دراسات

التسويق السياسي المفهوم والمكونات

تقديم

تشير العديد من الدراسات إلى أن “ستانلى كيلى”، هو أول من استخدم اصطلاح التسويق السياسي، في دراسته عن زيادة تأثير المتخصصين في فن الإقناع في السياسة، ووفقاً لكيلى فإن التسويق يعنى الإقناع أو القدرة على الإقناع، حيث يري أنه منذ الحرب العالمية الأولى صارت الديمقراطية الجماهيرية بحاجة إلى أدوات جديدة للضبط الاجتماعى. وقد استخدم التسويق السياسي في البداية كمرادف للدعاية، فالهدف من النشاط كان واحداً وهو الإقناع، ويرى بعض المحللين أن الكتابة الحديثة عن التسويق السياسي تعكس جزئياً البحث عن مصطلح جديد أكثر ملائمة من مصطلح الدعاية، الذي صار مشوها.

أما عملية تقييم التسويق السياسي فقد بدأت بالولايات المتحدة وخاصة من خلال الانتخابات الرئاسية، ففى انتخابات عام 1960، والتي تنافس فيها جون كيندى وريتشارد نيكسون، نصح خبراء العلاقات العامة كيندى بأن الفوز سيكون للمرشح الذي يستطيع الفوز على منافسة في مناظرة تليفزيونية، وأن الهزيمة ستكون لمن يعتمد على الراديو، وبالرغم من غياب الدليل القوى المؤكد على تأثير هذا على عملية التصويت إلا أن تاريخ مناظرة 1960 الذي أعده الصحفى “تيودر هوايت”، ادخل منهاجية الحملة الانتخابية كدليل على تأثير التليفزيون وقوة الصورة الذهنية التي تشتعل لدى الناس من خلال وسائل الإعلام خاصة التليفزيون، وتفوقها على جوهر الموضوعات السياسية المطروحة في الحملات الانتخابية.

وقد كان انتصار نيكسون عام 1968 بمساعدة خبراء من أحد مراكز العلاقات العامة هو علامة البداية للتأثير الحقيقي للتسويق في السياسة الرئاسية في الولايات المتحدة الأمريكية وذلك استنادا إلى عدد من المعايير، ومنها الاعتماد المتزايد على خبراء الإعلان التجار في مجال الحملات الانتخابية، خاصة الحملات الانتخابية الرئاسية.

أولاً: نشأة وتطور التسويق السياسي:


جون كيندى وريتشارد نيكسون

منذ بداية الثمانينيات من القرن العشرين، بدأ التسويق السياسي في التطور في اتجاهين رئيسيين الأول جاء من خلال دارسي التسويق الذين اتجهت مناقشتهم عن مفهوم التسويق إلى إمكانية تطبيقية في المنظمات غير التجارية والثاني من خلال ما أثاره دارسو علم السياسة الذين طرحوا العديد من التساؤلات منها: هل التسويق جاء بشئ جديد بالنسبة للسياسة أم أنها مجرد رؤية لأنشطة الدعاية السياسية القديمة متخالفة مع التكنولوجيا الحديثة؟، وهل يشير مصطلح التسويق السياسي إلى أي خواص متميزة أو يحتوى على أية قيمة تحليليه، أم أنه ببساطة وصف قصير الأمد ملائم لتقنيات الإقناع الحديثة؟ ولماذا هذا الإطراء المبالغ فيه للتسويق السياسي؟

ولم يقتصر التطور الذي حدث خلال السنوات الأخيرة على اتساع نطاق إدارة التسويق السياسي ولكنه وصل إلى اعتقاد الفاعلين السياسيين في ضرورة التفكير استنادا إلى مفاهيم التسويق وليس ممارسة التسويق فحسب، فهم يعتقدون بأنهم يقومون بإدارة التسويق، ويحاولون تحقيق التكامل في استخدامهم لأدوات التسويق في نطاق استراتيجية متكاملة ومن ثم فقد تحركت تطبيقات التسويق السياسي المعاصرة من مجرد إدارة اتصال إلى أسلوب متكامل لإدارة السياسة سواء لتطوير سياسة ما، أو في الحملات الانتخابية المستمرة، وصولاً إلى الحكومة التي صارت تلجأ إلى استخدام التسويق في ظل ظروف معينة.

ومن أهم التطورات التي حدثت في تطبيقات التسويق السياسي والتي يمكن أن تكتسب صفة العمومية بالنسبة لأغلب النظم الديموقراطية على مدى العقدين الأخيرين: ازدياد تعقد الاتصال السياسي ودوراته السريع، وبروز استراتيجيات لإدارة المنتج السياسي وتشكيل الصور الذهنية في المجال السياسي، وازدياد أهمية إدارة الأخبار، وتطوير استراتيجية للتسويق السياسي المتماسك والمخطط، واشتداد وتكامل استخدام أبحاث السوق السياسي، والتأكيد على أهمية تنظيم التسويق السياسي، وازدياد الوزن النسبي لأهمية الجوانب المرئية في هذا المجال.

وتزايد الاهتمام بنماذج التسويق السياسي، كنموذج التسويق المستمر الذي تم تطويره من البحث في مجال تسويق الخدمات، ونموذج التسويق الذي يقوم على مفهوم توجه المستهلك والذي تطور إلى مفهوم توجه السوق والذى يضع المستهلك وتحديد احتياجات السوق من السلع والخدمات في بداية دورة الإنتاج الاستهلاك.

ومن العوامل التي تدفع نحو تبنى استراتيجية توجه السوق في المجال السياسي: اشتداد التنافسية السياسية في الحياة السياسية المعاصرة والتي هي بمثابة السوق السياسي، وبروز العديد من الظواهر السياسية التي تحتاج إلى آليات جديدة للتعامل معها، وحاجة القوى والمؤسسات السياسية إلى الدعم والمساندة الشعبية للقيام بأنشطتها، وازدياد الوزن النسبي للآليات المرنة واللينة لإدارة الشئون السياسية، وازدياد الأهمية النسبية للقضايا المرتبطة بحياة المواطن العادي في نطاق العمل السياسي.

أما العوامل التي تعوق تبنى استراتيجية توجه السوق في المجال السياسي، فإنها ترتبط أساساً بدرجة تطور النظم السياسية باتجاه الديموقراطية والتحديث السياسي، فكلما ازدادت درجة تطور النظم السياسية في هذا الاتجاه كلما زادت أمكانية تبنى هذه الاستراتيجية وكلما انخفضت هذه الدرجة كلما ازدادت المعوقات التي تحول دون تبنيها.

وأمام هذه التحولات ظهر التسويق السياسي كنشاط يعبر عنه بآليات السوق خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين، وجاء نمو هذا النشاط على خلفية فقدان الثقة في الأحزاب السياسية وفي السياسيين، وازدياد الفجوة بين الجمهور والمؤسسات مما زاد من الاتجاهات السلبية نحو الممارسات الديمقراطية في المجتمعات الغربية. ورافق هذا النمط من الصناعة السياسية الجديدة موجة من النقد على اعتبار انه يفرغ السياسة من مضامينها الحقيقية ويحولها إلى مجرد منتج أو سلعة قابلة للترويج ولتطبيق قوانين العرض والطلب عليها، الأمر الذي يعني أن السياسة سلعة قابلة للبيع والاستهلاك.

وقد ساد خلال السنوات القليلة الماضية في المجتمعات المتحولة، أنماط متعددة من التسويق السياسي المملوء بالمفارقات، بل ومحاولة شراء وعي الناس بدلا من لفت انتباههم نحو رؤية سياسية جديدة أو تطوير قدراتهم نحو مشاركة سياسية أو تنموية حقيقية. ولا ينسحب هذا التعميم على كافة حملات التسويق السياسي، على الرغم أن أغلبها وقع في شراك تلك الاختلالات؛ حتى أصبح هذا النمط من النشاط السياسي التجاري القائم على الترويج وشراء الخدمات الاستشارية أحد مظاهر زيف العمليات الإصلاحية على المستويات السياسية والتنموية، حينما اخذ يعمق الفجوة بين المؤسسات والمجتمعات ويزيد من عمق جرح عدم الثقة المزمن.

وتتضح هذه المشكلات كلما وضعت مضامين حملات التسويق السياسي على المحك، أو إذا ما جد الجد واختبرت الوقائع مدى جدية تلك المضامين، الأمر الذي ولد قناعة لدى العامة بعبثية هذه الأنشطة وعدمية السياسة من خلفها، هذا من جهة، ووضع اليد من جهة أخرى على أهم مشاكل التسويق السياسي في مجتمعاتنا، وبالتحديد المتمثلة في عدم القدرة على تأصيل هذا النشاط لكي ينبع من الهوية المحلية وشروطها الثقافية والاجتماعية. بل بدا الأمر على طريقة القص واللصق من تجارب مجتمعات أخرى مختلفة في خبراتها ومكوناتها الاجتماعية والنفسية.

وقد ارتبط نمو التسويق السياسي في الشرق الأوسط في الفترة الأخيرة بخطاب الإصلاح السياسي بشكل واضح، كما ارتبط بالمبادرات الدولية وما حملته من مضامين دعت إلى تحولات عميقة نحو الليبرالية الاقتصادية وقيمها، إلى جانب ما حرضت عليه في بعض جوانب الإصلاحات السياسية والحقوق المدنية والمبادرات التعليمية والإصلاحات الاجتماعية السياسية مثل أوضاع المرأة والشباب والمشاركة المجتمعية. والمفارقة الأخرى أن بعض القوى الرافضة لتلك المبادرات ولتيار الإصلاحات الجديد قد استفادت من التقنيات والتجارب التي أتى بها التيار الأول أكثر من غيره.

وتنتشر حملات التسويق السياسي بشكل منظم وغير منظم في المنطقة العربية واخذ بعضها مؤخرا التخلص من ارتباطها بفكرة الإصلاح من أصلها. بل يبدو التسويق السياسي أحد أشكال العولمة السياسية العائدة من جديد والاندماج في سوق عالمي مواز.

وقد تجلت قدرة التسويق السياسي في الولايات المتحدة في خلق كاريزميات سياسية جديدة أكثر من أوروبا، لان البنية الأميركية لا تخلق بذاتها هذه الكاريزميات، الأمر الذي جعل هذه البيئة مضطرة إلى الاستعانة بالأساليب التسويقية لبناء زعامات وقيادات سياسية تسوقها للرأي العام.

وأصبحت خبرة التسويق السياسي المعتمدة على تقنيات الاتصال المعاصرة، صناعة كبرى في الغرب وبلغ دخلها في نهاية عام 1996 ستة مليارات دولار في الولايات المتحدة، إلا أنها شكلت أحد مظاهر فشل الإصلاحات في المنطقة العربية، ولم تخدم التحول الديمقراطي وتنمية المجتمعات المدنية بقدر ما زادت من عبثية السياسة وعدم جدواها في نظر الجمهور، وحولت جزءا كبيرا من المجتمعات المدنية إلى مجرد مؤسسات انتهازية بدون رسالة مجتمعية حقيقة هدفها الجري وراء المال السياسي، ولو بتزييف الواقع أو اختراعه أحيانا أخرى.

وقد بدأ الاهتمام بالتسويق السياسي كمجال معرفي في التسويق مع تطور مفهوم التسويق الاجتماعي في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، والذي يركز على تسويق الأفكار والقضايا الاجتماعية، ويعتبر أن تلك الأفكار والقضايا تمثل منتجًا اجتماعيًّا في عملية التسويق، والتي تتطلب تصميمًا خاصًّا بها واستراتيجيات تميزها عن تلك المتبعة في الجانب التجاري.

وإذا كان بعض الباحثين يعودون بتاريخ التسويق السياسي إلى الثلاثينيات من القرن العشرين، عندما أنشئ معهد جالوب في الولايات المتحدة الأمريكية، وظهرت دورية ربع سنوية في الرأي العام بعنوان (Public Opinion Quarterly)، ركزت على قياس الرأي العام تجاه القضايا السياسية من خلال البحوث الكمية… فإن غالبية الباحثين يعتبرون أن ذلك لم يكن تسويقًا سياسيًّا بقدر كونه نوعًا من الاتصال والإعلان ذي الصبغة السياسية. أما التسويق السياسي كفرع معرفي له خصائصه البنائية، وأطره النظرية، وتطبيقاته العملية، فلم يتبلور إلا مع بداية التسعينيات من القرن العشرين.

فقد أدى توجه عدد من دول العالم لتطبيق الممارسة الديمقراطية في العملية السياسية إلى ازدياد أهمية الرأي العام، وإلى الحاجة إلى التأثير في اتجاهات الأفراد نحو المؤسسات السياسية والقضايا المثارة، ومن جانب آخر كان لتطور وسائل الاتصال وظهور وسائل جديدة، مثل : الإنترنت والتكنولوجيا الرقمية، تأثير مباشر على إتاحة المعلومات لدى  الجمهور، ومن ثم لم يعد التنافس بين المؤسسات والنخب السياسية على توفير المعلومات، وإنما على كيفية تعامل الجمهور مع هذا الكم المتاح، وهو ما يمثل لتلك المؤسسات والنخب تحديًا في بناء معارف الأفراد تجاه القضايا المثارة.

من جانب ثالث كان هناك اتجاه متزايد في الدراسات الإعلامية، يعتبر أن الجمهور هو النقطة المحورية في تصميم وتخطيط البرامج الإعلامية وبناء الرسائل الاتصالية المرتبطة بها، وينطلق هذا الاتجاه من فرضية أن مجرد تقديم المعلومات للجمهور، وإدراكها وفهمها غير كاف، وإنما يلزم تحديد الكيفية التي يفكر بها هذا الجمهور، والأسباب التي تدفعه للاستجابة. وهذا الاتجاه في الدراسات الإعلامية وفر إطارًا معرفيًّا مهمًّا لدراسات التسويق السياسي؛ حيث أضحت الدراسات المتعمقة للجمهور هى النقطة المركزية في نجاح الحملات الإعلامية بوجه عام، وحملات التسويق السياسي على وجه الخصوص.

وفى هذا السياق أخذت دراسات التسويق السياسي اتجاهين أساسيين: الأول يرتبط بباحثي العلوم السياسية، أما الثانى فكان محل اهتمام باحثي التسويق، في الاتجاه الأول، ركزت دراسات التسويق السياسي على الحملات السياسية، قبل وأثناء الانتخابات البرلمانية في الدول الغربية.. لذلك كانت الانتخابات والمؤسسات السياسية المتمثلة في الأحزاب، وسلوكيات تلك المؤسسات هي محور دراسات التسويق السياسي. وقد اعتمدت هذه الدراسات النماذج الخطية أو المعيارية في التأثير، والتي ترى أن مجرد تقديم المعلومات ذات الطبيعة السياسية يمكن أن يؤثر في اتجاهات الأفراد أثناء الانتخابات.

ريتشارد نيكسون

وقد قوبل هذا الاتجاه بنقد من جانب بعض الباحثين، معتبرين أن التسويق السياسي يخضع لنماذج أكثر عمقًا وأن سلوك الناخب أو قراراه عملية مركبة، مؤكدين أن النماذج الأقرب إلى ذلك هى نماذج السلوك الاستهلاكي، وأهمية وبناء الصورة الذهنية للقيادة أو المؤسسة السياسية والقضايا المثارة في الوقت نفسه.

أما الاتجاه الثانى، والذى تبناه باحثو التسويق فيرى أوجه تشابه بين التسويق السياسي والتسويق التجارى؛ فالتسويق السياسي يتضمن تطبيق بحوث المستهلك وتكتيكات الإعلان عن القضايا السياسية ومخرجات المؤسسات السياسية، وأنه إذا كان هدف التسويق السياسي هو تحديد اتجاهات وآراء الناخبين تجاه القضايا التي تهمهم، والاستفادة من ذلك في بناء استراتيجيات وتكتيكات الحملات السياسية. فإن ذلك يشبه بحوث المستهلك، التي يتم استخدام نتائجها في بناء الحملات الإعلانية. وقد وجه أيضَا انتقاد إلى هذا التشبيه؛ حيث توجد اختلافات جوهرية بين التسويق السياسي والتسويق التجاري. فالأول يركز على قضايا وقيادات معينة وفى أوقات محددة، ويسعى عدد محدود من المؤسسات السياسية إلى تطبيقه، وتنتفي حتمية الربحية المادية فيه، ومن ثم يتطلب تكتيكات أكثر تحديداً، تركز على الواقع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي المعاش، ويتطلب بناء حوار بين المؤسسات والقيادات السياسية من جانب والمواطنين من جانب آخر.

ونجاح التسويق السياسي يتطلب ضرورة وجود رؤية استراتيجية، تجمع بين الاتجاهين السابقين، فالمؤسسات السياسية يمكنها القيام بإدارة عملية التسويق السياسي استراتيجيًّا، من خلال الاستعانة بخبراء في التسويق الاجتماعي والتجاري؛ بحيث يمكنها تحديد ومعرفة أراء واتجاهات المواطنين تجاه القضايا المثارة، وبناء الاستراتيجيات التي تحقق المصالح المشتركة، وبناء علاقات قائمة على الحوار حتى يمكن للمواطن المشاركة في صنع القرار أو الشعور بأنه يشارك في ذلك.

ثانياً: تعريف التسويق السياسي:

تباينت تعريفات التسويق السياسي وفقًا لخلفيات الباحثين، ويمكن رصد أهم تعريفات التسويق السياسي، وفق منظوراتها المختلفة، ومن ذلك:

1ـ التسويق السياسي كفرع من فروع علم التسويق:

يتناول هذا الاتجاه التسويق السياسي من منظور علم التسويق، ويرى أن الحملات الانتخابية التي تعد أبرز أنشطة التسويق السياسي، لها سمة تسويقية واضحة، وأن أوجه التماثل تفوق أوجه الاختلاف بين مجال الأعمال ومجال السياسة في هذا الشأن، خاصة بعد توسيع النطاق العملي للتسويق من المؤسسات التي تسعى لتحقيق الربح إلى المنظمات غير الربحية، بالإضافة إلى التطور الواضح في مجال تسويق الخدمات، وهى المنتجات غير الملموسة كالخدمات المصرفية والتعليمية والصحية والقانونية والتأمينية، ومن ثم فالخدمة هى أى نشاط أو منفعة يقدمه طرف لآخر في صورة غير قابلة للمس، وقد رأى بعض الباحثين أن التسويق السياسي أقرب لتسويق الخدمات بالمفهوم المتقدم نظرا لطبيعة ما يتم التسويق له في المجال السياسي المشابه للخدمات التي لا تتجسد في صورة سلع مادية.

والسوق السياسي وفقاً لهذا الاتجاه كالسوق التجارى يشتمل على بائعين ومستهلكين يتبادلون شيئا له قيمة، فالأحزاب والمرشحون يمنحون التمثيل (السلعة) للناخبين (المستهلكين)، الذين بدورهم يعطون مساندتهم وأصواتهم إلى الأحزاب والمرشحين (البائعين).

واتجه فريق من الباحثين الذين تبنوا هذا الاتجاه إلى تطوير مفاهيم التسويق بما يتواءم وخصائص السوق السياسي، من أجل زيادة فاعلية التسويق السياسي بصفه عامة، وفى نطاق الحملات الانتخابية على وجه الخصوص. فاستراتيجية التسويق هى قلب النجاح الانتخابى، لأنها تدفع الحملة الانتخابية لأن تجمع معاً وفى فترة قصيرة من الوقت، تحالف نسبى فائز من جماعات مختلفة وأحياناً من جماعات غير مندمجة معا.

ووفقاً لهذا الاتجاه فإن التسويق السياسي لا يعدو أن يكون إلا مجرد الترويج المخطط والمنظم لسلعة أو خدمة سياسية بهدف خلق رؤية ايجابية لهذه السلعة أو الخدمة السياسية لدى المستهلك المستهدف من أجل خلق طلب على هذه السلعة ووفقاً لهذا الاتجاه فأن مزيج التسويق السياسي يشتمل على منتج سياسي أو سلعة سياسية، سعر لهذه السلعة، مكان أو إطار مكاني لممارسة النشاط المرتبط بعملية التسويق السياسي، الترويج لهذه السلعة.

ويتم تحديد مراحل عملية التسويق السياسي على النحو التالي: دراسة السوق السياسي للتعرف على احتياجات المستهلكين، وإنتاج وتقديم منتج سياسي يلبى احتياجات السوق السياسي، والترويج لهذا المنتج السياسي، وما تتطلبه هذه العملية من مهارات وأساليب للبيع، وخدمة ما بعد البيع سواء بهدف خلق علاقة ولاء للمستهلك بالمنظمة التي يتم الترويج لمنتجاتها أو تطوير السلعة أو الخدمة المقدمة.

وقد تعرض هذا الاتجاه للعديد من الانتقادات:

ـ التركيز على المنتجات الملموسة والمبادلات التجارية، كما يفترض وجود بائع نشط، ومستهلك متفاعل يمكن التأثير فيه، وبالرغم من وجود محاولات لجعل التسويق أكثر ارتباطاً بالخدمات إلا أنه يواجه بالعديد من المشكلات منها ما يتعلق بالفشل في تغطية الأنشطة العامة للتسويق، ومنها ما يرتبط بالمبادلات في المنتجات غير الملموسة، كمبادلات الأعمال بالأعمال، والتي تتسم غالباً بالتعقيد لتفاعلاتها التنافسية التعاونية بين عدد كبير من اللاعبين المختلفين بعلاقات مباشرة أو غير مباشرة لا تتلاءم مع هذا الاتجاه.

ـ أن هناك اختلافا بين علماء التسويق حول مكونات المزيج التسويقى الذي يشكل جوهر هذا الاتجاه، فالعناصر الأربعة المكونة لهذا المزيج وهى المنتج والسعر والمكان والترويج، وهى الأكثر شيوعاً في أدبيات التسويق منذ الستينيات لا يوجد إجماع بشأنها بين علماء التسويق، حيث أن هناك اختلافا بين العلماء حول مكونات المزيج التسويقى.

ـ أنه وحتى مع القبول بالعناصر الأربعة (المنتج والسعر والمكان والترويج)، فإن نقلها إلى المجال السياسي يواجه بالعديد من العقبات نظراً لطبيعة المنتج السياسي أو السلعة السياسية، واختلاف طبيعة عملية التبادل في نطاق العملية السياسية، إضافة إلى اختلاف خصائص المستهلك المستهدف وأساليب الترويج الملائمة بالنسبة له، هذا بالإضافة إلى التداخل في الإطار المكانى على المستوى السياسي، ومن ثم فإن الأخذ بهذا الاتجاه في تعريف التسويق السياسي، ينقل إلى هذا الفرع من المعرفة الإشكاليات المرتبطة بعلم التسويق، دون أن يصل إلى القدر الملائم لإيضاح الجوانب المتعلقة بالتسويق السياسي.

2ـ التركيز على أنشطة التسويق السياسي:

ويري أن التسويق السياسي هو مجموعة الأنشطة التسويقية التي تتم في المجال السياسي، والدعاية السياسية، واستطلاعات الرأى العام، والحملات الإعلامية السياسية، وصناعة النجم السياسي، وفى هذا الإطار تتم دراسة التسويق السياسي في نطاق دراسة الحملات الانتخابية، ومن ثم فإن نطاق استخدام التسويق السياسي يقتصر على الحملات الانتخابية، أمام التطور الذي حدث في الحملات الانتخابية خاصة بعد ظهور التليفزيون، فالحملات الانتخابية قبل ظهور التليفزيون كانت حملات شخصية، اتسمت بوجود عدد كبير من المتطوعين المنتشرين في مساحة واسعة، والذين يطوفون الدوائر الانتخابية وينظمون الاجتماعات الجماهيرية للدعاية للمرشحين، ومن ثم كان العمل كثيفا ويعتمد على أدوات تكنولوجية بسيطة، مع مراكز صنع القرار المنتشرة عبر شبكة من الوكلاء العاملين طول الوقت في الدوائر الانتخابية، وذلك بخلاف الحملات الانتخابية المعاصرة، التي تتسم بكثافة رأس المال، وتعتمد على عدد أقل من المتطوعين، مع ازدياد الاعتماد على الخبراء من غير أعضاء الحزب، كالإعلاميين وخبراء الدعاية والتسويق، وهى أقل اتصالا مباشرا بالناخبين وأكثر اعتماداً على أساليب الاتصال الجماهيرى غير المباشر خاصة وسائل الإعلام المقرونة والمسموعة والمرئية، ويوجد اتفاق على أهمية التسويق في الحملات الانتخابية المعاصرة، بدليل زيادة استخدام أدوات التسويق في هذه الحملات بالإضافة إلى اتساع نطاق الاستعانة بخبراء الدعاية والإعلان ووكالات العلاقات العامة.

وفي ضوء هذا التعريف فإن التسويق السياسي يستهدف تسويق منتج وليس مجرد بيع منتج سياسي معين يحتوي على ثلاثة أبعاد هي: الاتساع الذي يشير إلى عدد القضايا المطروحة، والعمق والذي يشير إلى مدى تعدد الطروحات الخاصة بحل المشاكل أو تنفيذ البرنامج الواحد، والترابط الذي يشير إلى استخدام وسيلة أو عدة وسائل مشتركة أو مستشار إعلاني أو إعلامي واحد.

والتسويق السياسي، بهذا المفهوم ليس مجرد نشاط تسويقى فقط، بل هو عبارة عن خليط متعدد الجوانب لكونه: نشاط تسويقى (يستخدم التقنيات الحديثة في التأثير على الأفراد داخل المجتمع)، ونشاط سياسى (لأنه يعنى بالكيفية التي يمكن لمنظمة سياسية أن تمارس جزءاً من العمل السياسي ألا وهو العمل في الوسط الجماهيرى)، ونشاط استراتيجى (لأنه يعتمد في مضامينه على الفكر الاستراتيجى في التخطيط ووضع الخطط وصياغة الاستراتيجيات بما يتضمن من سياسات وبرامج مختلفة للأنشطة التسويقية السياسية المراد تحقيقها وفقاً للأهداف العامة للمنظمة السياسية) نشاط سلوكى (لأنه يعنى بمعرفة تطلعات وحاجات وقضايا وهموم كل شريحة من الشرائح الاجتماعية داخل المجتمع نحو الأنشطة المنظمات السياسية).

إلا أن ما يقول به أنصار هذا التيار يصدق على المراحل الأولى لظهور التسويق السياسي، إلا أن الواقع السياسي المعاصر يشير إلى وجود العديد من المجالات التي تدخل في نطاق أنشطة التسويق السياسي بالإضافة التي تنظيم وإدارة الحملات الانتخابية، ومن ثم فهى تمثل أحد هذه الأنشطة والواقع أن هذا الاتجاه بصفة عامة وأن كان قد أسهم في أثراء المعرفة العلمية السياسية بالجوانب المختلفة لأنشطة التسويق السياسي إلا أنه يغفل العديد من الجوانب المتعلقة بالتسويق السياسي، فطبيعة التسويق السياسي بوصفه يقوم على التبادل الرمزى، إضافة إلى البيئة الملائمة للتسويق السياسي والإطار الاجتماعى للنظام السياسي بوصفه عاملاً مؤثراً في التسويق السياسي، إضافة إلى تجاهله للعلاقة الإرتباطية بين التسويق السياسي وعالم السياسة واعتباراته القيمية والأخلاقية، هذا بالإضافة إلى أن تركيزه على الجوانب الفرعية للتسويق أدى إلى إغفاله للعديد من العناصر التي يشتمل عليها مفهوم التسويق السياسي، ومع ذلك فإنه يمكن الاستفادة من الخبرات المعرفية والعملية التي توصل إليها هذا الاتجاه في سياق التحليل العلمى المتكامل للتسويق السياسي.

3ـ التسويق السياسي كفرع من فروع علم الاتصال السياسي:

يثير هذا الاتجاه جانبا هاماً من جوانب التسويق السياسي، والذى يتمثل في كونه يقوم على الاتصال من عدة أطراف، ومن ثم يتجه لمعالجة التسويق السياسي بوصفه يمثل جانباً واحدا لعمليات أكثر اتساعا وهى عمليات الاتصال السياسي، وينظر للتسويق السياسي على أنه جاء كاستجابة التطورات المعاصرة في وسائل الإعلام وتكنولوجيا الاتصال. ويرى أنصار من هذا الاتجاه أن وسائل الإعلام قد ازداد دورها السياسي سواء لوضع موضوعات النقاش العام أو الحملات الانتخابية، لتبلغ ذروه تأثيرها على اختيارات الناخبين في عملية التصويت، مع التأكيد على أهمية الاتصالات السياسية في نطاق الحملات الانتخابية والأنشطة السياسية الأخرى، من حيث تأثيرها على اهتمام المواطن وانشغاله بالعملية الديمقراطية ككل.

حيث يتم رؤية السياسة ووسائل الإعلام كشيء متضافر، فالأنشطة والأهداف والعمليات لكل منهما تؤثر وتتأثر بالآخر، وبالتالى يزداد الاهتمام بجودة الاتصالات السياسية، وتحقيق استقرار النظم الديمقراطية من خلالها، والنتائج الأساسية للاتصالات السياسية في هذا الإطار تتمثل في زيادة الأحزاب غير الأيديولوجية، والتحول في وسائل الإعلام من قناة ضرورية للاتصالات إلى مركز قوة مستقل بدرجة متزايدة وفاعل هام في العمليات السياسية بما فيها الحملات الانتخابية.

وترجع أهمية العامل الأول إلى أن الأحزاب قد صارت أكثر انفتاحا واعتمادا على التقنيات في الحملات الانتخابية والإقناع السياسي للوصول إلى السلطة السياسية، أما العامل الثانى فترجع أهميته إلى أن الحملات الانتخابية والأنشطة السياسية الأخرى، قد صارت أكثر تكيفا والحاجات والمصالح المتعلقة بوسائل الإعلام.

فوسائل الإعلام أصبحت مؤسسة سياسية تتكامل يوماً بعد يوم مع عمليات الفروع الثلاثة للحكومة، وأن هذه العلاقة قد صارت محورية، فالإعلاميون اليوم يوجدون حيثما يوجد السياسيون، كما أن دور وسائل الإعلام قد أصبح مؤسسيا خلال العملية السياسية مؤثرا في صنع السياسة ومثيراً ومحفزا للأفعال السياسية، ومن ثم فإن التحدى أن تدخل أى منظمة إلى المجال السياسي المعاصر، دون أن يتوافر لها قدر من الخبرة والحنكة في فهم كيف تعمل وسائل الإعلام وآلية العلاقات العامة السياسية المتخصصة المستندة إلى أساليب المعرفة والقادرة على استعمالها أفضل استعمال.

ومن هنا فإن التسويق السياسي هو التطور المعاصر للاتصال السياسي، وهو وإن كان يلمس جانبا هاماً من جوانب التسويق السياسي، إلا أنه يركز على الأسباب التي أدت إلى حدوث هذا التطور سواء تعلقت بتطور تكنولوجيا الاتصال وما أدت إليه من إعادة تشكيل الواقع السياسي الذي يتم التعامل معه من خلال الرؤى الإدراكية التي تشكلها وسائل الإعلام وهو ما يطلق عليه “عالم السياسة المصنوع” والذى توجد بينه وبين عالم السياسة الواقعى مسافة أو مساحة هى المساحة بين الواقع القائم والواقع المدرك أو الواقع الذي يتم تشكيله من خلال وسائل الإعلام، وهذا يمثل دائرة عمل التسويق السياسي، مع مراعاة التطورات السياسية المختلفة التي شهدتها المجتمعات الإنسانية المعاصرة والتي أسهمت بدورها في تشكيل هذا الواقع.

أي أن محور تركيز هذا الاتجاه هو الاتصال السياسي، ومن ثم يأتى التسويق السياسي كمتغير فرعى في سياق هذا الاتجاه، وتبرز أهمية هذا الاتجاه في نطاق التسويق السياسي بوصفه نشاط له طابع اتصالى في المجال السياسي وبالتالى يمكن توظيف النتائج التي توصلت إليها أبحاث ودراسات الاتصال السياسي، لا ثراء المعرفة العملية المتعلقة بالتسويق السياسي.

4ـ الاتجاه الوظيفى في تحليل التسويق السياسي:

يذهب هذا الاتجاه إلى تعريف التسويق السياسي استنادا إلى الوظائف التي يتعين على التسويق السياسي القيام بها استنادا إلى أن هذه الوظائف سوف تحدد المتطلبات التنظيمية للتسويق السياسي والتي يتطلب الوفاء بها لكى يكون ناجحاً، هذا بالإضافة إلى أن هذه الوظائف توضح الأهداف الاستراتيجية الشاملة من خلال التعرف على مجموعة من الشروط المتعلقة بالتسويق السياسي في الأنشطة التي يجب تغطيتها.

ويرى أنه توجد علاقة غير خطية بين وظائف التسويق السياسي وأدواته، فالأداء الواحدة يمكن أن تتشكل لوظائف عديدة، كما أن متطلبات الوظيفة الواحدة يمكن الوفاء بها بالعديد من الأدوات هذا بالإضافة إلى أن مناقشة وظائف التسويق تسهل فهم واستخدام أدوات ووسائل التسويق.

فالتسويق السياسي هو إدارة علاقات التبادل الرئيسية للفاعل السياسي في الشبكة المعقدة للعلاقات السياسية من خلال القيام بمجموعة من الوظائف التي تعد بمثابة متطلبات لإدارة سياسية ناجحة، هى مخرجات أو نواتج مرغوبة للسلوك التنظيمى السياسي. فالمناقشة الوظيفية تفترض دراسة التسويق السياسي بطريقة تحليل النسق، ومن ثم فأن بعض أو كل الوظائف العامة يجب أخذها في الاعتبار بهدف وضع أسس لأبعاد التفاعلات الداخلية التي يمكن الإفادة منها في أدوات وأنشطة التسويق السياسي.

وهذه الاتجاهات أقرب إلى التكامل منها إلى الاختلاف أمام العديد من الاعتبارات، منها: أن التسويق السياسي يحتاج إلى المعرفة التسويقية والاتصالية والإدارية والسياسية فكلها ضرورية بالنسبة لأى نشاط في هذا الشأن، كما أن التطورات التي شهدتها الحياة السياسية المعاصرة بمفهومها الواسع تتطلب التوصل إلى آليات جديدة لإدارتها والتعامل الفعال مع ظواهرها الجديدة، والتسويق السياسي يقدم حالياً من هذه الآليات. كذلك فإن للاتصال وزن نسبى واضح لا يمكن تجاهله في العملية التسويقية بصفة عامة، فالاتصالات السياسية هى مكون أصيل من مكونات التسويق السياسي، وكذلك الحال بالنسبة لإدارة التسويق التي تمثل العامل المحرك للعملية التسويقية المنظمة على وجه العموم، بما في ذلك التسويق السياسي.

ومن هنا فإن الاختلافات القائمة بين هذه الاتجاهات تقوم على اختلاف في بؤرة الاهتمام بالنسبة للتسويق السياسي، وطبيعة العلاقة بين التسويق السياسي والمتغيرات الأخرى، وهذه الأمور يمكن توظيفها في نطاق عمليات التسويق السياسي، فأن كان الاتجاه الذي يركز على الاتصالات السياسية يهتم بجودة الاتصالات، فإن هذا الاهتمام بجودة الاتصالات يمكن الاستفادة منه في زيادة كفاءة وفعالية عمليات التسويق السياسي، كما أن الخبرات المعرفية الناتجة عن دراسة الحملات الانتخابية يمكن توظيفها في الأنشطة الأخرى للتسويق السياسي، كما يمكن الاستفادة منها في أعادة بناء مفاهيم التسويق بما يتلاءم، وخصائص العمليات السياسية التي يمكن توظيف التسويق السياسي فيها.

ويؤكد الواقع العملى وجود نوع من التفاعل بين هذه الاتجاهات، فنقل مجال التركيز في التسويق السياسي من تقنيات الترويج إلى الأهداف الاستراتيجية الكلية للحزب أو المنظمة السياسية أدى إلى مراجعة فعالة للرؤية المعطاة من جانب مناهج الاتصالات السياسية للتسويق السياسي، فالتسويق السياسي لم يعد مجالا فرعياً لعمليات أوسع كعمليات الاتصال السياسي، بل إن الاتصالات السياسية صارت مجالا فرعيا للتسويق السياسي، كما أن التغيير في ممارسة الحملات الانتخابية لم يعد راجعا لوسائل الإعلام بالرغم من أهميتها ولكن للقائمين على الحملة الانتخابية والفهم الاستراتيجى للسوق السياسي.

ومع هذا التفاعل بين الاتجاهات المختلفة، يمكن القول بالاقتراب من وجود نظرية للتسويق السياسي، حيث تعد نظرية التسويق السياسي من النظريات المعاصرة التي لقيت قبولاً كبيراً بين الخبراء والباحثين في مجال الاتصال وكان للتسويق الاجتماعى الفضل الأول في ظهور نظرية التسويق الاجتماعى السياسي، لقدرته على صياغة أفكار النظريات الاجتماعية والسياسية والنفسية واهتمامه بالأدوار التي تقوم بها وسائل الإعلام في بناء الصور والمعانى وتشكيل الحقائق في المجتمع.

ونظرية التسويق السياسي الاجتماعى ليست بناء فكرياً موحداً وإنما هى عبارة عن تجميع للنظريات الخاصة بتسويق المعلومات والمعرفة والعلاقات التي يتبناها المجتمع لاكتساب القيم الاجتماعية والتي تعتبر في نفس الوقت امتدادا منطقياً لنظريات الإقناع وانتشار المعلومات وخاصة تلك التي تدخل في إطار الحملات الانتخابية.

5ـ تعريف التسويق من منظور التبادل

التسويق هو مجموعة من الأنشطة المترابطة، المتكاملة والمستمرة ( قبل إنتاج السلعة أو الخدمة / وأثناء إنتاجها، وبعد الانتهاء من إنتاجها للعميل)، التي تساهم في تسهيل تقديم السلع والخدمات للعميل بغرض إشباع حاجاته ورغباته، في إطار ما يحقق مصالحه وأهدافه وأهداف المؤسسة. وأيضا المساهمة في تدعيم جهود الدولة في تطوير وتنمية المجتمع، وبما يتفق مع قيم وتقاليد وثقافة المجتمع والقوانين والنظم التي تنظم شئون تقديم السلع والخدمات.

ومن منظور التبادل كوسيلة لإشباع حاجات ورغبات العملاء يعرف التسويق بأنه “نشاط إنسانى موجه لإشباع حاجات ورغبات العملاء عن طريق التبادل”. ويشترط لتحقيق التبادل توافر مجموعة من الشروط من أهمها: أن يكون هناك طرفان أو أكثر، وأن يكون لدى كل طرف شئ مطلوب من الطرف الآخر، وأن يكون لكل طرف الحرية في قبول أو رفض التبادل، وأن تتوافر معلومات لكل طرف عن الأطراف الآخر في السوق حتى يتمكن من تحقيق التبادل معه.

وإذا كان البعض ينفي وجود التسويق السياسي فإن هذا قد يتنافى مع ممارسات الواقع في سوق السياسة وذلك لعدة أسباب، منها: يلعب الاتصال دورا هاما في التسويق الانتخابي، من الممكن استخدام تقنيات تسويق السلع والخدمات في مجال تسويق الأفكار، وإذا كان المهم في مجال التسويق هو التأثير على اتجاهات أكبر عدد ممكن من الأفراد في أقصر وقت ممكن، فمن الممكن أيضا القول بأن التسويق السياسي ما هو إلا أساس أو إستراتيجية لإدارة الحملات الانتخابية باستخدام كافة وسائل الاتصال الجماهيري، إن تقنيات التسويق السياسي هو مجموعة من المعارف والوسائل والأدوات التي توضع لخدمة قضية أو فكرة أو برنامج انتخابي، كما إن المتخصصين في التسويق السياسي عادة ما يقدمون خدمات تساعد في تغيير أو بناء رأي عام حول برنامج الحزب أو المرشح بدرجة أكبر من النصائح الخاصة باتخاذ القرارات السياسية، كذلك فإن التسويق السياسي يسعى إلى إحداث استجابة لحاجات حقيقية وليس خلق حاجة ترتبط بسلعة كما يفعل الإعلان التجاري، بجانب أن التسويق السياسي لا ينال من حرية المواطن في الاختيار.

6ـ تعريف التسويق السياسي من المنظور المؤسسي:

هو مجموعة متكاملة من الأنشطة المتكاملة، المستمرة، المترابطة / قبل إنشاء المؤسسة السياسية، وأثناء إنشائها وبعد الانتهاء من الإنشاء وأثناء تقديم خدماتها لعملائها) التي تساهم في نقل صورة موضوعية عن المؤسسة السياسية كمنتج للعملاء الداخليين والخارجيين بغرض إدراكهم واقتناعهم بدورها في خدمة أفراد المجتمع، سواء كأفراد أو مؤسسات واقتناعهم بدورها في تطوير وتنمية المجتمع والمساهمة في حل مشاكله السياسية والاقتصادية والاجتماعية بما يؤدى في النهاية إلى تحقيق الولاء والانتماء السياسي أو الحزبى. وكل ذلك في إطار الجهود المستمرة نحو تطوير كياناتها المختلفة ومن ثم ضمان تقدمها ونموها بشكل مستمر. ويتم كل هذا العمل في إطار القيم والتقاليد السائدة في المجتمع، وعدم المساس بالتراث الأخلاقى والاجتماعى للمحافظة على المجتمع.

وفي إطار هذه التعريفات يمكن القول أن مفهوم التسويق السياسي يقوم على عدد من المقومات والعناصر، وذلك على النحو التالي:

ـ أن التسويق السياسي يقوم على مجموعة من الأنشطة المتكاملة وهى (تخطيط، وتنظيم، وتوجيه، ورقابة، وتطوير) لمختلف الجهود التي ينبغى أن تقوم بها أى منظمة سياسية سواء كانت حزباً سياسياً أو مرشحاً سياسياً، وهذا يعد تطبيق للبعد الإدارى في نشاط التسويق السياسي.

ـ إن التسويق السياسي عملية استخدام أسس وتكتيكات التسويق التجارى متمثلاً ذلك في ضرورة وجود مزيج تسويقى سياسى متكامل يحكم خطوات واستراتيجيات التسويق السياسي في ظل إدارة رشيدة، فالمزيج التسويقى يعد جوهر النشاط التسويقى بشكل عام، ولب النشاط التسويقى السياسي بشكل خاص.

ـ أن البيئة التسويقية السياسية لا يمكن أن تتم بمعزل عن متغيرات وعوامل البيئة المحيطة، وهذا يؤكد تفاعل النظم البيئية بعضها البعض فالتسويق السياسي جزء من نظام أكبر منه وهو الاتصال السياسي، والاتصال السياسي نظام فرعى من نظام أكبر منه وهو النظام السياسي، وهكذا تتفاعل هذه النظم وتتكامل مع بعضها البعض وهذا لن يحدث إلا من خلال توافر نظام معلومات للبيئة التسويقية السياسية ووجود جهاز كفء لبحوث التسويق السياسي.

ـ وجود منظمات متخصصة في مجال التسويق السياسي، لها الخبرة في تطبيق أسس وخطط واستراتيجيات التسويق، ولهذه المنظمات هدف محدد ومقصود وهو (الإيمان بمبادئ حزب معين، وحشد أكبر عدد من المؤيدين، واستمالة أكبر عدد من المحايدين، وتقليل المعارضين كسب أكبر عدد ممكن من الأصوات..). فهدف التسويق السياسي ليس الفوز فقط في الانتخابات بل إن غرضه واسع وشامل لكل مبادئ الدولة أو المؤسسة وتنظيمها.

وعلى ضوء التطور في المفاهيم التسويقية واتساع نطاق التسويق، وعلى ضوء توصيف معرفة المؤسسات السياسية والبرنامج التسويقى الخارجى والداخلى، تعددت المفاهيم التسويقية الحديثة التي يمكن الاستفادة منها في تسويق المؤسسات السياسية، ومن أهم هذه المفاهيم:

1ـ منظومة عناصر البرنامج التسويقى: والممثلة في تخطيط المنتج، التسعير، التوزيع (المكان ثم الاتصال أو الترويج) حيث أن عناصر هذه المنظومة لها استخدامات مماثلة في تسويق المؤسسات السياسية ولكن بدرجات متفاوتة. فنتيجة المنافسة التي تواجه بعض المؤسسات السياسية كالمؤسسات الحزبية، لأن تخطيط المزيج الخدمى يلعب دورا هاما في تعزيز المركز التنافسى للحزب. كما يلعب الاتصال أو الترويج دورا أساسيا في التعريف بالمؤسسة وما تقدمه من خدمات مما ينعكس أثره أيضا على إدراك العملاء لتلك المؤسسات واقتناعهم بالتعامل معها. مع التأكيد على أهمية المكان الذي تقدم فيه الخدمات للجماهير أو الأعضاء أو الأفراد بصيغة المشاركين في نشاط المؤسسات السياسية.

لذا يتعين على المؤسسات السياسية وضع الترتيبات اللازمة المتعلقة بتوفير الخدمات في المكان المناسب وتتمثل هذه الترتيبات في اختيار قناة توزيع الخدمات الملائمة والتي تتضمن منافذ تقديم الخدمات في أماكن تواجد الأعضاء أو الأفراد. أما السعر فبالرغم من أهميته في منظومة البرنامج التسويقى، إلا أن نتيجة طبيعة عمل هذه المؤسسات لا تهدف للربح ومن ثم فالسعر لا يخرج عن كونه رسوم الاشتراك وتكاليف الحصول على المعلومات (الجهد – الوقت)، باستثناء المؤسسات الاقتصادية التي تقدم المنح والقروض للمؤسسات والأفراد، في هذه الحالة يكون تحديد سعر تقديم التمويل له دور هام في تشجيع الأفراد في التعامل مع هذه المؤسسات، وحتى بالنسبة لرسوم الاشتراك فإنه يجب أن تحدد بشكل يستند إلى أسس علمية في التغيير. أما الترويج فإنه يلعب دورا هاما في الاتصال بالعملاء الداخليين والخارجيين وتزويدهم بالمعلومات الضرورية على الخدمات المطلوبة لكل منهم.

وفى جميع الأحوال نجد أن منظومة عناصر البرنامج التسويقى تلعب دورا هاما في تسويق المؤسسات السياسية، الأمر الذي يقتضي من هذه المؤسسات أن تخطط جيدا لمنظومة هذا البرنامج أخذه في الاعتبار كافة المتغيرات المحلية والعالمية والتي تتمثل في نقاط قوة أو ضعف وفرص أو تهديدات نحو الذي وضحناه سلفا.

2ـ المفهوم الشامل للمنتج: فالعميل عندما يتعامل مع المؤسسات السياسية فإنه يشترى مجموعة المنافع التي يسعى إليها ومن ثم فإن هذه المؤسسات تبيع له المنافع. فالمؤسسات الحزبية تبيع الاحتياجات الفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية والمكانة والمنزلة للأعضاء.

والمؤسسات الاقتصادية تبيع اليسر المالى للأفراد، والمؤسسات القضائية تبيع المساواة والعدل، والمؤسسات التشريعية تبيع الانضباط في العمل والمساواة في التعامل والاستقرار السياسي والاجتماعى للمواطنين. هذا هو المفهوم الشامل للمنتج الذي يشتريه العميل. ومن ثم يجب على المؤسسات السياسية عدم التركيز والمغالاة في إنتاج الخدمة بقدر التركيز على أن هذه الخدمات تحقق المنافع التي يسعى إليها المجتمع أو أفراده.

3ـ تحديد المجموعات المستهدفة: ويقضى هذا المفهوم بضرورة التعامل مع كل مجموعة متجانسة من العملاء ببرنامج تسويقى واحد وذلك بعد تقسيمها السوق الذي تعمل فيه إلى مجموعات متجانسة. وإذا لم تكن إمكانياتها لا تمكنها من خدمة كل القطاعات السوقية المتجانسة فتستطيع أن تقصر خدماتها على مجموعات محددة تحديدا واضحا دال السوق.

فالمؤسسة الحزبية، على سبيل المثال، عليها أن تقسم عملائها إلى مجموعات متجانسة (حسب الفكر الثقافى، والميول والاتجاهات، والمهنة أو الوظيفة، والدخل أو السن إلى غير ذلك) ثم تقوم بخدمة كل مجموعة بشكل منفرد عن المجموعات الأخرى من خلال برنامج تسويقى خاص بها. وبهذا الأسلوب تضمن المؤسسة الحزبية إشباع حاجات جميع العملاء ومن ثم تحقيق رضا العملاء والمحافظة عليهم كعملاء دائمين.

4ـ التسويق المميز: عندما تقوم المؤسسة السياسية بخدمة أكثر من مجموعة مستهدفة فأنها تستطيع تحقيق أقصى فعالية ممكنه عن طريق تمييز خدماتها المتقدمة وطرق الاتصال بهذه المجموعات وأماكن تقديم الخدمة ورسومها وهكذا. لذلك فإن الوصول إلى مركز الريادة في سوق المؤسسات السياسية يقتضى التميز التسويقى الذي تقدمه لكل مجموعة مستهدفة.

5ـ تحليل سلوك العميل: فكثير ما يكون سلوك عميل المؤسسات السياسية سلوكا سلبيا أى توجيه انتقادات للمؤسسة أو عدم المشاركة الجادة في أنشطتها أو تركها نهائيا واللجوء إلى مؤسسة أخرى. وتحويل هذا السلوك السلبى إلى سلوك إيجابى يقتضى ضرورة تحليل سلوك العميل والتعرف على مسبباته والقضاء عليها حتى يتحول إلى سلوك العميل والتعرف على مسبباته والقضاء عليها حتى يتحول إلى سلوك إيجابى وهذه العملية ليست بالسهولة بمكان، لكنها تحتاج إلى خبرة متخصصة في مجال تحليل السلوك حتى تتمكن من معرفة الأسباب الحقيقية للسلوك السلبى واتخاذ اللازم نحو القضاء على هذه الأسباب حتى يتحول إلى سلوك إيجابى. ومن هنا نجد أن السلوك الشرائى يعتبر من المفاهيم التسويقية الفعالة التي يجب استخدامها في مجال تسويق المؤسسات السياسية للقضاء على الإشاعات والنقد غير البناء سواء لنظام الحكم أو الأحزاب أو المؤسسات السياسية بصفة عامة.

6ـ المزايا التفضيلية التسويقية: من الآليات الرئيسية للوصول للمجموعات المستهدفة في سوق المؤسسات السياسية هو البحث عن ميزة تفضيلية تناسب هذه المجموعات، وأن هذه الميزة تمثل اهتمام هذه المجموعات ثم يتم التركيز عليها مثال ذلك جودة الخدمات أو الرسوم أو مكان تقديم الخدمة وهكذا. فالبحث عن المزايا التفضيلية التسويقية للمجموعات المستهدفة يمثل مفتاح الاقتراب والوصول إلى هذه المجموعات

7ـ تخطيط التكامل التسويقى: عناصر البرنامج التسويقى عبارة عن منظومة متكاملة من العناصر وبدون التكامل بين تلك العناصر لا يمكن تحقيق المنافع التي يسعى العميل إلى تحقيقها، فالتركيز على جودة الخدمات دون مراعاة المكان أو الرسوم أو الاتصال التسويقى بالمجموعات المستهدفة لا يحقق الهدف المطلوب. ومن ثم يصبح التكامل بين منظومة عناصر البرنامج التسويقى للمؤسسات أمرا حتميا. وبجانب التكامل التسويقى، فإنه يجب أن يتحقق أيضا التكامل التسويقى وغير التسويقى.

بمعنى التكامل بين الأنشطة التسويقية المختلفة التي تتضمنها منظومة عناصر البرنامج التسويقى وبين الأنشطة الأخرى غير التسويقية التي تمارسها تلك المؤسسات مثل التثقيف السياسي والثقافى، والنشاط الاجتماعى، وبدون تحقيق التكامل بين الأنشطة التسويقية وغير التسويقية يحدث خلل في أداء هذه المؤسسات. فالتسويق هو النشاط المحورى لباقى أنشطة المؤسسة السياسية كالحزب مثلا : فهو الذي يوجه جميع الأنشطة التي يمارسها الحزب حتى تتحقق الأهداف المنشودة التي يسعى الحزب إلى تحقيقها.

8ـ استمرارية المعلومات المرتدة: بدون معرفة رد فعل العميل يعتبر النشاط التسويقى غير فعال. فالتسويق الفعال يقضى بضرورة التعرف على رد فعل العميل عن الخدمات المقدمة من المؤسسة السياسية  وما هى أهم المشاكل التي تواجه من أجل وضع الحلول الفورية والسريعة لمواجهتها.

9ـ المراجعة التسويقية: التغيير ظاهرة طبيعية ومن ثم فهناك حاجة ماسة إلى إعادة النظر في الأهداف التسويقية والإستراتيجيات والسياسات التي توضع من قبل المؤسسات السياسية وإجراء التغيرات الضرورية في هذه المجالات السابقة على ضوء المستجدات والتحديات والتغيرات التي تحدث بين الحين والآخر. فالتغيير مطلوب في حالة وجود مبررات قوية ولكن التغيير من أجل التغيير يعتبر تبديد في الموارد والإمكانيات وفى النهاية فشل تلك المؤسسات في السير في الاتجاهات التي تحقق رسالتها وأهدافها.

ثالثاً: مكونات التسويق السياسي:

يمكن تحديد مكونات التسويق السياسي، في ضوء أهداف المسوق والإستراتجيات التي يتبعها، وتتمثل هذه المكونات في المنتج السياسي الذي يتم التعامل معه، والمؤسسات التي تقوم على ترويجه، وأماكن هذا الترويج، ووسائله، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي على النحو التالى :

1ـ المنتج السياسي:

يتمثل المنتج في التسويق السياسي في قيادة أو حزب أو سياسة أو فكرة أو أيديولوجية معينة. ويفضل أن يتم تسويق هذه المكونات ككل متكامل، فالفرد قد يختار قيادة على الرغم من عدم اقتناعه بالحزب الذي تنتمى إليه، وقد يتبنى فكرة أو سياسة معينة مع عدم اتفاقه مع مقدمها.. لذلك يكون من الأهمية ربط المؤسسة السياسية بالأفكار والقضايا المطروحة، وعدم التركيز على قضية واحدة وإنما عدد من القضايا المترابطة سياسيًّا، أو تأكيد أبعاد اجتماعية واقتصادية وثقافية لقضية سياسية. وفى هذا السياق يعد تأكيد الولاء للحزب أو القيادة إحدى الإستراتيجيات المهمة، التي يجب أخذها بعين الاعتبار في التسويق السياسي.

ويعبر المنتج السياسي عن سلوك المؤسسات السياسية وقيادتها وأعضاءها ومرشحيها ورموزها، ومؤتمراتها السياسية، ودستورها، وسياساتها. وهذا المنتج لا يقدم في وقت الانتخابات فقط، وإنما يعبر عن سياسة مستمرة لهذه المؤسسات. ويختلف المنتج السياسي عن السلع والخدمات في كونه يحمل قيماً ورموزاً ومعان ذات أبعاد اجتماعية وثقافية، ويختلف إدراك الأفراد له باختلاف تفسيرهم للقيم والمعاني التي يحملها. ولذلك يجب أن يتم تصميم المنتج السياسي، في ضوء السمات الشخصية والاعتبارية الاجتماعية والثقافية في كل مجتمع، فالسياسة عموماً، وسلوكيات المؤسسة السياسية المتضمنة في خطابها السياسي على وجه الخصوص، تسعي إلي تنظيم الوجود والبناء الاجتماعي في مجتمع معين وفقاً لاعتبارات اقتصادية، تسمح بالتغلب على الصراعات، وضرورة تخلي الأفراد عن بعض حقوقهم الشخصية لمصلحة النظام الاجتماعي.. فالأفراد في إدراكهم وتفسيرهم لمعاني المنتج السياسي إنما يبحثون عن هويتهم داخل المجتمع ؛ حيث يمكنهم المساهمة في هذا المجتمع من جانب، والحصول على قبولهم فيه كأفراد من جانب أخر، ولذلك تسعي المؤسسات والمؤسسات السياسية إلي تصميم منتجها السياسي في سياق البناء الاجتماعي الذي يضمن نمط حياة سليمة ونماذج متفق للعلاقات الاجتماعية. ويكون المنتج السياسي معبراً عن رؤية المؤسسة السياسي للمجتمع والدولة

وعلى مستوي التسويق السياسي، توجد عدة سمات للمنتج السياسي، وهي:

(أ) تعدد مكوناته: يتكون المنتج السياسي للمؤسسات السياسية من مجموعة من العناصر، وهي المرشح السياسي والحركة التي تنتسب إليها وفكرة أو أيديولوجية. فتسمية أو اختيار مرشحي المؤسسة يثير عدة قضايا منها كفاءتهم وقدراتهم الشخصية والمالية، وسجلهم وتاريخهم في العمل العام، وما يمكن أن يقدموه للمؤسسة والمجتمع، ودرجة استقلالهم في إطار الالتزام بالخط السياسي للمؤسسة. ويعد الغموض الذي يصل في بعض الأحيان إلي حد التناقض احدي السمات المميزة للمنتج السياسي.

ومن الإشكاليات المرتبطة بالتسويق السياسي في هذا الإطار عدم إمكانية فصل هذه المكونات عن بعضها البعض. ولذلك يجب على مخططي الحملات السياسية التركيز على الربط بين هذه المكونات مجتمعة في ضوء التكلفة والعائد السياسي لها، وكذلك التركيز على بناء صورة المؤسسة السياسية لدي المواطنين، وأنه إذا كان هناك تناقص في بعض مكونات المنتج السياسي، فهذا يعود إلي تباين رغبات ومطالب مكونات السوق السياسي ذاته.

(ب) درجة الولاء: تسعي المؤسسات السياسية إلي الوصول إلي تحقيق مستوي مرتفع من ولاء المواطنين لها على المدى البعيد. ويكون لدرجة الولاء للمؤسسة أو لمنتجه السياسي أهمية كبيرة في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية على المستوي الوطني، أما على المستوي المحلي.. فتقل هذه الأهمية إلي حد بعيد. وتتيح درجة الولاء للمؤسسة ومنتجها السياسي ديناميكية كبيرة لمخططي حملات التسويق السياسي في إمكانية تعديل السياسات، وما يطرحه المؤسسة من قضايا في الحملة، دون الخوف من تحول المواطنين.

(ج) القابلية للتغيير: من السمات المرتبطة بالمنتج السياسي أن المستهلك يمكنه أن يحول قراره بعد عملية الشراء؛ بمعني أن يتراجع في اقتناعه بالمنتج السياسي المقدم. فمصداقية المؤسسات التي تدخل في ائتلافات تكون موضع شك، وهذا قد ينسحب على العملية السياسية كلها. فتتعرض المؤسسة لاتهامات وانتقادات لعدم التزام المواطنين بمبادئها وما تطرحه من سياسات تمثل منتجها السياسي، وتكون المشكلة أكثر تعقيداً بالنسبة للمؤسسات، التي تحصل على دعم المواطنين بناء على برنامج معين، ثم تقوم بالانضمام لمؤسسات أخري أو تأييدها رغم تباين سياسة ومنتج كل منهم. هنا يفقد المؤسسة مصداقيته وسمعته بين المواطنين.

وفي هذا السياق، يجب على مخططي حملات التسويق السياسي أن يركزوا على تميز المنتج السياسي للمؤسسة، وعدم طرح قضية واحدة، وإنما عدد من القضايا التي تحقق درجة من الانسجام بين كل من المرشح والمؤسسة التي ينتمي إليها، ومضمون الخطاب السياسي والمنتج الذي يقدمه. وإذا اضطرت المؤسسة للدخول في ائتلافات، يتم التركيز على أن ذلك للمصلحة العامة ولهدف إستراتيجي، وأنه تم علي قاعدة الاتفاق على مجموعة من القضايا الصغيرة. ويتم التركيز على التزام المؤسسة بمبادئها والحفاظ على سجلها, وأن ما حدث هو تغيير على مستوى أسلوب المؤسسة وتكتيكات ممارساته, وليس على مستوى مبادئه وإستراتيجيته.

وبالنظر للقيادة السياسية كأحد مكونات المنتج السياسي، نجد أنها من أكثر ما يتم التسويق له ؛ خصوصاً في دول العالم الثالث. وللقيادة السياسية عدة صفات، يمكن لمخططي حملات التسويق السياسي الاستفادة منها في تسويق هذه القيادات. ومن أهم هذه الصفات الموضوعية والتي يمكن أن تقاس من خلال وصف القيادة بأنها عادلة وتتعامل مع الآخرين بمساواة، وأنها ليست سلطوية. أما الصفة الثانية فهي قدرة القيادة على تحقيق الإجماع ؛ حيث يوصف القائد بأنه على استعداد للوصول إلي حلول وسطي لتحقيق الإجماع الوطني، وأنه كذلك مستمع جيد، وتحمل شخصيته جوانب إنسانية وعاطفية.

وتتعلق الصفة الثالثة بالتزام القائد بتوجه عملي يظهر شخصية القائد الحاسمة، وعدم اتخاذه قرارات دون معلومات وافية، وتتعلق الصفة الرابعة بالمذهب البرجماتي أو العملي للقائد؛ حيث يكون عقلانياً ومنطقياً في قراراته وسلوكياته، ويتسم بالصبر والتسامح والقدرة على الاحتمال. أما الصفة الخامسة فهي الأمانة، وتتعلق بكون القائد شخصية يمكن الوثوق بها. وتتمثل الصفة السادسة في الاعتدال؛ حيث يكون متواضعاً أو يقترب من عامة الشعب، ولا يفضل الرسميات. أما الصفة السابعة فهي أن يكون ذا اتجاه إجرائي، حيث يتسم بالقدرة على التنسيق والتنظيم والتخطيط وذا رؤية إستراتيجية، ويتجنب الدخول في المخاطر.

وبجانب القيادة السياسية كأحد مكونات المنتج السياسي، تبرز القضايا السياسية، كأحد هذه المكونات، ففي السنوات الأخيرة بدأ الاهتمام بالقضايا السياسية الجدلية كأحد أهم مجالات البحث في التسويق السياسي. فهذه القضايا تجعل برامج التسويق السياسي لا تقتصر على فترات الانتخابات فقط، وإنما تستمر على مدار الوقت باستمرار النقاش والجدل المرتبط بها. وقد أدي ذلك إلي تغلب دراسات وبرامج التسويق السياسي على أحد أوجه القصور بها، وهو ارتباطها بالحملات الانتخابية فقط.

والنقطة الأساسية بالنسبة للمنتج السياسي من وجهة نظر التسويق السياسي، هي قدرة مخططي الحملات السياسية على تصميم هذا المنتج، في ضوء العوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية في بلد معين وفي زمن محدد. فهذا المنتج يجب أن يعبر عن اهتمامات واحتياجات المواطنين، وسيأتي توضيح ذلك تفصيلياً في الفصل القادم، في سياق التخطيط لحملات التسويق السياسي.

2ـ المؤسسة السياسية:

تعد المؤسسة السياسية أحد المكونات الأساسية في عملية التسويق السياسي، سواء كانت في السلطة أو خارجها.. فإذا كانت في السلطة تستخدم أساليب التسويق السياسي لإدارة سمعتها وتسويق تاريخها وإنجازاتها، وإذا كانت تسعى للوصول للسلطة.. تسوق لقدرتها على تلبية تطلعات المواطنين. وحتى وقت قريب كانت هناك تحفظات عديدة من قبل المؤسسات السياسية في الاعتماد على التسويق السياسي؛ بسبب وجود إدراك سلبى لمفهوم التسويق أو البيع في المجال السياسي والنظر إلى ذلك باعتباره نوعًا من الإقناع غير الأخلاقي. لذلك كانت هذه المؤسسات تعتمد على جهود الأعضاء والمتطوعين، قبل وأثناء الانتخابات، ولكن مع تطور تكنيكات التسويق السياسي وتزايد دور وسائل الاتصال، حدث تحول في رؤية تلك المؤسسات لما يمكن أن يقوم به التسويق السياسي في إقناع المواطنين يتبنى سياساتها وأفكارها؛ خصوصًا إذا تكامل ذلك مع الاعتماد على الأعضاء والمتطوعين.

وتأتي أهمية هذه المؤسسات من كونها أحد ملامح التطور السياسي في أي مجتمع، فهي التي يمكنها تنظيم مطالب المواطنين وضبطها، وإتاحة الفرصة لهم للتعبير عن أنفسهم ؛ ولذلك يعتبر تمايز البناءات السياسية وتخصصها الوظيفي أحد الفروق الأساسية بين النظم الأكثر تطوراً؛ والأقل تطوراً. وترتبط فعالية المؤسسات السياسية بطبيعة النظام السياسي، فالمؤسسات في النظام السلطوي تتسم بالجمود، وتسعي للاستجابة للنظام السياسي أكثر من سعيها للتعبير عن مطالب المواطنين.. أما النظام الديمقراطي فيسمح لهذه المؤسسات بمراقبة سياساته وسلوكياته، وتتسم المؤسسات فيه بالاستقلال على المستويين المركزي والمحلي.

وتتعدد خصائص المؤسسات السياسية، المرتبطة بالتسويق السياسي، ومن ذلك:

أ) القدرة على التكيف مع التغيرات البيئية:

أي تنظيم يجب أن يكتسب طابع الاستقلال حتى يتصف بالمؤسسية. وهذه الخاصية تتيح للمؤسسة التحرر من سلطة النظام أو أي فئة أخرى، ومن الخصائص المميزة للمؤسسة السياسية أيضاً التماسك، وعدم وجود صراعات وخلافات على قياداتها، وفقدان المؤسسة لهذه الصفات أو أي منها يحد من قدرتها على القيام بوظائفها في التعبير عن مطالب الجماهير وتجميع مصالحهم.

وتعد المؤسسات السياسية أهم المؤسسات من منظور التسويق السياسي.. فكل نظام ديمقراطي يسعى لوجود المؤسسات السياسية باعتبارها سمة أساسية له، ويتكون المؤسسة السياسي من مجموعة من الأفراد، الذين يلتفون حول مجموعة من المبادئ التي يلتزمون بها ويعملون على نشرها، وتكون للمؤسسة قيادة موحدة توجه وتنظم أنشطته وتسعي لتحقيق الإجماع، ويهدف المؤسسة السياسي إلي الوصول إلى السلطة، أو المشاركة فيها من خلال ائتلافه مع أحزاب أخري.

وعندما ظهر مفهوم التسويق السياسي في الولايات المتحدة، بدأت المؤسسات السياسية في الديمقراطيات الغربية في النظر لهذا المفهوم بنوع من القلق، باعتبار أنه يفرغ السياسية من مضمونها، ويتم التمييز في إطار قدرة المؤسسات السياسية على التكيف بين ثلاث مستويات, وهي:

(1) تفضيل المؤسسات الاحتفاظ بالطرق التقليدية: فالانتخابات من وجهة نظر المؤسسات تعد تعبيراً عن أحكام قيمية للناخبين ولا تعدو تكتيكات التسويق السياسي أن تكون عاملاً مساعداً وليس حاسماً في قرار الناخب بالتصويت لصالح حزب معين، وتعتبر المؤسسات أن التسويق السياسي يمثل تهديداً للتقاليد السياسية لها. ويعتبرون أن العمل المؤسسي نشأ وتطور عبر وسائل تقليدية أهمها نشاط اللجان المؤسسية والجلسات الحوارية على مستوي الدوائر المختلفة. ومن ثم كان هناك جدل وصراع بين الالتزام بالوسائل التقليدية في تسويق سياسات المؤسسات للناخبين، واستخدام التسويق السياسي الذي يقوم على الحرفية.

(2) الإدراك السلبي للتسويق: حيث تعود رؤية المؤسسات السلبية للتسويق إلي طبيعتها كمؤسسات سياسية لها تقاليدها وتاريخها، وتعتمد على نسبة العضوية فيها وعلى جهود المتطوعين. ولذلك كانت تنظر للتسويق السياسي على أنه غير أخلاقي؛ لأنه سيجعل السياسيين يركزون على قضايا فرعية على مدى قصير، ليس لأن هذه القضايا مهمة وإنما لأنها الأكثر شعبية؛ ومن ثم تظل القضايا الإستراتيجية والأكثر أهمية تحوز اهتمامات النخب السياسية فقط.

(3) الاعتماد على جهود المتطوعين: تعتمد المؤسسات السياسية بدرجة كبيرة على جهود المتطوعين مثلها في ذلك مثل عددي من المنظمات غير الربحية؛ وعادة ما يكون لدي المؤسسات فريق مخصص لتجنيد المتطوعين. وقد بدأ هذا الاتجاه ينحسر في الدول الغربية بوجه عام, وفي الولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص, وبدأت المؤسسات تتجه أكثر للتركيز على الاستشارات في التسويق لنفسها. وأصبح المتطوعون يعملون ضمن فريق الحملات السياسية وخصوصاً على المستويات المحلية, وفي المؤتمرات وجلسات النقاش التي تعقدها المؤسسات, ولذلك تسعي هذه المؤسسات إلي الحفاظ على ولاء المتطوعين لتدعيم شبكة الاتصال الشخصي, قبل وأثناء الانتخابات.

ب) مواقف وإستراتيجيات المؤسسات السياسية:

مع بروز التسويق السياسي الشامل، بدأت المؤسسات السياسية في تبني هذا المفهوم، وتطبيق تكتيكاته في حملاتها السياسية، لإقناعهم بأنه الإستراتيجية الأنسب للحصول على تأييد المواطنين والفوز في الانتخابات والوصول إلي الحكم، وهو هدفها الأساسي. وهنا ويجب على المؤسسات السياسية أن تدرك أهمية تحديد موقفها وموضعها في السوق السياسي في ضوء البيئة السياسية التنافسية، ووجود أكثر من لاعب سياسي يسعى للوصول للسلطة.

وتبرز عدة مواقف يمكن للمؤسسة أن تصنف نفسها في إحداها، وهذه المواقف:

(1) موقف اللاعب السياسي الرئيسي في السوق: المؤسسة أو اللاعب الرئيسي في السوق السياسي هو الذي يتمتع بالأغلبية، أو لديه الحصة الأكبر من هذا السوق. وعادة ما تتعرض هذا المؤسسة لهجوم مستمر من أطراف مختلفة وبإستراتيجيات متعددة، ويمكن لهذا المؤسسة إتباع عدة أساليب لاستمرار وضعها كلاعب رئيس في السوق السياسي، وهي: توسيع السوق الكلي أو زيادة حصتها في هذا السوق أو الدفاع عن حصتها الحالية. وقد يصعب عليها توسيع سوقها السياسي لصعوبة الحصول على مؤيدين جدد. ولكن يمكنها تحقيق ذلك من خلال جذب المواطنين المحتملين، وهنا عليها المواءمة بين الثبات والتطور. فالثبات يساعدها على الاحتفاظ بمؤيديها الأساسيين، والتطور يمكنها من اجتذاب مؤيدين جدد من فئة الشباب.

وتكون المؤسسة في موقف صعب في أغلب الأحيان؛ لأنها تتعامل مع سوق عريض له مطالب متنوعة ومتناقضة في بعض الأوقات، ولذلك تكون في حاجة إلي مراجعة مستمرة ؛ حتى تستطيع أن تحتفظ بموضعها في السوق السياسي، كما تحتاج إلي تطوير استراتيجية دفاعية لتدعيم صورتها الذهنية السياسية لدي المواطنين، ولتأكيد أنها ليست مجرد لاعب بين مجموعة من المتنافسين، وإنما تمثل حركة وطنية تعبر عن كل الفئات في السوق السياسي، وليس فئة أو قطاع واحد منه.

(2) موقف المعارض: الدور الأساس لموقف المؤسسة المعارضة هو إبعاد اللاعب الرئيسي من البيئة التنافسية, ولا يعني كون المؤسسة معارضاً رئيسياً أن يكون ترتيبها الثاني على مستوي الحصة التسويقية.. فقد يكون هناك أكثر من مؤسسة معارضة في الوقت نفسه، والسمة الأساسية للمؤسسة المعارضة أنها تمارس إستراتيجية نشطة؛ لكي تصبح اللاعب الرئيسي في السوق السياسي، وعادة ما تتبنى مدخلاً هجومياً في تعاملها من المنافسين السياسيين.

وتوجد عدة استراتيجيات هجومية، يمكن للمؤسسة المعارضة أن تتبعها: الأولي أن تهاجم المؤسسة الرئيسية مباشرة، وهي استراتيجية تحمل في طياتها فوائد ومكاسب, ولكنها تمثل درجة عالية من المخاطرة، والثانية أن تهاجم مؤسسات معارضة أخرى من مستواها نفسه، بهدف كسب حصتهم في السوق السياسي أو جزء منها، وتحمل هذه الإستراتيجيات في طياتها هجوماً غير مباشر على المؤسسة أو اللاعب الرئيسي.. أما الاستراتيجية الثالثة فهي مهاجمة مؤسسات أقل منها بهدف اجتذاب مؤيديها.

وإذا اختارت المؤسسة المعارضة الاستراتيجية الأولي، يجب أن تتوافر لها عدة شروط: أولها أن تكون له ميزة تنافسية تميزه عن اللاعب الرئيس، وثانيها أن تتمكن من تحييد الميزات التنافسية لحزب الأغلبية. وثالثها أن يكون لدي المؤسسة الرئيسية عدة مشكلات ونقاط ضعف تمنعها من الرد, وهذا يعني أن تقوم المؤسسة المعارضة بتحليل موقفها في السوق السياسي, في ضوء نقاط الضعف والقوة لها ولمنافسيها.

وإذا أدركت المؤسسة المعارضة أن تميز المؤسسة الرئيسية يكمن في تميز منتجها السياسي.. فإنها تلجأ لإستراتيجية تقليل الاختلافات بين سياستها وسياسة هذا المؤسسة, ثم تهاجمها في عدم قدرتها على تنفيذ هذه السياسات, وأن المؤسسة المعارضة نفسها هى البديل الأنسب.

(3) موقف التابع أو المقلد: عندما تكون فرص التمييز بين السلع محدودة وحساسية الطلب عليها للتغير في السعر مرتفعة, تلجأ بعض المنظمات التجارية إلي أسلوب التقليد أو تتبع خطي شركات أخرى. وبالمثل تتجنب بعض المؤسسات السياسية تحمل تكاليف تصميم المنتج السياسي, وبحوث السوق وتفضل تقليد ونسخ المنتجات السياسية لمنافسين آخرين في السوق السياسي. وتركز هذه المؤسسات على التقليد والمحاكاة بدلاً من التركيز على المدخل الإبداعي، ويتوقف نجاح هذه الإستراتيجية للمؤسسة التابعة على بقائها تابعاً للاعب الرئيسي. وعادة ما يتعرض هذا النمط من المؤسسات إلي هجوم مباشر من المؤسسات المعارضة الأخرى, ويحمل هذا الهجوم في طياته هجوماً غير مباشر على المؤسسة الرئيسية.

وتلجأ هذا المؤسسة إلي عدة إستراتيجيات, منها: استنساخ سياسات ومنتجات المؤسسة الرئيسية نفسها, أو إستراتيجية المحاكاة أو التقليد حيث تقوم بتقليد سياسات المؤسسة الحاكمة مع بعض الاختلافات البسيطة, أو إستراتيجية التبني, حيث تتبنى سياسات المؤسسة الرئيسية نفسها, ولكن تقوم بتسويقها لدي قطاعات مختلفة من المواطنين لتجنب المواجهة مع هذا المؤسسة. والمؤسسة التابعة لا تعلن عن نفسها أنها مقلدة أو تابعة, وإنما تفعل ذلك للحفاظ على مؤيديها التقليديين, ولا تسعى لتوسيع حصتها في السوق أو البحث عن مؤيدين جدد.

(4) موقف الأقلية: حيث توجد مؤسسات سياسية محدودة تعبر عن أفكار ورؤى مجموعات محددة في السوق السياسي. وعادة لا تتبنى هذه المؤسسات قضايا مهمة ذات بعد قومي. وهذا النمط من المؤسسات لا يسعى إلي الوصول للسلطة أو تشكيل الحكومة بمفردها, وإنما تسعى إلي المشاركة في هذه الحكومة أو تحقيق مصالح أعضائها من خلال تأييد ومساندة المؤسسة الرئيسية.

3ـ السوق السياسي:

يشير السوق السياسي إلى المواطنين أو الناخبين الذين تسعى المؤسسة أو القيادة إلى الحصول على تأييدهم. وقد يكون هذا التأييد ذا طبيعة أيديولوجية، أو أبعاد اجتماعية، أو شخصية. ويرتبط البعد الأول بانتماء المواطن بإيديولوجية أو فكر معين، يقوده إلى تأييد المؤسسة أو الحزب أو القيادة التي تحمل الفكر نفسه. أما البعد الثانى فيرجع إلى واقع اجتماعى معاش أو فائدة متوقعة أو علاقات قربى، ويتعلق البعد الثالث بعوامل شخصية، فالناخب قد يصوت لصالح مرشح معين ليس رغبة فيه، وإنما للحيلولة دون فوز مرشح آخر، وهو ما يعرف بالتصويت المضاد.

وتتوقف فاعلية حملات التسويق السياسي على دراسة السوق السياسي دراسة دقيقة؛ للوقوف على خصائص المواطنين ودوافعهم. ويعتمد التسويق السياسي اعتمادًا شبه كامل على استخدام البحوث الكيفية. فيتم دراسة الجمهور من خلال المقابلات المتعمقة أو أسلوب مناقشة الجماعات المركزة، أو دراسة المضامين الإعلامية من خلال تحليل الخطاب المقدم.

ويعد السوق السياسي مفهوماً جدلياً لتباين مكوناته، ولأنه يثير عدداً من القضايا المهمة مثل طبيعة وخصائص هذا السوق واختلافه عن المفهوم المتعارف عليه، ومدى إمكانية التعامل معه على أنه كل متكامل، والى أى مدى يمكن تجزئته وما العوامل التي تحكم هذه التجزئة؟ وهل تتوقف ديناميكية هذا السوق على عملية التبادلية بين السوق والناخب، أم تتعداه إلى بناء علاقات استراتيجية طويلة المدى؟

وثمة تشابه بين السوق السياسي وسوق الخدمات، فكلاهما يتعامل مع منتجات غير ملموسة. فالناخب أو متلقي الخدمة لا يشاهد ما يريد شراءه، وإنما يتعامل مع القيم والرموز والمعاني التي لا تشبعها هذه المنتجات من وجهة نظره، وعادة ما تكون لديه درجات عالية من حالة عدم التيقن إزاء ما يقدم له، لذلك يلجا إلى البحث عن المعلومات من مصادر متعددة لتقليل هذه الحالة.

ولذلك تلجأ المؤسسات السياسية إلى عدد من الاستراتجيات والتكتيكات والوسائل لتقليل حالة عدم التيقن لدى المستهلك السياسي وإقناعه بمنتجها السياسي، ولضمان ثقته ورضائه. ومن هذه الوسائل وسائل الاتصال الجماهيري، التي يستخدمها الحزب لتقديم رؤيته للقضايا السياسية والاقتصادية ذات البعد القومي، ووسائل الاتصال الشخصي من لقائات ومؤتمرات وحلقات نقاش، والتي تعد مهمة للجمهور الباحث عن المعلومات .ولعل ذالك يشير إلى أهميه وجود مركز اتصال دائم للحزب السياسي، تتوافر فيه تقنيات الاتصال الحديثة لتوفير المعلومات والبيانات عن برنامج الحزب وتوجيهاته، وما يمكنه القيام به إذا وصل إلى السلطة.

إذا كان هناك تشابه بين السوق السياسي وسوق الخدمات، فان ثمة خصائص تميز السوق السياسي عن غيره، ومن أهم هذه  السمات:

ا) البعد الأيديولوجى:

ينظر للانتخابات في المجتمعات الديموقراطية على أنها سمه من سمات المجتمع المدني، الذي يقوم أعضاءه بالتعبير عن معتقداتهم وأفكارهم، من خلال إدلائهم بصوتهم في هذه الانتخابات لمن يرون أنه يحمل معتقدات وأفكارا مماثلة، وإذا كانت الدراسات الحديثة في التسويق السياسي تشير إلى انحسار البعد الأيديولوجى كعامل مهم في قرار الناخب. فإن نتائج الانتخابات في كثير من الديموقراطيات الغربية لازالت تؤكد أهميه الانتماء الحزبي في هذا القرار. وقد يختلف هذا الوضع بالنسبة للديموقراطيات الناشئة، التي لازالت حديثة العهد بالانتخابات مثل دول أوروبا الشرقية، أو الديموقراطيات المقيدة مثل السائدة في عديد من دول العالم الثالث التي ينظر للانتخابات فيها على أنها ممارسه شكليه، أكثر منها تعبيرا عن ممارسه ديموقراطية حقيقية .

ففي هذه الديمقراطيات تفوق أهميه حق تصويت للناخب في كثير من الأحيان مسالة رضائه أو عدم رضائه عن العملية السياسية ومخرجاتها، فالمؤسسات التنفيذية في هذه الدول تتدخل في العمليات الانتخابية وتؤثر في نتائجها، ومن ثم تفرغ عمليه التسويق السياسي في هذه الدول، والتزامها باحترام العملية الانتخابية. يكون للبعد الأيديولوجى دور مهم في قرار المستهلك السياسي. ومن ثم على المسوق السياسي أن يتعامل مع الناخبين والجماعات الأخرى في المجتمع في ضوء الأفكار، التي يحملونها والانتماءات التي يعبرون عنها.

(ب) البعد الاجتماعي والثقافي:

يظهر البعد الاجتماعي والثقافي في السلوك السياسي للناخب، فالإدلاء بالصوت في الانتخابات لا يعبر فقط عن دعم وتأييد لمرشح أو حزب في مقابل إشباع حاجات أو رغبات أو وعود، وإنما يعبر بدرجة أكبر عن قيم ورموز ومعان ذات دلالة اجتماعيه وثقافية. فإذا كانت اهتمامات الناخب الشخصية والظروف المعيشية عوامل مهمة في قرار الناخب. فإن الانتماءات الاجتماعية والثقافات الفرعية تبدو أكثر أهمية في وقت الانتخابات وهذا يمثل تحديا لمخططي حملات التسويق السياسي، ويحتوى إليهم تحليل ودراسة البنائات الاجتماعية والأطر الثقافية التي تؤثر في قرار الناخب.

(ج) المستهلك المضاد:

ترتبط هذه السمة بالسوق السياسي دون غيره .. فقد أشارت دراسات عديدة إلى أن الناخبين قد لا يهتمون بدعم مرشحهم أو حزبهم المفضل للفوز بالانتخابات بقدر اهتمامهم بمنع مرشح آخر من الفوز، فدافع الناخب للتصويت يكون لمنع نتيجة معينه للانتخابات. وعادة ما تستفيد أحزاب الأقلية من هذه السمة على حساب أحزاب الأغلبية. وهنا يجب على مخططي الحملات السياسية ألا يغفلوا الناخبين المؤيدين أو ذوى الولاء للحزب، ويكون هناك قنوات للاتصال المستمر لتأكيد دعمهم وولائهم، ولضمان عدم تحولهم إلى فئة المستهلك المضاد.

(د) الصور الذهنية والسمعة :

تعد دراسات الصورة الذهنية والسمعة أحد الاتجاهات الحديثة في دراسة السوق السياسي .. فبعد أن كان التركيز منصبا على دراسة عوامل مثل الانتماء الحزبي، وإدراك ومتابعه القضايا السياسية المثارة، وتقييم المستهلك السياسي للقيادات الحزبية والسياسية ..اتجه الاهتمام في السنوات القليلة الماضية إلى دراسة الصورة الذهنية للمؤسسة السياسية وقيادتها كأحد العوامل المهمة في بناء الثقة بين هذه المؤسسة والناخبين. وثمة تأكيد على أن بناء الصورة الذهنية للحزب السياسي يعد أحد مرتكزات بقائه واستمارته كلاعب سياسي وأساسى. ويثير ذلك قضيه العلاقة بين المؤسسات السياسية ووسائل الإعلام، فتعامل هذه المؤسسات مع وسائل الإعلام لا يجب أن يكون أساسه كونها وسائل نشر فقط، وإنما كأحد عناصر السوق السياسي المهمة.

ولا تقل إدارة سمعه المؤسسة السياسية أهمية عن بناء الصورة الذهنية لها، فسمعة المؤسسة ترتبط بادراك المستهلك السياسي لأدائها ومصداقيتها في تنفيذ وعودها ويمثل فقدان المؤسسة لسمعتها ومصداقيتها في السوق السياسي أزمة سياسية لها تتطلب إعادة بناء تنظيماته، وإعادة صياغة سياسته وإستراتجيته.

وفى إطار هذه الخصائص للسوق السياسي، يجب على مخططي الحملات السياسية القيام ببحوث كيفية وكمية لتعرف الخصائص، ففهم القيم والاتجاهات السائدة في إطار سوق متقلب، وتؤثر فيه أبعاد أيديولوجية واجتماعيه، يعد أمرا مهما في تصميم المنتج السياسي وتطوير أداء سياسي يحظى بمصداقية الناخب، وتجنب ظاهره المستهلك المضاد.

ويرتبط بمفهوم السوق السياسي مفهوم “تجزئه السوق”، وهو من المفاهيم الأساسية في سلوك المستهلك والتسويق بشكل عام، ويفترض أن المؤسسة أو الشركة تقوم بتقسيم أو تجزئه السوق الكلى الذي تتوجه إليه إلى مجموعه من القطاعات أو الأسواق يكون كل منهما منسجما ومتجانسا. ويقوم هذا المفهوم على مبادئ أساسية، وهى أن المستهلكين مختلفين في احتياجيهم ورغباتهم، وان هذا الاختلاف يؤثر في نوعيه الطلب، وأن قطاعات السوق يمكن عزلها في سياق السوق الكلى.

وتتبنى المؤسسات السياسية إستراتيجية تجزئه السوق السياسي لإدراكها لاختلافات اجتماعيه وثقافية لفئات المجتمع، ولتفعيل حملاتها السياسية. وقد أدى انحصار التوجه الأيديولوجى للمستهلك السياسي وتقلب ولائه، وانخفاض مستوى العلاقة بين المواطنين والمؤسسات السياسية إلى اتجاه هذه المؤسسات إلى استخدام تكتيكات الاتصال واستراتجيات التسويق في التعامل مع السوق السياسي، وإظهار تميز المؤسسة مقارنة بغيرها من المؤسسات المنافسة. وتحولت استراتيجيه المؤسسات من أسلوب مقارنة بغيرها من المؤسسات المنافسة. وتحولت استراتيجيه المؤسسات من أسلوب مخاطبة السوق الكلى إلى أسلوب السوق المجزأ، والذي يراعى تعدد احتياجات واتجاهات المستهلكين السياسيين.

ويوجد مدخلان لتجزئه السوق: الأول يرى أن التجزئة تم من قبل جميع البيانات وتحليل نتائج بحوث السوق، ويعتمد هذا المدخل على البيانات والمعلومات الأساسية المتوفرة في المراكز الإحصائية، ويقسم السوق وفقا للأسس الديموغرافيه والجغرافية والمكانة الاجتماعية الاقتصادية. أما المدخل الثاني، فيقسم السوق بعد القيام بالبحوث التسويقية، ويستخدم تكتيكات احصائيه مثل الأسلوب العنقودي لوضع المستهلكين في مجموعات متجانسة فيما بينها. ويتم تجزئه السوق وفقا للأسس الثقافية المرتبطة بالعادات والتقاليد والاتجاهات ونمط الحياة والانخراط في العملية السياسية، وعلاقة ذلك بالتأثير في سلوك المواطنين.

ومن بين العوامل التي يتم استخدامها فهم سلوك المستهلك السياسي ودوافعه: مستوى المعرفة، ودرجه الانخراط في العمل السياسي. ويعود مستوى المعرفة إلى البناء المعرفي للفرد والطريقة التي يفكر بها، والاتجاهات التي يحملها تجاه القضايا والقيادات السياسية وقضايا السياسة العامة. ولا يتوقف مستوى المعرفة على المعلومات التي لدى الفرد فقط، وإنما يتعداها إلى الطريقة التي يتعامل بها الفرد أو المستهلك السياسي مع هذه المعلومات بدرجة أكبر من الدقة وبجهد أقل. ولذلك يرتبط مستوى معرفه المستهلك السياسي، بالمهارات الموجودة لديه في تحليل وتقييم المعلومات التي يتلقاها ومقارنتها بما لديه من مخزون فكرى وخبرات سابقة. أما مستوى الانخراط في العمل السياسي.. فيرتبط بدوافع الفرد للاستجابة والمشاركة في العملية السياسية. ويعود ذلك إلى الدرجة التي يدرك فيها المستهلك السياسي أن انخراطه في العملية السياسية يحقق له اشباعات ومصالح، على المستوى الشخصي أو الاجتماعي أو الثقافي.

وبناء على هذا العاملين، يمكن تقسيم السوق السياسي إلى أربعه أنواع، الأول: المستهلك الفاعل أو النشط، وهو الذي يكون لديه مستوى مرتفع من المعرفة وانخراط في العمل السياسي. والثاني، المستهلك الضمني أو القابل الاستشارة، وهو الذي تكون لديه درجه منخفضة من المعرفة السياسية والمهارات في التعامل مع المعلومات، ولكنه مشارك ومنخرط في العمل والمؤسسة السياسي، والثالث: المستهلك الواعي أو المدرك وهو الذي تكون لديه درجه مرتفعه من الوعي والمعرفة بالعملية السياسية وقواعد اللعبة السياسية ولكنه غير منخرط فيها، أما الرابع فهو المستهلك السلبي أو غير النشط، ويكون لديه مستوى منخفض من كلا من المعرفة السياسية والانخراط في العمل السياسي. ولكل نوع من هذه الأسواق استراتجيه وتكتيك اتصالي في التعامل معه.

وهذه العوامل تتداخل مع مجموعه من العوامل الأخرى، مثل : إدراك الناخب للمخاطر التي تترتب على الإدلاء بصوته لصالح حزب أو مرشح معين، وقيادته للرأى، والبحث عن المعلومات، ودرجه ثقته في صحة رأيه، ومدى رضائه عن العملية السياسية، ومدى ثبات سلوكه السياسي وقراره التصويتى.

وتؤثر درجه انخراط الفرد في العلمية السياسية ايجابيا في معرفته بالقضايا السياسية من جانب، وفى بحثه عن المعلومات من جانب آخر.. فالفرد الذي ينتمي إلى حزب معين أو ينشط في العمل السياسي يسعى لأن يكون قائدا للرأى ومصدرا مهما للمعلومات. كما أن ارتفاع مستوى المعرفة السياسية للأفراد يزيد من ثقتهم في قرارهم التصويتى، ومن كونهم قادة رأى في العملية الانتخابية. وإذا كانت العملية السياسية ترتبط بدرجه من المخاطرة. فإن الفرد في سعيه لتقيل هذه الدرجة وتقليل حاله عدم التيقن لديه، يحاول البحث عن المعلومات التي تساعده في تحقيق ذلك.

كذلك برز اتجاه جديد في التسويق السياسي، يركز على نماذج متعددة للأسواق السياسية. ويتبنى هذا المدخل أهمية بناء علاقات استراتيجيه مع المجموعات المختلفة في هذه الأسواق، باعتبار أن ذلك يتيح للمؤسسات والكيانات السياسية إطارا مفاهيميا للكيفية التي تستطيع من خلاله التسويق لنفسها، ويمكن مخططي حملات التسويق السياسي من وضع خريطة للسوق السياسي الكلى. وكان هذا الاتجاه بمثابة تحول من تركيز التسويق على عمليه المبادلة للاهتمامات والمصالح بين الكيانات السياسية والسوق السياسي إلى بناء علاقات استراتيجيه بينهما، وقد ساعد في بروز هذا الاتجاه الانتقادات، التي وجهت لنماذج سلوك المستهلك، ومدى إمكانية تطبيقها في التسويق السياسي.

فقد ركزت هذه النماذج على اعتبار أن المواطن عقلاني، يقوم بتقييم قراره السياسي في ضوء التكلفة والعائد السياسي، وان التركيز يجب أن يكون على إقناع المواطن بالفوائد التي يحصل عليها مقابل الحصول على دعمه وتأييده من خلال عمليه التبادل. وذلك الاتجاه يغفل عوامل ثقافية ومجتمعيه، ترتبط باختلاف المنتج السياسي عن التجاري. فإذا كانت عملية المبادلة تلك تقوم على إقناع المواطنين بالفوائد التي تعود عليهم.. فإنهم يقومون بتفسير الرسائل الاتصالية السياسية بطريقه متباينة ووفقا لاهتماميهم، كما أنهم في الوقت ذاته يتعرضون لرسائل أخرى من نافسين آخرين في البيئة السياسية. وقد أدى ذلك إلى ضرورة وجود مدخل جديد لدراسة السوق المالى، يركز على بناء الصورة الذهنية، وتطوير علاقات مع المجموعات المختلفة في هذا السوق على المدى الطويل، ويأخذ بعين الاعتبار التباين والتنوع في مكوناته، ويقدم وصفا مقنعا لما يحدث فيه.

وفى هذا السياق يبرز نموذج لمكونات السوق السياسي، وكيفيه تعامل المؤسسات السياسية مع هذه المكونات استراتيجيا لبناء درجة من الولاء تمتد لفترة طويلة. ويقسم هذا النموذج السوق السياسي إلى أقسام داخلية، يمكن للمؤسسة السياسية السيطرة عليها، وأسواق خارجية يصعب السيطرة عليها، مثل : جماعات المصالح والضغط والاتحادات العمال والجماعات المؤثرة في المجتمع، وأسواق تكون للمؤسسة السياسية أو المؤسسة السيطرة عليها، وللجماعات الأخرى في المجتمع الجزء الأخر، ومنها سوق المواطنين ووسائل الإعلام:

(أ) السوق الداخلي: ويقصد به أعضاء المؤسسة وممثليها. وعلى الرغم من أن السوق يندرج في إطار الأسواق التي يمكن للمؤسسة السيطرة عليها، إلا أنه يمثل إشكاليه لقيادتها. فالمؤسسة لا تتبع نمطا إداريا تقليديا، ويتصف أعضاؤها بدرجه من الاستقلالية، ويمكن أن يحدث تعارضا بين سياسات وتوجهات مؤسسة سياسية وتوجهات وممارسات ممثليها. كما أن شرعيه المؤسسة وقيادته تتوقف بدرجه كبيرة على نمط الإدارة فيها. ويكون التوجه الذي يواجه المؤسسة السياسي، هو الحفاظ على وحدتها وضمان صدور رسالة موحدة أو على الأقل غير متناقضة عنها.

(ب) المواطنون: تتعامل المؤسسة السياسية مع مجموعه متنوعة من المواطنين لكل منها احتياجها ومطالبها. ويعد هذا السوق من الأسواق التي لا يمكن تحقيق السيطرة الكاملة عليها.. فهناك كيانات ومؤسسات أخرى، تسعى للتأثير في نفس المواطنين وضمان دعمهم. وتتوقف العلاقة بين المؤسسة والمواطنين على معدل مشاركتهم السياسية. ولذلك يتضمن هذا السوق نشاط المؤسسة وأعضائه، الذين عاده ما تكون مشاركتهم السياسية مرتفعه. ويحتاج المؤسسة في هذا الإطار إلى تطوير استراتيجيه، تركز على تباين وتنوع المجموعات الناخبة، وتستخدم تكتيكات الاتصال المباشر الذي يضفى الشخصية والأهمية على الإرسال الاتصالية.

(ج) وسائل الإعلام: تعد وسائل الإعلام من الأسواق التي لا تخضع لسيطرة المؤسسة كليا في الديموقراطيات الغربية. ولكن من خلال بناء علاقات جيده مع هذه الوسائل، يمكن التأثير في أجنداتها وقوالبها بما يتناسب مع الخط العام للمؤسسة وسياسته. وعلى الرغم من صعوبة تأكيد أن وسائل الإعلام هي المؤثر الرئيسي في قرار المواطن السياسي.. إلا انه يمكن القول أن لهذه الوسائل دورا مهما في هذا القرار، من خلال ما تقدمه من معلومات سياسية.

وتعتمد العلاقة بين المؤسسات السياسية ووسائل الإعلام على المصلحة المتبادلة، فإذا كانت هذه الوسائل تفيد المؤسسات في عرض منتجها السياسي. فإن القيادات السياسية لهذه المؤسسات تمثل أحد المصادر الأساسية لمادة الرأى فيها، ولذلك يجب أن تسعى المؤسسات السياسية لبناء علاقات استراتيجيه مع وسائل الإعلام/ تقوم على الثقة المتبادلة، واستجابة كل طرف وفهمه للطرف الأخر.

(د) اتحادا ت العمال ورجال الأعمال: تعتبر اتحادات العمال ورجال الأعمال من الأسواق المهمة في عمليه الاتصال السياسي.. فمن جانب يمثل كل منهما شبكه اتصال في حد ذاته لها قنواتها وتكتيكاتها، ومن جانب آخر يمثلان ضرورة وأهميه للسياسيين، الذين يسعون إلى تسويق منتجهم السياسي.

ويتطلب بناء علاقات استراتيجية مع هذا السوق إتباع استراتيجيه الحوار بن الطرفين، تقوم على ضرورة وجود اتصال متوازن في اتجاههم لخلق درجه من الثقة والتفاهم والوصول للحلول التي يمكن أن تواجههم. فاتحادات العمال ورجال الأعمال لديهم القدرة على إدارة علاقات جيده مع وسائل الأعلام لتحقيق أهدافهم، وتستعين بهم هذه الوسائل في التعليق والتعقيب على الأحداث الجارية وسلوكيات الأحداث الجارية وسلوكيات المؤسسات السياسية.

وتأتى أهميه هذه الأسواق في أن أى منتج سياسي جديد، يمكن أن يلقى قبولا أو رفضا بناءا على تاثيرهما على المواطنين ناهيك عن تأثيرهم المباشر على الأعضاء المنتسبين لهم. وإذا كانت اتحادات العمال ورجال الأعمال يمثلون مصالح واهتمامات متباينة، فان استرضاء أحدهما قد يؤثر سلبيا على العلاقة مع الأخر. ولذلك تحتاج إدارة العلاقة مع الجماهير إلى مستوى جيد من المهارة في إدارة الاتصال والحوار، وعقد لقاءات دوريه مع قيادتهم.

(هـ) جماعات الضغط: تحاول جماعات الضغط، والحركات السياسية وجماعات المجتمع المدني التأثير في قضايا السياسة العامة، وفي القرارات السياسية بطرق متعددة، منها: المباشرة (عبر التأثير في الحكومات المركزية والمحلية وعبر اتحادات العمال) وغير المباشرة (من خلال التأثير في أجندة وسائل الإعلام، والتي تؤثر بدورها على المواطنين) وتدرك جماعات الضغط أهمية وقيمة علاقاتها مع وسائل الإعلام في مساعدتها في طرح أجندتها للتأثير في الحكومة والدفع باتجاه التغيير ؛ ولذلك تسعي المؤسسات السياسي إلي بناء علاقات متوازنة مع هذه الجماعات ؛ لتحقيق مصالحها بما لا يتناقض مع سياسة هذه المؤسسات، أو إلي احتوائها في التنظيم المؤسسي بطريقة غير مباشرة، من خلال تبني المؤسسة لبعض أجنداتها؛ خصوصاً وأن هذه الجماعات لا تسعي للوصول للسلطة.

(و) الجماعات المؤثرة: توجد في المجتمع مجموعات مؤثرة لها اهتماماتها ومصالحها مثل الجماعات ذات البعد الديني، أو الإثني، وهذه الجماعات لها قيادتها التي تمثل بعض قيادات الرأي في المجتمع، ويكون لهذه الجماعات تأثير كبير على المواطنين، وعلى وجه الخصوص الذين يتأخرون في اتخاذ قراراهم، أو غير المهتمين بالعملية السياسية. وتتعرض هذه الجماعات لرسائل اتصالية متعددة بتعدد المنافسين واللاعبين السياسيين. ومن ثم يجب على المؤسسات السياسية أن تحدد أهم هذه الجماعات، وتتعرف اهتماماتها ودوافعها للمشاركة السياسية، وأخذ ذلك بعين الاعتبار في تصميم برامجها السياسية وحملاتها الاتصالية.

رابعاً: وسائل الاتصال:

تمثل وسائل الإعلام المصدر الأساسي للمعلومات السياسية. بل وتقدم للفرد المهارات التي تمكنه من التعامل مع هذه المعلومات وتقييمها. فلم يعد دور هذه الوسائل يتوقف على طرح القضايا التي يفكر حولها الأفراد, وإنما تقدم لهم الطرق والأساليب التي تعلمهم كيفية التفكير حول هذه القضايا ولذلك تعد وسائل الإعلام القنوات الأساسية التي تتم من خلالها حملات التسويق السياسي.

ونظراً لأن التسويق السياسي محدد بأهداف مقصودة وغايات مرسومة, فالسياسي يتحدث إلى الجمهور من خلال وسائل الإعلام لغرض إيصال رسالة محدودة المقاصد إلى الجمهور, والإعلامي الذي يراقب أعمال الحكومة وأساليب ممارسة السلطة, وكذلك الأفراد الذين يشاركون في العملية السياسية من خلال وسائل الإعلام من أجل التعبير عن آرائهم اتجاه قضاياهم. وأن تدفق المعلومات من وسائل الإعلام إلى قادة الرأي في المجتمع هي الوسيلة المثلى للاتصال السياسي, وينقلون تلك المعلومات التي تبثها وسائل الإعلام بطريقة التحليل والتفسير للجمهور وتقديم وجهات نظرهم المختلفة لتلك المعلومات والرسائل الإعلامية.

وفي الأزمات السياسية والاقتصادية والعسكرية التي تمر بها المجتمعات تلجأ النخب السياسية إلى التعامل المكثف مع وسائل الإعلام لإبراز وجهات نظرهم وأرائهم للتأثير على الرأي العام, وقد تكون تلك النخب تمثل المعارضة أو الحكومة. وهنا يكون دور الوسيلة حيث تنقل وجهات النظر السياسية المختلفة، وفي تلك الأزمات يتم اللجوء إلى وسائل الإعلام كمصدر أساسي لاستقاء المعلومات حول تلك الأحداث والأزمات وهذه الأحداث تعطي فرصة التنافس الإعلامي في تقديم المعلومات والأخبار التي ترقى إلى مستوى الحدث, وقد يطلق اصطلاح الإعلام السياسي في تلك الأزمات ” إعلام الأزمات السياسية” وهنا يكون الاتصال السياسي حقق هدفه الأساسي من خلال إيصال رسالته المقصودة إلى الجمهور.

ومن هنا يمكن القول أن الإعلام هو الوسيط الرئيسي في عملية الاتصال السياسي ويساهم في صياغة وتشكيل الحقيقة السياسية في المجتمعات الديمقراطية التي تمنح وسائل الإعلام حرية التعبير عن القضايا التي تشغل جماهير المجتمع، وتعتبر وسائل الإعلام مرآة المجتمع العاكسة لأهم القضايا التي تثير الساسة وصناع القرار. ولوسائل الإعلام قدرة في ترتيب أوليات الجماهير، فهناك نوعين من الجمهور يتناولهم الإعلام السياسي في طرح القضايا السياسية والآراء، الأول: “جمهور نخبوي” تتأثر به وبطبيعة القضايا المهمة التي تشغله، والثاني “جمهور عام” يسهل التأثير عليه. وأغلب أفراده ليست لها ولاءات سياسية وغير مهتمة بمواضيع السياسة ولا بالمشاركة السياسية.

ويميز البعض بين نمطين من وسائل الإعلام نمط “إعلام حر ومستقل” وهذا الإعلام أكثر حرية في تسليط الأضواء على المشاكل السياسية والاقتصادية والأمنية التي تهم كل الجماهير ويواجه نقد من قبل الجمهور إذا أهملت قضاياه المهمة في المجتمع. ونمط آخر “إعلام مملوك” وهو ما يسمى بالإعلام الرسمي في المجتمعات النامية وهو يعتمد على جمهور النخبة ويتجاهل أرادة الجماهير على الرغم من وعي أفراد المجتمع بالنشاط السياسي، حيث تضيق الحريات في تلك المجتمعات رغم معرفتهم بالأمور والأحداث، إلا أن حرية التعبير مفقودة والنقد ممنوع رغم ما يشهده العالم من ثورة الاتصالات والتكنولوجية التي تجاوزت سياسات الاحتكار. [1].


[1] الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.

الوسوم

د. مجدي عبد الجواد

باحث وإعلامي مصري، كلية الإعلام جامعة القاهرة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى