أوروبا وأمريكاتقديرات

ما بعد داعش: أميركا وتدريب المعارضة السورية

 

في نهاية يوليو 2017، أفادت تقارير إعلامية بأن الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” أمر بوقف البرنامج السري الذي تديره وكالة المخابرات المركزية؛ لتدريب جماعات معارضة سورية، وذكر ترامب أن هذا القرار جاء نتيجة لانعدام جدوى هذا البرنامج وضخامته وخطورته. (1)

ويذهب البعض إلى أن هذا القرار لم يأت رغبةً في تحسين العلاقات مع روسيا؛ ففي 2أغسطس الماضي أقر ترامب العقوبات الجديدة التي فرضها الكونجرس على روسيا (2). أو نتيجة قناعة ترامب بفشل هذا البرنامج؛ لأنه كان مجرد ورقة ضغط أمريكية، وليس وسيلة لإسقاط الأسد. وإنما جاء القرار كبداية ضمن خطوات أكبر قادمة، وصفقة أشمل مع الجانب الروسي؛ من أجل تقسيم مناطق النفوذ داخل سوريا من ناحية، ومن ناحية ثانية استمراراً للتموضع الأمريكي الثابت منذ تأزم الثورة السورية وظهور تنظيم “داعش”، الرامي لإعطاء أولوية محاربة داعش على السعي لإسقاط حكم الأسد، إذ لا جديد في الموقف الأمريكي العام من الأزمة السورية بعد هذا القرار. ومن ناحية ثالثة فإن الولايات المتحدة لم تعد بحاجة لسياسة دعم المعارضة عسكرياً، في ظل تدخلها المباشر عسكرياً بتغاضي روسي، وتقهقر قوات المعارضة وتشتتها، وتقدم لقوات النظام.

 

دلالات القرار:

بالنظر لتوقيت القرار فإن هناك دلالتان بالغتا الأهمية:

الأولى، أن هذا القرار يأتي مع قرب تحرير الرقة من تنظيم “داعش”، ومن ثم فالولايات المتحدة بذلك ترسل رسالة، مفادها أنها مع بقاء “بشار الأسد” في الحكم حتى مع تحرير سوريا نهائياً من تنظيم “داعش”، بمعنى أنه لن يكون هناك جهود أمريكية عسكرية لإسقاط “الأسد” بعد التخلص من خطر داعش، وعلى المعارضة الاستعداد للقبول بوجود الأسد ضمن ترتيبات سوريا ما بعد داعش بموافقة أمريكية.

الثانية، أن القرار يأتى بعد تجاوز “ترامب” ـ ليس بشكل نهائي ولكن لحد كبيرـ تحقيقات الكونجرس، المتعلقة بعلاقته بروسيا ودورها في ترجيح كفته في الإنتخابات الرئاسية الأمريكية الماضية، بدون إدانة واضحة. خاصة مع شهادة المدير السابق لمكتب التحقيقات الفيدرالي “جيمس كوم” في 8 يونيو الماضي، التي وإن كانت أشارت لعلاقة ما تربط ترامب بروسيا، إلا أنها لم تشر بشكل واضح إلى تدخل روسيا في الإنتخابات الرئاسية (3). فلم يكن بمقدور “ترامب” أن يقدم على إيقاف هذا البرنامج في ظل تصاعد احتمالات عزل الكونجرس له بسبب علاقته بروسيا؛ لأن هذا القرار سيحسب حينها كدليل على أن هناك ثمة علاقة غير شرعية تربط ترامب بروسيا.

 

خلفيات القرار

هناك مساران يمكن قراءة هذا القرار في إطار أحدهما:

المسار الأول، أن يكون قرار التخلي عن دعم بعض جماعات المعارضة السورية المسلحة قد اتخذته أمريكا بشكل مستقل، دون وضعه في إطار مساومة مع الجانب الروسي أو تفاوض حول ترتيبات تخص الملف السوري. وفي هذه الحالة فإن القرار يعد خطأً استراتيجياً كبيراً، إذا لم يكن هناك بديل لهذا الدعم؛ إذ تفقد الولايات المتحدة ورقة ضغط شديدة الأهمية في مواجهة الروس والإيرانيين.

المسار الثاني، أن يكون القرار قد اتخذ في إطار صفقة أو تفاوض بين الجانبين الأمريكي والروسي، ومن ثم في هذه الحالة فإن القرار جزء من هذه الترتيبات التفاوضية أو بداية لها؛ لتمهيد الأرض السورية لتقسيمها لمناطق نفوذ أمريكية وروسية في مرحلة ما بعد داعش. ولعل توقيت خروج هذا القرار للعلن يتزامن مع ثلاثة متغييرات على الأرض:

  • لقاء “فلاديمير بوتين” و”دونالد ترامب” في 7يوليو الماضي، على هامش أعمال قمة مجموعة العشرين في ألمانيا (4).
  • قرب القضاء على تنظيم “داعش” نهائياً من الرقة ومن ثم من سوريا بأكملها.
  • اتفاق وقف إطلاق النار في الجنوب السوري، برعاية أمريكية روسية أردنية في 7يوليو الماضي، والذي كان ثمرة لقاء “بوتين” و”ترامب” الأخير (5). ومن ثم، فليس مستبعداً أن يكون قرار إنهاء برنامج دعم المعارضة السورية أيضا ثمرة هذا اللقاء. إن هذه المتغييرات الثلاثة ترجح لحد كبيرة المسار الثاني.

وإذا ما تم النظر لهذا القرار في إطار توافقات أكبر، وصفقة أشمل تجمع الجانب الأمريكي والروسي، فحينها يمكن الإشارة لعدة أمور:

1ـ أن الولايات المتحدة تبعث برسالة للجانب الروسي، مفادها أنها قد تغض الطرف عن مسألة رحيل “بشار الأسد”، في مقابل فك روسيا ارتباطها بإيران في الملف السوري. بمعنى أنه وإن كان هذا القرار يصب سياسياً في صالح بشار وبقاءه، إلا أنه في المقابل يأتي ضمن خطة ترامب لاحتواء النفوذ الإيراني المتصاعد في سوريا والمنطقة. ولعل ما يرجح هذا التحليل، هو أن اتفاق وقف إطلاق النار في الجنوب السوري كشف عن تفاهمات أمريكية روسية على حساب إيران، تمثلت في إبعاد إيران والميلشيات الحليفة لها خاصة حزب الله عن مناطق الجنوب السوري (6).

2ـ سيكون لمعارك تحرير الشرق السوري من داعش، بالأخص “الرقة ودير الزور” أهمية خاصة وسيشتعل الصراع عليهما، ومن الممكن أن تتم تفاهمات أمريكية روسية أخرى على حساب إيران، بحيث يترك تحريرهما للولايات المتحدة، ومن ثم يصبحا تحت نفوذ وسيطرة أمريكية فيما بعد داعش، أو كحد أدنى أن يتم إبعاد الميلشيات الحليفة لإيران عن هذه المنطقة إذا تواجدت فيها قوات للنظام، كما تم في الجنوب.

3ـ بإبعاد الميلشيات الإيرانية عن الجنوب السوري، وتواجد أمريكي عسكري في الجنوب خاصة في قاعدة التنف العسكرية، وإذا ما استطاع الجانبان الروسي والأمريكي ابعادهما أيضا عن الشرق السوري بأى طريقة، وبالأخص عن الحدود العراقية السورية الشرقية والجنوبية، فبذلك يمكن ضرب المشروع الإيراني واحتواء نفوذه، فمن شأن ذلك قطع الطريق أمام تواجد ممر بري متواصل من طهران مروراً ببغداد ثم دمشق ومنها لبيروت أو للبحر المتوسط.

لكن هناك إشكاليتان متعلقتان بالشرق السوري:

الإشكالية الأولى: أن الولايات المتحدة سيتوجب عليها استمرار تحالفها ودعمها “لقوات سوريا الديموقراطية” حتى في مرحلة ما بعد داعش؛ لأن من شأن فك أمريكا تحالفها مع أكراد سوريا أن تدفعهم للتحالف مع روسيا إيران، بما قد يمنح إيران ممراً من العراق مروراً بسوريا من خلال الحسكة، التي تسيطر عليها “قوات سوريا الديموقراطية”.

الإشكالية الثانية: تتعلق بتواجد أغلب المواد الخام السورية في الشرق، وبالأخص النفط والحقول الزراعية، ولذلك سيتوجب على الولايات المتحدة ـ إذا ما تركت روسيا أغلب مناطق الشرق للنفوذ الأمريكي ـ التوصل لصيغة ما مرضية مع الجانب الروسي، حول ضمان استمرار إمدادات النفط والمحاصيل الزراعية من الشرق نحو الغرب، حيث معامل تكرير النفط ومصانع الغزل والنسيج الغير متواجدة في الشرق.

4ـ ليس مرجحاً أن يحدث فك ارتباط كامل بين التحالف الروسي الإيراني حول الملف السوري في المدى المنظور على الأقل، فإذا كانت السيطرة الجوية لروسيا في سوريا، فإن السيطرة على الأرض لحد كبير تقع على عاتق إيران وميلشياتها، ومن ثم هناك حاجة ماسة لاستمرار تحالف الطرفين معاً. لكن من الممكن إحداث ثغرات في هذا التحالف، ودفع روسيا للتخلي عن إيران في بعض الأحيان، كما حدث في اتفاق الجنوب السوري، ومن ثم فالصيغة الأقرب للتعاطي الروسي مع هذا التناقض، هو أنها ستسعى لإحداث توازن بين تحالفها مع إيران، وتفاهمتها مع الولايات المتحدة حول وقف إطلاق النار وتقاسم النفوذ.

 

تداعيات القرار:

إن تداعيات هذا القرار ودلالاته السياسية تفوق نظيرتها العسكرية الميدانية؛ فالدعم العسكري الذي كانت تقدمه الولايات المتحدة لبعض جماعات المعارضة لم يكن دعماً نوعياً كبيراً؛ لإسقاط حكم “بشار الأسد”، وإنما دعماً عسكرياً خفيفاً، قُصد به إحداث توازن عسكري في الداخل السوري؛ للحول دون تحقيق نجاح عسكري حاسم لقوات النظام، ولإنهاك جميع الأطراف، ولتظل هناك ورقة ضغط أمريكية في مواجهة خصومها الدوليين والإقليميين، وورقة ضغط أيضاً على المعارضة ذاتها؛ لدفعها نحو التحرك بما يتوافق مع الأجندة الأمريكية.

ومن ثم فإن توقف هذا الدعم لن يُحدث تغييراً نوعياً على الأرض، وإنما سيكون له تبعاته السياسية، حيث سيدرك “الأسد” بأنه باق في الحكم لفترة ليست بالقليلة، حتى بعد القضاء على داعش بموافقة أمريكية، كما ستُدرك المعارضة أن عليها القبول ببقاء بشار الأسد، حتى بعد الانتهاء من خطر “داعش”، إذ أن هذا القرار وجه ضربة للمعارضة ليس في الميدان، وإنما في أروقة المفاوضات؛ لإجبارهم على خفض سقف مطالبهم ودفعهم نحو القبول بالأسد.

كما قد نجد خلافات إيرانية روسية على الأرض السورية كلما اقتربنا أكثر من استحقاقات ما بعد داعش وتقسيم النفوذ، لكن من المرجح أن تضبط روسيا هذه الخلافات، بحيث لا يحدث انفكاك في تحالفها مع إيران، خاصةً كلما كانت هناك حاجة روسية للتواجد الإيراني على الأرض.

 

سياسات بديلة

بما أن الدعم الأمريكي العسكري لبعض جماعات المعارضة السورية، كان له أهداف أخرى غير إسقاط بشار. فما هي الوسيلة الأمريكية البديلة لاستمرار تحقيق هذه الأهداف؟

إن السياسة الأمريكية البديلة لهذا الدعم، هى التدخل العسكري المباشر في شكل ضربات تكتيكية متقطعة، تستطيع بها منع تحقيق نصر عسكري وسيطرة كاملة للنظام على الأرض، وتحجم بها النفوذ الإيراني، وتجعل لأمريكا دور في مرحلة تقسيم مناطق النفوذ في سوريا. وهي سياسة نفذها ترامب أكثر من مرة، الأولى في 7 أبريل الماضي، حينما وجه ضربة صاروخية لمطار الشعيرات السوري (7). والثانية في 18 مايو الماضي، حينما شن طيران التحالف الدولي غارة على موكب عسكري لميلشيات النظام، كان يتقدم باتجاه قاعدة التنف السعكرية على الحدود العراقية الأردنية السورية (8). وبالتالي فإن الولايات المتحدة لم تعد بحاجة لسياسة دعم المعارضة عسكرياً، في ظل تدخلها المباشر عسكرياً بتغاضي روسي، وتقهقر قوات المعارضة وتشتتها، وتقدم لقوات النظام، وعدم رغبتها في البداية في رحيل بشار، وفي ظل توافقها مع روسيا حول ترتيبات سوريا ما بعد داعش وتقاسم نفوذها (9).

———————

الهامش

(1) ترامب يكشف عن سبب وقف دعم المعارضة السورية، ار تي عربي، 25/7/2017، (تاريخ الدخول:13/8/2017)، الرابط

(2) ترامب يقر عقوبات على إيران وروسيا وكوريا الشمالية، بي بي سي عربي، 2/8/2017، (تاريخ الدخول:5/8/2017)، الرابط

(3) شهادة كومي أمام الكونغرس تفاصيل تحدد مستقبل ترامب، يورونيوز، 8/6/2017، (تاريخ الدخول:5/8/2017)، الرابط

(4) أول قمة للرئيسين بوتين وترامب، ارتي عربي، 7/7/2017، (تاريخ الدخول:5/8/2017)، الرابط

(5) لقاء بوتين وترامب يثمر عن وقف لإطلاق النار جنوبي سوريا، بي بي سي عربي، 7/7/2017، (تاريخ الدخول:5/8/2017)، الرابط

(6) فرص صمود اتفاق وقف إطلاق النار في الجنوب السوري، مركز المستقبل للدراسات المتقدمة، 12/7/2017، (تاريخ الدخول:5/8/2017)، الرابط

(7) أميركا تهاجم النظام السوري بـ59 صاروخاً، العربية نت، 7/42017، (تاريخ الدخول:1382017)، الرابط

(8) واشنطن تؤكد الغارة: التنف خط أحمر على النظام وإيران، المدن، 1952017، (تاريخ الدخول: 1382017)، الرابط

(9) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.

طارق دياب

باحث سياسي مصري، متخصص في العلاقات الدولية وشؤون الشرق الأوسط

اعمال اخرى للكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى