fbpx
تحليلاتقلم وميدان

خبرات إدارة ما بعد الصراعات: أيرلندا

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

(1)ظلت أيرلندا الشمالية لسنوات عديدة موضع صراع عنيف ومرير بين الرومان الكاثوليك والاتحاديين الموالين للتاج البريطاني الذين يعتبرون أنفسهم بريطانيين وهم من البروتستانت في الغالب، واتخذ هذا الصراع أشكالًا عديدة منها ما كان موسميًا يظهر فى فترات الاحتفال بالأعياد الدينية الخاصة بالكاثوليك والبروتستانت، ومنها ما كان سياسيًا ودستوريًا، ولكن في أواخر العام 1960 بدأ النزاع يأخذ منحىً خطيرًا تمثل فى تشكيل مجموعات قتالية، وتأسيس ميليشيات مسلحة مارست القتل والتفجيرات والاغتيالات، وقد قُتل فى الفترة من (1969–1993) قرابة 3254 شخصًا، وجُرح 47 ألفًا، وسُجل حوالى 10 آلاف هجوم بالقنابل، و37 ألف حالة إطلاق رصاص، و22 ألف حالة سطو مسلح، إضافة إلى أكثر من 2000 حالة استخدام لمواد حارقة ضد الأشخاص.

وبعد قرابة ثلاثة عقود من الحرب الأهلية، انتصر صوت العقل والحكمة، ونجحت أيرلندا الشمالية في تجاوز الاقتتال الأهلي وتخلصت بدرجة كبيرة من جراحات الماضي، وولت وجهها شطر الاستقرار، والتنمية، والسلام فتم توقيع اتفاق «الجمعة العظيمة» عام 1998 بين كل الأطراف المتنازعة، وعلى رأسها بريطانيا وجمهورية أيرلندا والأحزاب والمجموعات المسلحة فى أيرلندا الشمالية برعاية الولايات المتحدة الأمريكية، ونجح هذا الاتفاق التاريخي بفضل سبعة عوامل مركزية وهي:

أولا: إدراك جميع المنخرطين فى النزاع سواء القوى السياسية والمجموعات المسلحة في أيرلندا الشمالية من ناحية، والحكومة البريطانية ممثلة فى الجيش والشرطة وجهاز المخابرات من جهة أخرى، بعدم توفر إمكانية حسم النزاع عبر القوة المسلحة لصالح طرف من الأطراف، فالمجموعات المسلحة وخاصة حزب (الشين فين) رغم تلقيه العديد من الضربات الأمنية، ظلت لديه القدرة على تنفيذ عمليات عنيفة وصلت إلى العاصمة البريطانية لندن، وبالتالي كانت المفاوضات فى النهاية الخيار المرغوب فيه لدى الجميع.

ثانيًا: قبول الحكومة البريطانية للوساطة الدولية فى النزاع بعد رفضٍ استمر قرابة ثلاثة عقود من الزمن، فوساطة الولايات المتحدة الأمريكية بين الأطراف المتنازعة وفر فرصة ذهبية للتواصل مع كافة الأطراف المتنازعة، وخاصة المجموعات المسلحة المسؤولة عن أعمال العنف والتي كانت ترفض بريطانيا التفاوض والحوار معها، بدعوى أنها مجموعات إرهابية.

وهذه النقطة تحديدًا كانت تمثل العقبة الرئيسة في فشل كل الاتفاقيات السياسية السابقة لأنها كانت تستبعد هذه الفئات، على الرغم من تأثيرها في الصراع، ويَضاف إلى ذلك إشراك جمهورية أيرلندا كطرف ثانوي فى الصراع، كان أيضًا مهمًا في تقويض النزاع والصراع وكل ما سبق لم يكن ليتحقق لولا جهود الوساطة الأميركية.

ثالثًا: وضوح خطة الوسيط الأميركي المسؤول عن ملفات التفاوض والحوار بين المجموعات المُختلفة من ناحية الإستراتيجية التفاوضية المتبعة لتطبيق اتفاق السلام، وتحديد سلم الإجراءات الميدانية بسقف زمني مدروس يحافظ بشكل صارم على بنود الإتفاقية الموقعة بين الأطراف، أعطى مصداقية عالية لعميلة التفاوض وشجع جميع الأطراف على الانخراط فيها بجدية، عكس العديد من الاتفاقيات السابقة التي لم تحظ بهذه الرعاية والخبرة الدولية.

رابعًا: إتاحة وقت كافٍ للتفاوض والنقاش والتواصل مكّن قادة المجموعات المسلحة من التواصل مع أنصارهم فى الميدان وسهل عليهم تغير قناعاتهم بجدوى الانخراط فى العملية السلمية والمسار الدستوري والسياسي ونبذ العنف، ومن ثم الموافقة على إلقاء السلاح، فقد استغرقت عملية التفاوض والحوار تحت الرعاية الأميركية قرابة 700 يومًا من العمل والجهد والتنسيق الحثيث.

خامسًا: إنشاء هيئات دستورية وقانونية واجتماعية معنية بتطبيق بنود اتفاقية «الجمعة العظيمة» ساهم فى تفعيل نتائج الاتفاق على الأرض، وجعل المواطنين فى أيرلندا يلمسون قيمة السلام والاستقرار، فقد بلغ عدد الهيئات التي أنشئت للسهر على تطبيق الإتفاقية نحو (11) مؤسسة متنوعة، وفي هذه المؤسسات تم إعادة هيكلة جهاز الشرطة والأمن، وإنشاء هيئة خاصة تنظم الاحتفال بالمناسبات الدينية التاريخية، والتي كانت تعد من نقاط الاشتباك والاحتكاك بين الكاثوليك والبروتستانت، ومهمة هذه الهيئة هي تحديد مسار هذه الاحتفالات وتجنب سيرها في المناطق التي تستفز الآخر المخالف، وتطبيق القوانين الصارمة على المنظمين والمشاركين فيها.

سادسًا: نشاط مؤسسات المجتمع المدني فى الجامعات والكنائس والمؤسسات التربوية عبر المجموعات الميدانية المُشتركة، ساهم فى نشر قيم السلام والتعارف والتسامح بين الكاثوليك والبروتستانت، فمن خلال المناهج الدراسية والزيارات المتبادلة تم تجسير الفجوة بين المكونات الاجتماعية المختلفة من خلال التعرف على ثقافة وتقاليد وعادات الطرف الآخر، وهذا الجهد ساعد بشكل كبير فى محاصرة الأفكار المُتعصبة وزرع ثقافة التسامح بين الأجيال الأيرلندية الشابة.

سابعًا: تقاسم السلطة والمهام السياسية بين كافة الأطراف المتنازعة سابقًا وفّر فرصة كبيرة لمعالجة الأفكار النمطية عن الآخر المختلف، وساهم فى تحمل الجميع مسؤولية نجاح أو فشل اتفاقية السلام الموقعة بينهم، فقد تولى أعضاء سابقون في حزب الشين فين المسلح مناصب وزارية مثل القائد “مارتن ماكغينيس”، وهذا مثّل تحولًا حقيقيًا نحو بناء السلام بشكل دائم ومستقر عبر دمج جميع أطراف الصراع في العملية السياسية، حتى لو كان لهم تاريخ نضالي عنيف ومسلح.

وبناء على ما سبق، يتضح لنا جميعًا أن فض أي نزاع فى العالم مهما اختلف مكانه وزمانه وإن كان دمويًا وطويلًا ومدمرًا، يمكن فضه إذا انتصر صوت العقل والحكمة بين الأطراف المتصارعة، وتقاطع ذلك مع دعم دولي مساند يسعى بصدق لإحلال السلام والأمن والاستقرار، وينحاز لحقوق الإنسان والكرامة الإنسانية.

—————————-

الهامش

(1) الآراء الواردة تعبر عن كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”
لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close