fbpx
ترجمات

إيكونوميست: ثورة دينية في الشرق الأوسط

نشرت مجلة الإيكونوميست البريطانية في 29 نوفمبر 2023 مقالاً بعنوان: “هناك ثورة دينية تجري في الشرق الأوسط – هل تستطيع النجاة من حرب غزة؟”، كما أن هذا المقال ظهر أيضاً في القسم الدولي من النسخة المطبوعة للمجلة البريطانية تحت عنوان “الإسلاموية على المحكّ”.

وقد جاء المقال على النحو التالي:

لقد عادت الصور النمطية القديمة تطل برأسها في الشرق الأوسط من جديد. فعلى إثر سقوط أكبر عدد من القتلى بين الإسرائيليين منذ إنشاء الدولة في أحداث السابع من أكتوبر، ارتكبت إسرائيل (ولا تزال) مذابح ضد المدنيين الفلسطينيين في غزة. وأصبحت الولايات المتحدة، التي مولت إسرائيل وسلّحتها ودافعت عنها، أصبحت من جديد، وكذلك حلفاؤها الغربيون، في مرمى غضب وسخط الشعوب. حيث يتم تحميل الولايات المتحدة و حلفاؤها الغربيون معاً المسؤولية في تسهيل قصف غزة وتهجير سكانها. بينما أدت الهدنة الإنسانية الوحيدة (24-30 نوفمبر) إلى إطلاق سراح عدد من الرهائن الإسرائيليين (80+) مقابل عدد من الأسرى الفلسطينيين (200+).

وأدى العنف (الدائر بغزة) إلى عرقلة الجهود الأخيرة التي كانت تُبذل لتحسين العلاقات في المنطقة. فقد كان حاملو لواء الإسلام – السعودية السنية وإيران الشيعية – قد شرعوا في رأب انقساماتهم الطائفية. وبالإضافة إلى قبول بعضها البعض، بدأت الدول الإسلامية في تقبل اليهود أيضاً. فمنذ عام 2020، انضمت أربع دول عربية إلى اتفاقات أبراهام، لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل. وكان المزيد من الدول العربية، بما في ذلك المملكة العربية السعودية، على وشك أن يحذوا حذو الدول الأربع.

والآن تُروّع الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة العالم الإسلامي وتدفعه إلى الراديكالية. وأصبح الاهتمام العالمي يتركز على المحنة التي يعاني منها الفلسطينيون بعد سنوات من الإهمال. وقد تُعِدّ حماس أن ذلك يمثل نوعاً من النجاح. لكن البعض قد يحمّلون حركة المقاومة الإسلامية المسؤولية عن نار جهنم التي فتحتها إسرائيل على القطاع.

وتُظهر التداعيات أن المسلمين يقفون عند منعطف حرج في التطورات التي تتعرض لها معتقداتهم. فهناك تحولات دينية وسياسية واجتماعية ضخمة تعمل حثيثاً على تغيير الشرق الأوسط وسكانه البالغ عددهم 400 مليون نسمة. والسؤال الآن هو ما إذا كان هجوم حماس قادراً على عكس اتجاه هذه الثورة من خلال تأجيج جذوة الإسلام السياسي من جديد. فمن الممكن أن تؤدي الحَميّة المناهضة لإسرائيل والغرب إلى إثارة جماهيرها من جديد.

ولكي نفهم لماذا ستكون مثل هذه النتيجة ضارة للغاية، علينا أن نفكر في مدى تحول مواقف المسلمين تجاه الدين في السنوات التي سبقت هجمات السابع من أكتوبر. فقد تغيرت بالفعل الممارسة الدينية من التعبئة السياسية بهدف الخلاص المجتمعي، كما يتبناها الإسلاميون، إلى نزوع أكثر شخصانية إلى الروحانية. والنتيجة التي تم تحقيقها من خلال ذلك هو أنه بالنسبة للعديد من المسلمين، أصبح الإسلام غير مُسيَّس بشكل متزايد.

وهذا الاتجاه واضح في إيران. فمنذ قيام الثورة عام 1979، أصبح يقود البلاد رجل دين شيعي؛ وهي تطلق على نفسها اسم “الجمهورية الإسلامية”، ورسمياً، 99.5% من سكانها البالغ عددهم 89 مليون نسمة هم من المسلمين. لكن في عام 2021، زعم استطلاع عبر الإنترنت أجرته مجموعة أبحاث هولندية “جامان”، أن حوالي نصف المشاركين الإيرانيين البالغ عددهم 50 ألفاً قالوا إنهم هجروا دينهم أو غيَّروه. وأن أقل من الثلث تم تحديدهم على أنهم شيعة، الطائفة الإسلامية الحاكمة في إيران. وعلى الرغم من الحظر الذي تفرضه البلاد على التبشير، فإن الاهتمام بالديانات غير الإسلامية في البلاد، مثل الديانات الزرادشتية والبهائية، آخذ في التزايد والارتفاع. ويقول الإنجيليون في إيران إن المسيحية تنمو هناك بشكل أسرع من أي بلد آخر. إيران هي “أول مجتمع سيصبح الإسلام به ضرباً من الماضي”، كما يعتقد شهريار آهي، الناقد الإيراني.

وفي جميع أنحاء العالم الإسلامي، يتعرض رجال الدين، الذين كانوا محصَّنين في السابق، للسخرية والإهانة في السنوات الأخيرة بدعاوى الجشع والنفاق. وأثارت الامتيازات الضريبية وتخصيص الأراضي وأشرطة الجنسية المثلية التي استشرت في دول مثل إيران والعراق وباكستان الغضب. وقد حاول بعض علماء الدين التكيف، إما عن قناعة أو في محاولة لضمان البقاء. وفي المغرب، قام عبد الرحمن طه، الذي يمكن القول بأنه الفيلسوف الأكثر تأثيراً في العالم الإسلامي، بالمزج بين الإنسانية والقواعد الأخلاقية للإسلام.

أما المؤسسات التي كانت في السابق منسجمة مع الإسلام، مثل العائلة المالكة السعودية، فقد أصبحت أكثر مرونة. وتخلى ولي العهد والحاكم الفعلي للمملكة، محمد بن سلمان (مبس)، عن تحالف عائلته الذي دام 250 عاماً مع أتباع محمد بن عبد الوهاب، وهو “متعصب” كان يعيش في القرن الثامن عشر. كما أن مبس كان قد أعلن نفسه مجدداً للدين في عام 2018. وفي استطلاع أجراه العام الماضي جيمس زغبي، وهو خبير استطلاعات أمريكي، أفاد أكثر من ثلثي الشباب في الشرق الأوسط أنهم يريدون “تحديث” المؤسسات الدينية.

وقد زاد التسامح الديني على نطاق واسع عبر الدول الإسلامية. فعلى مدى العقد الماضي، استضافت أكثر من اثنتي عشرة دولة إسلامية البابا فرانسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية السادس والستين بعد المائتين. قامت مصر والإمارات والمغرب بتجديد المعابد اليهودية أو بناء معابد جديدة. وفي العراق، تم افتتاح مركز للحوار بين الأديان أمام أقدس ضريح للشيعة في النجف.

كرنفال التباهي

وقد صاحب هذا الإصلاح الاجتماعي تراجع حَميَّة الإسلاميين. ففي السعودية، جاءت الضغوط من الأعلى (السلطة نفسها)، لكن العديد من المواطنين السعوديين رحبوا بذلك. وأصبح التنافس الأن على أشده، لجذب الاهتمام الشعبي، بين المساجد من جهة، والحفلات الموسيقية التي يرتادها النجوم ومهرجانات الأفلام والتجهيزات الرياضية من جهة أخرى. ولم يعد يتم الفصل بين الرجال والنساء في الجامعات أو المكاتب أو المطاعم.

كما دفعت الضرورة الاقتصادية النساء إلى تولي الوظائف التي كان الرجال تقليدياً يقومون بها، بدءاً من رعي الماشية حتى قيادة سيارات الأجرة. وفي نفس الوقت، ألغى البرلمان التونسي الحظر الذي تفرضه الشريعة على زواج النساء المسلمات من رجال غير مسلمين في عام 2017.

ويتم الترويج لتغييرات أخرى من قبل المسلمين العاديين، وليس فقط من قِبَل النُّخَب. وشهدت إيران احتجاجات حاشدة من أجل المطالبة بحقوق المرأة العام الماضي؛ حيث قتل النظام 500 شخص انتقاماً لذلك. وتتجاوز الآن معدلات الطلاق في منطقة الخليج التي كانت مجتمعات مُحافظة ذات يوم، معدلاتها في العديد من الدول الغربية. وبما أن الصعوبات الاقتصادية فرضت على الشباب من الجنسين تأخير الزواج، فقد أصبحت ممارسة الجنس قبل الزواج أكثر انتشاراً في دول المنطقة، بحسب علماء الاجتماع.

وخلال عقد من الزمان، أصبحت الأعراف الاجتماعية والثقافية أكثر عولمة بشكل متزايد، في الوقت الذي تعثر فيه الإسلام السياسي الذي ازدهر عام 2011 في فترة الربيع العربي. ولكن بحلول عام 2019، كان المتظاهرون في الجزائر وإيران والعراق ولبنان والسودان يطالبون بدولة مدنية. وفي عام 2021، صوَّت المغاربة ضد انتخاب رئيس وزراء إسلامي وأخرجوه وحزبه من السلطة.

ويعكس هذا الرفض للإسلام السياسي الجهود المتواضعة التي بذلها دعاته في معالجة الضائقة الاقتصادية العميقة في الدول التي آلت إليهم السلطة فيها. صحيح أن الضائقة الاقتصادية لم تكن من صنع الإسلاميين، لكنهم هم الذين وعدوا بأن “الإسلام هو الحل”، ولم يستطيعوا تحقيق ذلك. ففي مصر وغزة وتونس، تراجعت الدخول وانتشرت البطالة وانخفضت الاستثمارات الأجنبية في ظل حكمهم. وتعد إدلب، معقل الجهاديين في شمال غرب سوريا، من بين أفقر المحافظات في البلاد.

وفي دول مثل مصر، قامت القوة العسكرية بإزاحة الإسلاميين عن السلطة. (وكان الإحباط الشعبي الذي ساد حينئذٍ وراء عدم الشعور بالتعاطف معهم عندما فُعل بهم ذلك). وفي السعودية والإمارات، تم حظر جماعة الإخوان المسلمين، وهي أقدم حركة إسلامية في العالم. وفي العام الماضي، قامت السلطات التونسية بسجن الشيخ راشد الغنوشي، السياسي الإسلامي الذي شغل منصب رئيس برلمان البلاد. كما أثارت مظاهر التدين العلنية حفيظة الحكومات أيضاً. ففي شهر سبتمبر، حظرت مصر ارتداء الفتيات للنقاب في المدارس.

وبالإضافة إلى تراجع الإسلام السياسي، تراجعت أيضاً الجهادية العنيفة. فمنذ عام 2001، شنَّت الحكومات الغربية ما أطلقوا عليه “الحرب على الإرهاب”. وبعد مرور عقدين من الزمن، أصبحت “الحوادث المذهلة” شيئاً من الماضي في معظم أنحاء العالم. وفي سوريا والعراق، دمر التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة خلافة داعش، وهي منطقة بحجم بريطانيا كانت تؤوي وتدرّب عشرات الآلاف من المقاتلين. ومنذ عام 2019، انخفضت الهجمات الجهادية في سوريا من أكثر من 1,000 هجوم سنوياً إلى حوالي 100 هجوم فقط.

وقامت حركات إسلامية أخرى بكبح سلوكها من أجل البقاء. وكان فرع تنظيم القاعدة في سوريا أحد الأمثلة على ذلك. ولسنوات عديدة، كانت حماس تبدو، ولو على الأقل ظاهرياً، جزءا من تلك الحركات التي لجمت سلوكها. حيث أوقفت التفجيرات الانتحارية في داخل “إسرائيل”، وفي عام 2017 أصدرت ميثاقاً جديداً تم تنقيحه من المعاداة العلنية للسامية الموجودة في النص الأصلي. بل إن العديد من النساء قد قامت بخلع الحجاب في مدينة غزة (بالرغم من وجود حماس في سدة الحكم بالقطاع). ومن المفارقات العجيبة أن إسرائيل، وهي تسعى إلى تقسيم الفلسطينيين، قامت في الواقع بدعم أحد آخر معاقل الإسلاميين في المنطقة وتعلمت كيف تتعايش مع حُكمها. ولكن اجتياح حماس للمستوطنات في غلاف غزة بدّد أي وهم بإمكانية التعايش السلمي بين الجانبين.

والسؤال هو كيف سيتطور الإسلام السياسي على إثر الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة؟ فمن الممكن أن يظهر جيل جديد من “المتطرفين”. فالمشاكل الاقتصادية، وسوء الإدارة، والاستبداد البغيض، كلها عوامل توفر أرضاً خصبة لتلك العودة. وليبيا ولبنان واليمن هي بالفعل دول فاشلة؛ بينما الدولتان الأكثر اكتظاظاً بالسكان في الشرق الأوسط، مصر وإيران، هما غير مستقرتين اقتصادياً.

يقول أحمد أبو دوح، المحلل المصري في تشاثام هاوس، وهو مركز أبحاث بريطاني، إن الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة “يمكن أن تكون قُبلة الحياة للإخوان المسلمين”. ومن الممكن أن تتسبب حماس، إذا تم تنحيتها عن الحكم، في التسبب بالمزيد من الفوضى. وفي أطراف العالم الإسلامي، تشتعل النيران الإيديولوجية دون أن تنطفئ. حيث يزدهر الجهاديون في أفغانستان وكذلك في شرق سوريا، عندما ينسحب الأكراد إلى ثكناتهم. إنهم يسيطرون على جزء كبير من منطقة الساحل بأفريقيا ويتوغلون في أجزاء أخرى من القارة. يقول راجان باسرا من قسم دراسات الحرب في لندن: “من السابق لأوانه الاحتفال بنهاية الجهادية”.

وتحاول الحكومات في الشرق الأوسط قمع أي مساعٍ لصعود الإسلام السياسي من جديد. فالعديد من الحكام المسلمين يرون أن إحياء الإسلام السياسي يمثل تهديداً لهم أنفسهم بقدر ما يمثل تهديداً للغرب. بل وربما يدعمون هدف إسرائيل المتمثل في السعي لـ “تدمير” حماس، إن لم يكونوا هم أحد وسائلها (إسرائيل) لتحقيق ذلك. ولم تقم أي دولة قامت ممن قامت بتطبيع العلاقات مع إسرائيل مؤخراً بقطع العلاقات بعد حربها على غزة، أو دعت أمريكا إلى مغادرة قواعدها الإقليمية. كما أن معظم دول الخليج حظرت الاحتجاجات والخطب التي تتضامن مع الفلسطينيين. وحتى قطر، التي تحمي حماس وغيرها من القضايا الإسلامية، عرضت طرد الإسلاميين إذا طلبت حليفتها أمريكا ذلك. كما أن إيران ومحور المقاومة التابع لها نأوا بأنفسهم عن القتال وتركوا حركة المقاومة الفلسطينية تقاتل وحدها.

ومع ذلك، سيكون من الخطأ الخلط بين الصمت والقبول. يقول علي باكير، الخبير في الإسلام السياسي بـ “المجلس الأطلسي”، وهو مركز أبحاث أمريكي: “احذروا الهدوء”. “فإنه يمكن أن ينذر بانفجار قادم”. وعادة ما تبرع قوى الإسلام السياسي في الانقضاض من جديد. ولا ننسى أن الكثيرين قد روّجوا لوفاة الجهادية استبشاراً بمقتل أسامة بن لادن في عام 2011؛ ولكن بعد مرور عامين، اجتاحت “الإسلاموية” الشرق الأوسط.

قد تؤدي “الإطاحة” بحماس في غزة إلى سكون قصير الأمد، ولكنها قد تؤدي مع مرور الوقت إلى نشر أفكارها ومقاتليها في مختلف أنحاء الشرق الأوسط. وربما يتطور الإسلام السياسي ذاته ليصبح شيئاً أقل طائفية مع انتشاره، وربما يجمع بين أتباع السنة والشيعة معاً، ولكن نزعته القتالية حينئذٍ قد تشتد. يقول أندرو هاموند من جامعة أكسفورد: “إن العالم يحلم إذا اعتقد أن عصر الإسلام السياسي قد انتهى”.

ومن أجل إبقاء الإسلام السياسي ساكناً إلى حد معقول، فلابد من رأب الصدع بين إسرائيل والفلسطينيين. وعلى الأنظمة في الدول الإسلامية في جميع أنحاء المنطقة أن تعالج بشكل عاجل الأمراض الاجتماعية والاقتصادية التي يستفيد منها الإسلاميون. إن الدول الغنية بالنفط في الشرق الأوسط قادرة على تحمل تكاليف “عقد” يقدم الحرية الفردية وليست السياسية. ولكن الدول الأفقر لا تستطيع تحمل تكاليف الحماية الاجتماعية التي تتعهد بها. وبالإضافة إلى ذلك، فإن حبس الإسلاميين لن يُجدي نفعاً للتعويض عن ذلك. لقد ازدهر الإسلام في كثير من الأحيان في عالم متعدد الأديان. وبإمكانه أن يفعل ذلك مرة أخرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close