هيئة التدريب الإلزامي والاختصاص المهني لوزارة الصحة
في الأجزاء الأول، والثاني، والثالث، استعرضت الدراسة نشأة وزارة الصحة، وأهم التحولات باختصاصات وزارة الصحة في المهام الطبية العلاجية، والمهام الدوائية والصيدلية. وفي هذا الجزء، نستعرض أهم التحولات التي لحقت باختصاص وزارة الصحة المهني والتدريبي، وهو الاختصاص الذي يشمل علاقات أعضاء المهن الطبية بالوزارة في جوانب التسجيل والتكليف والتدريب، وكيف كانت تلك المهام من الاختصاصات الأصيلة لوزارة الصحة، وتناولتها بالتنظيم قوانين مزاولة مهنتي الطب والصيدلة[1] من حيث تنظيم الاختبارات والتدريب والاعتماد الواجب الحصول عليهم بإشراف وزارة الصحة، وكيف عنيت قوانين تنظيم الوزارة بالمهمتين ونظمتهما تحت ولايتها. وبيان مسئولية وزارة الصحة عن إدارة نظام تكليف الأطباء والصيادلة وإلقاء الضوء علي قوانين التكلف وبخاصة القانون رقم 29 لسنة 1974[2]. كما نستعرض كيف هيمنت وزارة الصحة قبل عام 2013 علي اختصاصات تسجيل أعضاء المهن الطبية وتكليفهم وتدريبهم، واستقر لها إدارة تلك النشاطات والإشراف عليها، توطئة لبيان المتغيرات التي لحقت بالاختصاص المهني التدريبي بعد 2013 .
أولاً: الاختصاص المهني والتدريبي لوزارة الصحة في ضوء قوانين التكليف ومزاولة المهن الطبية
نظام تكليف الأطباء مهمة أصيلة من مهام وزارة الصحة، تمارسها منذ نشأتها، فهي معنية بقيد وتسجيل الأطباء وتعيينهم بالجهات الحكومية والترخيص لهم بفتح المستوصفات والعيادات الخاصة [3] ومن ثم تنظيم تدريبهم الإجباري[4] والتأهيلي.
عندما قررت الدولة إنشاء الهيئة العامة للمستشفيات والمعاهد التعليمية [5] أنشأتها بغرض إتاحة فرص التعليم والتدريب الطبي، وتوفير الإمكانات اللازمة للبحوث الطبية لمسايرة التطور العالمي في مجال البحوث الطبية.
كما نظمت قوانين مزاولة المهن الطبية وقانون نظام التكليف مهام التدريب والتعليم الطبي ومسئولية الوزارة عن ذلك، نستعرض ذلك في فرعين:
الفرع الأول: التدريب الإجباري والتعليم الطبي
نظمت قوانين مزاولة مهنة الطب بفروعه المختلفة، ومهنة الصيدلة، علاقة الأطباء والصيادلة بوزارة الصحة، ونظام تكليفهم وتدريبهم، وإلزامهم بالقيد في سجلاتها كشرط لمزاولة المهنة، وقد حازت تلك الاختصاصات اهتماماً واسعاً، وتم تنظيمهما مبكراً منذ نشأة وزارة الصحة.
القانون رقم 415 لسنة 1954 بشأن مزاولة مهنة الطب، والقانون رقم 127 لسنة 1955 في شأن مزاولة مهنة الصيدلة، قد أسندا لوزارة الصحة مهام تسجيل الأطباء والصيادلة والترخيص لهم بمزاولة المهنة، وبيان المعادلات والامتحانات المطلوبة لمعادلة المؤهلات الأجنبية ومزاولة المهنة للأجانب، كما نظمت طرق التعيين بالوزارات والهيئات المختلفة بالدولة. وقد أخذ التدريب عدة أشكال اعتمدتها تلك القوانين.
1: التدريب الإجباري
كما قدمنا فقد نظمت قوانين مزاولة مهنتي الطب والصيدلة قواعد التسجيل بوزارة الصحة عقب التخرج مباشرة، ولم تكن تشترط في بادئ الأمر فترات للتدريب الإجباري، حتي صدر تعديل يلزم الأطباء بالتدريب الإجباري كشرط للتسجيل بوزارة الصحة.
اشترط القانون رقم 46 لسنة 1965 الذي عدَّل قانون مزاولة مهنة الطب [6] أن يقضي الخريجون مدة سنة في مزاولة مهنة الطب بصفة مؤقتة بالمستشفيات والوحدات التدريبية التي تقرها الجامعات، وفق نظام يصدر به قرار من وزير التعليم العالي بالاتفاق مع وزير الصحة، وعلي خريج الطب الذي يرغب في التسجيل بوزارة الصحة تقديم ما يفيد أدائه التدريب الإجباري حتي يتمكن من القيد. وهذا النظام هو الأشبه بعمل الهيئة المصرية للتدريب الإلزامي.
2: التعليم الطبي
أسس القانون رقم 1002 لسنة 1975 الهيئة العامة للمستشفيات والمعاهد التعليمية، وأهم أهدافها الرئيسية إتاحة فرصة التعليم والتدريب الطبي لجيل جديد من الأطباء والفنيين، بالإضافة لتوفير الإمكانيات اللازمة للبحوث الطبية والمساهمة الفعالة لحل المشكلات الصحية ومسايرة التطور العالمي في مجال البحوث الطبية.
وتتبع الهيئة وزارة الصحة ويرأس مجلس إدارتها وزير الصحة.
وفق ما تقدم تأتي مهمة التدريب الطبي والتعليم والبحث والتي فصلتها القوانين إشرافا وإدارة في مقدمة مهام وزارة الصحة ووزيرها.
الفرع الثاني : التسجيل والتكليف الطبي
1: التسجيل
حتى يتمكن الخريجون من كليات الطب بفروعها وتخصصاتها المختلفة وكليات الصيدلة من مزاولة المهنة لا بد من القيد بسجلات وزارة الصحة. وقد مر التسجيل بوزارة الصحة بعدة مراحل تنظيمية، حيث كان الخريجون يسجلون في وزارة الصحة بمجرد حصولهم علي المؤهل الدراسي من الجامعات المصرية أو ما يعادلها من الجامعات الأجنبية شرط اجتياز الامتحان المعد بوزارة الصحة أو الإعفاء منه حسب الحالة [7]. تلا ذلك اشتراط التدريب الإجباري كما قدمنا، التي يلتزم فيها الخريجون بقضاء فترة تدريبية إجبارية قبل القيد بسجلات وزارة الصحة [8]
ثم استقر الأمر علي شكل التكليف الحالي المعمول به في وزارة الصحة، حيث يلتزم خريجو كليات الطب والصيدلة وهيئات التمريض والفنيون الصحّيون وغيرهم من الفئات ذات الاختصاص الصحي والطبي بالتسجيل في نظام التكليف المتبع في وزارة الصحة بمجرد تخرجهم، كما تلتزم كلياتهم ومعاهدهم بإخطار لجنة التكليف المشكلة بوزارة الصحة بكشوف الخريجين لديها.
2: التكليف الطبي
عرفت المهن الطبية نظام التكليف بصدور القانون تكليف الأطباء والصيادلة وأطباء الأسنان رقم 183 لسنة 1961 والذي ألغي بقانون التكليف الحالي رقم 39 لسنة 1974 الذي أضاف للفئات المكلفة (بجانب الأطباء والصيادلة وأطباء الأسنان)، هيئات التمريض والفنيين الصحيين والفئات الطبية الفنية المساعدة. ويشكل وزير الصحة لجنة لتكليف الخريجين، ويصدر قرار التكليف بناء على إجراءات تلك اللجنة، والتي يكون للمكلفين الحق في التظلم من قرارتها بالتكليف.
ووفقاً لما سبق فإن وزارة الصحة – بحسب الأصل – هي الجهة المختصة بكافة المهام المهنية والتدريبية لأعضاء المهن الطبية، والتي يحتاجونها في مزاولة المهنة تسجيلاً وتدريباً وتكليفاً ومن ثم عملا بالمستشفيات الحكومية تحت إشرافها أو العمل الخاص.
وفي كل الأحوال، وبصرف النظر عن جودة هذه النظم أو رضا المعنيين بها، نستطيع أن نسجل هنا، أنه لم يخرج أي امر يخص هذه العملية من هيمنة وزارة الصحة طوال تاريخها حتى تغير ذلك عقب 2013.
ثانياً: الهيئة المصرية للتدريب الإلزامي المهام والصلاحيات
استقرت القواعد الحاكمة لتسجيل أعضاء المهن الطبية والصيدلية وتدريبهم وفق ما قررته قوانين مزاولة المهن الطبية، ومزاولة مهنة الصيدلة، وقوانين التكليف، حتى صدر القانون 14 لسنة 2014 الخاص بتنظيم شئون أعضاء المهن الطبية العاملين بالجهات التابعة لوزارة الصحة. فقد قرر القانون جملة من القواعد جاء معظمها منظماً لحركات التعيين، ومنح الدرجات الوظيفية والإجراءات الخاصة بالترقية والمخصصات المالية. إلا أن أهم ما قرره القانون هي المواد الخاصة بقياس كفاءة الأداء المهني بشكل سنوي، والتدريب والتوزيع الذي تتولاه وزارة الصحة وربط الترقي والحصول على البدلات والحوافز بقياس الأداء والتدريب. وكان هذا توطئة لنشأة نظام التدريب الإلزامي الذي نظمته الهيئة مطلع عام 2016، وإيذانا بسحب اختصاص التدريب والاعتماد من وزارة الصحة.
الفرع الأول: مهام واختصاصات هيئة التدريب الإلزامي
نشأت الهيئة المصرية للتدريب الإلزامي للأطباء بقرار رئيس الوزراء رقم 210 لسنة 2016 [9] والذي قرر لها جملة من المهام والاختصاصات، يأتي في مقدمتها، تطوير مستوي التدريب الطبي السريري لخريجي كليات الطب، ومن ثم امتحانهم للتأكد من استيفائهم التأهيل الكافي للممارسة الطبية الآمنة، كما أن الهيئة هي المختصة بوضع المواصفات القياسية للمحتوي التدريبي والمؤسسات القائمة علي التدريب [10].
وتقوم الهيئة بعقد امتحان قومي تأهيلي للحصول على شهادة معتمدة تعد شرطاً للقيد والتسجل لمزاولة المهنة. من مهام الهيئة أيضا، منح شهادة البورد المصري بعد عقد امتحان لقياس استيفاء الأطباء الممارسين للمهنة للتدريب اللازم للحصول علي ما يفيد التخصص الطبي والترقي الوظيفي في الوظائف الطبية الحكومية.
الهيئة بهذه المهمة وتلك الاختصاصات قد غلَّت يد الوزارة عن ممارسة أي دور بخصوص التدريب والتأهيل الطبي، وسحبت كافة اختصاصاتها في هذا الشأن، سواء فيما يخص الخريجين من أجل القيد والتسجيل بسجلات وزارة الصحة للترخيص بمزاولة المهنة، أو ما يخص الترقي في الوظائف الطبية الحكومية بالجهات الحكومية، وهي المهام التي هيمنت عليها وزارة الصحة والتي أرستها قوانين إنشائها وتنظيمها، وقوانين مزاولة المهن الطبية، وقانون التكليف الطبي كما قدمنا في المبحث التمهيدي.
الفرع الثاني: صلاحيات الهيئة ومركزها القانوني
حدد القرار المنشئ للهيئة مركزها القانوني وجهة تبعيتها، فمنحها الشخصية الاعتبارية وجعل تبعيتها لرئيس الوزراء، وبين طريقة تعيين مجلس إدارة يهيمن علي كافة شئونها، كما أن لها موازنة مستقلة وأموال.
ولم يذكر القرار أي دور إداري أو تنسيقي لوزارة الصحة فيما يخص هيئة التدريب الإلزامي سوى في قيام وزير الصحة بترشيح أسماء لتولي رئاسة الهيئة وأمانة مجلسها، إلا أن القرار لم يعطي صلاحية الترشيح استقلالاً لوزير الصحة، بل يشاركه الأمر وزير التعليم العالي[11] ).
أما صلاحيات الهيئة، فأبرزها ما يلي: لها التعاقد مع الجهات المحلية والأجنبية المماثلة لمهمتها وتبادل الاعتراف بالشهادات. كما ان لها صلاحية تشكيل اللجان العلمية المتخصصة في وضع استراتيجيات التدريب ومنح شهادات التخصص الطبي[12] ) وعقد امتحانات اجتياز التدريب اللازمة للقيد والتسجيل، وكذا لجان مراقبة جودة التعليم والتدريب. وتحدد الهيئة بالتعاون مع وزارة الصحة مواصفات وفترات سريان التراخيص التي تصدرها لمزاولة المهنة. وقد صدر تعديل لقرار تشكيل الهيئة اشتمل علي صلاحية التقييم الدوري للأطباء للارتقاء بالمستوي الطبي والتقني، وبذلك أصبحت الهيئة وليس وزارة الصحة هي جهة متابعة الأداء الطبي وتطويره لتنضم صلاحية المتابعة وقياس الأداء، لصلاحيات الترخيص بمزاولة المهنة، وتحديد التخصص الطبي، وتأهيل المرشحين للترقي.
خاتمة
وفق ما استعرضنا في هذا الفصل، فإن الاختصاص المهني من حيث التدريب والتأهيل والإشراف على الترقي واعتماد التخصص الطبي ورقابة الجودة في كل ما سبق، قد انتقل من وزارة الصحة لهيئة التدريب الإلزامي. وتقوم الهيئة بهذا الدور الكبير باستقلال كامل، وغياب تام لأي نوع من الرقابة الحكومية على أعمالها. كما خلا قرار إنشاء الهيئة وتعديله، أو لائحته التنفيذية، من بيان أي وسيلة للتظلم من قراراته فيما يخص منح شهادات أو نتائج الامتحانات التأهيلية.
من جهة أخري فقد أصبحت الهيئة وفق قرار تعديلها جهة مختصة بالتقييم الدوري للأطباء بما يعني اضطراب مهنة الطب كلما قررت الهيئة تغيير منهجها في التأهيل أو الاعتماد، وعدم استقرار قواعد العمل الطبي على أرضية اهتزاز القيم الحاكمة لعملية الجودة الطبية ذاتها.
بالإضافة لذلك، فقد جمعت الهيئة بين وظيفتين متعارضتين ومهمتين متناقضتين فهي القائمة بالتدريب والتأهيل في الوقت الذي تراقب فيه جودة عملية التدريب والتأهيل أيضا وقد جري العرف التنظيمي القانوني على الفصل بين المهمتين لطبيعتهما المختلفة من جهة ولبيان أوجه القصور في العمل من جهة أخري.
كما أن الحكومة المصرية بصدد استصدار قانون لإنشاء (المجلس المصري للتخصصات الطبية) [13] ليحل محل هيئة التدريب الإلزامي، ينشأ كهيئة خدمية تتبع هذه المرة رئيس الجمهورية في ترسيخ لغياب وزارة الصحة وسحب مهامها الرئيسية وإفساح الطريق لتحول الخدمة الطبية لمجموعة من الأعمال التجارية و الاستثمارية، وتوزيع الشأن الطبي مهنيا بين أكثر من جهة لتكون محصلة ذلك تشتت أصحاب المهنة ووقوعهم في أسر خطة حكومية متعمدة لإنهاكهم إدارياً ومهنياً من أجل تسليع مهنتهم التي يؤدونها واحتكار تقديمها كسلعة تجارية تدر دخل علي منتجها المحتكر لها، مالكاً منظماً ومشرعاَ من جهة والقائم عليها تأهيلاً واعتمادا ورقابة من جهة أخري، لتكون بذلك المهن الطبية والصيدلية والفنية منتجا تقدمه سلاسل شركات استثمارية لتقديم الخدمات الطبية و الدوائية والتأهيلية في غياب تام من مجانية الخدمة أو دعمها.
الهامش
[1] قانون 415 لسنة 1954 في شأن مزاولة مهنة الطب، قانون 127 لسنة 1955 في شأن مزاولة مهنة الصيدلة
[2] تنظم وزارة الصحة تكليف الأطباء والصيادلة وأطباء الأسنان وهيئات التمريض والفنيين الصحيين والفئات الطبية المساعدة وفق القانون ثم 29 لسنة 1974.
[3] نظم ذلك قانون رقم 415 لسنة 1954 في شأن مزاولة مهنة الطب
[4] أيفت مهمة التدريب الإجباري بالقانون رقم 46 لسنة 1965 بتعديل قانون 415 لسنة 1954 بشأن مزاولة مهنة الطب
[5] انشئت كهيئة تابعة لوزارة الصحة بالقرار رقم 1002 لسنة 1975
[6] عدل القانون رقم 415 لسنة 1954 في شان مزاولة مهنة الطب
[7] نظم ذلك قانون مزاولة مهنة الطب رقم 415 لسنة 1954 وقانون مزاولة مهنة الصيدلة رقم 127 لسنة 1955
[8] نظم ذلك القانون رقم 46 لسنة 1965 بتعديل بعض أحكام القانون رقم 415 لسنة 1954 في شأن مزاولة مهنة الطب
[9] منشور بالجريدة الرسمية بالعدد 4 مكرر في 31 يناير 2016
[10] تصريح لرئيس هيئة التدريب الإلزامي علي الصفحة الرسمية للمتحدث الرسمي باسم الهيئة https://www.facebook.com/CemtaEgy/
[11] صدر القرار رقم 2045 لسنة 2016 بتعدييل قرار إنشاء هيئة التدريب الإلزامي رقم 210 لسنة 2016 ونص في مادته الثانية علي تعديل المادة السادسة فقرة أولي ليشترك وزير التعليم العالي مع وزير الصحة في ترشيح أعضاء مجلس إدارة الهيئة.
[12] حديث رئيس الهيئة حول مهامها ومنح شهادات الاعتماد https://cutt.us/YaWnS
[13] الحكومة: مشروع قانون لإنشاء “مجلس التخصصات الطبية” كهيئة خدمية تتبع رئاسة الجمهورية https://cutt.us/3PCoT