مقدمة
يتناول هذا التقرير الملامح الرئيسية لسلسلة من الأوراق تناولت الإسكان اللارسمي أو العشوائيات من جوانب شتى، والنقاط الأساسية المختارة للعرض هنا هي: الصور المختلفة للعمران اللارسمي ونشأة كل منها؛ ظاهرة الاستيعاب المتبادل بين مناطق الإسكان اللارسمي ومؤسسات الدولة وبصفة خاصة المؤسسة الأمنية؛ وأخيرا استطلاع إمكانية نشأة شكل من أشكال اﻹدارة الذاتية في هذه المناطق مما قد يساعد على حل بعض أو معظم مشاكلها المزمنة.
اﻷوجه المتنوعة لـ لارسمية اﻹسكان في مصر
يدور التعريف (الرسمي) للإسكان اللارسمي حول الملكية أو الحيازة غير المستقرة للسكن. وفي حين يغطي هذا التعريف ظاهريا الغالبية العظمى من مناطق اﻹسكان اللارسمي في مصر إلا أنه لا يعكس الواقع بالنسبة ﻷكثرها بدقة. فأغلب مناطق اﻹسكان اللارسمي حول المدن وبصفة خاصة حول القاهرة الكبرى تمت بالبناء على أراض زراعية لا يوجد نزاع حول ملكية أصحابها اﻷصليين لها، ولكن بمخالفتها للقوانين التي تحظر البناء على اﻷراضي الزراعية لم يمكن استصدار تراخيص بناء لها، ومن ثم فهي قانونا غير موجودة، وملكية أصحاب الوحدات السكنية بها وكذلك عقود إيجار مستأجريها غير معترف بها. ومن ثم فصفة اللارسمية للوحدات السكنية في هذه المناطق ليست ناتجة تحديدا عن وضع ملكيتها أو حيازتها بل العكس؛ أي أن الملكية والحيازة غير المستقرة أو غير المعترف بها قانونا ناتجة عن لارسمية عمليات البناء التي أنشئت من خلالها هذه الوحدات، وهذا الوضع بدوره ناتج عن التوصيف التنظيمي والتخطيطي لاستعمالات اﻷراضي حسب سياسات الدولة.
لا ينطبق التعريف الرسمي بدقة أيضا حتى في حالة المناطق التي لا تخالف المباني فيها الحدود التنظيمية والتخطيطية للبناء على اﻷراضي الزراعية ولكن لا يتوافر ﻷصحاب هذه اﻷراضي فيها سندات ملكية معترف بها. يتعلق هذا بوضوح بمناطق مثل جزيرتي الوراق أقصى شمال القاهرة الكبرى والقرصاية أقصى جنوبها. هذه المناطق تتيح القوانين إمكانية تقنين أوضاع ملكية أو حيازة اﻷراضي بها نظرا لتطاول وتوارث الحيازة والاستخدام وامتدادهما إلى ما قبل تاريخ إقرار القوانين الحديثة المنظمة لهما. ولفترة طويلة كانت ممارسات الدولة تجاه شاغلي هذه المناطق تشير إلى اعتراف ضمني بشرعية حيازتهم ﻷراضيهم، ولم ينشأ الصدام مع الدولة أو مع أي من مؤسساتها حول شرعية حيازة هذه اﻷراضي إلا مؤخرا، عندما أصبحت هذه الحيازة عائقا للخطط التنموية وسياسات الدولة تجاه استعمالات هذه اﻷراضي. ومن المثير للاهتمام هنا أن توجه هذه السياسات هو على العكس من التوجه المنشئ لصفة اللارسمية للأراضي من الفئة اﻷولى المذكورة سابقا، أي أنه لا يتعلق بالحفاظ على الرقعة الزراعية بل على العكس من ذلك يسعى إلى تحويل استعمال أراض زراعية إلى استعمال آخر. وما يعنينا هنا هو أن صفة اللارسمية لهذه المناطق لم تنشأ مباشرة عن الوضع القانوني للملكية والحيازة واللذين كانا باﻹمكان تقنينهما وإنما ظهرت إلى السطح فقط مع تعديل لسياسات الدولة تجاه هذه المناطق بعينها.
بخلاف الأمثلة المذكورة والتي يمكن للتعريف الرسمي أن ينطبق عليها ظاهريا فثمة غيرها مما تحمل فيه المناطق السكنية صفة (العشوائيات) وفق تصنيف الدولة برغم استقرار الوضع القانوني لملكيتها أو حيازتها. ويتعلق التوصيف في هذه الحالة بظروف السكن التي قد لا تكون آمنة أو ملائمة نتيجة تدهور حالة المباني والمرافق بهذه المناطق، أو لخروجها عن القواعد العمرانية المنظمة لها في اﻷصل. وفي الأقسام التالية نتناول هذه الصور الثلاث للعمران اللارسمي من حيث تعريفها ونشأتها.
عشوائيات البناء على اﻷراضي الزراعية
حتى عام 1966، حظرت قوانين مختلفة البناء على اﻷراضي الزراعية بشكل جزئي ومناطقي ولكن القانون رقم 53 الصادر في ذلك العام ألغى هذه القوانين واستبدلها بنصوصه. ومن ثم يمكن اعتبار هذا القانون المنعطف التاريخي لتعميم حماية اﻷراضي الزراعية وتنظيم البناء عليها في حدود لا تمس إنتاجيتها. ولكن بالرغم من أن هذا القانون وتعديلاته المختلفة التي توالى صدورها حتى العام الماضي (2018)، هو ما يرتب لصفة اللارسمية للمناطق السكنية المنشأة على أراض زراعية، إلا أن نشأة هذه المناطق ونموها الذي تسارع مع مرور الوقت لا يعود بالطبع إلى هذا القانون في ذاته ولا إلى السياسة التي يعبر عنها.
يمكن في الواقع العودة بأولى عوامل خلق الظروف المؤدية إلى نشأة الإسكان اللارسمي على اﻷراضي الزراعية إلى قوانين الإصلاح الزراعي الصادرة في أعقاب ثورة 1952. قامت هذه القوانين التي صدرت لتعكس واحدا من اﻷهداف المعلنة للضباط اﻷحرار وهو القضاء على اﻹقطاع بتحجيم الملكيات الضخمة من اﻷراضي الزراعية للأفراد والعائلات، ونتج عن ذلك مصادرة مساحات واسعة من اﻷراضي الزراعية تم توزيعها على المزارعين كملكيات خاصة لهم. هذه الملكيات الصغيرة حينها توارثها أبناء كل أسرة لتتفتت بينهم إلى ملكيات متضائلة مع كل جيل.
اختيار حكام مصر الجدد في ذلك الحين لتوزيع اﻷراضي كملكيات خاصة بدلا من تملك الدولة لها وتشغيل المزارعين كموظفين حكوميين بها أو تحويلها إلى ملكية تعاونية لمزارعيها كان خيارا سياسيا وأيديولوجيا، ترتب عليه تغيير العلاقة بين المزارعين وبين اﻷرض التي يزرعونها، حيث تحولت إلى أصل رأسمالي متوارث. في الوقت نفسه أدت سياسات أخرى للحكام الجدد إلى توسع قاعدة حاملي الشهادات العليا ونمو الجهاز البيروقراطي للدولة لاستيعابهم في وظائف حكومية، مما أدى إلى أن عديدا من أبناء المزارعين الذين تحولوا إلى موظفين ومهنيين ترسخ لديهم أن علاقتهم بالأرض التي ورثوها هي أنها أصل رأسمالي ذو عائد ريعي. ومن ثم مع تضاؤل المساحات المملوكة للفرد وتراجع العائد الريعي لملكيته أصبح إمكان تغيير استعمال هذه اﻷرض إلى نشاط ذي عائد أكبر خيارا مغريا إذا ما سنحت الفرصة لذلك.
من جانب آخر وإضافة إلى أن نمو الجهاز البيروقراطي للدولة أدى إلى نزوح أعداد كبيرة إلى المدن وبخاصة إلى القاهرة الكبرى فإن النمو الكبير للقطاع الصناعي وخاصة بعد عام 1960 أسهم بشكل أكبر في تسارع النمو السكاني للمدن التي لم يتح لها أن تنمو إلا على حساب الأراضي الزراعية المحيطة بها، حيث إن الاتجاه إلى الظهير الصحراوي للمدن يحتاج إلى موارد ضخمة لا يمتلكها اﻷفراد، وإضافة إلى أن اتجاه الدولة إلى الاستثمار في بناء مدن جديدة على الظهير الصحراوي قد تأخر فإن استثماراتها في هذه المدن لم تكن كافية من حيث الكم لاستيعاب الزيادة السكانية للمدن ولا من حيث الكيف بتوفير مقومات الحياة المطلوبة لجذب السكان إلى معظمها.
مع بدء تراجع الدولة المصرية في نهاية السبعينات وما تلاها عن دورها في توظيف الخريجين أضيف إلى ما سبق ظاهرة الحاجة إلى توفير السكن ﻷبناء أسر المزارعين غير القادرين على الحصول عليه داخل المدينة، ومن ثم ففي عدد متزايد من حالات البناء على اﻷراضي الزراعية أصبح السبب المباشر هو بناء سكن لجيل جديد من أصحاب اﻷرض الزراعية لم تعد مواردهم كافية لتغطية حاجاتهم إلى السكن بطريقة أخرى. في الوقت نفسه مع تراجع عائد العمل بالزراعة لتقلص الملكيات الزراعية وتصاعد حدة الغلاء تزايدت نسبة النازحين من الريف إلى الحضر من بين المهمشين الباحثين عن كسب رزقهم بالعمل في مجالات لارسمية مقارنة بمن ينزحون للعمل بوظائف مستقرة أو كمهنيين. وانضم هؤلاء إلى أجيال من قاطني الأحياء اللارسمية حول المدن تقلصت أمامهم فرص الحصول على شهادات عليا أو العمل بها والحصول على وظائف مستقرة.
عشوائيات التخوم
يرتبط تحول مناطق مثل جزيرتي الوراق والقرصاية إلى عشوائيات بالمفهوم الرسمي للدولة بتاريخ تطور تعامل الدولة الحديثة في مصر مع اﻷراضي الزراعية أيضا. وفي كثير من ملامح نمو العمران السكني في هذه المناطق ما يتطابق مع مثيلاتها التي تعرضنا لها في القسم السابق. ما يختلف عمليا في حالتها هو أنها بحكم موقعها وبحكم نمط نمو المدينة تحولت من كونها تقع على تخوم وهامش المدينة لتصبح في قلبها، وهو ما يجعلها أقرب إلى مناطق لم تكن في تاريخها القريب أراض زراعية ولكن نمو المدينة من حولها اكسبها صفة اللارسمية، مثل رملة بولاق ومثلث ماسبيرو. تسليط الضوء على هذه المناطق في السنوات اﻷخيرة ومن ثم دخول سكانها في صراعات في مواجهة مؤسسات الدولة اﻷمنية ومؤسستها العسكرية وصلت أحيانا إلى حد أن تكون دموية، يعود بصفة أساسية إلى تبني الدولة للسياسات النيوليبرالية الذي أنتج في الحالة المصرية نموا غير متوازن لصالح الاستثمار العقاري وهو ما شكل دفعا كبيرا لأسعار اﻷراضي داخل المدن للارتفاع بمعدلات غير مسبوقة.
شكل نمو قطاع الاستثمار العقاري منذ تسعينات القرن الماضي ضغطا متزايدا على أسعار اﻷراضي وعلى نمط عمران المدن وبصفة خاصة القاهرة الكبرى. على طرفي النقيض بين مناطق التخوم المهمشة وبين اﻷحياء السكنية الراقية تقليديا سارت عملية رفع الكثافة السكنية بضخ مزيد من الاستثمارات في بناء المساكن بشكل سلس في معظمه وبدون صراعات تسترعي الانتباه. السبب في ذلك هو تقارب قدرات طرفي المعادلة في الحالتين والمقصود بهم السكان الحاليين والمستثمرين العقاريين. في كلا الحالتين يصل الطرفان إلى تبادل منفعة مناسبة تتمثل في إعادة البناء على اﻷرض بشكل مشترك يسهم فيه أصحاب اﻷرض باﻷرض نفسها في حين يقدم المستثمر العقاري (صغير الحجم في حالة التخوم ومتوسط الحجم في حالة الأحياء الراقية) تكلفة البناء ثم يتقاسم الطرفان ملكية الوحدات السكنية المنشأة. في الحالتين لا يجذب عائد الاستثمار المتوقع المستثمرين الكبار في الحقل ولا يجعل التفاوت غير الكبير في القدرات المالية للطرفين من أيهما عرضة لضغط غير متناسب من اﻵخر. كما أنه في الحالتين لا يوجد تفاوت كبير في الطبقة الاجتماعية أو الاستعمال السكني والاقتصادي للوحدات بين السكان اﻷصليين وبين من سينتقلون إلى الوحدات اﻹضافية المنشأة مما يجعل ثمة مكان للسكان اﻷصليين في هذه الوحدات دون أي تعارض مع المستهدف من بنائها.
تغيب هذه العوامل جميعا في الحالات الحدية لمناطق التخوم التي تحولت إلى أن تكون في قلب العمران المديني بشكل يكاد يكون مفاجئا، فالعائد الاستثماري المتوقع مرتفع إلى حدود فلكية مما يجتذب كبار المستثمرين المحليين والأجانب، والتفاوت في القدرة المالية (ومن ثم النفوذ السياسي) هائل مما يجعل تبادل المنفعة بشكل متوازن أمرا مستحيلا، كذلك تتعارض أغراض الاستثمار والطبقة المستهدفة منه بشكل واضح مع استيعاب السكان اﻷصليين بأي صيغة في المشروعات المزمع إنشاؤها على اﻷرض. يجعل ذلك من إزاحة السكان اﻷصليين الحل اﻷمثل اقتصاديا، وهو ما يدفع المستثمرين إلى استخدام نفوذهم السياسي لإشراك الدولة في عملية اﻹزاحة هذه وهو ما تنخرط فيه الدولة من خلال إطار رسمي يتمثل في طرح سياسات تنمية طويلة الأمد تدرج مشروعات الاستثمار العقاري عالي العائد في هذه المناطق كجزء منها. في المقابل استبعاد السكان كطرف يعتد به ووقوعهم تحت ضغوط كبيرة للقبول بالخروج بدون منفعة تذكر يدفع بهم إلى تصعيد مقاومتهم إلى حد الدخول في مواجهة مباشرة مع مؤسسات الدولة التي تسعى إلى طردهم من مساكنهم بالقوة. وبرغم أن هذه المقاومة يمكن أن تشتري بعضا من الوقت اﻹضافي للسكان وتعرقل الجدول الزمني لمشروعات المستثمرين وشركائهم من مؤسسات الدولة إلا أنه على المدى البعيد يرغم التفاوت الهائل في موازين القوى السكان على الرضوخ في إطار تسويات لا يلتزم المستثمرون أو الدولة دائما بشروطها كما تشير حالة مثلث ماسبيرو إلى ذلك بوضوح.
عشوائيات تدهور البيئة العمرانية
لا تندرج المناطق المتدهورة عمرانيا تحت التعريف العالمي المعتمد لمناطق اﻹسكان اللارسمي ما دام نمط الملكية والحيازة بها مستقرين. ولكن وفق التصنيف الرسمي للحكومات المصرية فإن هذه المناطق يتم إدراجها ضمن المسمى الواسع للعشوائيات. تضم هذه الفئة بصفة أساسية مناطق العمران التقليدي القديمة داخل المدن التي تسبق نشأة النسيج العمراني لها نشأة الدولة الحديثة المصرية، ومن ثم فهي مناطق لم تُخطط وفق النمط الحديث للتخطيط العمراني وتبدلت التركيبة السكانية لها مع الوقت فضمت نسبا أعلى من اﻷقل دخلا في المجتمع. إضافة إلى تلك المناطق ثمة أيضا مناطق مشروعات اﻹسكان التي أنشأتها الدولة بنفسها في مراحل مختلفة وتدهورت بيئتها العمرانية مع الوقت بسبب انهيار مستويات دخول سكانها ولجوئهم إلى تعديل الاستخدام لبعض الوحدات من السكن إلى أنشطة اقتصادية مختلفة وكذلك إلى إدخال تعديلات معمارية وعمرانية لاستيعاب زيادة الكثافة السكانية لتعذر انتقال اﻷبناء إلى مساكن أخرى لعدم توافر الموارد المالية اللازمة وكذلك لاستيعاب أنشطة اقتصادية مختلفة توفر عائدا أعلى.
الواقع المعقد والمختلط سكانيا وعمرانيا لأغلب هذه المناطق يجعلها تخوما داخلية للمدينة يصعب اختراقها بالنسبة للاستثمار العقاري حيث يحول ارتفاع تكلفة إحلال نمطها العمراني بآخر مختلف دون أن يحقق العائد المنتظر هامش ربح تنافسي. ولكن هذا وضع قد يتغير مع الوقت ومع استنفاذ فرص الاستثمار الأكثر ربحية التي لا زالت متاحة في مناطق أخرى. في نفس الوقت إذا تحقق لخطط إعادة تأهيل قلب المدينة النجاح فإن قيمة اﻷراضي في المناطق من هذه الفئة اﻷقرب إلى هذا القلب سترتفع إلى الحد الذي يجعل عائد الاستثمار في إحلالها كافيا لتحقيق الربحية المطلوبة. ويمكن حينها توقع أن تمر واحدة بعد أخرى بالمسار الذي سلكته منطقة مثلث ماسبيرو القريبة الشبه بها.
الاستيعاب المتبادل بين الدولة والعمران اللارسمي
منذ بواكير نشأتها كان على الدولة الحديثة أن تتعامل مع كثير من الظواهر الاجتماعية التي لم تنتجها بنفسها، ولكن اﻷكثر عنادا بين هذه الظواهر كان عمران المدينة القديمة، فلم يكن باﻹمكان محو هذا العمران بين ليلة وضحاها واستبداله بآخر تنتجه أدوات الحداثة. ومن ثم فقد احتاجت الدولة الحديثة في تمظهراتها حول العالم عقودا طويلة حتى نجحت في محو العمران القديم أو تحييده. وخلال هذه الفترة طورت أدوات مختلفة للتعامل مع هذا العمران وتطور النسيج الاجتماعي لسكانه الناتج باﻷساس عن محاصرة الدولة الحديثة له. هذه اﻷدوات، التي كانت في أغلبها أمنية، استمرت بالغرب طوال الفترة التي كانت الدولة هناك في حاجة إليها، وفي خلال هذه الفترة انتقلت مع غيرها إلى المستعمرات فيما أصبح اليوم يسمى بالعالم الثالث، ولكنها منذ ذلك الحين أخذت منحى مختلف في تطورها في الغرب وفي مستعمراته.
نشأة العمران الحديث مواكبا للنمو السريع للمدن على حساب العمران القديم وأحيانا بموازاته؛ صاحبه فرز طبقي مستمر. بينما اجتذبت المناطق السكنية الجديدة الطبقات اﻷعلى دخلا، تركز فقراء المدن والمهاجرين إليها من الريف في اﻷحياء القديمة التي انهارت قيمة اﻷراضي والمباني فيها بحيث وفرت وحدها البديل السكني المناسب للقدرات المالية المحدودة لهؤلاء. في الوقت نفسه نشأت المؤسسة العقابية الحديثة وتطورت أدواتها ومنها الشرطة كمؤسسة شبه عسكرية ولكنها مستقلة عن الجيش. ومع هذه المؤسسة ونتيجة لممارساتها الضبطية نشأت الجريمة المنظمة الحديثة في صورتها اﻷولى، والتي كانت فيها البيئة المناسبة للعمل بعيدة بقدر اﻹمكان عن أعين الشرطة هي تلك التي توفرها مناطق العمران القديمة. وبرغم أن الجريمة المنظمة قد تطورت مع الوقت ولم تعد في معظمها في حاجة إلى العمل من مناطق تركز الفقراء؛ فقد ظلت صورة هذه المناطق كمأوى لمحترفي الجريمة باقية في الوعي الجمعي للمجتمعات الحديثة حتى وقتنا هذا.
الأداة اﻷكثر أهمية التي طورتها المؤسسات اﻷمنية في الغرب في ذلك الحين لمحاولة التغلغل داخل الصندوق اﻷسود الذي مثلته مناطق العمران القديمة كان التواجد المادي المباشر من خلال شبكة من المخبرين من أفرادها، وتمديد مدى رؤيتها بإنشاء شبكة موازية لها ومتصلة بها من المرشدين من أهالي هذه المناطق. وقد نقلت دول الغرب هذه اﻷداة مع غيرها عندما أنشأت من الصفر أو أعادت تنظيم قوى الشرطة المحلية في مستعمراتها مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ويمكن القول إنه في الحالة المصرية كان تطور هذه اﻷداة عبر التقلبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها مصر طوال عقود وبصفة خاصة فيما بعد السبعينات أثر فارق في تشكيل ما يمكننا تسميته بالاستيعاب المتبادل بين الدولة وبين مناطق الإسكان اللارسمي.
نشأة ونمو مناطق اﻹسكان اللارسمي على اﻷراضي الزراعية بصفة خاصة وسم هذه المناطق بصفات عمرانية كان لها أثر بالغ في طبيعة المجتمع الناشئ فيها. بصفة أساسية هذا المجتمع لم تتح للدولة التدخل في شؤونه اليومية بنفس القدر المعتاد والمتوقع، فقبل أي شيء لم تخطط الدولة لنشأته بالتخطيط لوجود المناطق السكنية التي يعيش فيها أفراده، ولم تمد هذه المناطق بالمرافق والخدمات التي تتناسب مع الكثافة السكانية بها، ثم هي لم تتمتع بالنفاذ التلقائي والمعرفة المسبقة بأنشطة السكان وأماكن تواجدهم في ساعات النهار والليل كما هو الحال في المناطق المخططة. على جانب آخر تأتي الغالبية العظمى من أفراد هذا المجتمع من بين الفئات اﻷكثر فقرا الذين تكاد تكون المدينة قد لفظتهم إلى تخومها ﻷن مواردهم لا تتيح لهم الحصول على سكن داخلها، ويضاف إليهم المهاجرون إلى المدينة من الأقاليم؛ القادمون بحثا عن رزق لم يتوافر في مناطق نشأتهم، وهم بالضرورة لا يملكون موارد تكفي لإيجاد سكن في قلب المدينة أيضا.
يغلب على خيال الناس أن “العشوائيات” تنتج الجريمة. هذا بالطبع تصور طبقي ناشئ عن أن الخيال الجمعي متعلق في أغلبه بصور الجريمة الرثة التي يمارسها صغار الخارجين عن القانون، وهؤلاء ممن لا تحقق لهم ممارسة الجريمة إلا حصيلة صغيرة هم بالضرورة من الفقراء، وهم أيضا من يترددون أكثر من غيرهم على أقسام الشرطة والسجون وتقوم الشرطة بتسجيلهم لتطاردهم كلما وقعت جريمة في مجال تخصص أي منهم. ولكن بخلاف صغار الخارجين عن القانون تجتذب مناطق اﻹسكان اللارسمي بحكم صعوبة النفاذ إليها جانبا مما يمكن أن نسميه بالبنية التحتية للجريمة المنظمة، وعلى هامش هذه البنية تنشأ فئة البلطجية، وهم المطلوب وجودهم لتوفير الحماية واستمرار العمليات المختلفة للجريمة المنظمة وذلك في اﻷغلب في مواجهة المنافسين. وما يحتاجه البلطجية أنفسهم للنجاح في تحقيق مهامهم هو السيطرة على محيطهم، وفي حين أن هذا يحتاج أحيانا إلى استخدام القوة إلا أنه أغلب الوقت يتم بسبل أخرى تنطوي على قدر من تبادل المنفعة مع السكان ومع الشرطة ومع سياسيين وأصحاب نفوذ ومصالح مختلفين ممن يحتاجون في أحيان كثيرة إلى خدماتهم.
هذه الصورة المركبة لتوازنات القوى داخل مناطق العمران اللارسمي تجعل شبكات المخبرين والمرشدين غير كافية لتحقيق نفوذ كامل للشرطة داخل هذه المناطق. وبصفة عامة فإن السيطرة الكاملة أمر مستحيل، وحين لا يكون ثمة خيار إلا السعي لتحقيقها فهذا لا يمكن له أن يتم إلا باكتساح المنطقة المعنية بشكل كامل، وبخلاف أن هذا أمر ذو كلفة عالية فهو وفق فقه أولويات المؤسسة اﻷمنية ليس ضروريا. فأولويات المؤسسة اﻷمنية كانت طوال عقود هي اﻷمن السياسي. ولا يشمل ذلك تعقب المعارضين فحسب وإنما ضبط العمليات السياسية وبصفة خاصة الانتخابات البرلمانية والرئاسية. وحيث إن تحقيق هذه اﻷهداف لا يتعارض بأي حال مع مصالح الجريمة المنظمة وحماتها في هذه المناطق فإن الطرفين وجدا مساحة واسعة للتعاون وتبادل المنفعة والتنسيق فيما بينهما. وقد تطورت العلاقة الحميمية للمؤسسة اﻷمنية بشبكات البلطجية في المناطق اللارسمية إلى حد اعتمادها على هذه الشبكات ﻷداء مهام ذات أغراض سياسية خارج مناطقها. وفي كثير من اﻷحيان استخدم البلطجية لتنفيذ هذه المهام أشخاصا عاديين من مناطق نفوذهم وذلك عندما تدعو الحاجة إلى أن يظهر هؤلاء كمواطنين عاديين مؤيدين لسياسات الدولة في مواجهة المعارضة.
التحالف اللصيق بين شبكات البلطجية وبين قوات اﻷمن النظامية ظهر في بعض المواجهات مع معارضي نظام مبارك وبصفة خاصة في أحداث هامة مثل الاستفتاء على التعديلات الدستورية في عام 2007، وانتخابات 2010 التي تخلت فيها قيادة الحزب الوطني عن التوازنات التي رعاها الحرس الحديدي القديم وسعت إلى خلق برلمان خال تماما من المعارضة، ولكن هذا التحالف تجلى بأوضح ما يكون منذ اندلاع ثورة يناير 2011، فقد ظهر البلطجية جنبا إلى جنب مع القوات النظامية في كثير من المواجهات، كما أوكل إليهم في أحيان كثيرة مواجهة وتفريق مسيرات ومظاهرات كثيرة، وبلغ عنف جماعات البلطجية العاملة بتوجيه شبه مباشر من المؤسسة اﻷمنية مداه في أعقاب انقلاب يوليو 2013 في مواجهة المسيرات المضادة للانقلاب.
ملمح هام لهذه العلاقة المركبة للدولة من خلال مؤسستها اﻷمنية بمناطق العمران اللارسمي من خلال جماعات البلطجية صاحبة النفوذ فيها، هو أنها علاقة غير مباشرة تتم عبر شبكة معقدة من العلاقات المباشرة عند اﻷطراف على مستوى القاعدة أو قريبا منها. وتعتمد هذه الشبكة على علاقات مشخصنة أي بين أشخاص بعينهم من الأطراف المختلفة، وعلى قواعد لبناء الثقة والمنفعة المتبادلة، وفي حين قد تكون المنفعة المطلوبة عائدة على المؤسسة نفسها من خلال تحقيق أهداف سياسية أو أمنية في مناسبات بعينها، فاليومي والمعتاد هو خليط من عمليات النفع المتبادل بين أشخاص داخل الشبكة على مستويات مختلفة. وهذا ما يخلق تشابكا معقدا يستحيل معه القول بأن جهة ما تأتمر دوما وبشكل مستمر بأمر اﻷخرى، أو بعبارة أخرى لا يمكننا القول بأن هذه العلاقة تمثل تغلغلا للدولة في هذه المناطق من خلال أدوات غير تقليدية، فحقيقة أن العلاقات متشعبة وشخصية تعني أن الجهة النظامية في الصورة اﻷكبر لا يمكنها الاعتماد بموثوقية كافية على التسلسل القيادي لتنفيذ استراتيجية ما إذا ما اصطدم ما يتطلبه هذا التنفيذ مع مصالح أفراد أو مجموعات عند مستو ما من الشبكة، فهؤلاء قادرون على عرقلة التنفيذ واجهاضه حفاظا على مصالحهم الخاصة، ولا يجعل هذا القيادة النظامية عاجزة عن السيطرة على الطرف اﻵخر فقط بل يجعلها عاجزة عن السيطرة على أفرادها أنفسهم في بعض اﻷحيان. ومن ثم بينما تحقق هذه الشبكة من العلاقات ارتباطا عضويا للمؤسسة اﻷمنية بمصالح متجذرة في النسيج الاجتماعي لهذه المناطق بحكم تحقيقها عند أطرافها لمنافع واضحة للأفراد، فإن هذا الارتباط يتحقق على حساب تماسك المؤسسة اﻷمنية ذاته.
أقراء أيضاً
إمكانية الإدارة الذاتية في العشوائيات
من الواضح أن أيا من التجارب التي حاولت إقامة شكل من أشكال التشاركية لم ينجح في تحقيق أهدافه نظرا لافتقاد الواقع العملي لتنفيذ هذه التجارب إلى المتطلبات الأساسية للإدارة الذاتية الناجحة. ولا تنطبق هذه المتطلبات أيضا على الصور المختلفة لتوفير بدائل لدور الدولة في هذه المناطق سواء من حيث توفير بعض الخدمات أو توفير الحماية وتسوية المنازعات. ويمكننا بذلك أن نتبين أن أية إمكانية لتحقيق صورة فعالة وعادلة للإدارة الذاتية في مناطق الإسكان اللارسمي تدور بالأساس حول إمكانية تطوير التجارب السابقة وإزالة العراقيل التي حالت دون تحقيقها لأهدافها أو تحويل الآليات المطورة محليا إلى صورة تحقق متطلبات الإدارة الذاتية.
يتطلب نجاح أي شكل من الإدارة الذاتية إطارا من الشرعية تحمي استمراريته، كما أنه يتطلب توفير موارد مالية وتقنية يفتقر إليها السكان، إضافة إلى أن كثيرا من الخدمات والمرافق لا يمكن أن تعمل بالأساس أو أن تعمل بشكل مُرضٍ دون ربطها بالشبكات والمؤسسات المدارة إقليميا أو قوميا. ما سبق كله يشير إلى أن دور الدولة ضروري، وإن كان هذا الدور ليس بالضرورة أن يكون تقليديا، ومن ثم كخطوة أولى ينبغي على الدولة والسكان معا التخلي عن التصور التقليدي لإدارة الدولة الكاملة لشؤون مناطق سكنهم، وكخطوة ثانية يمكن تشكيل دور الدولة كحام لشرعية الترتيبات المحلية من خلال قوانينها، وكممول وميسر لوصول التمويل وكمصدر و/أو ميسر لتوفير الخبرات الفنية المطلوبة، وكذلك كمنسق لربط المرافق والخدمات بالشبكات الإقليمية والقومية.
ليس ثمة نظريا ما يحول دون تبني الدولة المصرية في ظل الحكم الحالي لتوجه مشابه يرفع عن كاهلها قدرا من المسؤوليات خاصة المالية، مع اعتبار أن يأتي معظم التمويل المطلوب من جهات مانحة خارجية، ولكن على أرض الواقع سيظل هناك العائق الأكبر وهو نظر الدولة على مستويات مؤسساتها الهرمية المختلفة إلى مناطق الإسكان اللارسمي كمصدر تهديد أمني، وهذا الهاجس في الواقع قد تزايد بصفة خاصة في أعقاب ثورة 25 يناير، ومن ثم فالتغلغل الأمني من خلال شبكات المخبرين والمرشدين والبلطجية في هذه المناطق تزايد ومن ثم تعززت شبكات المصالح والنفوذ المرتبطة به وهذه الأخيرة تحول بالضرورة دون إقامة آليات تمثيل سليمة محليا. بالتالي فأي محاولة جادة وفعالة لإقامة شكل من أشكال الإدارة الذاتية في مناطق الإسكان اللارسمي تتطلب تعديلا في التوجه السياسي للدولة يبدأ من أعلى مؤسساتها، وتتوافر لديه إرادة تفكيك شبكات المصالح الواصلة بين مؤسسات الدولة وبين أصحاب النفوذ المحليين. وهذا يستحيل تحقيقه دون أن ينتفي وجود مصالح لمؤسسات الدولة العليا مرتبطة باستمرار التغلغل الأمني في هذه المناطق بصورته الحالية. بعبارة أخرى لا ينبغي أن تتعلق مصالح المؤسسات العليا بقمع المعارضة وتعقب المعارضين وبالسيطرة على العمليات الانتخابية والعمل على توجيهها لصالحها. باختصار لن يكون من مصلحة مؤسسات الحكم أن تفكك شبكات المصالح والنفوذ إلا إذا كانت هي نفسها مؤسسات ديموقراطية منتخبة ومتقبلة لمبدأ تداول السلطة.
إذا ما تصورنا وجود مثل هذه الإرادة السياسية وتفعيلها في صورة تفكيك شبكات المصالح والنفوذ الحالية، سيبقى حينها أن يتاح للسكان المحليين إفراز قياداتهم المحليين بأي سبيل ديموقراطي يسمح بأن يكون لهم ممثلون حقيقيون في أي عملية تشاركية، وهذا يتطلب ألا يتاح لأصحاب الموارد المالية الأكبر أن يتمتعوا بنفوذ يسمح لهم بتوجيه عمليات التمثيل لصالحهم، ويشمل ذلك الجهات الخارجية ذات المصالح المختلفة التي قد تستغل تقديمها لخدمات لأهالي المناطق الفقراء في تحقيق مصالح انتخابية أو في فرض سلوكيات أو ممارسات بعينها. ولا يعني هذا بالطبع وقف العمل الخيري ولكن تنظيمه بحيث تصل التبرعات إلى صناديق تدار محليا توجه التبرعات إلى تمويل الاحتياجات التي يقررها السكان من خلال آليات المشاركة، وتدار الخدمات المنشأة بواسطة هذا التمويل من خلال متخصصين تحت رقابة مالية وإدارية لممثلي السكان.
الإدارة الذاتية في مناطق الإسكان اللارسمي في القاهرة وغيرها أيضا من محافظات مصر ليست أمرا مستحيلا. وفي الواقع قد تمثل الحل المنطقي الوحيد للمشاكل المزمنة لهذه المناطق. وقد تكون السبيل الوحيد لرفع مستويات معيشة سكانها الذين يمثلون حاليا قطاعا كبيرا إن لم يكن غالبية سكان المدن في مصر.
ومن ثم فهي ليست غاية فقط وإنما هي ضرورة أيضا. ولكن بناء المتطلبات الأساسية للإدارة الذاتية المرجوة يتطلب إرادة سياسية يكاد يستحيل توافرها حاليا في ظل حكم المؤسسة العسكرية، ومن ثم فمثل كثير من قضايا ومشاكل المصريين لا مجال للتقدم نحو حلحلة هذه القضية المصيرية دون المرور بالتغيير الديموقراطي أولا.
مثل هذا التغيير لا ينبغي أن يكون قشريا يأخذ بمظاهر الديموقراطية المتمثلة فقط في تفويض الصناديق لأحد الأحزاب بالحكم، وإنما هو تغيير ينبني على إيمان حقيقي بالديموقراطية على مستوياتها المختلفة، لأن هذا الإيمان وحده هو ما يمكن أن يؤدي بمؤسسات الدولة إلى الانخراط بفعالية في عمليات الإدارة التشاركية والسماح للسكان بلعب دور حقيقي في تطوير وتنمية مناطقهم ومن خلالها رفع مستوى معيشتهم.