قلم وميدان

بين استعادة الشرعية وضبط المصطلحات

لا أريد التطرق إلى المسائل الشائكة حيث تبنت بعض النخب الوطنية الكبيرة التي قادت المسيرة قبل وبعد ثورة 25 يناير المجيدة بعض الممارسات والتنظيرات التي لا تخدم الثورة، ولكن الضرورة القصوي للعمل علي استعادة الشرعية والحرية لبلادنا يدفعني إلى ابداء بعض الملاحظات إلى المناضلين الذين يدعون إلى الاصطفاف في العمل السياسي، ولأني أقدركم كثيرا ولاني لست محسوبا علي فصيل بعينه، ومع احترامي لكل المناضلين فقد حفزني ذلك إلى الدعوة منذ فترة لضبط المصطلحات والآليات السياسية في الداخل والخارج في نضالنا أستأذنكم بيانها من وجهة نظري.

وأود في البداية أن أقر بأني أقل السادة المخاطبين علما ولعل لأساتذتنا في العلوم السياسية الداخلية والخارجية رأي آخر فيما أقول وهو غيض من فيض كما يقولون.

فمن قراءاتي وممارساتي السياسية لعدة عقود تساندها دراسات أكاديمية في العلوم االسياسية تجذرت في مفهومي الحاجة الشديدة إلى ضبط بعض المصطلحات والممارسات في سياساتنا الداخلية والخارجية، حتي لا تتعثر المسيرة مرة أخري ونقع في ذات الأخطاء التي خسرنا بسببها مكتسباتنا من شرعية دستورية تحت شعار الثوار الخالد عيش حرية عدالة اجتماعية كرامة انسانية، الذي لقنه لنا البسطاء من الثوار الذين ظهروا من حيث لا ندري فلم ينظمهم حزب ولا فصيل، والذين ضحوا بحياتهم ودمائهم من الرحال والنساء إلى الياافعين والمسنين، ولكنهم اختفوا بعد أن سلموا الثورة لنخبنا السياسية المناضلة والوطنية.

وقد بحثت كثيرا ولعدة شهور فائتة فلم أجد سندا لبعض المسميات أو الممارسات السياسية الداخلية والخارجية في مفاهيم بعض النخب المصرية ربما بسبب حرمانها خلال ستة عقود أو أكثر من هذه الممارسة في ظل الحكم الشمولي ونظرية الحزب الواحد والرئيس الواحد.

وقد اذهلني أنني لم أعثر علي ما يساند تلك المفاهيم والمصطلحات فيما قرأت من قواميس السياسة من ميكافيللي إلى تاليران ومتنرنيخ إلى دزرائيلي إلى كيسنجر علي بعض المصطلحات والتوجهات. والمعروف في التطبيق السياسي أنه ليس هناك حقوق أو مبادئ ثابتة بل تدار السياسة بمحركي المصلحة والقوة.

وبهذا المفهوم نُقدم مثلا نعرفه جميعا ونعاني منه، فقد اغتصبت ارض فلسطين بالقوة لأن لهم مصلحة وبالقوة اغتصب نيلنا ونهب غازنا وبالضغوط فرطنا في إمكانيات استثمار قناتنا.

ومرة أخري أؤكد أنني أعرف وأقدر المسئوليات النضالية التي تنشغل بها نخبنا وزعمائنا ولذلك سأوجز ملاحظاتي ورؤيتي بالقدر الذي يصل إليكم ولا يشغلكم عن واجباتكم في ساحة العمل السياسي.

 

أولاً: المفاهيم والممارسة:

وقد تدبرت وتعمقت في دراسة المفاهيم السائدة بين نخبنا في دعم العمل الثوري، فلم أجد لها من سند في التطبيق السياسي السائد في العالم ومنها وأهم ما نلاحظه هنا هو الخلط بين المشاعر العاطفية والتعاملات الاجتماعية بين الأفراد وبين مفهوم وطبيعة العمل السياسي ومن ذلك:

1- المصالحة: وهو تصرف يتم بين فردين أو عائلتين ينزعج بها أحد الأطرف ويرفضها، ولكن بعد تدخل وسطاء الخير وتهدئة النفوس يتم الصلح وتعود علاقات الود بعد اعتذار أو ترضية، ومثل ما يقع بين الرجل والمرأة من مناوشات ثم يعودان بعدها أحبابا للحب المتأصل في قلبيهما وتكون هذه الخصومات كسحابة صيف.

ومن البديهي أن الخلافات بين الدول تقوم بناء علي تنازع او خلاف حول المصالح وليس للمشاعر أي دور فيها، وهنا فإن التوصل لتجاوز الخلافات هو ايجاد تسوية من خلال عملية تفاوض والتوصل لنقطة التوازن بحيث يحصل الطرف الأقوي فيها علي الأكثر ويترك للطرف الضعيف ما يقدر عليه، لذلك فلا مجال للمصالحة بين الدول أو الأحزاب السياسية مثلما يتم بين الأفراد.

2- المصارحة: وهي التي ابتدعها العرب من خلال الجامعة العربية أو في العلاقات الثنائية التي تطالب بالمصارحة، لأن المصارحة في العلاقات السياسية تعني البلاهة والإضرار بمصالح الاطراف ولا معني لها ولا وجود في العلم السياسي وإنما تسوي الخلافات بالتفاوض علي تسوية تقبلها الأطراف.

3- مكارم الأخلاق : مواثيق الشرف والأمانة ومكارم الأخلاق لا تعتبر إلى أدوات سياسية وبعيدة كل البعد عن الممارسة السياسية التي لا تتحرك ولا يتم ممارستها إلا علي أساس المصالح، بينما هي مطلب ديني واجتماعي يجب ارساؤه والحض عليه.

4- الخطأ في الاعتماد المشاعر الشخصية من حب وكراهية وحقد وغيرها كمبادئ تؤسس عليها خطوط سياستنا في الداخل والخارج.

5- رفض سياسة الكيد والانتقام في العلاقات الخارجية، فلا تعرف السياسة كيدا يكبدها خسائر ولا انتقاما يشعل الحرب من جديد مثلما حدث في المانيا واليابان.

6- الثقة بالمنظمات الدولية: إذا تدبرنا ما تقوله الحكومات في اجتماعات الجامعة العربية من عبارة ساذجة “وعلي مجلس الأمن أن يتولي مسئولياته” وارتكنا علي أحكام القانون الدولي العام والخاص، والقانون الدولي الإنساني بما تضمنه معاهدة جنيف الرابعة والمحكمة الجنائية الدولية أو علي ما يسمي بالرأي العام العالمي، سنكون من الخاسرين السذج، ولنراجع عمليات الغصب الاستعماري وخروقات حقوق الانسان الواردة في وثائق اتفاقيات دولية، وافقت عليها غالبية الدول ومن بينها الدول العربية، والحقيقة المرة أن الانسان يتعرض في معظمها وفي كل الدول العربية إلى انتهاكات مهولة ومقززة من حكامه، بينها القتل والتعذيب والتهجير والاختفاء القسري دون أن يحرك المجتمع الدولي مسكنا لعرفنا اننا نحرث في البحر أو نصدق حكايات شهرزاد.

7- نبذ أسلوب قطع العلاقات الدبلوماسية كعقوبة لدولة أو لعدة دول، فقد ولت هذه العقوبات منذ ما يقارب نصف قرن إلا في المجال العربي لأن الحكومات قد أدركت أن الأوفق في حالة الخلاف العميق أن تظل السفارات مفتوحة لمتابعة توجهات الدولة المنافسة واستبقاء السفراء بينما يتم التعبير عن ردود الفعل بسحب السفراء مؤقتا او بعقوبات تجارية واقتصادية.

 

ثانياً: النخب والممارسة السياسية:

من الملاحظ أن انقطاع نخبنا الوطنية عن الممارسة السياسية ما يراوح ستة عقود تحت الحكم الشمولي في مصر قد عاد علينا بأشد الأضرار داخليا وخارجيا، فالشخصيات السياسية الوطنية منعت من التفاعل مع الجماهير وراحت تمارس السياسة وهي حبيسة في مقار أحزابها، مما أوقعها في مناورات ومنافسات بينها وليس مع النظام الحاكم.

وأسفر ذلك عن نتائج حطيرة أهمها أننا دمرنا مكسباً تاريخياً مهماً، هو ارساء الدولة الديمقراطية والحريّة في مصر بسبب اقحام مشاعر شخصية، مثل الكراهية والصراع، من أجل مكاسب شخصية أو زعامات لم يحن وقتها.

وقد أذهلني منذ أيام حديثي مع شخصية وطنية من أخلص المناضلين أنه يقبل الاصطفاف مع الاخوان المسلمين، وراح ينعتهم بأقبح الألفاظ وحذرني من أن دخولهم معنا للخلاص من الوضع القائم مرفوض، واختلفنا في ود بأنني لن أدعو إلى سياسة تعتمد علي الكراهية والمشاعر الشخصية، لأن ذلك يعرضنا للفشل، ولنأخذ درسا منما حدث في ميدان التحرير من اصطفاف كامل نحو هدف واحد.

ومن أخطاء النخب الحاكمة بعد ثورة ٢٥ يناير أنها اتخذت المنهج الاصلاحي وليس الثوري، وأن السلطة (ممثلة في الاخوان آنذاك) سعت إلى تسويات مع الدولة العميقة والمؤسسة العسكرية في حين أن الثورة هي وسيلة تغيير شامل في الفكر والتطبيق.

كذلك أخطات النخب مدفوعة بمشاعر شخصية، وعلي رأسها الكراهية إلى إسقاط الشرعية بطرق غير دستورية وكان عزل الرئيس متاحا في الدستور فأوقعت البلاد في فوضي وسلمتها إلى من لا خبرة لهم بالسياسة في الداخل أو الخارج، وقد عاد ذلك علينا بالخراب والافلاس وتضخم الفساد. ذلك أن ايديولوجية الثورة أمر في منتهي الأهمية فهي تحدد أسبابها ومطالبها نظرياً إلا أنها تظل جهدا نظريا ولا تتحقق إلا بالثورة الجماهيرية الشاملة بما فيها من تضحيات وخسائر.

هذا بجانب عدم استيعاب ثقافة الاختلاف في الآراء والآيدولوجيات السياسية والاجتماعية وقبول إحالتها للصندوق ليحكم الشعب فيها.

 

ختاماً:

هذا غيض من فيض والحديث فيه يطول وأدعو النخب والمناضلين أن يمعنوا التفكير في هذه الملاحظات لرفضها أو تطويرها وارساء أسس سليمة في ممارساتهم السياسية، التي اقتصرت تحت القمع الشديد البعيد كل البعد عن مفاهيم الدين والوطنية والانسانية، إلي استخدام الوسائل المتاحة من فضح للانتهاكات الدستورية والقانونية والانسانية، وأن تتجنب الفرقة والتحزب في الخارج والداخل، وأن تكرس وتحقق الاصطفاف الكفيل بتحقيق أهداف الثورة (1 ).

( 1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.

السفير إبراهيم يسري

دبلوماسي مصري، سفير مصر في مدغشقر (1983 – 1987)، مدير الإدارة القانونية والمعاهدات بوزارة الخارجية المصرية (1987 إلي 1990)، سفير مصر في الجزائر (1990 – 1994)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى