اقتصادترجمات

المجلس الأطلسي: حل لغز الاقتصاد السياسي في مصر.. الأمر ليس مجرد مسألة الاقتصاد


لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.


نشر المجلس الأطلسي،‏ وهو مؤسسة بحثية أمريكية غير حزبية تُعنى بالشؤون الدولية ومقرها في واشنطن دي سي، في 15 فبراير 2025 مقالاً بعنوان: “حل لغز الاقتصاد السياسي في مصر: الأمر ليس مجرد مسألة الاقتصاد” لـ “رشا حلوة”، وهي مديرة مبادرة تمكين الشرق الأوسط في مركز رفيق الحريري للشرق الأوسط التابع للمجلس الأطلسي؛ كما أنها خبيرة اقتصادية بارزة تتمتع بخبرة مهنية تمتد لاثنين وعشرين عاماً في تحليل وتنفيذ السياسات الاقتصادية والمالية.

ترى الكاتبة أن مصر لم تتبن مصر مطلقاً أيديولوجية طويلة الأجل موجهة نحو تحقيق الأهداف وداعمة للسوق. حيث “يواصل الاقتصاد المصري العمل باستخدام إصلاحات اقتصادية مجزأة، تعوقها بقايا قوية من عهد عبدالناصر، مما أدى إلى نمط بطيء وغير متسق في التنفيذ. وقد أدى هذا النهج المختلط إلى زيادة حالة عدم اليقين الاقتصادي، مما يفرض تحديات على المستثمرين المحليين والعالميين”.

وقد جاء المقال على النحو التالي:

تتمتع مصر بهِبات طبيعية ومزايا جغرافية فريدة. حيث تقع البلاد على مفترق طرق بين أفريقيا والشرق الأوسط، ويتجلى موقعها الاستراتيجي في أهمية قناة السويس، وهو طريق بحري حيوي يربط بين أمريكا الشمالية وأوروبا والمحيط الهندي. وتعد هذه القناة واحدة من أكثر ممرات الشحن ازدحاماً على مستوى العالم، مما يؤكد على الدور المحوري لمصر في التجارة الدولية.

وبالإضافة إلى ذلك، فمصر تُشتهر بتراثها الثقافي الغني، حيث تضم سبعة مواقع مدرجة على قائمة اليونسكو للتراث العالمي. وتشمل هذه الكنوز الهرم الأكبر بالجيزة، أحد عجائب الدنيا السبع في العالم القديم. وتضع جاذبية التراث الثقافي لمصر، إلى جانب تكاليف السفر التنافسية بسبب الانخفاض الكبير في قيمة الجنيه المصري، البلاد كوجهة سفر محورية ذات إمكانات هائلة لإيرادات السياحة.

وبالإضافة إلى ثروتها الثقافية، تمتلك مصر قاعدة رأس مال بشري كبيرة، حيث يبلغ عدد سكانها حوالي 115 مليون نسمة، يمثلون حوالي 1.4 في المائة من سكان العالم. والجدير بالذكر أن 60% من سكان مصر تقل أعمارهم عن ثلاثين عاماً، مما يسلط الضوء على قوة عاملة كبيرة على استعداد لدخول سوق العمل. وتستفيد مصر أيضاً من أشعة الشمس الوفيرة وسرعات الرياح المرتفعة، مما يضع البلاد كموقع مثالي لمصادر الطاقة المتجددة. كما تتمتع سوق الطاقة المتجددة المزدهرة في مصر بإمكانات اقتصادية كبيرة، تصل إلى مليارات الدولارات.

ومع ذلك، وعلى الرغم من كل تلك المزايا المتأصلة، فإن الاقتصاد يعاني من تحديات مستمرة منذ ما يقرب من خمسة وسبعين عاماً. فلا تزال معدلات الفقر المرتفعة تؤرق الأمة، حيث تشير إحصاءات البنك الدولي إلى ارتفاع معدل الفقر، مع زيادة نسبة السكان تحت خط الفقر من 25.2% في عام 2010 إلى 32.5% في 2017-2018.

كما ظلت عائدات السياحة في مصر متواضعة، حيث بلغ متوسطها حوالي 8-9 مليارات دولار سنوياً بين عامي 2014 و2022، على الرغم من إمكانات البلاد كوجهة سياحية رئيسية. وبالمقارنة، فقد حققت دولة الإمارات العربية المتحدة باستمرار دخلاً سياحياً أعلى، بمتوسط ​​حوالي 30 مليار دولار سنوياً خلال نفس الفترة، بل ومن المتوقع أن تصل إلى 60 مليار دولار بحلول عام 2028.

وبالإضافة إلى ذلك، ظلت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر في مصر متواضعة نسبياً، حيث بلغت 11 مليار دولار في عام 2020. وهذا الرقم هو رقم ضئيل مقارنةً بدول أخرى متوسطة الدخل اجتذبت تدفقات استثمار أجنبي مباشر أعلى بكثير لنفس العام، مثل الهند (50 مليار دولار)، والبرازيل (70 مليار دولار)، وجنوب إفريقيا (90 مليار دولار). كما تعاني مصر من عجز تجاري مزمن، حيث سجّل 37 مليار دولار بحلول نهاية عام 2023، بانخفاض من 48 مليار دولار في عام 2022.

وبالإضافة إلى ذلك، فقد عانت مصر من عجز مالي بلغ في المتوسط ​​9.5% من الناتج المحلي الإجمالي على مدى العقد الماضي. ونتيجة لهذا، تراكمت لدى الحكومة ديون عامة ضخمة، حيث ارتفعت أرصدة الديون الخارجية، بما في ذلك ائتمان صندوق النقد الدولي، من متوسط ​​40 مليار دولار بعد الربيع العربي إلى 130 مليار دولار في عام 2020، بما في ذلك ما يقرب من 70% من الديون الطويلة الأجل، وهو ما يفرض تحديات كبيرة على الاقتصاد.

ميزان الحساب الجاري في مصر:

(المصدر: مجموعة البنك الدولي)

ديون مصر:

(المصدر: مجموعة البنك الدولي)

وتتفاقم هشاشة الاقتصاد المصري بسبب اعتماده على مصادر الإيرادات المتقلبة، بما في ذلك السياحة وقناة السويس والتحويلات الأجنبية. لذلك، فقد فرضت الصدمات الخارجية – مثل جائحة كورونا، وحرب أوكرانيا، وحرب غزة، والهجمات الأخيرة في البحر الأحمر – ضغوطا اقتصادية إضافية على مصر. ونتيجة لهذا، انعكس الحساب الجاري، الذي أغلق بفائض متوسط ​​بلغ 2 مليار دولار بين عامي 2002 و2007، إلى عجز كبير قدره 16 مليار دولار بحلول نهاية عام 2022، ومن المتوقع أن يستقر عند 9 مليارات دولار بحلول نهاية عام 2024. ونتيجة لذلك، فقد شهد الجنيه المصري خفضاً كبيراً في قيمته، حيث خسر أكثر من 70% من قيمته منذ أوائل عام 2022، مما يجعله سادس أسوأ عملة أداءً على مستوى العالم منذ بداية هذا العام. وقد أدى التأخير في تعديل سياسة الصرف الأجنبي إلى ظهور سوق موازية، حيث كان الجنيه المصري قد انخفض إلى 68-70 جنيهاً مصرياً للدولار الأمريكي، مقارنة بسعر ثابت يتراوح بين 30-31 جنيهاً مصرياً للدولار الأمريكي في القطاع المصرفي الرسمي، حيث يكون المعروض من العملات الأجنبية ضئيلاً. كما تضاءلت احتياطيات البنك المركزي من العملات الأجنبية، حيث انخفضت من 44.6 مليار دولار في عام 2019 إلى 32 مليار دولار بحلول نهاية عام 2022.

ولكن لماذا تواجه مصر مثل هذه العقبات الاقتصادية الملحوظة على الرغم من إمكاناتها الكبيرة؟ في حين يعزو العديد من خبراء الاقتصاد التقليديون الأزمة إلى سوء الإدارة الاقتصادية الكلية، مع الاعتراف بأهمية الاستقرار الاقتصادي الكلي للنمو، فإن هذا التفسير لا يجسد التعقيد الكامل للقضية. وبدلاً من ذلك، فإنه يمكن فهم التحول الاقتصادي البطيء والمتواضع نسبياً في مصر بشكل أفضل من خلال عدسة “الاقتصاد السياسي للأفكار”. وتؤكد هذه النظرية، التي أوضحها الخبير الاقتصادي داني رودريك من جامعة هارفارد في ورقته البحثية “الأفكار مقابل المصالح في صنع السياسات“، على الدور المحوري الذي تلعبه الإيديولوجية كمحفز لتشكيل السياسة العامة والتغيير المؤسسي.

ويُعدّ مفهوم “الإيديولوجية” أو “تأثير الأفكار” مبدأً أساسياً في الاقتصاد السياسي، ويقدم رؤى حول سبب تقدم بعض الدول بسرعة أكبر من غيرها، وعلى العكس من ذلك، سبب تأخر بعضها.

من الناحية التاريخية، دأبت الأيديولوجية الاقتصادية المصرية منذ فترة طويلة على الالتزام بنهج الانغلاق على الذات واستبدال الواردات في ظل نظام جمال عبد الناصر (1950-1970)، وهو الاتجاه الشائع بين الاقتصادات النامية خلال حقبة إنهاء الاستعمار. ومن بين السمات الرئيسية لنظام عبد الناصر كان تأميم الأصول الخاصة، وإدارة المؤسسات الحكومية، واستبدال الواردات، وفرض القيود على الصادرات.

وفي وقت لاحق، سعى نظام أنور السادات (1970-1981) إلى عكس هذا الاتجاه من خلال تقديم تشريع استثماري جديد مؤيد للسوق وهو ما عُرف باسم سياسة “الانفتاح“. ومع ذلك، قوبلت أيديولوجيته بالرفض على نطاق واسع، كما يتضح من أعمال الشغب التي أعقبت قرارات رفع أسعار الخبز عام 1977. وفي عام 1981، وصل حسني مبارك إلى السلطة في أعقاب أعمال الشغب تلك، مما منعه من الشروع في إصلاحات جوهرية مماثلة. وبدلاً من ذلك، استخدمت حكومته نهجاً مختلطاً، فنفذت سياسات جزئية تدريجية مؤيدة للسوق بينما اعتمدت على بقايا قوية من عصر عبد الناصر. ويستمر هذا النمط حتى يومنا هذا. وقد تجلت هذه الإيديولوجية المختلطة، على سبيل المثال، في التقدم البطيء لبرنامج إدارة الأصول العامة (الخصخصة)، والحجم الكبير نسبياً للقطاع العام في اقتصاد البلاد.

ومع ذلك، لكي تتبنى الأمة موقفاً مؤيداً للسوق بشكل كامل، يجب أن تمتلك التزاماً أيديولوجياً قوياً بالسياسات المؤيدة للسوق وحوافز سياسية واضحة لتعزيز هذه الإيديولوجية. وعلى سبيل المثال، فقد كان تبني برنامج التصنيع القائم على التصدير في كوريا الجنوبية (1962-1980) مسترشداً برؤية طويلة الأجل للانضمام إلى صفوف الدول الأكثر تصنيعاً، وهو ما بلغ ذروته في انضمام البلاد بنجاح إلى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في عام 1996. وعلى نحو مماثل، فقد كانت تطلعات تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي هي الدافع وراء إصلاحها الاقتصادي المؤيد للسوق والتقدم الاقتصادي الشامل في الثمانينيات والتسعينيات. وفي الوقت نفسه، كانت الإصلاحات الاقتصادية في جنوب أفريقيا ما بعد نظام الفصل العنصري مدفوعة في المقام الأول بالتزام قوي بالقدرة التنافسية للأعمال والمساواة الاقتصادية.

وبالمقارنة، لم تتبن مصر مطلقاً أيديولوجية طويلة الأجل موجهة نحو تحقيق الأهداف ومؤيدة للسوق. ويواصل الاقتصاد العمل باستخدام إصلاحات اقتصادية مجزَّأة، تعوقها بقايا قوية من عهد عبد الناصر، مما أدى إلى نمط بطيء وغير متسق من التنفيذ.

وقد أدى هذا النهج المختلط إلى زيادة حالة عدم اليقين الاقتصادي، مما يفرض تحديات على المستثمرين المحليين والعالميين. وفي حين قد يتمكن المستثمرون من التنقل عبر عدم الاستقرار السياسي، فإن عدم اليقين في السياسة الاقتصادية يُعتبر بمثابة مثبط للشركات عن التوظيف والاستثمار والوصول إلى الأسواق. لذلك، فمن أجل معالجة التحديات الأساسية التي تواجه الاقتصاد المصري، من الضروري تقييم ومعالجة المتطلبات الأساسية للاقتصاد السياسي، وليس التركيز فقط على أساسيات الاقتصاد الكلي. وبدون تعزيز أيديولوجية أكثر قوة مؤيدة للسوق، سواء داخل الحكومة أو بين عامة الناس، فستظل الإصلاحات الاقتصادية في مصر محاصرة في إطار حلقة من الركود لسنوات قادمة.


لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى