

1- تكوين وحدة اتخاذ القرار السياسي الخارجي:

تتكون السلطة التنفيذية من رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء؛ يتم انتخاب رئيس الجمهورية من قبل “المؤتمر الاتحادي” الذي يتشكل عند اجراء الانتخاب. ويضم اعضاء مجلس النواب وعدد مساوٍ لهم تختارهم المجالس التشريعية في المقاطعات ولمدة خمس سنوات. ولا يجوز انتخابه لمرتين متتاليتين [31].

يتكون مجلس الوزراء من المستشار الاتحادي (رئيس الوزراء) وعدد من الوزراء. وعادةً فإن الحزب الذي يملك اغلبية المقاعد البرلمانية في مجلس النواب هو الذي يرشح المستشار الاتحادي، ومن ثم يقوم رئيس الجمهورية بدوره باقتراح “اسم المستشار” على مجلس النواب. وعلى المرشح للمستشارية، دون الوزراء، ان يحصل على ثقة البرلمان بأغلبية اصوات اعضائه. عند حصول المستشار على ثقة البرلمان يقوم باختيار اعضاء وزارته بحرية مطلقة [32]. فلا يجوز لرئيس الجمهورية او البرلمان إكراه المستشار على ادخال اي وزير في حكومته او اخراجه منها [33].

وما يتميز به النظام السياسي البرلماني في المانيا عن باقي الأنظمة السياسية البرلمانية في اوربا هو انه لا يجوز للبرلمان ان يقرر حجب الثقة عن المستشار الاتحادي، إلا اذا اختار البرلمان مسبقاً خلفاً للمستشار من بين اعضاءه وطلب البرلمان من رئيس الجمهورية إقالة المستشار من منصبه [34].

2- الوحدة المؤثرة في اتخاذ القرار السياسي الخارجي:

تتكون السلطة التشريعية الاتحادية من مجلسين هما: مجلس النواب والمجلس الاتحادي. ينتخب مجلس النواب من الناخبين الألمان بأسلوب الاقتراع العام الحر السرّي المباشر لمدة أربع سنوات. وأعضاء مجلس النواب “يمثلون الشعب جميعه، وغير مقيدين بوكالة او بأوامر ولا يخضعون إلا لضمائرهم”[35].

اما المجلس الاتحادي فهو يمثل المقاطعات [36]، اذ تتمثل كل مقاطعة بعدد من النواب، آخذين بنظر الاعتبار حجم سكان المقاطعة، ولكن بشرط ان لا يقل عدد اصوات كل ولاية عن ثلاثة اصوات ولا يزيد عن خمسة اصوات [37].

ولا بد من الإشارة هنا ان مسؤولية المستشار تكون امام مجلس النواب فقط دون المجلس الاتحادي [38].

3- اتخاذ القرار السياسي الخارجي:

لا يمارس رئيس الجمهورية سلطات فعلية وانما شكلية شرفية كاستقبال رؤساء الدول والحكومات والمبعوثين الدبلوماسيين الألمان للدول الأجنبية وتوقيع اعتماد الدبلوماسيين الألمان لدى الدول الأجنبية. فليس لرئيس الجمهورية سلطة ينفرد بها. “ويشترط لصحة الأوامر والقرارات التي يصدرها رئيس الجمهورية ان يوقع عليها مستشار الاتحاد والوزير الاتحادي المختص …”[39] ويترتب على ذلك ان الإجراءات والأوامر والقرارات التي تصدرها الحكومة هي مسؤولة عنها، ولا يجوز للوزراء الاحتجاج بأن تلك الأوامر والقرارات قد صدرت عن رئيس الجمهورية، لإبعاد المسؤولية عنهم. وعليه يمكن القول ان مسؤوليات رئيس الجمهورية في مجال السياسة الخارجية تكاد تقتصر على جوانب بروتوكولية من حيث المضمون.

يتمتع المستشار الألماني بموقع متميز في الحكومة الألمانية. ويستمد هذا الموقع من مركزه الحزبي بصفته زعيم الأغلبية النيابية فضلاً عن مركزه الدستوري. فهو الذي يضع المبادئ الأساسية لسياسة حكومته ويتحمل مسؤولية تنفيذها [40].

وهذا ما يطلق عليه “مبدأ المستشارية” “Kanzlerprinzip”، وهذا يعني ان المستشار وحده، لا الوزارة، مسؤول عن تحديد سياسة حكومته في المجالات كافة ومنها السياسة الخارجية والسهر على تنفيذها. ويترتب على ذلك ان مجلس الوزراء لا يحق له اصدار قرار بالأغلبية المطلقة بجبر المستشار بتبني سياسة تتعارض مع المبادئ الأساسية التي وضعها. فالمبادئ الأساسية للسياسة العامة التي يضعها المستشار تتمتع بحصانة تامة [41].

ويعمل الوزراء في الحكومة الألمانية بصورة مستقلة في إدارة شؤون وزاراتهم وعلى مسؤوليتهم الخاصة، ولكن ضمن المبادئ الأساسية التي وضعها المستشار. وهذا ما يطلق عليه “مبدأ استقلالية الوزير” “Ressortprinzip”، اي ان الوزير يتمتع باستقلالية في مباشرة شؤون وزارته دون اشراف مباشر عليه من قبل المستشار [42]. إلا انه من ناحية أخرى وبما ان المستشار هو المسؤول عن اعمال حكومته، فإنه يجب على الوزراء إطلاع المستشار على القرارات والإجراءات كافة التي ينوون اتخاذها، وذلك في الاجتماع الأسبوعي الذي يعقده مجلس الوزراء [43]. وهذا يعني ان القرارات في شؤون السياسة الخارجية تتخذ من قبل المستشار الألماني مباشرةً او من قبل وزير الخارجية ولكن بعلم المستشار.

وفضلاً عن “مبدأ المستشارية” و”مبدأ استقلالية الوزير” هناك “مبدأ الحكومة” “Kabinettsprinzip”، وهو يقوم على اساس ان هناك جملة قرارات تتعلق بأمور اجرائية تتخذ من قبل الحكومة وبشكل جماعي وليس من قبل المستشار، مثال ذلك القرارات الخاصة بتعيين الموظفين الدبلوماسيين والموظفين الكبار، واقتراح القوانين وغيرها من الامور [44].

وأن مسؤولية المستشار الألماني بوضع المبادئ الأساسية لحكومته ومسؤوليته عن تنفيذها لا تعني انه يتصرف بشكل انفرادي وبدون ضوابط في اتخاذ القرار، بل عليه في كثير من الأحيان التشاور مع قيادة حزبه والاطلاع على رأيها، لتأتي السياسة منسجمة مع برنامج حزبه، ولكي يتلافى احداث معارضة لسياسته في داخل حزبه او رفض جزء من سياسته من قبل البعض، الأمر الذي هو في غنى عنه. كما يجب على المستشار في حالة الحكومة الائتلافية التي تتكون من اكثر من حزب واحد، وهو عادةً ما يحدث في المانيا، ان يلتزم بالاتفاق الذي تم توقيعه مع الأحزاب المؤتلفة، والذي يشمل مجالات السياسة الخارجية والاقتصادية والاجتماعية كافة [45].

ومن المهام التي تقع على عاتق المستشار الألماني لاتخاذ القرار فيها، هو ان الوزير الاتحادي لشؤون الدفاع يمارس سلطة القيادة على القوات المسلحة في الأوقات العادية، إلا انه عند إعلان حالة الدفاع (الحرب) تنتقل سلطة القيادة إلى المستشار الألماني [46].

وتساعد المستشار في أداء مهام السياسة الخارجية لاتخاذ القرار الرشيد “دائرة المستشار الاتحادي” “Bundeskanzleramt” التي تنظم علاقة المستشار مع سائر فروع الحكومة ومع الإدارات العامة والمؤسسات غير الحكومية، وتطلعه على التطورات السياسية في الداخل والخارج وتهيء له البدائل التي يختار منها القرار على ضوء المعلومات التي تقدم اليه وكذلك “دائرة الصحافة والمعلومات للحكومة الاتحادية” “Press- und Informationamt der Bundesregierung” التي توفر التواصل الوثيق بين السلطة التنفيذية وممثلي وسائل الإعلام الوطنية والدولية. وتقوم بجمع المعلومات حول موقف الرأي العام من سياسة الحكومة وتقويم تلك المعلومات، فضلاً عن قيامها بتوضيح سياسات الحكومة وقراراتها وسلوكها للرأي العام في الداخل والخارج. ويُعد الموظفون الرئيسون في هاتين الدائرتين من ضمن نخبة اعضاء السلطة التنفيذية الذين يؤثرون في عملية صنع القرار السياسي الخارجي. فضلاً عن ذلك هناك “الوكالة الاختبارية الاتحادية” “Bundesnachrichtendienst” التي تقع تحت إمرة المستشار مباشرةً وتنحصر مهمتها في جمع المعلومات في الخارج فقط [47].

أما مشاركة السلطة التشريعية الاتحادية في اتخاذ القرار السياسي الخارجي فتظهر في الحالات الآتية:

  1. مجلس النواب مسؤول عن اتخاذ القرار المختص بإثبات قيام حالة الدفاع (الحرب)، ويتولى رئيس الجمهورية إعلان القرار. إلا انه في حالة تعذر إجماع مجلس النواب ووجود خطورة في التأخير، يجوز لرئيس الجمهورية ان يثبت قيام حالة الدفاع، ولكن بشرط ان يحصل على توقيع المستشار ويأخذ رأي كل من رئيس مجلس النواب ورئيس المجلس الاتحادي في هذا الشأن [48].
  2. موافقة السلطة التشريعية بمجلسيها على المعاهدات التي تبرمها الحكومة الألمانية مع الدول الأجنبية [49].
  3. التعهدات العسكرية والمالية التي تأخذها الحكومة الألمانية على عاتقها خارج الحدود الألمانية يجب ان تصدر بتشريع من السلطة التشريعية [50].

وتجدر الإشارة إلى ان لمجلس النواب لجنة خاصة للشؤون الخارجية واخرى للشؤون الدفاعية. وتقوم هاتان اللجنتان بوضع دراسات في قضايا السياسة الخارجية ذات الأهمية الكبيرة والمطروحة على صانع السياسة الخارجية. كما وان للجنة الشؤون الدفاعية سلطات لجنة التحقيق وتلتزم بإجراء التحقيق في أمر من الأمور إذا ما طُلب ذلك منها [51].

رابعاً: اتخاذ القرار السياسي الخارجي في النظام السياسي الجمعية: الاتحاد السويسري

1- تكوين وحدة اتخاذ القرار السياسي الخارجي:

بخلاف النظم السياسية في العالم تعد السلطة التشريعية هي وحدة اتخاذ القرار السياسي الخارجي في سويسرا. تتمثل السلطة التشريعية بالجمعية الاتحادية التي تتكون من مجلسين: مجلس الشعب ومجلس المقاطعات، ولكل منهما اختصاصات متساوية. يتم انتخاب اعضاء مجلس الشعب من الناخبين السويسريين عن طريق الاقتراع العام الحر السّري المباشر، طبقاً للنظام النسبي، ولمدة أربع سنوات [52]. اما مجلس المقاطعات فيتم انتخاب اعضائه من قبل المقاطعات كلٌ حسب تشريعاتها التي تضعها وبالأسلوب الديمقراطي، بحيث لا يقل عدد ممثلي المقاطعة في المجلس عن ممثل واحد ولا يزيد عن ممثلين أثنين، آخذين بنظر الاعتبار التعداد السكاني [53].

2- تكوين الوحدة المنفذة للقرار السياسي الخارجي:

وتتمثل بالسلطة التنفيذية ويطلق عليها: المجلس الاتحادي” اي الحكومة، وتتكون من سبعة اعضاء كل واحد منهم يشرف على إدارة وزارته. وتقوم الجمعية الاتحادية بانتخاب الأعضاء السبعة للحكومة من بين المواطنين والمواطنات ممن تتوفر فيهم شروط الترشيح لعضوية مجلس الشعب، ولمدة أربع سنوات. كما تقوم الجمعية الاتحادية بانتخاب رئيس المجلس الاتحادي (رئيس الحكومة) من بين الأعضاء السبعة ولمدة سنة واحدة غير قابلة للتجديد. ورئيس المجلس الاتحادي هو في الوقت نفسه رئيس الاتحاد السويسري، اي بعبارة اخرى يباشر مهامه رئيساً للاتحاد السويسري بجانب مباشرته لأعماله كوزير في الحكومة السويسرية [54]. وهو لا يمارس أية صلاحيات او اختصاصات تميزه عن بقية اقرانه من الوزراء. فالمجلس الاتحادي يقوم على اساس مبدأ السلطة الجماعية [55]. ولا يجوز للجمعية الاتحادية حل المجلس الاتحادي على اساس انه منتخب لمدة أربع سنوات، ولكن يحق لها توجيهه ومحاسبته، كما لا يجوز للمجلس الاتحادي حل الجمعية الاتحادية المنتخبة من قبل الشعب [56].

3- اتخاذ القرار السياسي الخارجي:

“الجمعية الاتحادية هي أعلى سلطة في البلاد دون الأخلال بحقوق الشعب والمقاطعات”[57]. وهي التي تمارس “… الأشراف على المجلس الاتحادي والإدارة الاتحادية والمحاكم التابعة للاتحاد والهيئات والأشخاص الآخرين الموكول إليهم مهام في الاتحاد”[58]. ولا يجوز “التذرع بسرّ المهنة لرفض التجاوب مع اعضاء لجان الأشراف التي يحددها القانون”[59]. فالجمعية الاتحادية بصفتها السلطة التشريعية الممثلة للشعب لها الهيمنة التامة على السلطات كافة وان المجلس الاتحادي الذي يعد السلطة التنفيذية في البلاد هو في الواقع هيئة عليها تنفيذ ما تقرره الجمعية الاتحادية [60]. وبما ان المجلس الاتحادي يعمل تحت توجيه وإشراف الجمعية الاتحادية، السلطة العليا في البلاد، فإن الأخيرة تستطيع في اي وقت تريد، القيام بتكليف المجلس الاتحادي، وبموجب قانون، يمكنها بوساطته من ان تؤثر في مجالات اختصاصات المجلس الاتحادي [61].

ففي مجال اتخاذ القرار السياسي الخارجي فإن الجمعية الاتحادية هي التي تشرف على العلاقات الخارجية مع الدول الأجنبية، وتشترك مع المجلس الاتحادي في صياغة السياسة الخارجية لسويسرا [62]. ومهمة المجلس الاتحادي ان يتقدم بمشاريع إلى الجمعية الاتحادية التي تقوم بدورها بإصدار المراسيم بصددها [63] فالجمعية الاتحادية هي الجهة المسؤولة عن اتخاذ القرار، الذي تصدره بصيغة مراسيم ملزمة قانونياً او اوامر بصيغة قرارات اتحادية [64].

ان الجمعية الاتحادية، لا السلطة التنفيذية، مسؤولة عن اتخاذ القرارات اللازمة للحفاظ على الأمن الخارجي واستقلال سويسرا وحيادها [65]. ولإنجاز هذه المهام يمكنها في الظروف غير العادية من إصدار قرارات اتحادية بسيطة [66] او اوامر إدارية [67]. وتقع على المجلس الاتحادي مسؤولية تنفيذ تلك التشريعات والقرارات الصادرة من الجمعية الاتحادية.

تشرف الجمعية الاتحادية على العلاقات الدولية، وهذا يعني انها تشرف على إجراء المفاوضات وعقد المعاهدات. وعند الإعداد للمعاهدات الدولية تتم دعوة المقاطعات والأحزاب السياسية والمجموعات التي يهمها الأمر إلى إبداء آرائها في الموضوعات المطروحة [68]، وعند الانتهاء من الاتفاق على المعاهدة تُحال إلى المجلس الاتحادي للتوقيع عليها، ثم تقدم للجمعية الاتحادية لاتخاذ القرار باعتمادها [69].

وتوسع الجمعية الاتحادية من مهامها لتمتد إلى المجال التنفيذي، فهي المسؤولة عن اتخاذ القرارات اللازمة لتنفيذ القوانين الاتحادية [70].

إلا ان الجمعية الاتحادية تركت مجالاً ضيقاً للمجلس الاتحادي يتمكن فيه من اصدار الاوامر واتخاذ القرارات اللازمة، وذلك في حالة وجود خطر يداهم مصالح البلاد، على ان تكون مدة صلاحية تلك الاوامر والقرارات محدودة [71]. وفضلاً عن ذلك يتمكن المجلس الاتحادي من إصدار الأوامر واتخاذ القرارات لمواجهة قلاقل حدثت او قد تحدث مهددة للنظام العام او للأمن الداخلي او الخارجي. وتكون هذه الاوامر والقرارات ذات صلاحية زمنية محددة ايضاً [72]. ويحق للمجلس الاتحادي في الحالات الطارئة ان يستدعي القوات المسلحة. ولكن في حالة استدعاء أكثر من اربعة آلاف جندي لمدة تزيد على ثلاثة اسابيع، يجب دعوة الجمعية الاتحادية للانعقاد فوراً [73].

وباستثناء ما ورد في اعلاه لم يأتِ الدستور السويسري لسنة 2000 بنص يمنح بموجبه المجلس الاتحادي صلاحية اتخاذ القرار في الشؤون الخارجية. وان عبارة “اعداد وتنفيذ القرارات” الواردة في المادة 177/3 والتي تنص “توزع اعمال المجلس الاتحادي على اعضاء المجلس تبعاً للوزرة المختصة وذلك بهدف إعداد وتنفيذ القرارات”. يفهم منها ان المجلس الاتحادي يقوم بتهيئة القرارات بناءً على توجيهات الجمعية الاتحادية، ويتم اتخاذها من قبل الأخيرة، ثم يتم تنفيذها من قبل المجلس الاتحادي بإشراف الجمعية الاتحادية.

ويلزم الدستور السويسري لسنة 2000 المجلس الاتحادي بتقديم تقارير دورية إلى الجمعية الاتحادية يوضح فيها إدارته للأعمال ويشرح فيها حالة البلاد [74].

وعلى الرغم من ان الدستور السويسري المذكور ينص صراحةً على ان الشؤون الخارجية هي من اختصاص السلطة الاتحادية [75]، إلا انه في الوقت نفسه منح الوحدات الاتحادية (المقاطعات) حق المشاركة في بلورة القرار السياسي الخارجي المتعلق بالشؤون الخارجية التي تمس اختصاصاتها او مصالحها الحيوية، كما يجب إشراكها في المفاوضات الدولية اذا كان الأمر يتعلق باختصاصها [76].

ولكي تتمكن الجمعية الاتحادية القيام بمهامها الكثيرة والمتنوعة، يقوم كل من مجلس الشعب ومجلس المقاطعات بتشكيل لجان من بين اعضائه، يحق لها الحصول على المعلومات كافة والاطلاع على المستندات والوثائق ومنحها صلاحية التحقق بموجب القانون [77].

ويقع تحت إمرة المجلس الاتحادي “المكتب الاتحادي” ويطلق عليه “المستشارية الاتحادية” يتولى مهمة جمع المعلومات والبيانات اللازمة وتقديمها إلى المجلس الاتحادي، فضلاً عن قيامه بالأعمال الإدارية ذات العلاقة بعمل المجلس [78].

مما تقدم يبدو ان افكار المفكر الفرنسي جان جاك روسو J. J. Rousseau قد تحولت في سويسرا إلى نصوص دستورية. فهو القائل ان السلطة يجب ان تكون بيد الإرادة العامة (الشعب) وان الحكومة عبارة عن موظفين ينفذون ما تقرره الإرادة العامة. وأن الحكام ليس لهم بذاتهم أية سلطة وانما يقومون بمهمة او خدمة [79].

ويجدر التنويه هنا إلى ان سويسرا دولة “حياد دائم” منذ مؤتمر فيينا في سنة 1815. وهذا الحياد الدائم يفرض على سويسرا التزامات من اهمها، عدم اللجوء إلى استخدام القوة إلا في حالة الدفاع عن النفس، وعدم الدخول في منظمات أو معاهدات او احلاف عسكرية [80]. ولا شك ان ذلك يقلل من انشطتها ومعاملاتها الدولية قياساً بدول أوربا الغربية.

خاتمة:

مما تقدم يمكن الوصول إلى الاستنتاجات الآتية:

اولاً: ان عدد من يتخذ القرار السياسي الخارجي يتباين من نظام سياسي إلى آخر، وكالآتي:

  1. ان من يتخذ القرار السياسي الخارجي في النظام السياسي الرئاسي (الولايات المتحدة) هو شخص واحد، هو رئيس الجمهورية.
  2. ان من يتخذ القرار السياسي الخارجي في النظام السياسي البرلماني (المانيا الاتحادية) هو شخص واحد (المستشار الاتحادي) ضمن مجموعة قليلة، او وزير خارجيته ضمن المبادئ الأساسية التي يضعها المستشار الاتحادي، وفي حالات اجرائية معينة يُتخذ من قبل المجموعة (مجلس الوزراء).
  3. ان من يتخذ القرار السياسي الخارجي في النظام السياسي الجمعية (الاتحاد السويسري) هي المجموعة الكثيرة (الجمعية الاتحادية)، وفي حالات محددة يُتخذ من قبل القلة (مجلس الوزراء).

ثانياً: لأهمية وخطورة القرار السياسي الخارجي فإنه يُتخذ من قبل سلطة عليا في الدولة وكالآتي:

  1. ان من يتخذ القرار السياسي الخارجي في النظام السياسي الرئاسي هو رئيس الجمهورية الذي هو رئيس السلطة التنفيذية في الوقت نفسه، مع وجود مشاركة من قبل سلطة عليا اخرى هي السلطة التشريعية في حالات معينة.
  2. ان من يتخذ القرار السياسي الخارجي في النظام البرلماني هو رئيس السلطة التنفيذية (المستشار الاتحادي) الذي يتمتع بموقع متميز في الحكومة او وزير خارجيته ضمن المبادئ التي يحددها المستشار او من قبل الحكومة في حالات معينة، مع ضرورة موافقة السلطة التشريعية في بعض الحالات.
  3. ان من يتخذ القرار السياسي في النظام السياسي الجمعية هي الجمعية الاتحادية، اي السلطة التشريعية، التي تُعد أعلى سلطة في الدولة. وقد مُنحت السلطة التنفيذية في حالات معينة صلاحية اتخاذ القرار السياسي الخارجي.

ثالثاً: ان النظم السياسية موضوعة البحث مطبقة في دول ديمقراطية إلا ان وحدة اتخاذ القرار متباينة، وهذا يدعونا إلى المزيد من البحث في عملية اتخاذ القرار السياسي الخارجي في النظم السياسية المختلطة وكذلك في النظم السياسية الشمولية لتكوين رؤية واضحة عن عملية اتخاذ القرار السياسي الخارجي [81].


الهامش

[1] اخذت الولايات المتحدة بالنظام السياسي الرئاسي بموجب دستورها لسنة 1787. واضيفت اليه ست وعشرين مادة، أطلقت عليها تعديلات. تناولت هذه التعديلات حقوق الانسان وحرياته ولم تمس مضمون السلطات السياسية في الدولة.

[2] نشأ وتبلور النظام السياسي البرلماني في بريطانيا منذ القرن التاسع عشر وأخذت به جميع دول أوربا الغربية ومازالت، باستثناء فرنسا الذي عدلت عنه بدستورها لسنة 1958.

[3] اخذت سويسرا بالنظام السياسي الجمعية بدستورها لسنة 1848 واجرت عليه تعديلات في سنة 1874، واستمر العمل بهذا النظام بدستورها لسنة 2000.

[4] أنظر: مازن اسماعيل الرمضاني، السياسة الخارجية: دراسة نظرية، بغداد 1991، ص ص 369 – 370.

[5] أنظر: محمد السيد سليم، تحليل السياسة الخارجية، القاهرة 1998، ص 474.

[6] حول اختلاف وجهات النظر في المجموعة القرارية، أنظر:

Wilfried Krueger, Konfliktsteuerung als Fuehrungsaufgabe, Muenchen, 1983, pp.74–80.

[7] انظر: الرمضاني، مصدر سابق، ص 372.

[8] يقسّم احمد نوري النعيمي، السياسة الخارجية، بغداد 2001، ص 155، عملية صنع القرار السياسي الخارجي الى ثلاثة مراحل وهي:

  • المرحلة السابقة لاتخاذ القرار، اي مرحلة الأعداد.
  • مرحلة اتخاذ القرار، اي مرحلة الاختبار.
  • المرحلة اللاحقة لاتخاذ القرار، اي مرحلة التطبيق.

بهذا الخصوص انظر ايضاً: مازن اسماعيل الرمضاني، في عملية اتخاذ القرار السياسي الخارجي، مجلة العلوم القانونية والسياسية (بغداد) العدد 2/1979.

[9] لمزيد من التفاصيل انظر: سليم، مصدر سابق، ص ص 476 – 479.

[10] انظر: المصدر نفسه، ص ص 377 – 384.

[11] See: Joseph Frankel, Contemporary International Theory and Behavior of the States, London 1986, pp. 70 – 75.

[12] See, U.S. Constitution 1787, Art. 2, Sec. 2

[13] See, Frank R. Pfetsch, Die Aussenpolitik der Bundesrepublik 1949– 1980, Muenchen 1981, p. 62.

[14] See, Loc. Cit.

[15] See, U.S. Constitution, Art. 1, Sec. 2.

انظر ايضاً رفعت عبد الوهاب، الأنظمة السياسية، بيروت 2004، ص ص 65 – 66.

[16] See: Michael H. Armacost / Michael M. Staddrd, The Foreign Relation of the United States, Encino 1974, P. 103.

[17] Loc. cit.

[18] See, U.S. Constitution, Art. 2, Sec. 1

[19] للمزيد من التفاصيل انظر:

See: Karl Heinz Puetz, Die Aussenpolitik der USA, Hamburg 1974, P.P. 23 – 25.

[20] See, Ibid., PP. 25 – 26.

[21] See: U.S. Constitution, Art. 2, Sec. 2

[22] أنظر: حميد حنون خالد الساعدي، الوظيفة التنفيذية لرئيس الدولة في النظام الرئاسي، عين شمس 1981، ص 277

[23] See: U.S. Constitution, Art. 1 Sec. 8

[24] See: K. H. Puetz, op. cit. p.52

[25] See: U.S. Constitution, Art. 2 Sec.2

[26] See: Ibid

[27] لمزيد من التفاصيل انظر:

K. H. Puetz, op. cit., P. 40

[28] See: Ibid, PP. 54 – 51

[29] See: M. H. Aomacost / M. M. Staddard, Op. cit., PP 107 – 120

[30] لمزيد من التفاصيل انظر:

  1. H. Puetz, Op. cit., P. 40

[31] لمزيد من التفاصيل حول انتخاب رئيس الجمهورية الألمانية انظر:

Grundgesetz der BRD, 1949, Art. 54

[32] See: Ibid, Art. 62

[33] See: Ibid, Art. 64

[34] See: Ibid, Art. 67

[35] See: Ibid, Art. 38

[36] بعد قيام الوحدة الألمانية اصبح عدد المقاطعات الألمانية ست عشرة مقاطعة.

[37] Grundgesetz der BRD, Op. cit., Art. 51

[38] Wolfgang Rudzio, Das Politische System der Bundesrepublik Deutschland, Opladen 1987, P. 255

[39] See: Grundgesetz der BRD, Op. cit. Art. 58

[40] See: Ibid, Art. 65

[41] See: Geschaeftsordnung der Bundesregierung, Art. 15

[42] See: W. Ruzio, Op. cit., P. 254

[43] See: Geschaeftsordnung …, Op. cit., Art. 15

[44] See: W. Rudzio, Op. cit., P. 254

[45] See: Siegfried Magiera, Parlament und Staatstellung in der Verfassungsordnungs des Grundgesetz, Berlin 1989, P. 61

[46] See: Grundgesetz …, Op. cit., Art 65

[47] لمزيد من المعلومات انظر:

– Wilhelm Hennis, Rechtlinienkompotenz und Regierungstechnik, Tuebingen 1974, PP 19 – 25

[48] See: Grundgesetz …, op. cit., Art. 59A/2

[49] See: Ibid., Art. 59 A/2

[50] See: Ibid., Art 73/1

[51] See: Ibid., Art. 45

[52] See: Swiss Constitution 2000, Art. 148, 149

[53] See: Ibid., Art. 150

[54] See: Ibid., Art. 175, 176

[55] See: Ibid., Art. 177

[56] لمزيد من التفاصيل انظر:

  1. R. Pfetsch, Op. cit., PP 61 – 62

[57] Swiss Const., Art. 148 / Sec. 1

[58] Ibid., Art. 169 / Sec. 1

[59] Ibid., Art. 169 / Sec. 2

[60] See F. R. Pfetsch, Op. cit., P. 61

[61] See: Swiss Const., Art. 171

[62] See: Ibid., Art. 166, Art. 184

[63] See: Ibid., Art. 181

[64] See: Ibid., Art. 163

[65] See: Ibid., Art. 173 / A

[66] القرار الاتحادي البسيط هو القرار الذي لا يجوز عرضه على الشعب لغرض الاستفتاء عليه.

[67] See: Swiss Const. Art. 173 / A, B, C.

[68] See: Ibid., Art. 147

[69] See: Ibid., Art. 184 / Sec. 2

[70] See: Ibid., Art. 173 / E.

[71] See: Ibid., Art. 184 / Sec. 3

[72] See: Ibid., Art. 185 / Sec. 2

[73] See: Ibid., Art. 185 / Sec. 4

[74] See: Ibid., Art. 187 / B.

[75] See: Ibid., Art. 54 / Sec. 1

[76] See: Ibid., Art. 55 / Sec. 1, 2, 3.

[77] See: Ibid., Art. 153.

[78] See: Ibid., Art. 179

[79] عن فكر روسو أنظر: جان توشار، تاريخ الفكر السياسي (ترجمة علي مقلد) بيروت 1983، ص ص 336 – 338.

[80] See: Bibiolographisches Institut, Meyers Grossos Hanlexikon, Mannheim 1982, P. 762.

[81] الآراء الواردة تعبر عن كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المعهد المصري للدراسات

د. أحمد البياتي

أكاديمي عراقي، أستاذ العلاقات الدولية، جامعة الموصل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى