الشرق الأوسطقلم وميدان

السياسي العربي بين الثورة وفن الممكن

شاع لدى عموم المشتغلين بالسياسة والإعلام في عالمنا العربي تعريف السياسة على أنها “فن الممكن”، من بين تعريفات أشمل وأرجح وأكثر تعبيراً عنها. هذه التعريفات تجعل من السياسة مجالاً حيوياً خلاقاً، تتحقق من خلالها المصالح، وتُبنى القدرات، وعلاقات القوة، وامتدادات النفوذ، وتصنع المكانة. من أجل منافسة سياسية فعالة للأفراد والأحزاب والدول. تلك التعريفات الراجحة انحسرت في ضفاف الكتب وعقول الخبراء المهمشين، لحساب شيوع ثقافة “فن الممكن” ونتاجها.

وأزمة التعريف ليست أزمة منهج ولكنها أزمة انتقاء واستهلاك محلى عربي. حيث تزخر العلوم السياسية بالمفاهيم والتعريفات الإيجابية المعبرة عن مكوناتها. ولكن المعارف والمفاهيم الخاطئة تجد رواجاً في عالمنا العربي خاصة مع البيئات السياسية المغلقة بفعل السلطة، أو المنغلقة ذاتياً بفعل ممارسة الجماعات السياسية. حيث يسهم المفهوم المرجوح للسياسة في تكريس استبداد السلطة، والانبطاح والتبعية في الداخل والخارج.

والبيئات الإعلامية السائلة عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي تنشط فيها المفاهيم الخاطئة. وقد برزت ظاهرة تداول المنشورات غير المنضبطة بضابط يحقق المعلومة ويسند المعارف إلى مصادرها. حتى اختل التمييز فيها بين ما هو معلومات وبيانات، وما هو تحليلات وآراء، وبين ما هو ثرثرة اجتماعية وانطباعات شخصية. ويزيد الالتباس والخلل إذا صدرت الرسالة الخاطئة عن منصات رأى معتبرة، وأقلام وتصريحات نخب ذات ثقل.

والأزمة الكبيرة في تعريف السياسة على أنها فن الممكن هي أنها تصنع نخبة سياسية ذات صفات معينة. حيث تصنع للسياسي إطاراً للحركة لا يتجاوز وسقفاً لا يعلى. الأمر الذي ينتقص من فاعليته وإنتاجه وطموحه وإرادته، لحساب المتحكمين الألد في السياسة والسلطة والثروة. ويجعل منه كائناً داجناً يتشكل وفق أطر اللعبة السياسية. فلا يتحرك وفق رؤية ذاتية حرة نابعة من ضميره الوطني لينشئ واقعاً مختلفاً خارج الإطار المرسوم. حتى نشأت من السياسيين أجيالاً وهلكت، دون أن يغيروا شيئاً من الواقع السياسي.

وتتضح أزمة التعريف الأضعف، حين يتصدر السياسي موقع التكليف لينجز أهدافاً محددة، فيأتي “فن الممكن” يمنحه غطاءً للإخفاق مرة بعد مرة. فلا يحاسب كمكلف بعد حصوله على صك “فن الممكن”. الأمر الذي يفسر لنا جانباً من ظاهرة الرضا عن الحكام المعمرين، والنخب السياسية طويلة الأمد. ذلك لأنهم دائما معذورون سلفاً باحتمال أخف الضررين أو تحقيق أدنى المصلحتين. وكأن دفع الضرر الكبير ليس من واجبهم، وتحقيق المصلحة الأرجح منوطة بغيرهم.

وتعريفات السياسة كثيرة ومتنوعة من حيث كونها علم وكونها فن، وقدرة، وعقيدة الخ، حيث لا تعرف العلوم الإنسانية كلمة النهاية.. ولكن المقال يتعرض للتمييز بين مضمون ومكونات التعريفات الأهم في مجال السياسة. فمن تلك التعريفات لجورج كاتلون “أن السياسة هي مجموعة علاقات القوة”. ويرى “لاسويل” أن “علم السياسة يشمل النفوذ والقدرة بأقسامها، وأن كل عمل يُنفذ من خلال القوة”. بينما تعريف السياسة بفن الممكن يرجع إلى الرئيس الأمريكي الأسبق “ليندون جونسون”.

وهذا التعريف قد يكون مقبولا للسياسة في مقابل “فن الخيال أو المستحيل” الأمر الذي ام يرد في الكتب. أو قد يكون معبراً عن “رفاهية السياسة” لدولة بلغت من القوة والمكانة ما يجعلها تكسب في كل الأحوال، أو أن خسارتها غير مؤثرة، كدولة صاحب التعريف أميركا. رغم أن الدول القوية وصلت لمكانتها عبر مفاهيم القدرة والقوة والنفوذ، بل وأكثرها وصل عبر ممارسة الاحتلال والنهب والهيمنة. أما الدول التي تناضل من أجل البقاء والمكانة فإن “فن الممكن” يخصم من طموحها في امتلاك قدرات وأدوات تحمى وتبنى مكانتها ومستقبلها.

ومن دلالات الكلمات الواردة في التعريفات ندرك فجوة الفهم والتطبيق التي يرصدها المقال. فالبون كبير بين الممكن، والقدرة والقوة والنفوذ. والكلمات على بساطة تركيبها من حروف قليلة، تحمل دلالات ورموز وصور، تترسخ في العقول مع الزمن معرفة وثقافة، وتستدعيها عند سماعها، فتعمل عملها في الفكر والسلوك والوجدان. وكلمة “الممكن” في بيئتنا العربية، هي أقرب لمعان سلبية في مقابل الكلمات الأخرى والتي تجعل من السياسة كما أسلفنا مجالاً حيوياً خلاقاً، يحقق القوة بكل معانيها ويصنع المكانة.

والسياسي لكي ينجح في ممارسة السياسة ويصنع المكانة لنفسه وحزبه ودولته، لابد له من تغيير الإطار الذي فرضته ثقافة الممكن بأطر إيجابية تمنحه قوة وفاعلية وتأثير. ومن المهم في ذلك دراسة تجارب صناعة القدرة والمكانة والتقدم، في كل بلاد العالم، والتي تمثل تركيا فيها نموذجاً أقرب. وللخبرة والعلم دور كبير في صنع أطر حركة فعالة.، فلا ينبغي أن تعلو ممارسات الضرورة على واجب الاحتكام للخبراء والعلماء. والتجربة التركية المذكورة في صنع مكانتها جمعت بين الفكر والتطبيق. ويمثل “العمق الاستراتيجي” للمفكر “أحمد داوود أوغلو” نموذجها الفكري، الذي رسم استراتيجيات تركيا الحديثة.

وإعلامياً يجب العمل على استبدال الثقافات السلبية بمفاهيم إيجابية، وغرس تصورات صحيحة للسياسة. تجعل الشعوب على وعى بالأدوار وفهم للواقع ومعرفة بالحقوق. لتكون الشعوب طاقة خلاقة، وثورة متوقدة في الدفاع عن حقوقها، ولتمتلك معايير الفرز والمحاسبة، لتخرج نخبة سياسية جديدة تختلف عن سابقتها. ومن ناحية أخرى من الضرورى التعرض لعلاج الظواهر السلبية التي تتعلق بتوثيق المصادر وتبادل المعرفة[1].


[1] الآراء الواردة تعبر عن كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المعهد المصري للدراسات

خالد عاشور

إعلامى مصرى ورئيس تحرير المرصد بالمعهد المصري للدراسات.. حاصل على دبلوم الاتصال والتسويق السياسي ودبلوم العلاقات الدولية ومؤسس شبكة مراسلون وعضو سابق لمجلس إدارة مدينة الإنتاج الإعلامى بمصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى