fbpx
سياسةالسياسات العامة

مواجهة التعديلات الدستورية

نحو نقطة انطلاق جديدة في العمل الوطني

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقدمة

بعد تمهيد إعلامي وبرلماني امتد لأكثر من عام حول مقترحات لتعديلات دستورية تتيح للسيسي البقاء في السلطة بعد انتهاء فترة الرئاسة الحالية1، بدأ النظام المصري في اتخاذ خطوات فعلية في اتجاه إجراء استفتاء على تعديلات دستورية تتيح للسيسي البقاء في السلطة مدى الحياة وترسخ هيمنة المؤسسة العسكرية على الحياة السياسية في مصر بموجب الدستور لأول مرة في تاريخ مصر، من خلال المقترح الذي تقدم به مجموعة من البرلمانيين بتعديلات دستورية الى رئيس البرلمان المصري، ووافق مجلس النواب بالفعل في جلسة عامة2 في الرابع عشر من فبراير 2019 على بدء إجراءات مناقشة التعديلات المقترحة من أجل الموافقة النهائية عليها تمهيدا لطرحها في استفتاء شعبي، حيث من المتوقع بعد موافقة البرلمان على التعديلات بشكل نهائي أن يتم الاستفتاء عليها خلال شهر إبريل من العام الجاري قبل بداية شهر رمضان كما صرح البعض.

وبعيداً عن الجدل حول دستورية التعديلات ومخالفتها لنصوص الدستور وما يتعلق باحترام القانون والدستور، وحول شرعية ذلك الدستور بالكلية كونه تم إعداده في أعقاب انقلاب عسكري، إلا أن المشكلة الحقيقية تكمن في المسار السياسي الذي ترسمه هذه التعديلات لسنوات طويلة قادمة، والذي يتمثل في السماح للسيسي بالبقاء في السلطة مدى الحياة واضافة صلاحيات دستورية جديدة له تتعلق بالهيمنة المطلقة على السلطة القضائية، وهو ما يعني ترسيخ مطلق لحكم الفرد وتركيز السلطة في يديه. ولا تتوقف خطورة التعديلات عند هذا الحد فقط بل تمتد الى دور المؤسسة العسكرية الذي تضيف له التعديلات الدستورية مهمة صون الديمقراطية وحماية الدستور ومدنية الدولة، في سابقة تحدث لأول مرة في دستور مصري، حيث تتم دسترة الهيمنة العسكرية على الحكم بموجب الدستور، وتتيح للمؤسسة العسكرية التدخل في أي وقت لا ترضى فيه عن المنظومة السياسية الحاكمة تحت مظلة حماية الدستور ومدنية الدولة (رغم أن هذا كان هو الوضع القائم بحكم الواقع منذ عام 1952 إلا أن الجديد هو شرعنته دستوريا).

دفعت هذه المخاطر قوى سياسية وثورية مختلفة لرفض التعديلات الدستورية من منطلقات مختلفة، ولكن يظل القاسم المشترك بينها هو رفع الصوت بقوة، و ربما بشكل غير مسبوق في زمن حكم السيسي، ضد هذا المسار المستقبلي المستهدف تحت سلطة السيسي والمؤسسة العسكرية ورفض استمرار السيسي في السلطة مدى الحياة.

تسعى هذه الدراسة إلى البحث عن كيفية الاستفادة من فرصة طرح التعديلات الدستورية نحو محاولة بناء موقف وطني موحد بقدر الإمكان على طريق نضال وطني ممتد يستعيد روح الحد الأدنى للعمل المشترك، تجاوزا للأمور الخلافية التي يصعب التوافق عليها بين القوى الوطنية المختلفة (فذلك الاختلاف هو في واقع الأمر من طبائع الأمور التي يستحيل تغيير قناعات الجميع لتجاوزها) انطلاقا من رفض التعديلات الدستورية ورفض بقاء السيسي في السلطة، سواء من خلال الحشد للمشاركة والتصويت ب “لا” أو المقاطعة الإيجابية، و بصرف النظر عن نتيجة الاستفتاء التي يصعب في الوقت الحالي تصور امكانية أن تنتهي بشكل يخالف ما يريده النظام، إلا أن الحراك الناجم عن مثل هذا الموقف من الممكن أن يشكل رافعة لحراك شعبي أوسع في المستقبل نحو التغيير المنشود المتوافق مع أهداف ثورة يناير.

وفي هذا الإطار تسعى الدراسة لتقييم جاد لخياري المشاركة والمقاطعة من خلال قراءة معمقة في تجارب سابقة اعتمدت فيها المعارضة على المشاركة في الاستفتاء والتصويت ب “لا” (تشيلي 1988) أو اعتمدت المعارضة على مقاطعة الاستفتاء (جنوب إفريقيا 1983)، فضلا عن قراءة معمقة أخرى على التوازي للمشهد المصري في الوقت الراهن، ومن ثم محاولة استكشاف الموقف الأمثل بأخذ المتغيرات الحالية في الحسبان.

قراءة في تجربتي تشيلي وجنوب إفريقيا

تُمثل تجربتي تشيلي وجنوب إفريقيا في إسقاط الديكتاتوريات ومقاومة الاستبداد واستعادة المسار الديمقراطي مادة ثرية للاستفادة ولاكتساب الخبرات للبلاد التي لا تزال تعاني تحت وطأة حكم سلطوي وتسعى إلى طريق التحرر، ويبقى التعامل مع هذه التجارب من الاهمية بمكان للبحث عن إجابة حول أفضل الطرق التي يمكن لقوى الثورة والمعارضة المصرية أن تسلكها في تفاعلها مع الاستفتاء القادم على التعديلات الدستورية، مع الأخذ في الاعتبار خصوصية كل تجربة وسياقتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومحاولة فهمها بشكل لا يعتمد فقط على نتائجها دون أن يتعمق في الملابسات والظروف التي أحاطت بها.

أولاً: تشيلي.. التصويت ب “لا” يقود إلى تغيير السلطة

تأتي تجربة تشيلي في مقدمة تجارب التحول الديمقراطي التي شهدتها أميركا الجنوبية في ثمانينيات القرن الماضي وربما تتميز عن نظيرتها باحتكامها إلى صناديق الانتخاب في طريقها إلى اسقاط رأس السلطة المستبدة الجنرال “بينوشيه”، قدمت التجربة التشيلية بارقة أمل عن جدوى الفعل السياسي في إسقاط الديكتاتوريات.

في عام 1970 انتخب سلفادور الليندي كأول رئيس ماركسي لتشيلي، لم يستمر “الليندي” في منصبه سوى ثلاث سنوات حتى اطاح به قائد الجيش التشيلي في ذلك الوقت الجنرال بينوشيه في انقلاب عسكري رحبت به إدارة الرئيس الأمريكي نيكسون وحرضت عليه وكالة الاستخبارات الأمريكية، وفي المقابل تعهد بينوشيه باستئصال الشيوعية تماماً من جذورها في تشيلي، خلال السنوات التي استولى فيها بينوشيه على السلطة شهدت تشيلي اسواء فترات القمع في تاريخها الحديث وتحولها من حكم ديمقراطي إلى حكم ديكتاتوري وحشي، حيث استمر بينوشيه في اعتقال عشرات الآلاف النشطاء السياسيين والذي كان مصيرهم ما بين القتل والإخفاء أو التعذيب أو النفي.

أجرى بينوشيه استفتاء على دستور جديد في عام 1980، ينص الدستور الجديد على أنه بعد 8 سنوات (أي في عام 1988) سيكون هناك استفتاء يتاح فيه للشعب التشيلي أن يقرر ما إذا كانوا يرغبون في مواصلة حكم بينوشيه أو استبداله، وإذا جاءت نتيجة الاستفتاء برغبة شعبية باستبدال بينوشيه سيكون هناك انتخابات رئاسية تنافسية. و تنفيذا لذلك دعا بينوشيه في عام 1988 لاستفتاء وطني لتحديد ما إذا كان بنوشيه والمجلس العسكري يجب أن يظل في السلطة لمدة ثماني سنوات أخرى أم يجب أن يرحل، كان التصويت ب “نعم” تعني تأييد انتخاب بينوشيه رئيسا لحكم آخر لمدة ثماني سنوات والتصويت ب “لا” تعني رفض بقاء بينوشيه في السلطة، وهو ما يعني وجوب إجراء انتخابات حرة ومفتوحة لرئيس مدني وبرلمان جديد. جاءت نتائج الاستفتاء مفاجئة وصادمة لبينوشيه حيث فاز التصويت بـ “لا” بحوالي 56% مقابل 44% للتصويت ب “نعم”، وبذلك انتهت 15 عاماً من الحكم العسكري لبينوشيه، لكن كيف جاءت النتيجة بهذا الشكل المفاجئ وفي ظل قبضة حديدية لبينوشيه وحكم عسكري قمعي، نستعرض هنا التفاصيل والملابسات التي احاطت بتلك الفترة الزمنية وفي نفس الوقت نستعرض الخطوات التي قامت بها المعارضة والمقاومة في تشيلي تزامناً مع الاستفتاء في محاولة للبحث عن إجابة لهذا التساؤل.

هل كان للضغط الدولي دوراً بارزاً في نتائج استفتاء تشيلي؟

1- حقبة جديدة للسياسة الأمريكية تجاه تشيلي

في منتصف الثمانينات من القرن الماضي اتجهت الولايات المتحدة الى سياسة مغايرة لتلك السياسة التي كانت تدعم فيها الحكم العسكري في تشيلي بوضوح، وبدت من خلال ملامح السياسة الأمريكية الجديدة تجاه تشيلي أن إدارة الرئيس الأمريكي ريجان ترى أن بينوشيه ديكتاتوراً غير مرغوب فيه ولم يعد مناسباً للمصالح الأمريكية، ودفعت أمريكا بسفير جديد “هاري بارنز” (Harry G. Barnes) في عام 1985 ليبدأ في تنفيذ سياسة الولايات النتحدة الجديدة نحو تشيلي.

كانت مهمة3 بارنز هي إقناع بينوشيه والمعارضة معاً بأن إدارة ريجان لن تتسامح بعد الآن مع تصرفات بينوشيه القمعية وقبضته الحديدية على السلطة، وفي خلال ثلاث سنوات من 1985 حتى استفتاء 1988، دفع بارنز بثبات من أجل التغيير السياسي في تشيلي، حيث فتح السفارة الأمريكية لقادة المعارضة، والوقوف والدعم العلني لضحايا القمع، مع تصريحه الدائم أن تصرفاته مع المعارضة والقضايا الإنسانية مرحب بها في واشنطن.

خلال الأسابيع القليلة الأولى للسفير بارنز، قام بأرسال رسالة صادمة لبينوشيه وحكومته العسكرية حيث توجه بارنز لزيارة أحد أبرز وجوه المعارضة في تشيلي “جابرييل فالديز” (وزير خارجية شيلي في عهد الرئيس إدواردو فاري من 1964 إلى 1970، والذي كان معارضا صريحا للدكتاتور بينوشيه)، ولم يكتفي بارنز فقط بالتواصل مع رموز المعارضة التشيلية ولكنه شارك في بعض الاحتجاجات وحضور جنازات لضحايا بينوشيه. كانت الرسائل واضحة ومباشرة ومفادها أن الدور الرئيسي للسفير الأمريكي الجديد في تشيلي هو استعادة المسار الديمقراطي والدفع باتجاه العودة إلى الحكم المدني.

2- انتقادات دولية للسجل الحقوقي

خلال زيارة بابا الفاتيكان إلى تشيلي في أبريل 1987، وجه نقد شديد لسياسة بينوشيه وطالبه4 بالتنحي ونقل السلطة إلى السلطات المدنية، بل إن بابا الفاتيكان ذهب إلى ابعد من ذلك، حيث دعا الكنيسة إلى جلب الديمقراطية إلى تشيلي في إشارة واضحة بتوجيه الكنيسة في تشيلي إلى دعم المعارضة، على الجانب الآخر كانت الولايات المتحدة قد سبقت بابا الفاتيكان في مارس 1986 عندما انتقدت بشدة سجل حقوق الإنسان في عهد بينوشيه وعبرت عن عدم قدرتها للتحقق في العديد من حالات الخطف والتعذيب التي ينتهجها بينوشيه.

مثلت تصريحات بابا الفاتيكان والنقد الأمريكي في ذلك التوقيت اكبر واشد انتقاد دولي لسياسات بينوشيه منذ استيلائه على السلطة واعتبرت تلك الحادثتين احد الأسباب الرئيسية في تسليط الضوء على انتهاكات وممارسات بينوشيه القمعية.

3- دعم أمريكي ودولي لإجراء استفتاء حر ونزيه

كانت تصريحات5 المسؤولين في واشنطن للحكومة العسكرية في تشيلي بشأن استفتاء 1988 صريحة ومباشرة: “إذا حدث أي شيء لعرقلة اجراء استفتاء نزيه، فإن الرئيس الأمريكي سوف يندد بها بأعلى العبارات الممكنة في جميع أنحاء العالم وأنه لن يتم التسامح مع أي شيء من هذا القبيل”. كانت التهديدات الأمريكية فعالة ودفعت بالمجتمع الدولي ليولي اهتماما أكبر بالاستفتاء وعدم قبوله بأي تلاعب او عدم قبول بالنتائج.

استمر الدعم الأمريكي للوصول إلى نتائج استفتاء تعبر عن إرادة شعبية حقيقية، وبعد أن وصلت معلومات مؤكدة للإدارة الأمريكية بنية بينوشيه في الغاء الاستفتاء والانقلاب على نتائجه في حال خسارته للاستفتاء، قامت الإدارة الأمريكية بإرسال رسائل6 تهديد مباشرة لكل اعضاء حكومة بينوشيه العسكرية ب “عدم اتخاذ أو السماح بخطوات تهدف إلى تقديم ذريعة لإلغاء الاستفتاء أو تعليقه أو إبطاله بأي شكل آخر”

الأوضاع الداخلية وتأثيرها على نتائج الإستفتاء

1- انشقاق داخل المجلس العسكري

كان المشهد الأبرز داخلياً والاكثر تأثيرا هو بداية ملامح انشقاق داخل المجلس العسكري بدت من خلال العلاقات المتوترة بين بينوشيه وبين مجموعة من قيادات المجلس العسكري، الجنرال “جوستافو” قائد القوات الجوية والأدميرال “ميرينو” رئيس البحرية، ومع بداية دعوة بينوشيه للتصويت على الاستفتاء ظهرت الانشقاقات بين صفوف المجلس العسكري الحاكم نفسه بشكل فج، حيث شكك7 “جوستافو” و”ميرينو” في شرعية الاستفتاء، أو أن نتائج الاستفتاء ستكتسب مصداقية سواء داخل تشيلي أو خارجها والأهم من ذلك أنهم أعربوا أيضاً عن استنكارهم لعدم قيام بينوشيه باستشارتهم قبل الإعلان عن التصويت للاستفتاء. بدت ملامح انقسام عميق للغاية داخل المجلس العسكري تتكشف خلال الاعلان عن نتائج الاستفتاء، في تلك اللحظة حاول بينوشيه خلال اجتماع مع المجلس العسكري إجبارهم على منحه “سلطات استثنائية” لإلغاء التصويت، لكن جنرالات المجلس العسكري رفضوا وظهروا بعد ذلك الاجتماع على شاشات التلفزيون واعترفوا بالهزيمة. إلا أنه ليس من الواضح إن كان لأي من هؤلاء الجنرالات ارتباط أو علاقة ما بالدعم الخارجي لعملية التغيير.

2- أوضاع اقتصادية شكلت طبقة منتفعة وطبقات شديدة الفقر

بالرغم من الحديث المتزايد عن الطفرة الاقتصادية خلال فترة حكم بينوشيه، واتباعه لسياسة الاقتصاد النيو ليبرالي مع قبضة قمعية شديدة حقق من خلالها نسب نمو اقتصادي ملحوظة وتقلص لنسب التضخم، لكن واقع الاقتصاد التشيلي بعد 15 عام من حكم بينوشيه كان يشير إلى أن هناك مشاكل متجذرة تتعلق بزيادة نسب الفقر حيث تخطى معدل الفقر8 حاجز ال 40% مع ارتفاع كبير في نسب البطالة، ومثل عام 1982 نقطة فاصلة في مسيرة بينوشيه الاقتصادية حيث عانت تشيلي من أزمة اقتصادية ضخمة، وانخفض إجمالي الناتج المحلي بنسبة 14% وارتفعت البطالة إلى نسب مذهلة 24%. لم تحقق سياسات بينوشيه الاقتصادية استقراراً سوى لطبقة محددة من الشعب وبقية الشعب التشيلي عانى بشكل كبير من أوضاع اقتصادية سيئة للغاية مما تسبب في تصاعد الاحتجاجات الداخلية بشكل متزايد.

كيف فازت المعارضة في الاستفتاء

شكلت الملابسات الخارجية والداخلية التي سبقت استفتاء 1988 بصيصاً من الأمل للمعارضة التشيلية باحتمالات إجراء الاستفتاء بشكل حر ونزيه ويعبر عن الإرادة الشعبية الحقيقية دون أي تدخل أو تلاعب بنتائج الاستفتاء من بينوشيه والسلطة العسكرية، لكن في نفس التوقيت كانت التحديات التي تواجه المعارضة قبل الاستفتاء متشابكة ومعقدة وترجع جذورها لعقود طويلة من الصراعات الايدولوجية والاختلافات الحادة في الرؤى والاهداف، على الجانب الآخر كانت عملية تحفيز الجماهير للمشاركة في التصويت على الاستفتاء تمثل تحديا ليس بالقليل، حيث كانت الطبقة الوسطى التي تعد المصدر الرئيسي للحاضنة الشعبية للمعارضة باختلاف توجهاتها يسودها حالة إحباط شديدة، فلم تكن راضية عن القمع الذي يمارسه بينوشيه، وفي نفس الوقت لم تشعر بجدوى المواجهات أو الفعل السياسي الذي مارسته المعارضة طيلة 15 عاماً في مواجهة بينوشيه. كيف إذا تعاملت المعارضة في تشيلي مع استفتاء 1988؟

1- تحالف يتخطى الايدولوجيا والسياسة

اجتمعت أحزاب المعارضة (16 حزب يساري ويميني) التي كانت عالقة في السابق في دائرة تناحر وصراع طويلة في تحالف يتخطى الاختلافات الإيديولوجية والسياسية تحت مسمى “القيادة من أجل لا”9 (The Command for the No)، وقررت المشاركة في الاستفتاء والتصويت ب “لا” بهدف إزاحة بينوشيه والمجلس العسكري من السلطة واستعادة المسار الديمقراطي.

2- تحديد الهدف

قبل أي شيء سعت أحزاب المعارضة داخل التحالف المشكل إلى وضع خلافاتهم الأيديولوجية جانباً والرؤى المتضاربة حول ما بعد بينوشيه والاتفاق على الهدف والأولوية الرئيسية وهي انهاء الحكم العسكري وإعادة الحكم المدني.

3- استراتيجية خطاب مختلفة

اتبع التحالف استراتيجية خطاب مختلفة عن استراتيجية التعبئة الاجتماعية، واتجه إلى تنفيذ تلك الاستراتيجية عبر توجيه رسائل إلى شريحتين مختلفتين على النحو التالي:

  • رسائل طمأنة إلى أنصارهم بأن اصواتهم في الاستفتاء سيكون لها جدوى وان باستطاعتهم تغيير الواقع المظلم لتشيلي.
  • رسائل طمأنة إلى أنصار بينوشيه من الطبقة العليا ورجال الأعمال، بأنهم لن يُسجنوا أو يتم نفيهم في حال رحيل بينوشيه، وكان الهدف من تلك الرسائل إشعار هذه الشريحة بالانتماء إلى عالم ما بعد بينوشيه.

4- رسائل طمأنة للمستثمرين الأجانب

تحركت قيادات التحالف في زيارات10 إلى الولايات المتحدة وكان الهدف من تلك الزيارات الاجتماع مع المستثمرين ورجال الأعمال وطمأنتهم بأن التحالف في حال رحيل بينوشيه سيكون ملتزم بالحفاظ على الإطار الاقتصادي الأساسي لتشيلي دون المساس باستثمارات الأجانب، مع العمل على إضفاء الطابع الإنساني على منظومة الاقتصاد التشيلية.

5- الحصول على دعم مادي غير حزبي

حصل التحالف على دعم مادي ككيان جامع للأحزاب، حيث قدمت الولايات المتحدة 1.5 مليون دولار كمساعدات لضمان أن يكون الاستفتاء متكافئ امام قدرات وامكانيات بينوشيه، ووجهت هذه الأموال إلى حملة وطنية تهدف إلى إعادة تسجيل المواطنين في قوائم التصويت بعد أن كان بينوشيه قد الغاها في وقت سابق.

من خلال هذه الخطوات فازت المعارضة في الاستفتاء واطاحت ببينوشيه من الحكم، لكن لم تنتهي حقبة بينوشيه بسقوطه في الاستفتاء ولم ينتهي نفوذه ودوره في الشأن السياسي، حيث احتفظ بمنصبه كقائد عام للقوات المسلحة لمدة 10 سنوات حتى عام 1998، مما أدى إلى تعقيد مسار الانتقال الديمقراطي لأكثر من عشر سنوات بعد استفتاء 1988.

يمكن اعتبار استفتاء 1988 بداية انتقال تشيلي إلى الديمقراطية، وحالياً وبعد مرور ثلاثين عاماً على تجربة الاستفتاء تعد تشيلي مستقرة سياسياً بالمقارنة مع جيرانها في امريكا اللاتينية، لكن في نفس الوقت لاتزال اثار الاستقطاب التي عاشها المجتمع التشيلي حاضرة حتى هذه اللحظة بالرغم من مرور ثلاثة عقود من الديمقراطية، ولاتزال تجربة تشيلي من استفتاء 1988 وحتى وقتنا الحالي تعطي أكبر دليل11 على أن إعادة الهيكلة للدولة لا تحدث بين ليلة وضحاها مع استفتاء شعبي أو حتى بعد عدة عقود من الديمقراطية، ولكن يتطلب ذلك تحولًا بنيويا عميق الجذور يستلزم وقتاً أطول بكثير لتأسيسه.

ثانياً: جنوب إفريقيا.. مناهضة الاستفتاء والطريق إلى التحرر

عانت جنوب إفريقيا على مدار القرون الثلاث الماضية من سياسة التمييز والتفرقة العنصرية التي كانت تعطي الحق للسكان البيض في جنوب إفريقيا فقط بحكم البلاد واستثناء السكان السود من أي حقوق سياسية او تمثيل سياسي، مع بداية النصف الثاني من القرن الماضي تفاقمت الأوضاع السيئة للسكان السود بعد تزايد الانتهاكات والقمع من سلطات البيض وتسببت تلك الممارسات في ترسيخ اوضاع سياسية غير مستقرة ودفعت المواطنين السود لمسارات العمل السياسي والمقاومة في مواجهة سلطات البيض.

في مطلع عام 1983 دعا الحزب الحاكم في جنوب إفريقيا (الحزب الوطني “NP”) في ذلك التوقيت إلى الاستفتاء على إصلاحات دستورية لا يسمح فيها بالتصويت إلا للسكان البيض فقط، ويضع الدستور الجديد عددًا من التغييرات المهمة في النظام السياسي، لكنه بشكل عام يضمن بقاء السلطة السياسية بصرامة في أيدي البيض، وبالرغم ان الحزب الحاكم قد بالغ في التسويق للإصلاحات الدستورية على أنها تمهيد للحد من سياسات التمييز العنصري المتبعة منذ عقود، إلا أن واقع الاصلاحات الدستورية كان يرسخ لمزيد من فصل السود والأفارقة عن مجتمعاتهم وعدم منحهم أي حقوق سياسية، حيث يسمح الإصلاح الدستوري للسكان الهنود والملونون فقط من جنوب إفريقيا بمشاركة البيض في سن القوانين والتشريعات من خلال برلمان ثلاثي (Tricameral) يضم الهنود والملونين مع إبقاء حق النقض بيد البيض12، بينما سيظل السود في جنوب أفريقيا غير ممثلين، وتبدو هنا بوضوح المشكلة الرئيسية في دستور 1983 الذي يسمح للهنود والملونون بمشاركة البيض في سياسة الفصل العنصري ووضعهم في مسؤولية مشتركة عن القوانين التي تديم وتزيد من التمييز العنصري والاستغلال الاقتصادي.

أُجري الاستفتاء حول الدستور الجديد في 2 نوفمبر 1983 وبالرغم أن نتائج الاستفتاء كانت لصالح التصويت ب “نعم” بنسبة 66.3% وهو ما يعني أن انتخابات البرلمان الثلاثي سيتم اجرائها في اغسطس 1984، إلا أن الحشد لمقاطعة الاستفتاء مثل نقطة انطلاق نحو استعادة السود لحقوقهم في جنوب إفريقيا وخطوة في طريق التحرر والوصول إلى حكم ديمقراطي بعيد عن التمييز العنصري.

جبهة موحدة واسعة لمقاطعة الاستفتاء

دفع الإعلان عن الاستفتاء على الاصلاحات الدستورية المقترحة من الحزب الحاكم بشعور متزايد لدى الكثير من مواطني جنوب إفريقيا بأن الدستور الجديد والمشاركة فيه سيشكل تهديدًا خطيرًا على جميع الأعراق في جنوب افريقيا وسيعمق من سياسة التمييز العنصري وحرمان السود من حقوقهم السياسية. تزامناً مع اعلان الحزب الحاكم عن الاستفتاء على الاصلاحات الدستورية، بدأت دعوات من رموز المعارضة لإنشاء تحالف واسع غير عنصري من الجمعيات المدنية والنقابات العمالية والمنظمات الطلابية والكنائس لمعارضة الدستور الجديد، تجمعت المئات من المجموعات من جميع الاعراق في جبهة موحدة تحت مسمى الجبهة الديمقراطية المتحدة13 (United Democratic Front – UDF)، واشتملت الجبهة بجانب السود على مشاركة فعالة من الملونين والهنود وعدد متزايد من المواطنين البيض اجتمعوا معاً على معارضة الاستفتاء والانتخابات اللاحقة للبرلمان الثلاثي.

مع بداية تأسيس الجبهة كان واضحاً الهدف الرئيسي لها وهو رفض الاصلاحات الدستورية الجديدة وما يتبعها من انتخابات لاحقة ولكن لم يكن واضحاً كيفية التفاعل مع الاستفتاء على الاصلاحات الدستورية سواء بالمقاطعة أو تأييد التصويت ب “لا”، البعض داخل الجبهة ذهب إلى أن المقاطعة ستكون أكثر فعالية وأكثر انسجاما مع الاختلافات والتنوعات الموجودة داخل الجبهة والبعض الآخر كان يرى تأييد التصويت بـ “لا”. قررت14 الجبهة تجاهل الاستفتاء وعدم اتخاذ موقف محدد، وهو ما تحول بشكل غير رسمي إلى مقاطعة الجبهة للاستفتاء والبدء في تفعيل أنشطة وفعاليات مناهضة للاستفتاء.

استراتيجية الجبهة في مواجهة الحكومة العنصرية

1- راية واحدة تُظل جميع الفئات

في الوقت الذي شكلت فيه معارضة الاصلاحات الدستورية ومقاطعة الاستفتاء بناء الجبهة المتحدة الديمقراطية، اعتمدت الجبهة على استراتيجية رئيسية في حشدها للأحزاب والمجموعات والمنظمات الشعبية حيث اعتمدت في بنائها على تمثيل جميع فئات الشعب باختلاف الاعراق والتوجهات السياسية وفي نفس الوقت استبعاد أي مجموعة تتعاون مع حكومة التمييز العنصري. استطاعت15 الجبهة ومن خلال تلك الاستراتيجية أن تجلب العديد من المنظمات والمجموعات تحت راية واحدة لتشكل جزءًا هامًا من المشهد السياسي في جنوب إفريقيا في ثمانينات القرن الماضي.

2- مقاطعة مع تعبئة جماهيرية

لا يمكن النظر الى عملية مقاطعة الاستفتاء في تجربة جنوب إفريقيا عن كونها مجرد فعل سياسي، بل إن الاستجابة لمقاطعة التصويت شملت أنشطة وفاعليات متنوعة من المسيرات والمظاهرات والتجمعات الجماهيرية والإضرابات ومقاطعة الجامعات والمدارس. واعتمدت الجبهة الديمقراطية المتحدة على التعبئة الجماهيرية من خلال إطلاق حملات مبتكرة جنبا الى جنب مع مقاطعة الاستفتاء، ولم تتوقف الجبهة عند مقاطعة الاستفتاء ولكنها دعت إلى مقاطعة الانتخابات في 1984، والتي ادت إلى وصول نسبة التصويت في الانتخابات إلى حوالي 20% فقط من إجمالي اصوات الناخبين. مع مرور الوقت جذبت استراتيجية التعبئة الجماهيرية اعداداً ضخمة للاحتجاجات التي كانت مقياس واقعي للقوة الحقيقية التي اكتسبتها الجبهة في مواجهتها مع الحكومة، وذلك بالرغم من قمع الحكومة المتزايد.

حسابات المشاركة والمقاطعة

وفقا لتجربتي تشيلي وجنوب إفريقيا اللتان تم استعراضهما، ومع الأخذ في الاعتبار خصوصية كل تجربة وسياقاتها المختلفة، يبدو أن هناك عدة عوامل رئيسية ساهمت في جعل التفاعل مع استفتاء كهذا بموقف موحد سواء بالمشاركة والتصويت ب “لا” أو بالمقاطعة، يؤدي في نهاية المطاف إلى تغيير السلطة أو نظام الحكم أو التمهيد لذلك، ومن أبرز العوامل المتعلقة بالسلطة تلك المتمثلة في حجم الانتهاكات والقمع والظلم الاجتماعي الذي تمارسه ضد المواطنين، ومدى الاختلافات والانقسامات الموجودة داخل جسد السلطة، والحالة الاقتصادية السيئة للبلاد، ذلك بالإضافة الى العوامل الخارجية التي تتمثل في دعم القوى الدولية وفي مقدمتها أمريكا لتغيير السلطة والانتقال الى المسار الديمقراطي، وفي حجم الانتقادات الموجهة من المؤسسات الدولية و المجموعات الحقوقية و الرأي العام العالمي ضد القمع والانتهاكات التي تمارسها السلطة.

على الجانب الآخر، وبالرغم من اختلاف طريقة تفاعل المعارضة مع الاستفتاء ما بين المشاركة والتصويت ب “لا” في حالة تشيلي وما بين المقاطعة في حالة جنوب إفريقيا، إلا أن الخطوات التي اتخذتها المعارضة في كلا البلدين تبدو متشابهة إلى حد كبير، ولم تختلف في ارتكاز كليهما على تشكيل تحالف واسع يضم تيارات واحزاب وجماعات مختلفة، يتخطى الخلافات السياسية والقناعات الايديولوجية، وفي نفس الوقت يكون قادرا على الحشد والتعبئة الجماهيرية لأنشطة وفعاليات مبتكرة للتعبير عن رفض ما هو مطروح في الاستفتاء.

وإجمالاً يمكن القول أن الاسباب التي ادت إلى حالة النجاح في تجربة الاستفتاء في تشيلي بعيدة إلى حد كبير عن الواقع المصري، حيث لازال الدعم الدولي الرسمي للسيسي كبيرا، كما لا تبدو هناك حتى الان على الأقل أية مظاهر لانقسامات في المؤسسة العسكرية على غرار تلك التي كانت في تشيلي، و بالتالي ربما يكون الواقع المصري الان أقرب إلى واقع جنوب إفريقيا في ثمانينيات القرن الماضي، وإن كانت مصر لم تصل بعد إلى حالة الرفض الدولي والشعبي الواسع من غالبية دول العالم ضد ممارسات وانتهاكات السيسي كما هو الحال مع حكومة جنوب إفريقيا في ثمانينيات القرن الماضي، و بالتالي فإن الواقع المصري الان قد يكون في حالة بدايات أو استعداد لبدأ مرحلة جديدة من التعامل الشعبي مع النظام الحاكم تستلزم تخليق حالة من العمل الشعبي والنضال الوطني المشترك تتجاوز حالة التشرذم التي ظهرت عليها نخب المعارضة المصرية في سنوات ما بعد الانقلاب حتى الان، و يمكن الاستفادة بهذه التجارب في السعي لفتح مرحلة جديدة من العمل الوطني.

ويبقى السؤال الاكثر واقعية الآن هو كيف يمكن أن تتفاعل المعارضة وقوى الثورة المصرية مع الاستفتاء على التعديلات الدستورية؟ وما الذي يمكن ان تحققه من مكاسب واهداف خلال التفاعل مع الاستفتاء سواء بالمشاركة و الحشد للتصويت ب “لا” او بالامتناع عن المشاركة و الحشد لمقاطعة الاستفتاء؟ تدفعنا هذه التساؤلات إلى محاولة حساب الفرص والمخاطر المحتملة الناتجة عن أي من شكلي التفاعل، مع الأخذ في الاعتبار واقع مصر الحالي والتجارب السابقة التي أشرنا إليها والتي تشكل جزءا من التفكير لصناعة القرار والبحث عن إجابة على التساؤلات المطروحة.

إلا أنه و قبل الخوض في هذه المفاضلة، ينبغي الإشارة إلى أن كلا الخيارين يمثلان فعلا ايجابيا، يختلف عن المقاطعة السلبية، أو بمعنى أصح عدم الاكتراث بما يحدث، إما بداعي عدم شرعية المنظومة ككل(عن حق)، أو بسبب العجز عن أي فعل إيجابي، أو بسبب الخوف من القمع، أو أية أسباب أخرى، فهذا الخيار السلبي لم يثبت نجاعة خلال الفترة الماضية في ظل السيطرة التامة للسيسي على المشهد الداخلي، فضلا عن الدعم المطلق الذي يتحصل عليه دوليا و إقليميا، مع عدم وجود بديل معتبر. يجب أن يتضح أمام الجميع أن ما تفتقده الثورة المصرية الآن هو الفعل الإيجابي الجامع حول أجندة وطنية موحدة تستطيع تجميع الشعب حولها لتغيير واقعه المزرى، و ليس مجرد الدفاع عن وثيقة دستورية لا تلقى أي احترام من السلطة الحاكمة بصرف النظر عن أية تعديلات تطرأ عليها.

أولاً: المشاركة والتصويت ب “لا”

تعد الفرص الأبرز المتاحة خلال المشاركة والتصويت ب “لا”، هي تلك المتعلقة ببناء جبهة أو تحالف واسع يشمل جميع الرافضين للسلطة الحالية باختلاف افكارهم وتوجهاتهم السياسية، يقوم بعمل شديد الإيجابية، ويمكن أن يشكل في المستقبل معارضة سياسية قوية وفاعلة في مواجهة السلطة الحالية، وفي نفس الوقت يوفر التصويت على التعديلات الدستورية مساحة للحشد والتعبئة الجماهيرية التي تصاحب أية عملية تصويت في صناديق انتخابية. وبالرغم من صعوبة الحشد في ظل سلطة قمعية تمارس الترهيب والتخويف ضد مواطنيها، لكن تظل عودة المواطنين للتعبير عن رفضهم للتعديلات الدستورية من خلال المشاركة في عملية التصويت وشعورهم بالقدرة على فعل سياسي حتى لو بدا محدوداً، أمراً ايجابياً ويمثل تحفيزا للمواطنين بالعودة والمشاركة والتفاعل والاهتمام بالحالة السياسية.

تبرز أيضاً أهمية المشاركة والتصويت ب “لا” في دفع النظام إلى ارتكاب المزيد من الانتهاكات والتزوير التي تساهم في إظهار حقيقة ممارساته على المستوى الدولي، ويمثل ذلك العامل فرصة لقوى الثورة والمعارضة بإعلان المشاركة في الاستفتاء مع المطالبة بضمانات واشراف دولي يضمن نزاهة الاستفتاء، و هو ما سيرفضه النظام المصري بطبيعة الحال، وهو ما سيساهم في جذب المزيد من الانتباه الدولي لممارسات وانتهاكات النظام وعدم استجابته لأبسط ضمانات الديمقراطية، وسيكون متفهماً في هذه الحالة اتخاذ قوى الثورة والمعارضة لموقف المقاطعة بسبب غياب أية ضمانات تجعل من الاستفتاء يعبر عن الإرادة الشعبية الحقيقية، و في النهاية ستكون دائما شرعية النظام منقوصة و مطعون فيها.

على الجانب الآخر هناك مجموعة من المخاطر المحتملة في حال المشاركة والتصويت ب “لا”، وتعد أبرز تلك المخاطر:

  • التعبئة الجماهيرية والحشد على اعتبار نتائج الاستفتاء على التعديلات الدستورية هدف أو غاية في حد ذاتها، حيث أن الاحتمال الأغلب في ظل الأوضاع الداخلية والخارجية الراهنة أن نتائج الاستفتاء ستكون محسومة سلفاً لصالح السيسي، مما سيسبب حالة كبيرة من الإحباط اللاحق للشعب الرافض للسيسي تكرسها وسائل الإعلام الموالية للنظام. ولا مجال هنا للقياس على نتائج تجربة تشيلي، فبالرغم من التشابه في حالة القمع والحكم العسكري الذي تلى الانقلاب العسكري في كلا من تشيلي ومصر إلا ان الملابسات التي احاطت استفتاء تشيلي تبدو مختلفة إلى حد كبير عن الاستفتاء على التعديلات الدستورية في مصر، فالدعم الدولي والامريكي للتخلص من بينوشيه وانهاء الحكم العسكري ووجود ضمانات لإجراء استفتاء نزيه وحر في تشيلي يقابله دعم قوي من إدارة ترامب للسيسي، ودعم أوروبي قوي أيضا من أوروبا ممثلة في أهم دولها مثل ألمانيا و فرنسا و بريطانيا، وغياب لأية ضمانات لاستفتاء تعبر نتيجته بحق عن الإرادة الشعبية، كما أن الانقسام داخل المجلس العسكري في تشيلي لا توجد ملامح مشابهة له في مصر بعد ان تم افراغ المجلس العسكري من كل القيادات التي يمكن ان تمثل تهديداً للسيسي16 (لم يتبقى من أعضاء المجلس العسكري الستة والعشرون المشاركون في انقلاب الثالث من يوليو سوى ثلاثة اعضاء، رئيس الاركان الحالي الفريق محمد فريد حجازي ومساعد وزير الدفاع للشئون الدستورية والقانونية اللواء ممدوح شاهين ورئيس هيئة الشؤون المالية للقوات المسلحة اللواء محمد أمين نصر).
  • عدم القدرة على الحشد الجماهيري للتصويت ب “لا”، لاسيما مع وجود العديد من العوامل التي يمكن أن تؤثر على المواطنين وتدفعهم للامتناع عن المشاركة، بداية من طبيعة الاستفتاء على التعديلات الدستورية والتي في الغالب لا تجتذب الجماهير كما هو الحال مع الانتخابات، والاحباط المتزايد والذي نتج عنه حالة لامبالاة وعدم اهتمام لدى قطاع عريض من الشعب بأي أمر يتعلق بالأوضاع السياسية، والجهل بمضمون التعديلات الدستورية أصلا وبخطورة بقاء السيسي في السلطة مدى الحياة وخطورة ترسيخ سيطرة المؤسسة العسكرية على الحياة السياسية دستورياً، و يضاف إلى ذلك عدم الاعتراف بشرعية النظام القائم أصلا منذ البداية لدى قطاع من الشعب الذي يرى أن المشاركة في هكذا استفتاء تعني عمليا الاعتراف الواقعي بشرعيته، فضلا عن عدم القناعة بجدوى المشاركة لعدم وجود ضمانات حقيقية لإجراء استفتاء نزيه و وجود حالة من شبه اليقين في نتائج الاستفتاء مسبقا، وانتهاء بالترهيب الذي رسخته السلطة لأي ممارسة لحقوق سياسية. تجعل هذه العوامل المتعددة من عملية حشد المواطنين للمشاركة والتصويت ب “لا” تحديا ليس بالقليل، وتمثل خطورة عدم القدرة على الحشد في إظهار المعارضة بصورة ضعيفة وهزيلة وغير قادرة على حشد انصارها للتصويت في الاستفتاء وفي نفس الوقت إعطاء الاستفتاء مصداقية زائفة في الداخل والخارج يبدو منها أن أغلبية المشاركين صوتوا لصالح التعديلات رغم الحشد لرفضها.

ثانياً: المقاطعة الإيجابية

لا تختلف الفرص المتاحة في حال المقاطعة الإيجابية عن تلك المتوفرة من خلال المشاركة والتصويت ب “لا”، حيث من المفترض ألا ترتكز المقاطعة الإيجابية على مجموعة من بيانات المقاطعة فقط، ولكن ترتكز بالأساس على تشكيل تحالف واسع من جميع القوى السياسية بمختلف توجهاتها تحت مظلة مقاطعة الاستفتاء وفي نفس الوقت التعبئة الجماهيرية والحشد للتعبير عن رفض التعديلات الدستورية تمهيدا لمرحلة جديدة من العمل الوطني، وهو أمر يستلزم تنظيم أنشطة وفاعليات مبتكرة للتعبير عن رفض التعديلات الدستورية ومقاطعة الاستفتاء، وفي نفس الوقت لا تتسبب تلك الانشطة أو الفاعليات في ايذاء المواطنين وتعرضهم للترهيب والقمع من السلطة.

لكن تبقى المخاطرة الرئيسية في اختيار المقاطعة الايجابية هو اعتمادها الرئيسي على الفاعليات والانشطة والحشد الجماهيري، وهو أمر يصعب تحقيقه وتحدي ليس بالقليل في ظل حالة القمع الشديد الذي تمارسه السلطة، ويبدو صعباً ايضاً مقارنة فاعلية المقاطعة الايجابية التي انتهجتها المعارضة في جنوب إفريقيا مع الحالة المصرية، فبالرغم من بعض التشابه الموجود من ناحية ممارسة السلطات في كلتا الحالتين للقمع والانتهاكات الشديدة، لكن السياق الزمني الذي تم فيه استفتاء جنوب إفريقيا كان يتسم بحالة تعاطف من شعوب العالم ورأي عام دولي حول حقوق المواطنون السود في العالم وفي جنوب إفريقيا خاصة، ورفض شديد لسياسة التمييز العنصري التي تنتهجها السلطات في جنوب إفريقيا، وشكّل هذا التعاطف الدولي قيداً على حكومة جنوب إفريقيا في مواجهتها للفاعليات والأنشطة المناهضة للإصلاحات الدستورية، في حين أن الحالة المصرية والتي تشهد العديد من الانتقادات الدولية للسلطة بسبب الانتهاكات التي تمارسها لكن تظل تلك الانتقادات لا ترقى لحالة التعاطف الدولي الكبيرة التي كانت في صالح المواطنين السود في جنوب إفريقيا ولا تمثل قيودا حقيقية تمنع السلطات المصرية من انتهاكاتها ضد الفاعليات والأنشطة السلمية المعارضة للتعديلات الدستورية في ظل الصمت بل و الدعم الرسمي الدولي، وهو ما يمكن ان يحول المقاطعة الايجابية للاستفتاء في مصر إلى مجرد مقاطعة سلبية لا تتخطى البيانات التي تدعوا إلى المقاطعة وتساهم في استمرار حالة الركود السياسي و لا يترتب عليها تحقق الهدف الأصلي في تكوين جبهة واسعة للمعارضة، ويفرض هذا الواقع تحدياً حقيقياً أمام جميع القوى السياسية التي ترغب في المقاطعة الايجابية أو حتى التي ترغب في المشاركة والتصويت ب “لا” بإيجاد طرق مبتكرة لحشد الجماهير سواء بالمقاطعة أو المشاركة.

إلا أن من يدعمون خيار المقاطعة يجادلون بأنه في نهاية المطاف سيظهر مشهد المقاطعة الواسع بوضوح، سواء سلبا أو إيجابا، متمثلا في مشاهد اللجان الفارغة المعتادة، مما يمكن تسويقه إعلاميا أنه نجاح لحملة المقاطعة، إلا أن وجهة النظر المقابلة هي أن النظام الإنقلابي اعتاد على التعامل مع هذا المشهد عدة مرات و يملك الخبرة لتجاوزه إعلاميا و تبقى في النهاية الأرقام الرسمية التي يعلنها، كما أن عمليات التزوير تكون في هذه الحالة أسهل بكثير.

ثالثاً: محددات التوافق

بعيداً عن شكل التفاعل مع الاستفتاء على التعديلات الدستورية سواء بالمشاركة والتصويت ب “لا” أو المقاطعة، يجب أن تكون هناك محددات واضحة للتوافق بين القوى السياسية خلال تفاعلها مع الاستفتاء، حيث أن المكسب الرئيس المستهدف من هذه المرحلة يتمثل في بداية تشكيل جبهة وطنية واسعة تتناسب مع مرحلة جديدة من النضال الوطني. ونذكر هنا أبرز تلك المحددات التي يمكن أن تمثل مساحة مشتركة يمكن الانطلاق منها للتعبير عن رفض التعديلات الدستورية.

  • لا ينبغي إثارة أية أمور خلافية في هذه المرحلة بأي شكل من الأشكال، بل المطلوب الوحدة حول هدف جامع يتمثل في رفض السيسي و الرغبة في إحداث تغيير شامل ينقذ البلاد من المستنقع الذي وقعت فيه.
  • معارضة التعديلات الدستورية تنطلق من رفض المسار السياسي المطروح متمثلا في بقاء السيسي في السلطة طيلة حياته، و استمرار الهيمنة العسكرية على مقدرات الحياة في البلاد لسنوات طويلة قادمه تتجاوز حتى فترة بقاء السيسي في الحكم، وليست مجرد معارضة تحت مظلة النظام للحفاظ على اوضاع دستورية او قانونية محددة.
  • التوافق على رفض التعديلات الدستورية انطلاقا مما سبق، وليس من منطلق التوافق على رفض التعديلات الدستورية بهدف حماية الدستور، حيث أن الدستور الحالي يظل محل خلاف بين من يرفضه بالأساس ويراه دستوراً غير شرعياً ومن يراه دستوراً شرعياً، وفضلاً عن حجم العوار الموجود في دستور 2014 نفسه بداية من اللجنة التي صاغت الدستور والتي تم تعينها بالكامل من السلطة ولم تمثل فيها اطياف مختلفة سواء من الاسلاميين أو من القوى التي شاركت في ثورة يناير ونهاية بالمواد التي تمت صياغتها والتي تحد من سلطة البرلمان ورقابته على الجيش والشرطة والقضاء، وبالرغم من صياغة دستور 2014 بالطريقة والشكل الذي ترغب فيه السلطة إلا ان السلطة نفسها لم تلتزم بذلك الدستور وقامت بالعديد من الانتهاكات والتي كان ابرزها انتهاك المادة 151 التي تحظر التنازل عن جزء من إقليم الدولة وذلك بعد التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير لصالح المملكة العربية السعودية17.
  • الحرص على استيعاب الجميع من مؤسسات سياسية و شعبية و مجتمعية من كافة التوجهات دون إقصاء أو مشاحنه، طالما اجتمعت على الهدف المشترك للعمل الوطني في هذه المرحلة، حيث ستؤدي أية معوقات أمام خلق الحالة الوطنية المطلوبة إلى استمرار الوضع الحالي و تفاقمه، بل و صعوبة تغييره في المدى المنظور.

الخلاصة

يجب الانتباه إلى أن حالة النجاح سواء في تجربة تشيلي أو جنوب إفريقيا أو أي مكان أخر لم تقود إلى التغيير المنشود إلا بعد عدة سنوات من مواصلة العمل السياسي والنضال الوطني، فالتغيير المنشود في جنوب افريقيا وانتهاء نظام الفصل العنصري لم يحدث إلا بعد استفتاء 1983(الذي جاءت نتيجته على عكس ما أراد مقاطعوه) بسنوات، وكذلك في تجربة تشيلي فبالرغم من إزاحة بينوشيه من منصبه كرئيس إلا أن نفوذه ظل حاضراً في الحياة السياسية حيث ظل قائداً عاماً للجيش لمدة عشر سنوات بعد استفتاء 1988.

وهذا يستلزم وعي ناضج لدى قوى الثورة والمعارضة المصرية بأن طريق النضال الوطني طويل ولابد من الانطلاق من نقطة ما، ولابد من البداية في عمل مشترك هدفه الرئيسي هو التغيير انطلاقا من امتلاك مشروع سياسي وطني جامع، وتواصل ودعم دولي وفضح للنظام وممارساته القمعية. ويمكن أن يصلح الرفض الواسع النطاق لمضمون التعديلات الدستورية المطروحة كنقطة البداية الجديدة المطلوبة للعمل الوطني المشترك الفعال المتجاوز للخلافات السياسية والأيديولوجية إذا ما تم استغلالها بشكل صحيح ليكون تكوين تلك المنظومة الوطنية الجامعة من خلالها هو الهدف الأهم، بصرف النظر عما سيسفر عنه الاستفتاء، وبصرف النظر إن أتى الموقف الوطني الجامع على صورة حشد الجماهير للتصويت بلا على التعديلات، أو حشدها لمقاطعة عملية الاستفتاء، فالأهم أن يكون الحشد الوطني الجامع موحدا في اتجاه أي من البديلين.

وقد استعرضت هذه الورقة أهم مزايا وعيوب كلا من بديلي المشاركة أو المقاطعة، ويبقى القرار في نهاية المطاف للقوى السياسية والمجتمعية الرافضة لاستمرار الوضع الراهن بناء على تقييمها وحساباتها الدقيقة، ويمكن الجمع بين البديلين أيضا بالبدء باتخاذ موقف المشاركة والتصويت بلا، مع تحديد واضح للضمانات المطلوبة لنزاهة عملية التصويت، بما فيها المراقبة المحلية والدولية الكافية، بحيث إن لم تتحقق هذه الضمانات يكون موقف المقاطعة هو الأجدى بناء على حيثيات واضحة يترتب عليها حشد المزيد من الدعم المحلي والدولي للمطالب العادلة للمصريين.

إن بقاء الوضع الحالي في مصر كما هو دون أدنى فعل أو حركة من قوى الثورة والمعارضة، يساهم في زيادة تعقيد المشهد وترسيخ السلطة الموجودة واستمرار ممارساتها القمعية والفاشلة، مما يضع مصر والمصريين تحت خطر داهم، وهو ما يدفعنا للالتزام بالواقعية في ظل القدرات المحدودة للمعارضة وقوى الثورة، وسلوك مسارات قد تبدو غير متماشية مع اهدافنا الرئيسية، ولكنها في نفس الوقت قد تؤدي إلى نجاحات جزئية على طريق التغيير الحقيقي بالتأسيس للمشروع الوطني الجامع الذي يستطيع ان يقدم مشروعا سياسيا للمستقبل. العبرة الآن ليست في المشاركة والتصويت ب “لا” أو بالمقاطعة، ولكن العبرة بمدى القدرة والفاعلية على تحقيق أهداف ومكاسب يمكن البناء عليها في المستقبل وتمثل خطوة على طريق التغيير.


الهامش

1 التعديلات الدستورية: طريق من المسارات الملتوية، المعهد المصري للدراسات، 8 فبراير 20192 485 نائبا يوافقون على مبدأ تعديل الدستور، اليوم السابع، 14 فبراير 2019

3 Pamela Constable, U.S. diplomat Harry G. Barnes Jr., 86, helped end military dictatorship in Chile, The Washington Post, August 22, 2012

4 Kateryna Kurdyuk, PART I: From Dictatorship to Democracy – What did the ´88 referendum bring Chile?, Chile Today, October 3, 2018

5 Admin CoolBen, Chile’s 1988 Plebiscite and the End of Pinochet’s Dictatorship, ADST, November 2014

6 Peter Kornbluh, OSCARS: DECLASSIFIED DOCUMENTS TELL HISTORY BEHIND BEST FOREIGN FILM NOMINATION, “NO”, National Security Archive Electronic Briefing Book No. 413, February 22, 2013

7 Roger Burbach and Patricia Flynn, Chile: Voting under the Gun, Nacla, September 25, 2007

8 Heraldo Munoz, Don’t credit Chile’s economic rise to Pinochet, The Japan Times, September 16, 2013

9 Shirley Christian, FOES OF PINOCHET WIN REFERENDUM; REGIME CONCEDES, The New York Times, October 6, 1988

10 Admin CoolBen, Chile’s 1988 Plebiscite and the End of Pinochet’s Dictatorship, ADST, November 2014

11 Kateryna Kurdyuk, PART III: From Dictatorship to Democracy – What did the ´88 referendum bring Chile?, Chile Today, October 5, 2018

12 صدفة محمد محمود، إدارة التنوع والاختلاف.. تجربة جنوب إفريقيا في التعايش السلمي خلال مرحلة ما بعد انتهاء نظام الفصل العنصري، مركز نماء للبحوث والراسات، 2015

13 J Brooks Spector, The UDF at 30: An organisation that shook Apartheid’s foundation, Daily Maverick, August 22, 2013

14 The Tricameral Parliament, 1983-1984, South African History Online, March 30, 2011

15 J Brooks Spector, The UDF at 30: An organisation that shook Apartheid’s foundation, Daily Maverick, August 22, 2013

16 محمود جمال، تغيير وزير الدفاع المصري: الدلالات والتداعيات، المعهد المصري للدراسات، 2 يوليو، 2018

17 للحديث تفصيلاً عن حجم الخلل في دستور 2014 وحجم انتهاكات السلطة للدستور يمكن متابعة الدراسة التي نشرها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بعنوان “التعديلات المقترحة على دستور 2014 في مصر: تكريس حكم الفرد” رابط.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
الوسوم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close