fbpx
الشرق الأوسطدراسات

جيوبوليتيكا العواطف: ثلاثية الخوف والأمل والإذلال

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

جيوبوليتيكا العواطف: ثلاثية الخوف والأمل والإذلال وتطبيقها في الدول العربية

مقدمة

لطالما ساهمت جيوبوليتيكا العواطف منذ بداية ظهورها عام 2009 مع دومنيك مواسي Domonique Moisi في التأثير في مستقبل الدول على مستوى السلوك والأداء والمسار السياسي، الذي يترجم بدوره في شكل مواقف قد تزيد من قوة الدول أو تؤدي إلى ضعفها، لذلك فإنّ أهم العواطف المؤثرة على المسار السياسي للدول ترتبط بثلاثية الخوف والأمل والإذلال، ولكل منها منحى سلبي أو إيجابي في التأثير، كون هذه الثلاثية تلعب الدور البارز في رسم السلوك السياسي البشري، في خضم الصراعات العاطفية التي يخوضها مواطنو الدول، والتي تتمخض عنها إمّا بناء لدولة المستقبل، أو تراجع ووصول الأمر إلى حد الانفصال والبدء في رحلة البحث عن كيان جديد.

فالخوف هو غياب الثقة في المستقل، والتوقع بأنّ القادم سيكون أكثر خطورة، على عكس الأمل، الذي يرسم سلوك بشري منتج يطمح للتطوير، أمّا الإذلال فهو من أخطر المشاعر التي تحدثت عنها جيوبوليتيكا العواطف، كونه يعبر عن القهر الذي يؤدي بالشعوب إلى الشعور بالمهانة ما يعكس الرفض المطلق للواقع مع الرغبة في الانفصال والانتفاضة، ويصل الأمر إلى حد استعمال العنف.

ولعّل واقع الدول العربية أقرب ما يكون لهذا الطرح المتعلق بالشعور بالمذلة والخوف أكثر ما يكون نحو الأمل، ما قد أدى فعلا إلى التأثير على المسار السياسي لهذه الدول، وخير دليل على ذلك ما شهدته وتشهده عديد الدول العربية ضمن ما يطلق عليه الربيع العربي، لكن ما يجب أن يسلط عليه الضوء هو مآلها، خاصة تلك التي كانت ضمن بوتقة الربيع العربي، دون إغفال فكرة أنّ هذه الدول لازالت تتعرض للمهانة والإذلال ببعديه المعنوي والمادي، ممّا زاد من تأصيل مشاعر اللاقبول والرفض والرغبة في التغيير الدائم، وبناء على هذا  الوضع، فإنّ السلوك السياسي البشري لهاته الدول العربية محكوم بأن يسلك نفس المسار الذي يحول دون بناء فعلي ورصين لدولة وطنية عربية بكل ما لها من مقومات، في ظل فشل حكومات هذه الدول في بناء مشاعر الأمل التي بدورها تزرع الثقة لدى شعوبها، ما يفتح المجال نحو إعادة بناء الوحدة الوطنية.

وبالتالي فإن ما يطرح نفسه للنقاش بشدة هو: ما مستقبل الدول العربية على ضوء ثلاثية الخوف والأمل والإذلال؟ وما مدى قدرة هذه الدول في تحويل مشاعر الخوف والإذلال إلى مشاعر ثقة وأمل؟

محاور الدراسة:

  1. جيوبوليتيكا العواطف: قراءة معرفية
  2. واقع ثلاثية الخوف والأمل والإذلال في الدول العربية
  3. مستقبل الدول العربية على محك ثنائية الواقع والمأمول في ضوء ثلاثية الخوف والأمل والإذلال.

المحور الأول: جيوبوليتيكا العواطف: قراءة معرفية

تعد جيوبوليتيكا العواطف من أهم الأبعاد الجديدة للطروحات الجيبولتيكية، وهي وثيقة الارتباط بالجيوبوليتيكا النقدية وأحد تفرعاتها وتندرج هذه الأخيرة تحت ما يعرف بالجغرافيا البشرية، وجاءت هذه الطروحات الجيوبوليتيكية الجديدة تبعا لمجموعة من المتغيرات والعوامل، وقبل التعريج على جيوبوليتيكا العواطف، يجب التطرق أولا إلى المحددات المفاهيمية للجيوبوليتيكا النقدية.

1- الجيوبوليتيكا النقدية:

ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية توجهات جديدة حكمت الأبحاث والدراسات الجيوبوليتيكية وأخذت العديد من المسميات على غرار الجيوبوليتيكا النقدية Critical Geopolitics، وأيضا الجيوبوليتيكا البديلة Alternative Geopolitics، كما يطلق عليها أيضا الجيوبوليتيكا الأرثوذكسية Orthodox Geopolitics وقاد هذا التوجه الجديد العديد من الرواد لعّل أهمهم جيرويد أتوتل، جون اولوغلن، جون آرينيو، وسيمون والبي. (خورشيد، 2013، 37 -38)، وتقوم الجيوبوليتيكا النقدية على مجموعة من المفاهيم والمنطلقات:

  1. التشكيك في المفاهيم الجيوبوليتيكية الكلاسيكية أو على حد تعبيرهم التقليدية Traditional Geopolitics
  2. اعتبار المفاهيم الكلاسيكية مجموعة واسعة من الأفكار المتمركزة حول القوة، الحرب، السيطرة، التوسع، والهيمنة.
  3. ظهور العديد من العوامل والمتغيرات التي تتجاوز المقومات الجغرافية، والتي أصبح لها الدور في تشكيل الواقع والحدث السياسي.
  4. أهم المتغيرات التي تضمنها الجيوبوليتيكا النقدية في التحليل هي المتغيرات التكنولوجية سواء تكنولوجيا الإعلام والاتصال، ظاهرة الثقافة التكنولوجية العالمية، العولمة، الثورة المعلوماتية، والتي جعلت من الحدود الجغرافية حدود كاذبة على حد تعبير كلاوس دودز. (خورشيد، 2013، 38).

دوافع النشأة:

من بين أهم دوافع ظهور الجيوبوليتيكا النقدية هو نقد للجيوبوليتيكا التقليدية[1] وقد عبر عن ذلك أتوثل:

 “إنّ الجيوبوليتيكا النقدية تقف على النقيض من ذلك لأنه مشروع نظري مشكلاتي يضع الهياكل القائمة لمكون القوة والمعرفة محل اختبار وتحليل، عكس الجيوبوليتيكا السابقة المتحجرة” (خورشيد، 2013، 39).

لعّل أهم بواعث الجيوبوليتيكا النقدية هي الموضوعات الجديدة التي طرحت نفسها بشدة على الساحة الدولية، وقد صنفها كلاوس دودز كالتالي: انتهاء الحرب الباردة، الشركات المعلوماتية الطاغية، التجزئة والدولة ذات السيادة، التكتلات الإقليمية، وسائل الإعلام وحالات الطوارئ الإنسانية(الكوارث)، النظام الدولي (هيئة الأمم المتحدة). (خورشيد، 2013، 39 – 40).

وقد أكد دودز على أن العامل التكنولوجي له الدور البارز في ظهور الجيوبوليتيكا النقدية، وعبر عن ذلك من خلال: “هناك سمة جديدة في تكنولوجيا الإعلام والاتصال غيرت من سرعة وثقافة التغيرات السياسية الكوكبية لأنها تخلق قدرة للمتابعين من الأكاديميين والسياسيين في تفسير وتوضيح أوضاع العالم، فالمسافات بين دول العالم غيرتها طبيعة وسرعة تكنولوجيات الاتصال، فالتلفزيون حسب رأي البعض حول المسافة الجغرافية إلى مسافة كاذبة” (خورشيد، 2013، 40).

أنواع الجيوبوليتيكا وفقا للجيوبوليتيكية النقدية:

حسب كلاودس دودز فإن الجيوبوليتيكا بصفة عامة تنقسم إلى قسمين أساسيين:

  • الجيوبوليتيكا الشكلية أو المنهجية Formal texts: تعبر عن الآراء التقليدية للمنظرين الجيوبوليتيكيين التقليديين على غرار ماكندر، سبيكمان.
  • الجيوبوليتيكا العملية practical: تقوم على استقراء واستنتاج عواقب الأحداث، ليتم بعدها صياغة الخطاب الخاص بصنع السياسة الخارجية، ما يعكس التوجه الجيوبوليتيكي النقدي الذي يستبعد الطروحات التقليدية للجيوبوليتيكا ذات الارتباط بالقوة الجوية والبرية والبحرية، وتمّ اعتبارها ضمن الجغرافيا التاريخية.

فالجيوبوليتيكا النقدية لا تنظر إلى الجيوبوليتيكا كمعطى ذي مقومات جغرافية مسبقة pre-given geographical data، ولكن تنظر إليها بمنظور إيديولوجي وسياسي أعمق، متجاوزة بذلك السؤال التقليدي القائم على: كيف تؤثر الجغرافيا على السياسة؟  How can or does geography influence politis? إلى: كيف للمفاهيم الجغرافية أن تتموقع ضمن الحوارات السياسية والممارسات العملية؟ وبالتالي فهي تحاول تجاوز الطروحات السائدة للنقاشات الجيوبوليتيكية التقليدية mainstream geopolitical discourse كونها أرست لمحددات جديدة ذات ارتباط بالبعد السيكولوجي الذي يتخذ من الفرد وحدة أساسية للتحليل، وكيف يمكن لهذا البعد الإسهام في رسم الواقع والحدث السياسي.

2- جيوبوليتيكا العواطف:

بدأت الإرهاصات الأولى لهذا الطرح مع كتاب ” جيوبوليتيكا العواطف: كيف لثقافة الخوف، الإذلال والأمل أن تعيد تشكيل العالم Geopolitics of Emotion: How can culture of fear, humiliation, and hope  reshpe the world ?. وينطلق الكاتب دومينيك مواسي من فكرة مفادها أنّ خارطة العواطف سوف تصبح شرعية وإلزامية على غرار خارطة الوقائع الجغرافية…” (Senay,03).

وصنف هذا الأخير هذه العواطف إلى عواطف الخوف، الإذلال والأمل والتي لها دور في رسم الواقع والحدث السياسي، بنفس الدرجة التي تؤثر بها متغيرات ومحددات ثقافية أخرى على غرار الدين، والحضارة والهوية…، ووصف هذه المشاعر من خلال الخوف هو غياب الثقة؟ الأمل هو تعبير عن الثقة، والإذلال هو تقويض للثقة. (Senay,09).

فالصراعات العاطفية على حد تعبير دومينيك مواسي برزت خاصة في فترة ما بعد الحرب الباردة، من أجل طرح أبعاد جديدة لدراسة الظواهر خاصة الصراعية ذات الأبعاد الهوياتية، في ظل طروحات العولمة التي بدورها أعطت دورا معولما لهذه العواطف على غرار الخوف المعولم Globalized Fear، فالعواطف حسب دومينيك مواسي تعكس درجة الثقة التي يمكن من خلالها للأفراد إعادة النهوض والبناء في مرحلة ما بعد الأزمة (خورشيد، 2013، 42)، وقد تمّ اختيار عواطف الخوف والآمل والإذلال لأن هذه العواطف الثلاث وثيقة الصلة مع فكرة الثقة والتي تعد محدد أساسي لبناء العلاقات، وترمز هذه العواطف إلى:

  • الخوف: Fear غياب الثقة أو كما عبر عنه دومينيك الثقة الحرجة لفقدان الأمل من المستقبل، وتوقع أن المستقبل سيكون أكثر خطورة ولا استقرار.
  • الأمل: يقع في الجهة النقيض للخوف، ويقوم على مقومات إيجابية ترتسم في غد أفضل من اليوم، والمستقبل سيكون مليء بالفرص، مما يدفع إلى التأقلم والاستجابة.
  • الإذلال: ويعتبره دومينيك من أخطر أنولع العواطف التي لها جذور وامتدادات، ويعبر عن الإحساس بالمهانة والمساس بالكرامة، ويلعب على وتر العواطف المقهورة. (خورشيد، 2013، 42-43).

المحور الثاني: واقع ثلاثية الخوف، الأمل والإذلال في الدول العربية: تونس ومصر.

يمكن التماس مظاهر يعكسها واقع ثلاثية الأمل الخوف والإذلال في العديد من الدول العربية، لكنها تكون بشكل جلي في تلك التي شهدت انتفاضات على الأنظمة التسلطية على غرار تونس ومصر.

1- مظاهر عواطف الخوف والأمل والإذلال في تونس

من خلال كتاب لكريستوفر ألكسندر Christopher Alexander معنون بـ ” تونس: الاستقرار والإصلاح في المغرب الحديث” Tunisia : Stability and Reform in the Modern Maghreb  طرح فكرة الانغلاق السياسي للتونسيين، وعدم اندماجهم في الحياة السياسية، وخضوع الدراسات والبحوث الأكاديمية لرحمة النظام التسلطي، والإكراه إلى جانب الولاء للنخبة الاقتصادية، وقمع حرية التعبير، واحتواء المعارضة وانتشار الخوف في المجتمع، فلا يمكن لمواطن تونسي الخوض في القضايا السياسية تحت مبدأ “لا أرى أي شيء ولا أسمع أي شيء ولا أتحدث بأي شيء” seeing nothing, hearing nothing, and saying nothing. (Pearlman, 2013,395).

وأصبح الخوف يتحكم في سلوكيات وحتى حركات المواطنين التونسيين، فمثلا لمجرد نطق كلمة أو فكرة تخص الوضع التونسي يتوجب أخذ الحيطة والحذر، خاصة بين أفراد الطبقة الوسطى، وكما عبر عنها كرستوفر ألكسندر فإنّ التونسيين قد تخلوا عن ممارسة السياسة Tunisians have simply give up on politics (Pearlman, 2013,395).

في ديسمبر عام 2010 انطلقت أول شرارة للتنفيس عن الغصب من الإقليم الجنوبي، عبر حرق أحد المواطنين لنفسه عند تعرضه للإذلال والإهانة من طرف شرطي تونسي، واعتبر هذا الفعل كرد فعل على الإهانة المدفوعة بالقهر، واللاعدالة، والاستبداد كما تمّ التعبير من قبل أحد الناشطين أن البوعزيزي حرق نفسه لتعرضه للإذلال وكل الطبقات تحس بهذا الإذلال، وعبر أحد الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي يعيش وضع الإذلال والخوف والقهر كالتالي: (Pearlman,2013,395)

” التونسيون، الذين تعودوا أن يعيشوا في صمت الخوف والطاعة لحقبة من الزمن هم الذين أمسكوا مصيرهم بأيديهم”

وفي ظل الشعور بالخوف والإذلال المتجذر منذ حقبة من الزمن، وهو ما ساعدت وسائل التواصل الاجتماعي على إظهاره، فإن ردة فعل النظام التونسي المتجسد في الرئيس بن علي وزوجته كانت قاسية قسوة سنين الظلم والخوف والإذلال التي عاناها وعاشها الشعب التونسي، حتى غدت جزأ لا يتجزأ من شخصيته، وتمّ استعمال العديد من وسائل الضغط والإكراه والقتل والتعذيب لإيقاف المظاهرات والانتفاضة ضد النظام الحاكم. (Pearlman,2013, 395).

لذلك فإن الانتفاضة التونسية كانت بمثابة انتفاضة لتجاوز مشاعر الإهانة والقضاء على مصدر الخوف، كانت بمثابة مخاطرة لاسترجاع الكرامة، وقد عبر التونسيون على إثر احتفالهم بذكرى إسقاط نظام بن علي، أنّ أعظم انجاز تم تحقيقه من وراء الانتفاضة ليس إسقاط النظام فقط، وإنّما كسر حاجز الخوف والتحرر من الإذلال والمهانة. (Pearlman,2013,396).

لكن السؤال الذي يطرح نفسه وبشدة هو هل التحرر من عواطف الخوف والإذلال، مكن فعلا من بناء مشاعر ثقة في النظام الجديد والذي على إثره ترسم ملامح مستقبل الدولة التونسية؟ وهل يمكن فعلا القول إنّ الأنظمة التي تلت وستلي نظام بن علي قد أسهمت وتسهم في إرساء مشاعر الثقة ما من شأنه أن يخلق سيكولوجية جديدة للفرد التونسي قائمة على التحدي والاستجابة لما سيواجهه في المستقبل.

2- عواطف الخوف والأمل والإذلال في مصر

لعل الأسباب الظاهرة لانتفاضة الشعب المصري ضد النظام القائم، هي سيطرة المؤسسة العسكرية، الفقر البطالة، الفساد، المحسوبية، اللامساواة، واللاشفافية وغيرها، كلها أسهمت في قيام المصريين بالمطالبة بإبعاد الرئيس حسني مبارك ومواليه عن نظام الحكم، لكن ما يمكن ملاحظته وما تجذر منذ عقود من الزمن وطيلة فترة حكم مبارك التي دامت ما يقارب ثلاثة عقود، هو عواطف المذلة والمهانة والإحساس بلاأهمية الذات، والخوف من خوض فكرة التحرك نحو المستقبل، وحتى فقدان الاحترام للذات، كل هذه الترسبات التي شكلت شخصية المواطن المصري خصوصا الطبقة الفقيرة والمتوسطة هذا إن وجدت، فقد أسهم نظام الرئيس السابق  وشخص الرئيس نفسه في إرساء هذه المشاعر من خلال ما تمّ تسميته “الحكم عبر اللامبالاة” ” Ruling through  apathy” (Pearlman,2013,396).

فقد تجذرت مشاعر الاغتراب السياسي للمواطن المصري، وغياب الحس الجمعي بالمشاركة في الحياة السياسية، وعدم القدرة على التغيير، والتفكير في التغيير هو ضرب من الخيال، وهي الفئة الغالبة من الشعب التي دافعت عن شعار المشي مع الحائط   *Walk next to the wallليتحول الأمر من مجرد مشاعر إلى ممارسات تدعو إلى الابتعاد المطلق عن الاهتمام بالحياة السياسية، والتركيز على توفير الحاجيات الأساسية التي ترتبط بالمأكل. (Pearlman,2013,396).

وقد كانت ردة الفعل من طرف المتظاهرين عنيفة على غرار طبيعة النظام في حد ذاته، كون الطبيعة العسكرية للنظام ألقت بظلالها على آليات احتواء الانتفاضة وعبرت عن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وبسقوط النظام، ظهر هناك نوع من مشاعر الثقة في إعادة البناء، والطموح والأمل لمستقبل أفضل، إلا أنّ اللااستقرار الذي شهدته مرحلة ما بعد الانتفاضة، قد أدخل الشعب المصري من جديد في دوامة مشاعر الخوف، والأمل والإذلال، ما يطرح العديد من التساؤلات حول مستقبل المواطن المصري والدولة في ظل النظام الحالي، ومدى فعلية الدور الذي يقوم به في بناء أو إعادة تشكيل المواطن المصري وفقا لمشاعر إيجابية أو وفقا لمشاعر سلبية.

وإذا ما أردنا الربط بين ما جاء في الجانب النظري حول جيوبوليتيكا العواطف والقائمة على ثلاثية الخوف والإذلال والأمل وبين واقع هذه الثلاثية في الدول العربية، مصر وتونس كدراستي حالة، نجد أن هذا الطرح الجيوبوليتيكي قد تمكن من إعطاء تفسير لانتفاضة الشعوب العربية من جهة، وفتح المجال لوضع تصورات لمستقبل الدولة العربية من جهة أخرى، في ظل الانتفاضات التي جاءت لتوليد مشاعر الثقة من أجل مستقبل أفضل ومدى نجاح مسار التغييرات التي قادتها الشعوب العربية في التخلص من مشاعر الخوف والإذلال المتجذرين، والذين تسببت فيهما الطبيعة التسلطية للأنظمة لعديد من الدول العربية على غرار تونس ومصر.

فقد تمكنت الشعوب العربية في مرحلة ما من أخذ الخطوة اللازمة للقضاء على الوضع القائم في ظل مجموعة من العوامل السياسية، والاجتماعية والاقتصادية التي وقفت وراء الانتفاضة، إلاّ أن العوامل النفسية التي تمحورت حول الخوف والإذلال سرعان ما عادت تسيطر على هذه الشعوب، ما يؤدي إلى وضع تصورات عديدة لمستقبل الدول العربية على ضوء ثنائية الواقع والمأمول المتمحور حول ثلاثية الخوف والأمل والإذلال.

لذلك فالانتفاضة الشعبية في كل من تونس ومصر جمعت بين العديد من العوامل ناهيك عن العامل النفسي، فإلى جانب العامل الاقتصادي المرتبط بتدهور الأوضاع المعيشية، يظهر العامل السياسي المرتبط باللامساواة واللاشفافية، وغياب الحرية السياسية والمراقبة، والعامل النفسي الذي يتمحور حول الكرامة وتجذر مشاعر الخوف والإذلال. (Omer, 2015. 48).

المحور الثالث: الدول العربية وثلاثية الخوف، الأمل والإذلال

في ظل الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لعديد من الدول العربية خاصة تلك التي شهدت انتفاضات أو ما يطلق عليها بالربيع العربي، على غرار تونس ومصر فإن كلا البلدين يشهدان من التعقيدات الاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية، ما يجعل من الصعوبة بمكان توقع مستقبل أفضل عن الوضع الذي السائد مع تجاوز لمشاعر الخوف والإذلال واستبدالها بمشاعر الأمل والثقة في المستقبل.

فحسب المحلل السياسي منذر ثابت فإن المواطن التونسي بعد مرور حوالي ست سنوات على الانتفاضة، لم يحس بتحسن ملحوظ في أوضاعه المعيشية، بل بخلاف ذلك فقد زاد الوضع تأزما ممّا كان عليه في السابق، فقد حصلت خيبة أمل وعودة لمشاعر الخوف وحتى الشعور لرجوع رموز النظام السابق للحكم نظرا لعدم قدرة وفشل النخبة السياسية التي جاءت بعد الانتفاضة في إدارة شؤون البلاد. (بالضيافي، 2017).

وقد أكد قيادي سابق في الحزب الشيوعي التونسي أن تونس قد خطت خطوة أولى للنجاح، ففي المجال السياسي تمكنت من تنظيم انتخابات وتكريس مبدأ التعددية والتداول على السلطة، لكن الحكومات المتعاقبة فشلت فشلا ذريعا في تحقيق آمال وطموحات الشعب في الجانب الاقتصادي والاجتماعي على حد سواء، وهو ما ولد حالة من اليأس والإحباط وفقدان ثقة في الحكومات المتعاقبة. (بالضيافي، 2017).

فالطابع الغالب في الشارع التونسي هو عودة مشاعر الخوف واللاثقة وفقدان للأمل، واستمرارية وتنامي المشاكل المستعصية في ضوء غياب رؤية واضحة لإدارة مختلف المشاكل، ممّا أدى إلى تعزيز مشاعر الخوف والإذلال، وهو ما يهدد كيان الدولة التونسية. (بالضيافي، 2017).

أمّا الحال بالنسبة لمصر فإنّ الانقلاب العسكري الذي حدث بعد تقلد التيار الإسلامي الحكم وفقا لانتخابات ديمقراطية، قد أعاد البلاد إلى نقطة الصفر وخلق تيارين، تيار مؤيد للحكم العسكري وتيار معارض لطبيعة هذا الحكم. (الجمعاوي، 2014.19). فقد عرفت مصر بعد الانتفاضة ما يعرف بعسكرة الحياة المصرية كما تصاعدت الجريمة والعنف في الشوارع وإعادة تنصيب أعمدة النظام القديم وانتشرت الفوضى، ناهيك عن فشل السياسات النيوليبرالية، ما أدى إلى تأزيم الوضع الاقتصادي والاجتماعي (السعيداني، 2017. 06-05).

لذلك من خلال ما سبق يمكن وضع تصورات لمستقبل الدولة العربية على ضوء ثلاثية الخوف والأمل والإذلال كالتالي:

إن ّاستمرارية خذلان الشعوب العربية حتى بعد الانتفاضات في حالتي كل من مصر وتونس وباقي الدول العربية سيؤدي إلى إدخال البلدان العربية إلى أزمة جديدة (بالضيافي، 2017). تعد بمثابة قنبلة موقوتة تغذيها مشاعر الخوف والإذلال وغياب الأمل، كون مسار الدول العربية هو مسار هش ويتعرض للانتكاسات في كثير من الحالات، دون الإدارة الفعالة لهذه الأخيرة في كل الحالات تقريبا.

لذلك يمكن القول إن إعادة انبعاث مشاعر الخوف والإذلال في ظل طروحات جيوبوليتيكا العواطف يظهر بأنّ الدول العربية لن تشهد تطورا أو تقدما أو تغييرا إيجابيا نحو الأفضل، وهذا يعود لفشل الأنظمة الحالية في احتواء الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي من شأنها إعادة زرع مشاعر الثقة لدى الشعوب العربية ما يؤدي بدوره إلى عودة الشعوب للمشاركة في الحياة السياسية، بعيدا عن التركيز المطلق على تحقيق الحاجيات البيولوجية.

لكن الاستمرارية أو بالأحرى إعادة تجذر الشعور بالخوف والمهانة والإذلال وهو ما تمت ملاحظته من خلال دراسة حالة تونس ومصر، أظهر أن الدول العربية تسلك مسار الأنظمة السياسية السابقة، خاصة تلك التي تعاني من ويلات سيطرة المؤسسة العسكرية كالحالة المصرية.

مما سبق يمكن أن يخول لنا إعطاء تصور يكون أقرب للواقع وهو تعرض الدول العربية للمزيد من الأزمات التي تفسر من منظور جيوبوليتيكا العواطف، ودخولها في دائرة مفرغة من عدم قدرة الأنظمة العربية على خلق مشاعر ثقة لدى شعوبها وبين استمرارية تجذر مشاعر الخوف والإذلال وغياب الأمل، ولا يأتي الخروج من هذه الدائرة إلا بمحاولة الأنظمة العربية وضع برامج محكمة وفعالة للتعامل وللتقليل من حدة الأزمات الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية، مما يؤدي إلى كسب ثقة الشعوب.

خاتمة:

لقد أسهمت جيوبوليتيكا العواطف في تقديم تفسير مهم لدور العواطف خاصة ثلاثية الخوف والأمل والإذلال في التأثير وحتى رسم الواقع والحدث السياسي، وهو ما مكن من تقديم وفهم آخر للانتفاضات العربية من جهة وواقع الدول العربية من جهة أخرى، ممّا أسهم في إعطاء تصورات حول مستقبل الدول العربية في ظل ثلاثية الخوف والأمل والإذلال، وعلى ضوء هذه الدراسة تمّ التوصل إلى مجموعة من الاستنتاجات:

1.أسهمت عواطف الخوف والأمل في تغيير واقع الدول العربية خاصة تلك التي شهدت انتفاضات وغيرت الوضع القائم.

2. تعد عاطفة الإذلال عنصرا نفسيا متجذرا في نفسية وشخصية المواطن العربي، وهذا نظرا لطبيعة الأنظمة التسلطية التي أسهمت في تحطيم مشاعر الثقة وترسيخ مشاعر الخوف.

3.كانت عاطفتا الخوف والإذلال المحرك الرئيس للعديد من الانتفاضات جنبا إلى عوامل اجتماعية وسياسية وأخرى اقتصادية.

4. مستقبل الدول العربية سيعرف نفس المسار السابق، هذا إن لم يكن أشد وطأ نظرا لعودة أو زيادة ترسخ مشاعر الخوف من المستقبل وغياب الأمل في التغيير، إلى جانب الإذلال الذي كرسته وتكرسه الأنظمة القائمة [2].

قائمة المراجع:

  1. أنور الجمعاوي. (يناير 2014) المشهد السياسي في تونس: الدرب الطويل نحو التوافق. سياسات عربية.
  2. منذر بالضيافي. (يناير 2017). بعد 6 سنوات من الثورة…تونس إلى أين؟ العربية. على الرابط
  3. منى أباضة، تر: منير السعيداني. (2017). مصر ما بعد الثورة. حوار كوني 701.
  4. فؤاد حمة خورشيد. (2013). الجيوبوليتكس المعاصر: تحليل، منهج، سلوك. مديرية الطبع والنشر، السليمانية.
  5. Wendy Pearlman. (June 2013).Emotions and the microfoundations of the Arab uprising. Percpectives on Politics.Volume11, issue2.
  6. Bülent Senay. Geopolitics of Emotions and Religion in Intercultural Citizenship Education.
  7. Tammam Omer Abdulsattar. (September2015). A critical analysis of the Arab Spring: case studies of Tunisia and Egypt. A thesis submitted to the board of graduate programs. Middle East Technical University.

الهامش

[1] الجيوبوليتيكا التقليدية: مصطلح جاء به الجيوبوليتيكيون التقليديون للدلالة على الطروحات الجيوبوليتيكية المرتبطة بالقوة البرية والبحرية والجوية.

* عبارة سائدة في المجتمع المصري للدلالة على الخوف من الاندماج في الحياة السياسية، والتي تعبر عن ألم ومذلة متجذرين في أعماق المصريين.

[2] الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close